The Lion King | Straw Dogs (2011)| The Turino Horse| Le Havre | Pina Chicken With Plums | أفلام أوسكار 2012

Year 3 | Issue 102                                                                                                                                      

أفلام الأسبوع 


The Lion King **

إخراج: روجر ألرز، روب منكوف
أصوات:  جيمس إيرل جونز، ماثيو
برودريك، نيكيتا كالامي، جيم كمنغز
أنيماشن - 1994 [نسخة جديدة- بالأبعاد الثلاثة]٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 Review N. 267
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 لا أدري إذا ما كانت هناك سابقة لما سيلي أم لا، لكن فيلماً حط في المركز الأول في سلّم الإيرادات قبل ستة عشر سنة منجزاً نجاحاً كبيراً، يعود إلى الصالات ليتبوّأ، مرّة أخرى المركز نفسه.
الفيلم هو «الملك الأسد»، فيلم أنيماشن من ديزني ستديو وكان افتتح في الولايات المتحدة في الخامس عشر من حزيران/ يونيو سنة 1994 وعالمياً، بدءا بكوريا الجنوبية، في السابع من تموز/ يوليو. آنذاك حصد من أسواقه العالمية 783 مليون دولار، أي ما يوازي بليون و200 مليون دولار، إذا ما أخذنا في الحسبان التضخم المالي وسعر التذكرة الأعلى اليوم مما كان عليه في ذلك الحين٠
الفيلم نفسه طل في الأسبوع الماضي مزوّداً بسلاح الأبعاد الثلاثة وأنجز 30,151,614 دولار في أيامه الثلاث الأولى٠
نجاحه المتجدد سيكون مدعاة اهتمام هوليوود من حيث أنها قد تجلب بعض القديم المتميّز الذي سبق له وأن حقق نجاحاً كبيراً لتعيد طرحه فيما يشبه من يكتشف أن بذلة ما لا زالت تناسبه فينظّفها ويعيد لبسها و "ڤوالا"... لديه الآن بذلة جديدة٠
ما هو خاص بتجربة ديزني هذه هو أن الفيلم كان عُرض على جمهور من الأولاد والراشدين كحال كل الأفلام الكرتونية غالباً. في الأساس، فيلم ولاّدي للصغار، الصغار بحاجة للكبار كي يصطحبوهم إلى الصالة. التذكرة بتذكرتين والدولار بدولارين.... كيف لفيلم أنيماشن أن يفشل؟
لكن ما استند إليه الاستديو عملية حسابية بسيطة: الجمهور الذي كان صغيراً كَبُر وقد يرغب في مشاهدته من جديد، وأولئك الذين شاهدوه من فئة الثلاثين سنة وما فوق، ربما أرادوا مشاهدته من جديد أيضاً. إليهما سينضم جيل صغير دون السادسة عشر لم يلحق بتلك التجربة وسوف يود مشاهدته كما لو كان إنتاجاً جديداً.
في صلبه، «الملك الأسد» هو طموح شكسبيري على الشاشة الشكسبيرية. شيء من «هاملت» مدفون مباشرة تحت تربة هذا الفيلم من دون السعي للذكر. صانعوه استعاروا لكنهم لم يقدّموا الفيلم على أنه يحمل إقتباساً لـ «هاملت» متمثّلاً بحكاية الأسد الصغير، الأمير سيمبا ووالده الملك موفاسا وعمّه سكار.  العم قتل الأب والأمير يقرر العودة لكي ينتقم. هذا إلى جانب ايحاءات دينية مسيحية غير خافية بدءاً من مشهد في مقدّمة الفيلم حين يوحي الفيلم أن الطفل سيمبا هو منحة مميّزة من الله تعالى٠
إنه ليس فيلماً أخلاقياً وديزني ليست في صناعة السينما لكي تنتج أفلاماً من هذا النوع، لكنه فيلم يقدّم لمن يشاء بضعة مباديء ما يجعله منتمياً إلى تلك الأفلام الكرتونية ذات الأبعاد. أهم تلك المباديء حب العائلة واعتمادها الواجب على وحدتها في مواجهة بعض الأطراف الشريرة. أيضاً تعلّم سيمبا أن الحفاظ على مملكة والده من مسؤوليّته. يستطيع أن يهرب ويستطيع أن يلتهي مع أصدقائه من حيوانات الغابة الأقل من مركزه الإجتماعي لكنه لا يستطيع أن يستمر في ذلك غافلاً شؤون الحكم٠
لكن هذه المباديء الإجتماعية الكبيرة ليست ناصعة من دون شوائب. ما يرسم إيجابية طرح لفيلم ليس أبطاله وما يقومون به، بل أشراره أيضاً وما يمارسونه. كنه هؤلاء الأشرار. ألوانهم وثقافاتهم. في هذا الإطار  «ذ كينغ ليون» يحتاج إلى تقطير لسحب الشوائب منه. مصفاة عدس يُلتقط منها الحجارة الصغيرة التي يستخدمها لوصف سواه. هل نأخذ مثلاً بالصورة التي يرسمها الفيلم للأشرار كشخصيات ذات بشرة داكنة بقبول؟ وإذا كنا نستطيع أن نفعل متجاوزين، هل يستطيع إبن السابعة من العمر او نحوه تمييز ما هو خيالي عما هو واقعي او مستوحى من الواقع؟
خلو الفيلم من الحس المسؤول شيء، لكنه أيضاً، وبصرف النظر عن جيش النقاد الأميركيين الذين وجدوا الفيلم آنذاك رائعاً، هناك التقنية الممارسة. أيامها (منتصف التسعينات) كانت ديزني تخطو خطوات فاصلة عن تقنية الرسوم التي اعتمدتها سابقاً في الستينات وما بعد. تلك المدرسة الكلاسيكية العريقة التي نتج عنها أفضل أعمالها لليوم: «كتاب الأدغال»، «سنو وايت والأقزام السبعة»، «بامبي» وسواها.  «ذ ليون كينغ» هو آخر العنقود الفاصل بين مدرستين: يحمل ما يكفي للتذكير بتلك التقنية التي صنعت تلك الكلاسيكيات، ويحمل تقنيات جديدة تبلورت لاحقاً عن أخرى أكثر انتماءاً للجديد من القديم. لكن في صلبه، هو أيضاً فيلم قليل الجدوى. لا أقول قليل القيمة، لكن جدواه على صعيد الذخيرة الذهنية وعلى صعيد الترفيه ذاتيهما محدود. لا نحكم على الأولاد إذا ما أعجبوا بالفيلم، فشخصيات ساحرة كالأسد ومضحكة كالسعدان والظرافة تسعد هؤلاء كما تخيفهم شخصيات الضباع والصوت الفحيح للممثل البريطاني جيريمي آيرونز لاعب شخصية عم الأسد الصغير الذي قتل شقيقه٠
هذا يعيدنا إلى «هاملت» الذي احتوى، لجانب قيم كثيرة، على شخصية شاب وجد أن لديه اختياراً بين أن يقبل باستيلاء عمّه على الحكم والزواج من أمّه (سنوات ضوئية قبل سيغموند فرويد) أو أن يعيش حرّاً من الرغبة في السُلطة والإنتقام٠
هذا الفيلم يوجّه بطله إلى الإختيار نفسه وهوإذا يختار الحل الأول طبعاً يترك وراءه العيش بحريّة والإختلاط بقوم آخرين. أعتقد أن ما هو مقبول بالنسبة لهاملت شكسبير ليس بالضرورة مقبولاً في «الملك الأسد» والسبب هو أن الأول دراسة في ذلك الإختيار وفي المراجع النفسية عدى كونه عملاً أدبياً رائعاً. أما فيلم ديزني ففي أفضل حالاته ملهاة لا نستطيع أن نقول عنها أنها بريئة فعلاً، لكنها ترفيه تختلف حول الآراء حسب مفاهيمها ومرجعياتها٠


** Straw Dogs
كلاب من قش

إخراج: رود لوري عن سيناريو لسام بكنباه وديفيد ز. غودمان
أدوار أولى: جيمس مارسدن، كايت بوزوورث، ألكسندر
سكارسغارد، جيمس وودز٠
النوع: تشويق | الولايات المتحدة- 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N. 268
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ديفيد إنسان مسالم وكاتب سيناريو مجتهد وزوجته آمي ممثلة وكلاهما يصلان إلى بلدة في ولاية مسيسيبي ليمنحاها سمعة سيئة في فيلم يقول، خفياً، أن أهل الولايات الجنوبية لا زالوا كما عهدناهم في أفلام سابقة: عنيفون، غير متحضّرين وذوي سلوك غير اجتماعي او أخلاقي. سام بكنباه، المخرج المهم في تاريخ السينما الأميركية الحديث، أخرج هذه القصّة المأخوذة عن رواية غوردون وليامز «حصار مزرعة ترنشر» سنة 1971. لم يكن من بين أعماله الجيّدة. في الواقع، كان أقل جودة من كل أعماله. كان عنيفاً وذي نتوءات صدئة في معالجته، لكنه- على الأقل- انتمى لأسلوب بكنباه وطريقته في وصف البذور الشريرة في ذوات الناس وكيف أن ديفيد المسالم قد ينقلب وحشاً كاسراً تحت الضغط.
هناك، لعب دستين هوفمن دور ديفيد وشغلته كانت علم الحسابات. البريطانية التي قلّما نشاهدها الآن، ناهيك عن تذكّرها، سوزان جورج لعبت دور الزوجة. بريطانيون مرميين في الريف تثيرهم الزوجة، بقصد ومن دونه، فيشربون ويسكرون على ذكرها ثم- وبعد أحداث ترفع التوتّر عالياً- يحاصرون المنزل ثم يهاجمونه فيغتصبون الزوجة ويضربون الزوج الذي هنا تحديداً يقرر ديفيد أن الحال وصل إلى حد يدفعه لنكران أساليبه السلمية في الحياة فينقض على المهاجمين وينجح في قتلهم واحداً تلو الآخر: العنف له مبرراته وعليك أن تكون عنيفاً. هذه كانت رسالة سام بكنباه٠
وهذه الرسالة لا تتغيّر هنا. لكن ديفيد (مارسدن) أصبح كاتباً يضع سيناريو عن حصار ستالينغراد بينما يواجه حصاراً مماثلاً من قِبل أهل البلدة التي وصل إليها. يصلا إلى بلدة بلاكووتر لإصلاح منزل والدها. تشارلي (سكارسغارد) سيقوم بالإشراف على التصليحات وفريقه من الرجال سيقومون بالبصبصة على الزوجة خصوصاً حين ترتدي ذلك الضيّق او المكشوف وتخرج إليهم على نحو طبيعي كما لو كانت تستضيف بعض القطط الأليفة٠
طبعاً سيؤدي ذلك إلى غليان الأعصاب خصوصاً حين يتبدّى للجميع أن ديفيد ليس الرجل القوي في شخصيّته، وحين يقع الإغتصاب الذي يتوقّعه المشاهد حتى وإن لم يكن شاهد فيلم بكنباه السابق، فإن ذلك يقع بعدما ماتت المسألة أخلاقياً وأصبحت مفهومة الدوافع. في مكان ما من كل هذا، يحشر المخرج رسالة مفادها أن على أميركا أن تقف قويّة ضد ما يقوّض الحياة المدنية. هذا قد يكون رسالة موجّهة لليمين (حال الأشرار هنا)، او لليسار (حال الكاتب المهادن) لكن بصرف النظر عن التوجّه، فإن الفيلم هش بحيث تتمنّى لو أنك كنت تشاهد فيلم بكنباه مرّة ثانية كونه كان دائماً واضحاً في موقفه أعجبك ذلك الموقف أو لم يعجبك٠
رود لوري، الذي سبق له أن أخرج «المرشّحة» بطولة جوان ألن و»القلعة الأخيرة» مع روبرت ردفورد، دائماً ما سعى إلى شيء وأنجز ما هو دونه. وهنا لا يتغيّر شيء في هذا الوضع. المخرج يعرف أدواته التقنية لكنه لا يسمح لها أن تصيغ فيلماً أعلى قدرة. يدرك عصب الدراما التي بين يديه، لكنه لا يمنحها وقتاً لكي تتفاعل على نحو صحيح٠


أفلام المهرجانات

Chicken With Plums ** 








إخراج: مرجان ساترابي  وفنسنت بارونو
أدوار أولى: ماثيو أماريك، إدوار باير، ماريا دي ميدارو، غولشفته فرحاني٠
النوع:  دراما ساخرة [فرنسا/ ألمانيا/ بلجيكا- 2011]٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N. 269
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 مشاهدتان متواليتان (الأولى انقطعت بعد 35 دقيقة بسبب موعد لم يكن من الممكن تأجيله) لم تغيّرا كثيراً في رد الفعل المستنتج من فيلم المخرجين ساترابي وبارونو.
بعضنا يتذكّر أنهما المسؤولان عن الفيلم الكرتوني «بيرسيبوليس» الذي وضعت فيه المخرجة مرجان ساترابي ذكرياتها في إيران وتجربتها ف الهجرة إلى أوروبا ورأيها الصريح فيما آلت إليه الحياة الإيرانية الإجتماعية والمدنية بفضل النظام والحكم الحاليين. ذلك الفيلم شاء أن يكشف حب المخرجة لإيران الأولى حين كانت الحريّة الفردية لا زالت ممكنة وحين كان الفرح بتغيير نظام الشاه لا يزال واعداً بنظام أفضل منه قبل أن ينقلب الحلم إلى كابوس.
الفيلم الجديد «دجاج مع خوخ مجفف» ليس كرتونياً الا بمقدار بضع لقطات هنا وهناك، بل دراما حيّة تتحدّث عن طهران العام 1958 من خلال سيرة عازف الموسيقا ناصر علي الذي نتابع هنا قصّة الأيام السبعة الأخيرة من حياته بمزيج من المواقف المضحكة والساخرة والدرامية الجادة.
وفي حين أن المرء يستطيع أن يفهم ضرورات التصوير في ستديو بابلسبيرغ في برلين، كون المخرجة من المغضوب عليهم في بلادها، الا أنه يتمنّى لو أن الفيلم امتلك الجرأة الكافية للإتيان بممثلين يتحدّثون اللغة الفارسية عوض التضحية بهذا القدر من الواقع (ذاك الذي مارسته المخرجة وزميلها في الفيلم السابق على أي حال) لأجل جلب ممثلين معروفين في أدوار صغيرة مثل الجزائري جمال دبّوس والإيطاليّتين شيارا ماستروياني وإيزابيلا روسيلليني، وإسناد البطولة إلى مجموعة فرنسية بالكامل تقريباً.
طبعاً الضرورات التجارية تبدو كل ما يحتاجه الإنتاج من دافع، علماً بأن فيلم بارونو وساترابي السابق تكلّم بالفارسية، معظم الوقت، وأنجز نجاحاً جماهيرياً كبيراً. هذا النطق بلغة تختلف عن شخصيات وموقع وبالتالي واقع الحدث، تذكّر بأفلام الوسترن التي كان النقاد الأجانب قبل سواهم يعارضونها لأنها كانت تصوّر الهنود الحمر كما لو كانوا خريجي أوكسفورد او هارفارد.
لجانب هذه النقطة فإن العمل الجديد للمخرجين يتواصل في قدر معتدل من النجاح. ناصر علي كسر آلة الكمان التي كان يعزف عليها وحين لا يجد بديلاً لها يرضيه يعزم على الإنتحار. بعد نحو ربع ساعة من الفيلم يتحوّل العمل إلى سرد لتلك الأيام السبعة التي ستفصل بين عزمه ذاك ونهايته المقبلة مع تعليق يصاحب الفيلم مصدره، حسب الفيلم، الملاك عزرائيل الذي يرصد خطوات الموسيقار وما يمر به من متاعب عاطفية ونفسية٠
في النواحي التنفيذية البحتة، فإن الفيلم يتعامل مع مجموعة من الفنيين والفانين الذي لا يمكن لهم القيام بخطوة غير مهنية وماهرة وادة. لكن على صعيد الإخراج نفسه، فإن العمل يحتاج الى ضوابط بين الفقرات أفضل من تلك المعتمدة. في أحيان كثيرة، يبدو الفيلم يعمد إلى خلط السخرية بالواقع لأن المناسبة فرضت ذلك. ماثيو أماريك جيّد في العموم، لكن مع تذكّر أن الدراما تعوزها المصداقية فإن صياغته للشخصية التي يؤدي هي صياغة تتبعه بالتالي ولا تتبع الواقع٠
ساترابي هي التي تبقى في مقدّمة هذا العمل بين المخرجين الشريكين. إنه عالمها وتاريخها وذكرياتها وهذا ما يمنح العمل ذلك القدر من التميّز. على ذلك، من المحتمل أن لا يحقق الفيلم الأثر ذاته، خصوصاً بين الذين كانوا يتوقّعون فيلماً آخر ذا موضوع سياسي معاصر ليجدوا أنفسه في فيلم قد يطرح في أفضل الأحوال أفكاراً ثم يسحبها.



ما شوهد من أفلام مرشّحة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي


هلق لوين؟ **
إخراج: نادين لبكي
أدوار أولى: نادين لبكي، إيفون معلوف، على حيدر، مصطفى
السقا، جوليان فرحات، ليلى حكيم، كلود باز
لبنان/ فرنسا - 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N. 270
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نادين لبكي الآن، وبعد النجاح المستطرد لها، قوّة سينمائية لبنانية ضاربة. مخرجة موهوبة كانت برهنت على حسّها السينمائي في فيلمها الأول »كراميل» الذي كان، كهذا الفيلم، نسائي الهم والتركيبة والأحداث. لكن «هلق لوين؟» يختلف في كل شيء آخر. في حين أن «كراميل» كان عملاً يحمل نبرات فنية واضحة وهدوء في التحليل والمعالجة على حد سواء، يأتي هذا الفيلم كخضم من الأحداث الممتزجة، فهو يُضحك ويُسلّي ويتحدّث في الوقت ذاته عن موضوع جاد، وهذا ليس المشكلة. المشكلة هي أن هناك تمازجاً ينتج عملاً جيّداً، وآخر لا ينتج. فإذا أضفنا الموسيقا والغناء والحكاية الفانتازية التي تدور على خلفية واقعية، وجدنا أن الفيلم أكثر مما يحتمل. فكرة كبيرة تحوي في عناصرها كل ما يمكن أن ينتج عنه عملاً ترفيهياً جماهيرياً لكنه على حساب بلاغة فنية سبق للمخرجة أن حققتها من قبل
الفيلم الجديد الذي تم تقديمه في مهرجان "كان" يدور حول سكّان قرية  لبنانية نصفها مسلمون ونصفها مسيحيون، هناك وئام حذر بين الطرفين وحرب أهلية خارج حدود القرية . لكن هناك مناوشات. قطيع من الماعز دخل المسجد فهب بعض المسلمين ثائرين. تمثال لرأس المسيح هُشّم فهب بعض المسحيين. هذا إلى  أن  يخرج شاب مسيحي من القرية في غاية ويعود جثّة هامدة.  تحسّباً للفتنة، تقوم الأم الكثلى بإخفاء جثّة إبنها لكن سر الجثّة ينكشف وتقف القرية على حدود حرب طائفية. الحل؟ تقوم نساء القرية، اللواتي برهن من مطلع الفيلم، على أنهن رأس الحكمة وأنقى من الرجال تفكيراً بإقامة حفلة عشاء كبيرة يتم فيها صنع حلوى تحوي على حشيشة الكيف وفي الصباح تفاجيء النساء المسلمات أزواجهن بأنهن انقلبن مسيحيات والمسيحيات تفاجئن أزواجهن المسيحيين او أولادهم بأنهن اعتنقن الإسلام٠
ما سبق، إلى فصل الحفلة الليلية كان يمكن أن يكون وضعاً مثالياً لفيلم أكثر جدّية. لا مانع من سخرية او مناسبات كوميدية، بل لا مانع لو كان الفيلم كلّه معالج كوميدياً. كذلك ليست المشكلة أن الرجال في الفيلم أغبياء والنساء أذكياء لولا أن الفيلم ليس عن كوكب خلقهم الله فوقه هكذا. بالتالي لو عمدت المخرجة لمناطق رمادية  او حتى لو قدّمت سبباً فعلياً يبحث في تعنّت الرجل وسماحة المرأة (مثلاً) لكان الأمر أفضل وأكثر قبولاً
في وجه منه هو فيلم أمنيات طيّبة: الحرب بغيضة والحياة أقصر من أن نمضيها في حقد وضغائن. لكن مجرّد وجود هذه الأمنيات يجعل الفيلم أكبر بسنوات عن تلك الحرب الأهلية اللبنانية ومسبباتها وما نضحت به من نتائج٠ 

Burnt by the Sun 2 ***

إخراج: نيكيتا ميخالكوف
أدوار أولى: نادجدا ميخالكوف، نيكيتا ميخالكوف،  أوليغ
منشيكوف
روسيا - 2010

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N. 271
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عندما سئل المخرج نيكيتا ميخالكوف لماذا انتظر ستة عشر عاماً قبل أن يحقق جزءاً ثانياً من فيلمه  «حرقتهم الشمس» أجاب بأنه كان يريد أن يُتيح للممثلين النمو إلى السن التي تسمح لهم بتمثيل شخصياتهم في مقابل جلب ممثلين جدد ليقدّموا حكاية الجزء الثاني التي تقع بعد ثلاثة عشر سنة على أحداث الفيلم الأول.  تبرير مقبول بالطبع لكن في المقابل يبدو الجزء الثاني كما لو خسر نصيبه من النجاح الذي أصاب الأول وكان من الممكن له أن ينسحب على الثاني فيما لو تم إنتاجه خلال السنوات الخمس اللاحقة
مهما يكن يُحلينا المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف (كونتشالوفسكي- كما أسمه الكامل) إلى أحداثتنبع من الجزء الأول. في «حرقتهم الشمس» الأول تعرّفنا على تلك الشخصيات التي تعيش ثلاثينات الفترة السوفييتية تحت حكم ستالين. على كوتوف (ميخالكوف) الذي كان يعمل تحت إمرة النظام واعداً نفسه بحياة راغدة  والذي كان يمضي أيام سعيدة مع زوجته  ماروسيا (إنغبورغا دابكونياتَ)  وإبنته ناديا (ناديا ميخالكوفا) ذات السنوات الست. شيء ما يقلقه في ذلك الأفق. لم لا فقريبه ديمتري، خادم النظام الأول  أوليغ منشيكوف) حاقد عليه كونه خطف منه المرأة التي كان يحبّها، وهو يخطط  للإنتقام من كوتوف وينجز ذلك مع نهاية الفيلم بإرسال الزوج إلى معتقل سياسي
في هذا الجزء ننتقل إلى العام 1943 (سبع سنوات بعد أحداث الفيلم الأول). كوتوف في وحول جبهة القتال ضد الألمان. كذلك في الجبهة ولو في مكان آخر إبنته التي أصبحت ممرضة. وفي مكان خلفي ديمتري الذي يحاول جهده منع لقاء الأب بإبنته. كونتشالوفسكي ينجح في خلق هذه العداوة واستغلالها في الوقت الذي يقدّم فيه عملاً حربياً (ولو في جزئه الأول هذا) مظهراً الصراع ضد العدو الآخر: النازية٠
الصراع الثاني يأتي متوقّعاً ويتيح للفيلم الذهاب إلى الحرب بكل ما فيها من وحشية وشراسة وعنف. لكن الأول هو الذي يحظى باهتمام المخرج الخاص، كونه يحوّل شخصية كوتوف إلى تعبير عن الإنسان السوفييتي الذي هو ضحية نظام جائر. نظام يبدأ الفيلم به وهو يوجّه أوامره إلى ديمتري بتعقّب كوتوف وإبنته والتخلّص منهما. والخلاص عند المخرج هو الدين الذي سيحيل عذابات بطله وإبنته إلى روحانيات جميلة. إنه في هذه المشاهد الأخيرة من الفيلم، حيث يكمن فصل الخلاصات والمفادات، يتبدّى ضعف سليقته الدرامية وتشتت اهتمامه وإضاعة الفرصة لإنجاز عمل يلتحم بالتاريخ بصرف النظر عن الرؤية الشخصية له٠

Le Havre  ***

إخراج: آكي كوريسماكي
أدوار أولى: أندريه ويلمز، كاتي أوتينن، جان- بيير
داروسان، بلوندل ميغويل
فنلندا/ فرنسا/ ألمانيا - 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N.272
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين كل الأفلام الأوروبية الحديثة التي تناولت في السنوات الأخيرة ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر
البحر، «لو هاڤر» هو أكثرها تشبّعاً بالحزن الإنساني الدفين على مصير أولئك الذين جرفتهم الظروف من أفريقيا إلى السواحل الفرنسية. هذا شأن كوريسمالي في أفلامه السابقة وبصرف النظر عن الموضوع الذي يعالجه. ما ينتقل من فيلم لآخر هو الحس بالوضع الإنساني والإجتماعي والحزن العميق على حالة  شخصياته الرئيسية في مدينة تتحرّك تحت وطأة نظم ضاغطة
   كوريسماكي اختصاصي حكايات عن ناس خاسرين. وهنا بعضهم ولو أن الأمر يختلف هنا عن أفلامه الأخيرة السابقة مثل «ضوء في الغسق» و«رجل بلا ماض». بطله مارسل ماركس  (أندريه ويلمز) لديه  عمل ثابت في بلدة لو هاڤر الفرنسية الكامنة فوق النورماندي. هو ماسح أحذية وهناك المشهد الذي يمهّد للكشف عن بواطن الأمور: يمسح حذاء شاب أسود فينتفض فرنسي كان يمعن النظر بهما ويغادر المكان. لكن عمل مارسل لا يعرف لون البشرة، بل لون الحذاء وسريعاً ما سيجد نفسه يستبدل الأولويات حينما يلتقي بالصبي إدريس الذي سبح هرباً من البوليس الفرنسي الذي كان ضبط شحنة من اللاجئين الأفريقيين لكنه أفلت منهم. العلاقة الإنسانية تنمو بينهما على الرغم من أن زوجة مارسل دخلت المستشفى لمرض شديد. في سياق الموضوع حياة رجل تجاوز الخمسين ويعيش حياة متواضعة ككل شخصيات كوريسماكي السابقة. ما يتغيّر ليس فقط تعامله مع طاريء جديد ومنحه مساحة زمنية يرتاح فيها من عناء الهرب، بل حياته الخاصّة وتبعاً للظروف التي تمر بها زوجته أيضاً. عند المخرج شخصية كاملة الأوضاع تمر بمصاعب حياتها مع وبدون إدريس. ما يمنحه إدريس لمارسيل فهماً لقضيّة اجتماعية تساوي قضاياه الأخرى
كالعادة لا يكترث المخرج لليافطات الكبيرة، بل أفلامه هي فن كبير على مواضيع صغيرة وشخصيات متواضعة. هو دائماً ما يبحث في عتمة المدينة عن شخصيات تعيش بيننا (وقد أكون أنا او تكون أنت بينها)  ولا يشعر بها أحد حين ينشد هؤلاء صداقة (كحال بطله في «أضواء في الغسق» مثلاً)٠
الرابط الإجتماعي هنا متساو: ماسح أحذية لا يمكن أن تكون حياته المادية أفضل بكثير من أفريقي شاب هرب من بلده قاصداً لندن ليصل إلى شواطيء فرنسا. لكن الرسالة الخفية نوعاً هنا هي أن فقط من يعيشون المستوى المحدود من الدخل ذاته، ومن الحياة المهمّشة نفسها، هم من سيشعر حيال أزمة الآخر. إلى ذلك، هناك القدر ذاته من السخرية. كوريسماكي قد يتطرّق لمواضيع جادّة بأسلوب عمل مرهف وداكن لكنه ليس معلّقاً يصدح بالخطب بل على العكس يحتفظ لنفسه بحق تمرير سخريته من هذه الأوضاع. في الوقت ذاته هو أحرص على أن يسخر أكثر مما يجب، حتى لا يعرّض عمله للهدر. وبصرياً، فإن الكثافة التي تحتويها الصورة وتوزيع عناصرها البشرية وخلفياتها الطبيعية او المكانية على حد سواء، تؤكد حسن تعامله مع مادته ومع مشاهده. كل شيء لديه موحّد على خط قصير مباشر ومبتسر. لا يوجد عنده مشهد يستمر لحظة من دون أن يضيف شيئاً. ولا يقصد الإضافة إن لم يكن لديه شيء. بذلك هو راسم بارع لحدود مشاهده أيضاً٠

Pina ***

إخراج: ڤيم ڤندرز
تسجيلي
ألمانيا-  2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N.273
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما حظت سينما الخيال العلمي وأفلام الأنيماشن والفانتازيات المختلفة بنصيب الأسد من نظام الأبعاد الثلاثة، كان مفاجئاً، للعقل المثقّف عموماً، أن يعمد مخرج- مؤلف ما إلى ذات النظام ليبث فنّه. الألمانيان ڤيم ڤندرز وڤرنر هرتزوغ فعلاها. الأول عبر هذا الفيلم والثاني عبر فيلمه
Cave of Forgotten Dreams
وكلاهما تسجيليان
في «بينا» سيرة للحياة المهنية للراقصة ومدرّبة الباليه بينا بوش التي ماتت قبل سنوات. عشرون سنة على قيام ڤندرز بإبداء رغبته لها تحقيق فيلم عنها. بعد ذلك اشتغل على أفلامه واحتل موضوع التعاون صفّا خلفياً إلى أن عاد إلى الواجهة سنة 2007 بعد مشاهدته فيلما بالأبعاد الثلاثة. أتصل بها وأخبرها أنه بات يعرف كيف سيقدّم فيلماً عنها. بعد عامين ماتت وڤندرز بحث مع أعضاء فرقتها وقرر أن يصنع الفيلم على أي حال
بوش لم ترغب في فيلم من نوع سيرة الحياة وڤندرز تجاوب مع هذه الرغبة مفضّلاً بدوره التركيز على كيف مهنتها الفنية وكيفية قيامها بتصميم وتدريب الراقصات. في ذلك هناك استعانة بالتسجيلات المختلفة، لكن الكثير من اللقاءات والأكثر من ذلك من قيام الفرقة التي عملت تحت مظلّة بوش تقديم أعمالها لعل هذه الأعمال تقترح على المراقب ما كانت عليه المصممة فنّاً ورسالة٠
ڤندرز يوظّف الإستعراضات الراقصة أفضل توظيف. كاميرا محمولة تتحرّك دون اهتزاز مانحة الفيلم حريّة وليونة تتشابه وحريّة وليونة الفصول الراقصة ذاتها.  وبل يجد المخرج فرصة لبعض الأفكار شبه التجريبية.  لكن محور كل شيء يبقى بوش وفلسفتها الفنية ومنظورها للعالم من خلال فنّها. بوش كانت دائماً تسأل عما يحرّك الرقص في راقصاتها (على الأخص) وليس لماذا يرقصن. والمخرج يعمل على هذا المنوال فاتحاً منهجاً فنيّاً مثيراً للعين وشاغلاً للذهن ولو أنه في نهاية الأمر يبقى محدود التأثير كون الفيلم تأليف ذاتي حول فن أكثر ذاتية٠


 The Turino Horse
*****

إخراج: بيلا تار
تمثيل:  مات دايمون، إميلي بْلَنت، ترنس ستامب، مايكل
 كَلي، أنطوني ماكي
النوع: تشويق | الولايات المتحدة - 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review # 224
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحد شروط تحقيق تُحفة سينمائية هي أن يقوم المخرج بإلغاء كل الروابط التي من الممكن لها أن تلزم فيلمه بإتباع التقاليد. وشرط ثان أن يفعل تحديداً ما يُريد بالطريقة التي يُريد وهذا بعد تمكّنه من رؤيته وأسلوبه. فيلم بيلا تار يملك، على الأقل، هذين الشرطين.
فيلم بيلا تار، أي فيلم لبيلا تار، يصفع الناظر بمشاهد من الصعب أن تُمحى من البال. في الحقيقة، فيلمه  الطويل جدّاً "تانغو الشيطان" كلّه يبقى في البال كما لو شوهد بالأمس بمشاهده الطويلة، معايشاته المتمددة التي لا يمكن معرفة متى ستنتهي صوب معايشة أخرى. بلقطاته التي تحرص على تأطير البيئة المنتقلة الى الشاشة. بذلك يبقيها تحت الضوء وفي المدّمة. الساحة الكبيرة التي تتحرك عليها الأشياء والشخصيات معا. إنه كما لو أن المخرج يخشى (او ربما يدرك) انه لو اقترب كثيراً من الشخصيات التي لديه اضطر المشاهد لإهمال ذلك المحيط. علي ذلك يسمح لنفسه بلقطات قريبة عند الضرورة خصوصاً في الحالات التي تعكس البؤس كاملاً٠
الفيلم الجديد يبدأ بذكر حادثة تردد أنها وقعت مع  نيتشه في تورينو سنة 1889 حينما شاهد حصاناً يتلقّى الضرب المبرح من صاحبه، فما كان منه الا أن هرع الى الحصان وحضن رأسه وأخذ يبكي. وحسب ما يرد في مقدّمة مطبوعة قبل المشهد الأول في الفيلم، سقط الفيلسوف مريضاً من بعد ذلك وحتى وفاته. لكن الفيلم لا يريد أن يبحث في تصرّف نيتشه او دوافعه او حتى ما حدث له من مرض، بل يسأل ".... لكن ما الذي حدث للحصان؟"
ما حدث للحصان كثير.... وقليل. بعد ذلك، يقول الفيلم، رفض الحصان أن يمتثل لرغبة صاحبه الا مرّة واحدة، عندما قرر صاحبه الهجرة وإبنته من البيت الذين يعيشان فيه بعيداً عن كل شيء الى مكان آخر لا يدريان أين.... لكن لحظة. هل هو الحصان ذاته الذي تسبب في موت نيتشه؟ بيلا تار لا يقول.
المشهد الأول: الكاميرا تصوّر حصاناً يجر عربة ثقيلة وفوقها رجل يحثّه بالسوط على المضي. المكان ريفي والكاميرا تتراجع الى الوراء وتمسح جانب الحصان والعربة ومن فوقها ببطء لتعود بعد ذلك الى الجزء الأمامي من الحصان كل ذلك بلقطة طويلة واحدة لا تريد أن تنتهي وتستمر طوال المشهد (نحو أربع دقائق). في نهاية تلك اللقطة من الممكن مشاهد الحصان وقد أخذت خطواته تقصر وعنقه يميل الى تحت دلالة تعبه. هذه اللقطة الأولى هي موازية للقطات بيلا تار (قدّمت سينماه في بحث على عدّة حلقات في العام الماضي في "ظلال وأشباح") في "رجل لندن" (2008) عندما تمسح الكاميرا ببطء شديد مقدّمة باخرة راسية في مرفأ. كذلك في "تانغو الشيطان" (1994) حيث الكاميرا تتحرّك بموازاة قطيع من البقر في شوارع قرية مهجورة.
هنا تتحرّك أكثر كونها منصبّة على ذلك الحصان. لكنها لن تتحرّك كثيراً بعد ذلك. ستقف في مكانها لتلتقط حياة الرتيبة أمامها. مع وصول الحصان الى مزرعة صحراوية جافّة في منطقة مهجورة، تهرع إبنة صاحب العربة الى أبيها وحصانه. أولاً تعتني بالحصان فتساعد أبيها في تفريغ الحمولة وتقود الحصان الى الإصطبل وتغلق الباب وتلحق بوالدها الى داخل البيت المؤلّف من حجرة كبيرة واحدة هي مكان للنوم ومكان للأكل وللطبخ (لا نرى الحمّام مطلقاً) وللجلوس والنظر من النافذة الى العراء في الخارج.
مع هذا المكان سنقضي الأيام الستّة المقبلة، لأن الحصان في اليوم التالي يرفض أن يخطو بعيداً عن اصطبله، وفي اليوم التالي يرفض أن يأكل وفي الرابع يرفض أن يشرب، في الخامس تعتقد أنه لابد مات. في السادس صباحاً سيجرّه صاحبيه بعدما حمّلا العربة بأمتعتهما الضرورية. يتحرك الجميع بعيداً عن البيت وبعيداً عن الكاميرا فوق الأرض الخالية الا من بئر كان جف ماءه فجأة. تبتعد العربة والكاميرا تراقبها. تصل العربة الى هضبة بعيدة فوقها شجرة يتيمة تمر بها وتغيب في الأفق. الكاميرا لا تزال في مكانها وحس المشاهد ويقظته منصبّان على الحركة التالية لها او للمخرج. فجأة تعود العربة كنقطة غابرة من الأفق التي غابت فيه. وبنفس المدّة الزمنية التي تطلّبها غيابها تعود الى مكانها الأول. الأب وإبنته ينقلان الأمتعة الى البيت (الكاميرا تحرّكت من مكانها السابق للقطات متوسّطة لكنها لا تزال خارجية) والحصان الى الإصطبل: لا مكان يستطيعان اللجوء إليه.

بطاطا مسلوقة
هناك غرابة في التكوين لا تفلت من الملاحظة، لكنها جزء من منهج عمل يقع ما بين بدايات الفيلم (المقدّمة ثم ما يقع في اليوم الأول) ونهاياته (هذا اليوم). وما يقع ليس كثير العدد، ولا متعدد الشؤون لكنه أثرى مما لو كان كذلك. خلال هذه الأيام التي يمضيها الرجل العجوز وإبنته الناضجة (لن تشاهد من أنوثتها ما يُذكر) تمر الأيام ذاتها. هنا لا فرق بين إثنين وثلاثاء وخميس وجمعة (لذلك يطلق عليها المخرج أرقاماً). كل شيء يبدأ باستيقاظ الأب وقد نام على سريره مستلقياً ببعض ثيابه نفسها على ظهره. يجلس وينح. إنها إشارة الى إبنته (الكلام شبه معدوم بينهما خصوصاً منه) لكي تساعده على ارتداء ما خلع من ثيابه وحذائه فيده اليمنى معطوبة. تذهب الى البئر  حاملة الدلو وقاطعة المسافة ذاتها وتستخرج الماء ثم تسلق قطعتين من البطاطا. هذا في اليومين الأوّلين، حين كان ذلك الأب (كلاهما بلا إسم) يأكل البطاطا بشراهة. الآن لنلاحظ شكل "مأدبة" الغذاء:
طاولة خشبية كبيرة يجلسان عليها متواجهين. كل منهما بصحنه وفي الصحن قطعة بطاطا مسلوقة. حين يبدآن الأكل يسرع الرجل بتقشير البطاطا التي لا زالت تغلي من السخونة (تستطيع أن ترى الدخان يتصاعد منها). لكنه لا يكترث. يقشّرها بأصابع يده مجتمعة ثم يضع فتاتها في فمه وهي ساخنة. يأكل سريعاً ثم ينهض بينما لا تزال إبنته تأكل متمهّلة.
هذا في اليومين الأوّلين. الإيقاع يصبح بطيئاً بعدما رفض الحصان العمل فتدخّل في حياة صاحبيه. البئر يجف بعد زيارة سريعة لمجموعة من الغجر (لعنة غجرية). الحياة تتحوّل من رمادية الى داكنة. ليس أن تلك الحياة كانت سعيدة قبل ذلك، لكننا نرى الآن موتها. في اليومين الأخيرين تبدو تلك الوجبة باردة والبطاطا ليست مسلوقة تماماً. الأب في اليوم الخامس يحث إبنته على أن تأكل. في اليوم السادس يتوقّف هو أيضاً عن الأكل.
كما يُلاحظ فإن البؤس الذي تطرّق إليه المجري بيلا تار في "تانغو الشيطان" وأعماله السابقة واللاحقة، مجسّد هنا من جديد لكن ما نراه ليس ساخراً بقدر ما هو مؤلم وهو أكثر ألماً مما في أفلامه السابقة. في الوقت ذاته الألم ليس نتيجة محاولة تحسيس المشاهد بمشاعر إنسانية. هذه الشخصيات تم كيّها من قبل الأقدار وظروف الحياة بحيث لم يعد لديها أي دواع لكي تتحدّث ناهيك عن أن تشعر. وكما في أفلام بيلا تار الأخرى، فإن التصوير بالأبيض والأسود جزء من العالم الذي يصوّره كون الألوان ستوحي ببعض الأمل وهو ضد الأمل الكاذب٠
طوال ساعتي الفيلم يحرض المخرج تار على إعادة  تصوير الحركة ذاتها (البطاطا، جلب الماء، الإستيقاظ، الخ...) لكن المشهد ليس هو ذاته دائماً. رغم ما يبدو رتيباً ومتكرراً فإن الفيلم فيه من الثراء في المعاني وفي الصورة ومن ثنايا الشكل القشيب، كالحياة، ما يجعله متخماً بالمضمون الذي يكبر لكنه لا يتكرر.
هذا ليس فيلماً لكل المشاهدين. أفلام المخرج عادة لا تجذب حتى النقاد المدللين فما البال بالجمهور الذي يريد أن يستشف شيئاً يتواصل وإياه حين يراه ماثلاً على الشاشة، لكن حين لا يكون في نيّة المخرج التعامل شعورياً مع شخصياته وإتاحة الفرصة أمامهم لتكوين ذلك الشعور، فإنه لن يكون مستعداً لمعاملة مماثلة مع مشاهديه. لذلك تحب أفلامه -إذا أردت- كما هي.
إنها قطع أقرب الى التحف تصويراً وشعراً وتأمّلاً، ما يمنعها أن تجتاز النطاق الضيق بالفعل وتصبح تحفاً هو فقدانها الأمل. لا الأمل الكاذب الواصل الى نهاية سعيدة حتى وإن لم تنتم، بل أمل ناتج عن حب الحياة ذاتها.... هذا لا يزال من مزايا المخرج الراحل أندريه تاركوفسكي وحده٠



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

All Rights Reserved ©  Mohammed Rouda 2007- 2011