مهند النابلسي: "صمت" | مارتن سكورسيزي •


صمت/ Silence
نقد:  مهنّـد النابلسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتحدث «صمت» عن قصة راهبين مخلصين (آندرو غارفلد وآدام درايفر) وذهابهما في ارسالية لليابان في القرن السابع عشر، وعن تعرضهما للعذاب والمعاناة، أثناء تجوالهما وبحثهما عن استاذهما المفقود (ليام نيسون)…وذلك في زمن كانت فيه المسيحية "مضطدة ومحرمة وخارجة عن القانون".
يعيد مارتن سكورسيزي  الرواية الخالدة للياباني شوساكو آندو للحياة والسرد السينمائي الشيق، ويحقق هنا بجدارة ذروة سينمائية اخرى نضم لتحفته الرائعة "الثور الهائج"، ويضعنا كنقاد ومشاهدين امام مغامرة وتجربة حياتية نابضة بالتفاصيل والأحداث التاريخية المروعة...انه الاقتباس الثاني لرواية  آندو، إذ قام الياباني ماساهيرو شيفودا بإخراجها سنة 1971.



يبدأ الفيلم بمشاهد مؤثرة للكاهن فيريرا(ليام نيسون) وهو يشهد عمليات التعذيب الجماعي للمسيحيين، ويُـطلب منه "الردة" لايقاف العذاب والمعاناة. ثم تقفز مشاهد الفيلم سنوات عديدة للأمام لنجد الأبوبن رودريغز (غارفلد) وغاربي وهما يشقان طريقهما في رحلة محفوفة بالمخاطر الى اليابان (عبر جزيرة ماكاوا البرتغالية)، وبمساعدة ودعم نصراني ياباني كدليل، وتتحدث الساعة الاولى من الفيلم عن التشرد والفضول والمعرفة، وحول ما حدث للقرويين الذين اعتنقوا المسيحية رغم تحذير السلطات اليابانية الحازم معتبرة أن المسيحية كسرطان لابد من استئصاله من الجسم السياسي!
يمر الأب روديغز بتجربة عذاب مماثلة ويتحمل صنوف المعاناة، كما يكون شاهدا على مشاهد تعذيب شديد للآخرين، ويطرح هنا أسئلة محورية وجدانية: هل يقبل الله (عز وجل) منا كبشر أن نتحمل العذاب الشديد لكي يغفر لنا ذنوبنا؟ وهل محبتنا الكبيرة له تؤهلنا للغفران وفقدان القدرة على تحمل آلام العذاب والتنكيل؟ وهل "الرب" لا يبالي حقا بمعاناة عبيده المخلصين؟ ماذا كان سيفعل المسيح ذاته قي موقف الأب رودريغز وهو "عليه السلام" كان قد صمد أمام ويلات الصليب؟ ماذا عن السجناء الاخرين؟ وكيف سيتم وقف المعاناة؟ وهل ستصلنا اشارة ربانية ذات مغزى؟ وهل يريد الله ذلك...وهل يسمح للمؤمنين المخلصين أن يرتدوا لايقاف العذاب والمعاناة والآلام؟
نرى لاحقاً قيام السلطات بوضع الأب رودريغز في قفص خشبي، ويضطر لمشاهدة وسماع حالات تعذيب المسيحيين اليابانيين من اتباعه، ثم يتساءل في ذاته عن الحكمة الخفية من مجيئه لليابان، وعن قدرته على البقاء حيا في خضم هذه المحنة الرهيبة، ثم عن الحكمة من المؤسسة التبشيرية التي تؤدي بأعضائها للمعانة والتعذيب والموت في سبيل "القيم المسيحية الروحانية العليا".
صور سكورسيزي هذه النسخة بتكاليف باهظة في تايوان وفي العاصمة "تايبه" (لا اعرف لماذا لم يصورها في اليابان؟)
ينهي هذا الفيلم الملحمي عقدا كاملا من سعي المخرج لانتاجه بهذه الصورة المتكاملة ابداعيا والمشحونة بالايمان والعواطف والأفكار والروحانيات، وقد وضعنا في أجواء جحيمية-عقابية قاهرة وجدلية، في بحث حثيث عن "الاستبصار والتنوير"، طارحا الأسئلة المصيرية وعارضا التجارب "الحسية والروحية". وربما استحق بجدارة جائزة "أحسن سيناريو" من معهد الفيلم الأمريكي (السيناريو من كتابة كل من سكورسيزي وجاي كوكس) ، كما اعتبره معظم النقاد واحدا من أحسن أفلام العام 2016. 
يحفل هذا الشريط بلحظات طويلة من الصمت والترقب، ولقطات اخرى تشبه الصمت مثل أصوات "حرق الأعشاب" والموجات المائية المتحطمة وصوت الرياح المتسللة من خلال الأعشاب، أما في غياب الصمت فنسمع صرخات الألم الشديد وأصوات "تكسر العظام" وهسيس اللهب الحارق للأجساد المنكل بها، ونحن كبشر نخشى الصمت لأنه مرادف "للرعب وصمت القبور"!ّ

نهج سكورسيزي بنمط اخراجه الفريد اسلوبا ساحرا هجينا خلط فيه البعد الهولييودي التاريخي (وخاصة في المشاهد الأخيرة) مع نمطية "كوروساوا" الذي سبق وقدم عروضا مستوحاة بعناية من مسرح "الكابوكي" الشهير، كما قدم مؤشرات دينية لشخصية الكاهن الذي يتماثل مع شخصية "يهوذا" الذي يخون ايمانه، ويهرول لطلب الغفران، ويشير عنوان الفيلم أيضا لصمت الآلهة الروحاني المهيب، وتلعب الأصوات المنتقاة بعناية مع الطنين وقرع الطبول مع صوت "شاكوهاشي" القادم من بعيد، تلعب دورا مؤثرا في سياق الرواية الدرامية...وأخيرا فالفيلم يبحث في الصراع التاريخي الضاري ما بين الاوربيين والأسيويين من اجل فرض "العقائد والمذاهب" التي ما عادوا حاليا يهتمون بها...تكمن عبقرية "سكورسيزي" الاخراجية في قدرته على اخراج فيلم فريد يجمع ما بين البعدين التجاري والفني "النخبوي" في آن واحد.  

0 comments: