ميسر المسكي: كل شيء عن إيڤ | جوزف مانكوفيتز •


كل شيء عن إيڤ
1950
نقد:  ميسر المسكي


|*| لو أمعنت النظر في لائحة المشاركين في فيلم "كل شيء عن إيف" ستجد أنه في اللوحة التاسعة من الأسماء يرد أسم مارلين مونرو! نعم في المرتبة التاسعة.  يومها كانت نورما جين (أسم مونرو الأصلي) لا زالت وافدة جديدة إلى هوليوود وتبحث عن فرصة..أي فرصة.
الواقع أن وجود مونرو في هذا الفيلم يحمل نوع من سُخرية القدر المُرّة. هنا تلعب مونرو دور ممثلة شابة مبتدئة  (الآنسة كاسويل) تقفز من ذراع منتج إلى آخر (مع تلميح أن الفراش قد يكون من ضمن أدوات الإغواء) للحصول على دور يدفع بها إلى الأمام. مع معرفة سيرة مونرو في هوليوود وصعودها، يلوح التساؤل عن مدى تداخل الحقيقي المُعاش في الحياة مع ذلك الروائي المُفترض على الشاشة. 
حسناً، وجود مونرو هنا ودورها، ليسا إلا ثانويين.  فيلم المخرج جوزف مانكويتز الجميل والقوي هو عن كواليس المسرح (يُمكن سحب الأمر ليغطي كواليس السينما وهوليوود) والشهرة وإنحسار الضوء عن بعض النجوم وسطوعه على البعض الوافد حديثاً. وما بين تراجع الضوء وتقدمه، سيرة مماحكات وتنافس ومكائد ولوعة للإمساك بتلابيب ذلك الشيء الساحر الذي أسمه.....الشهرة!



هوليوود تناولت الموضوع غير مَرّة، وهي لا تكفّ عن العودة له. من "سانسيت بوليفار" المُدهش لـ بيللي وايلدر عام 1950 (سيعود في نهاية السبعينيات إلى شيء مشابه في فيلمه "فيدورا" الذي لم ينل حقه) إلى تحفة أليخاندرو إيناريتو "بيردمان" عام 2014. سحر الشهرة يحتمل الحديث والتأمل والتأويل. هي حالة تغتصب خصوصية الفرد وكيانه وعلاقاته. لكن مع ذلك تمتلك الشهرة سحراً ظاهراً وخفياً يدفع البعض حياته ثمناً من أجله.
في هذه المناخات المحفوفة بالقلق من الراهن والمستقبل، والسعي لتأكيد الوجود والدفاع، وغموض الحدّ الفاصل بين الأخلاقي واللاأخلاقي...تدور شخصيات "كل شيء عن إيف" حول نفسها وحول الآخرين في فضاء كبير، لكن يبدو وكأنه لا يتسع إلا لواحد.... ذلك المتربع (إلى حين) في وهج ضوء الشهرة المُخالسة.

مارغو تشانينغ (بيتي ديفيز) نجمة مسرحية شهيرة في الأربعينيات من عمرها. مستقبلها في برودواي  تشعر وكأنه على وشك أن يصبح ماضيها. هي على حافة التوتر والقلق من إحتمال أن تخالسها الشهرة وتنسلّ من بين أصابعها. إيف هارينغتون، فتاة شابة تدخل حياة مارغو المتأنفة من باب إعلانها إعجابها الشديد بمارغو ومتابعتها الدقيقة لكل أعمالها رغم ظروف إيف الصعبة كمقتل زوجها في "الحرب الأخيرة" كما تقول.  مارغو تَضمّ إيف إلى فريق مساعديها دون أن تلاحظ أن إيف بدأت تُخطط لسحب بساط الشهرة من تحت قدمي مارغو، بكل السبُل ودون الإلتفات إلى ما هو أخلاقي من عدمه. ما سيأتي هو سيرة صعود إيف المتفلت من أي روادع أخلاقية، والذي لن يتوقف إلا عند حدود تحقيق الشهرة بأي ثمن وعلى حساب أي شخص كان.  لكن نهاية الفيلم تتركنا حيث بدأنا:  فتاة شابة جديدة تحاول أن تتسلل إلى حياة إيف، هذه المَرّة، لتخطف الشهرة منها.

جوزف مانكيويتز هو من جيل أولئك المُخرجين الرواة (لو جازَ لي التعبير) في هوليوود. في غير فيلم لمانكيويتز يمكن أن تلاحظ ذلك الأسلوب الروائي البصري والمتقن، حيث كل شيء موظف لتحقيق سرد متين البنيان، متدفق بسلاسة وجليّ الهدف. ليس في أسلوب مانكيويتز ترميز صعب أوخفي. لا وجود لسياق بصري مواز "يشوش" على السياق الأساسي للحكاية. ليس المقصود هنا أن أسلوب مانكيويتز غير ذو خيال أو بليد، لا أبداً، المقصود أن صورته لا تحتمل (ولا تريد أن تحمل) أكثر من تأويل واحد. جهد مانكيويتز يذهب في أغلبه إلى تحقيق سياق يتدفق سلساً، مدعوماً غالباً بأداء رفيع السوية يستطيع المخرج أن يستخلصه من ممثليه. مثلاً في "فجأة، في الصيف الماضي" ستعثر ربما على واحد من أفضل أدوار مونتغمري كليفت وإاليزابيث تايلور. أما آفا غاردنر في "الكونتيسة العارية"  فتبدو متألقة، بقدر ما تسمح به للممثلة فيها أن تتغلب على هالة النجمة. لمانكيويتز أيضاً سقطاته وربما أعلاها دوياً وخيبة هي تجربته في "كليوبترا" الذي دَفَعَ الأستوديو المُنتج (فوكس) إلى حافة الإفلاس.

حضور بيتي ديفيز في "كل شيء عن إيف" طاغ وخلاب. هي لم تكن الأولى المُرشحة للعب دور مارغو تشانينغ. سوزان هيوارد كانت أصغر سناً من المطلوب، مارلين ديتريش أكثر ألمانيةً من المتوقع، بربارة ستانويك وجوان كروافورد لم تكونا متوافرتان. بيتي ديفيز كانت على عتبة الإحباط بعد سلسلة من أفلام لم تحز نجاحاً، لكن حين قرأت النصّ حاربت للحصول عليه. ديفيز على الشاشة وفي حياتها الشخصية ليست أمرأة سهلة المراس (ترى ذلك في قساوة تعابيرها اللفظية في مقابلاتها المتوفرة على النت). ولجعل الدور أقرب لها أعَادَ مانكيويتز كتابة بعض تفاصيل شخصية مارغو ومواقفها. ليست ديفيس الوحيدة المتميزة بحضورها وأدائها. آن باكستر ممتازة في دور إيف هارينغتون الفتاة الضارية الطموح. جورج ساندرز يجيد في دور الناقد الأفعى أديسون ديويت وعنه حازَ أوسكار أفضل ممثل مُساند. أما ديفيس فقد نالت أفضل ممثلة من مهرجان كان. وتبقى الحفاوة الأكبر من نصيب المخرج جوزف مانكيويتز الذي وقف على المنصة لينال أسكار أفضل مخرج وأسكار افضل سيناريو مُقتبس، وينال عمله هذا أيضاً أوسكار أفضل فيلم. ولن يلبث مانكيويتز أن يحوز تكريماٌ كبيراً آخر حين سيحوز فيلمه جائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان كان.


"كل شيء عن إيف" (بعض من يكتب في السينما من العرب يترجم العنوان إلى كل شيء عن حواء على إعتبار أن إيف تعني حَـوّاء. هذه الترجمة لا تمت إلى مقصد الفيلم وتحمّله رسالة إتهامية ذكورية، شوفينية الهوى) فيلم عن ضراوة السعي للشهرة  والرغبة الجامحة لبلوغ النجاح وتلك الزوايا السوداء داخل النفس البشرية التي تبرر (ما لا يمكن تبريره)
كل فعل لبلوغ ذلك الضوءالساطع على القمة.

نَالَ "كل شيء عن إيف" 14 ترشيحاً لجائزة الأوسكار. أحتَاجَ الأمر سبع وأربعين عاماً ليجاريه فيلم آخر في هذا العدد القياسي من الترشيحات فَكانَ "تايتانيك" (1997). ثم ستمضي عشرون سنة قبل أن يحوز فيلم جديد نفس العدد من الترشيحات وهو "لا لا لاند" (أو "أرض الأحلام") الذي حققه المُخرج داميان تشازال عام 2016 ولنا عودة له قريباً.

    


0 comments: