كنوز السينما: المسيح توقف عند إيبولي | ميسر المسكي



------------------------------------------------------------------------------------------

Christ Stopped at Eboli

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  ميسر المسكي   ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إخراج: فرنشيسكو روزي
دراما   | ايطاليا (1979)  
★★★★★  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 المسيح توقف عند إيبولي: ذهب السينما الصافي


|*| إيطاليا، 1935
بنيتو موسوليني في عزّه. إيطاليا في قبضة الفاشية التي تستحضر طيف إمبراطورية غابرة. وعد بالمجد يستدعي تحقيقه القوة وليس العدالة. قوة تستمد عناصرها من رأس المال ومصانع السلاح ورجال الأعمال والمصارف...والفساد! فاشية تقوم على وهم قيم الإخلاص للدولة والتسليم بسلطة الحزب وزعيمه. طبقة سياسية تتغافل عن حقيقة أن هناك "إيطاليتين": واحدة في الشمال حيث الإنتاج ورأس المال ومركز السلطة، وواحدة في الجنوب حيث "لم يزرها لا عدو ولا صديق منذ ثلاثة آلاف عام". منسية في قسوة عزلتها. إيطاليا الجنوب الخارجة من الزمان ومن "عطف الربّ". المسيح توقف قبل أن يصلها فبقيت خارج الرحمة والأمل. فلاحوها لا تريدهم الفاشية لإنهم لا يليقون بحلمها الإمبراطوري. تعاستهم تشوّه صورة روما الجديدة. هم لا يصلحون إلا لدفع الضرائب وليموت أبناؤهم جنوداً في أثيوبيا. 
روما الفاشية أهملت الجنوب وأغفلت عنه ولم ترَ فيه إلا وقوداً لحروبها الإستعمارية بحيث لم يبق هناك مركز مديني واحد في الجنوب إلا ربما مدينة نابولي. ونابولي هذه تحولت إلى مجرد ميناء يرحل منه إيطاليو الجنوب إلى أميركا. وبذلك أصبحت إيطاليا ممتدة على شواطيء المتوسط و...الأطلسي!

إلى ذلك الجنوب البائس يصل كارلو ليفي (يلعبه العظيم جيان ماريا ڤولونتي) دكتور غير مُمارس، رسّام وكاتب. نشاطه السياسي والفكري أقلق بعض من في روما فأرسلوه إلى بلدة "إيبولي" النائية منفياً إلى حين. هناك يكتشف ليفي الشرخ العميق في بنية وروح المجتمع الإيطالي. هناك في إيبولي حيث الأرض منحدرة وغير متماسكة وحين يسقط المطر غزيراً تنزلق التربة وتنهار مساكن البلدة وكنيستها. أليست هي صورة إيطاليا ذاتها؟ إيطاليا التي يأخذها موسوليني في مغامرة إمبراطورية خطرة لا تلبث أن تودي بالبلد إلى خراب وهزيمة لن ينتهيا إلا بالدكتاتور وهو معلق (مع عشيقته) من أقدامه في إحدى ساحات ميلانو. ليڤي لا يعرف الآتي ولا يمكن له أن يتنبأ به، لكنه يقرأ إرهاصاته في عيون الفلاحين المتململين من عسف الضرائب ورجال الحزب الفاشي الذين لا ينفكوا يكررون أنهم "فوق القانون" الذي وضعوه هم ذاتهم.


يبدأ فرنشيسكو روزي فيلمه من حيث تنتهي الحكاية. سنين عديدة مرّت على تجربة كارلو ليفي في إيبولي وها هو يجلس في صالونه الواسع تحيطه لوحات رسمها بحسّ من الواقعية الإشتراكية لوجوه عرفها في ذلك الزمان الذي يفصله عن اليوم سنوات ملؤها الحرب و"ما ندعوه بالتاريخ". يتوق أن يعود إلى أولئك الناس وأن يفي بوعده لهم بأن يودع لديهم هذه اللوحات لوجوههم الطافرة بنظرات الغضب. لكنه لا يذهب. لا يعود. ليڤي هو واحد من أولئك الذين أخلفوا بوعدهم لناس الجنوب. بصوت هاديء، مكسور يحكي رغبته بالعودة إلى ذلك العالم البعيد "المُغلق على ذاته بين الألم والخرافة وناسياً الدولة والتاريخ". ذلك الجنوب القاسي بوحدته حيث قساوة تضاريس الأرض لا تكملها إلا قسوة التجاعيد على وجوه رجاله الذين هَرموا قبل أوانهم. 
كاميرا باسكولينو دي سانتيس تنقل تلك القسوة بأبّـهة لكن دون أن تحتفي بها. روزي لا يُجمّـل القُـبح. ولا يستخدمه أداة جمالية بل هو يجعله إطاراً شديد التحديد لمشهد تكاد تحسّ فيه أنك قادر على شمّ رائحة الرطوبة من الجدران المُتهالكة. قسوة المكان وتقشفه هما إنعكاس لقسوة الناس وروحهم حيث حتى الأطفال يبدون بلا رحمة. 
رجال إيبولي موزعون بين عالمين: إيطاليا و...أميركا! بعضهم يبادر بالحديث بالإنكليزية وبعضهم حين يشتم رائحة حرب قادمة، يحزم حقائبه ويودّع أصدقائه على أمل لقائهم بعد الحرب ويغادر إلى أميركا. هناك في نيويورك "عاصمة إيطاليا الحقيقية" تبدو الحياة واعدة بأمل ٍ يبدو أنه مات منذ زمن بعيد في الجنوب الإيطالي.
في غير مرّة يستخدم روزي التقطيع في بناء تلميحات ودلالات موحية. ففي حين يتحدث واحد ممن أعتادوا التنقل بين إيطاليا ونيويورك عن أنهم أحياناً في أميركا يذهبون إلى الريف حيث ينزلون سراويلهم ويقرفصون ليقضون حاجتهم في الهواء الطلق مما يذكرهم بوطنهم الأم. هنا يقطع روزي على خطاب موسوليني الذي يعلن "الإنتصار" في الحرب الأثيوبية ودخول عاصمتها أديس أبابا.
إلى منفاه في إيبولي تأتي شقيقة ليفي لزيارته  (تلعب ليا ماساري الدور القصير بحضور لافت. أين هي اليوم؟) هي تحاول إقناعه بأن يُـهادن السلطة قليلاً لكي يستطيع العيش في بلد يبدو فيه أن قبضة الفاشية قد أمتلكته دون هوادة. هو يرفض. كما سبق وأن رفض المساومة على حقه كفنان في رسم بورتريه للسيدة التي تعمل في تنظيف بيته فيصفعها حين تتمسك بخرافة إمتلاك الرسّام لروح من يرسمه. اليونانية آيرين باباس المُذهلة (يا آلهي، أي زمن كان ذاك؟) بملامحها الشديدة القسوة تُمثل الحضور الأنثوي الوحيد الموحي بأمكانية الجنس في مكان يبدو ناسه وكأنهم يتوالدون من الحجارة.

"المسيح توقف عند إيبولي" هو ذَهَبْ صافي، من زمن كان الصُـيـاغ من طينة فرانشيسكو روزي يجيدون تشكيله في فيلم لا يفارقك من المُشاهدة الأولى والتي كانت منذ خمس وثلاثون عاماً. فيلم لمكتبتك السينمائية كمثال عن الواقعية الإيطالية الحديثة في سياق توظيفها كأداة لرؤية فنية وسياسية لم تساوم على إنحيازها إلى جانب المُهَـمّـشين في مجتمع نخر طبقته السياسية الفساد منذ بدايات القرن الماضي.


الفيلم الذي أستندَ إلى سيرة حقيقية كتبها كارلو ليفي عن تجربة إقامته الجبرية في الجنوب خلال حرب إستعمار أثيوبيا، حاز الترحيب والتقدير في أكثر من مهرجان ففاز بذهبية مهرجان موسكو لعام 1979 وجائزة "بافتا" البريطانية الرصينة عن أفضل فيلم أجنبي لذلك العام، وحَضَرَ خارج مسابقة مهرجان "كان" الرسمية. كما أنه كان فيلماً دائم الحضور في نوادي السينما الشبابية حول العالم. طبعاً في زمان كان لا زال الشباب يحملون هَـمّ قضايا الإنسان. ماذا عنهم اليوم؟ دَعَـكَ من اليوم. شاهد الفيلم فقط وأعـطِ نفسك فرصة لتأمل الصورة والمعنى.


0 comments: