A Weekly Journal of Film Criticism| Editor: Mohammed Rouda.

"Roundhay Gardens Scene" فيلم العنوان هو لأول فيلم في التاريخ
Louis Aime Augustin le Prince أخرجه سنة 1888 في بريطانيا الفرنسي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ISSUE 9 | Mohamed Khan Special| King Kong|
Dodo Abashidze |Films
from the Grave.

أفلام العدد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحيداً في الصالة
كنت مستعداً لقبول الحياة على ذلك النحو: قلاقل أمنية لأسبوع وأفلام جديدة لأسبوع آخر. في العام 1975 لم يكن هناك اختياراً وكان هناك دائماً سعد عرفة ومحمد سلمان وفيلم نال أوسكاراً او إثنين. ثم من هو ييري وايز وما هي آخر أخباره؟٠
.......................................................................................................
تقدير
هناك سبباً كبيراً يقف وراء حب الناقد لأفلام محمد خان، وبل لشخصه أيضاً: كلاهما طبيعي متآلف ومرتاح وكلاهما يحب السينما حبّاً كبيراً. نعم... هناك مخرجون لا يحبّون السينما لذلك هم محدودن في تطلّعاتهم وآمالهم وفي نتائج أفلامهم. لكن محمد خان من فصيل نادر لا في السينما المصرية فحسب. التقدير التالي يشمل دراسة عن سينماه ومراجعة لخمسة أفلام من أعماله في الثمانينات ومقتطفات من حوار دار بيننا في تلك الفترة التي كان فيها جيل محمد خان هو عنوان السينما العربية٠
.......................................................................................................
استعادات
King Kong **** فريق من الباحثين يصل الى جزيرة مجهولة. تستقبلهم قبيلة حصّنت نفسها في قلعة٠ وحين يجوب الباحثون في أرجاء الجزيرة يكتشفون إن أرضها لا زالت مرتعاً لحيوانات ما قبل التاريخ. هناك يستقبلهم أكبر غوريللا عرفته الشاشة وعينه تقع على واحدة من أجمل جميلاتها.... فاي راي٠ خلفيات نسخة 1933 تحمل تساؤلات عن رموز مثيرة للأهمية٠
.......................................................................................................
كل ما شاهده الناقد من أفلام٠٠٠٠
دودو أبادازه الذي شارك سيرغي باردجانوف إخراج فيلمين من أفضل أعماله٠



وحيداً في الصالة
.......................................................................................................
حياة وجيزة بين الحروب

لم أعد أذكر تماماً ما وقع في السابع من أيار/ مايو في لبنان سنة ١٩٧٥ما جعلني أتسلل الى مكتبي في جريدة الحياة ذات مساء بعد خروجي من المدرسة الثانوية لأطلب من رئيس التحرير نشر عمودي السينمائي في الصفحة الأولى. سألني: وماذا ستكتب فيه يهم القاريء الى هذا الحد٠ أجبت: أن الحرب تبعد الناس عن السينما٠ ضحك ووجدت نفسي أضحك معه ومن حسن حظّي أنه أعتقد أنني أمزح وانتقل الى مصمم الجريدة يدرس معه خارطة عدد يوم غد تاركاً إياي أخرج من غرفته بلا أذى٠

ذهبت الى البيت وكتبت شيئاً أهاجم فيه العنف الذي يقع بين أقطاب الناس وأتساءل إذا ما كان سيقدر المتحاربون نبذ السلاح وحل الأزمات والقضايا بالسلم وحده٠ بعد ذلك مزّقت ما كتبت وجلست أكتب أوراقي النقدية قدر ما تيسّر لي قبل أن أنجز بعض الكتابات المدرسية المطلوبة

في الخامس عشر من أيار/مايو- أي بعد أسبوع على ما حدث وبعد نحو شهر على أندلاع معارك تلت مجزرة الحافلة المدنية التي أطلق عليها مسلّحون من الكتائب النار بعد إيقافها فقتل وجُرح من كان فيها، أملت صالات السينما في بيروت أن تستعيد بعض قواها. عرضت الفيلم الفيلم الأميركي »هاري وتونتو« في صالة الإلدورادو في الحمرا وعرضت الفيلم المصري »رحلة العمر « والفيلم اللبناني »الأستاذ أيوب« من بين أفلام أخرى٠
الأميركي سقط ذريعاً رغم حصول بطليه آرت غارني وإيلين برستين علي أوسكارين كأفضل ممثلين٠ الفيلم المصري من بطولة شمس البارودي وإخراج الجيّد المنسي سعد عرفة حقق إقبالا متوسّطاً أما الفيلم اللبناني »الأستاذ أيوب« فهو الذي توجّه اليه أكبر قدر من المشاهدين في ذلك الأسبوع الحاسم٠
طبعاً مرارة مطلع سنوات الحرب الأهلية كانت قد أخذت تترك طعمها على ألسنة الداخلين الى الصالة٠ فيلم بول مازورسكي »هاري وتونتو« لم يكن لينجح كثيراً على أي حال بسبب أنه فيلم »مثقّفين« (إذا جاز التعبير)، لكن الفيلم الذي كانت تقود بطولته شمس البارودي كان عادة ما يسطع مثل الشمس في الشتاء حين تفتتحه صالة في المدينة٠
فيلم سعد عرفة »رحلة العمر« أمتاز بأنه لم يكن فيلماً رخيصاً رغم الكم الكبير من القبلات واللقطات العارية وعلى الرغم من كل ما تفعله شمس البارودي لتؤكد لنا أنها بطلة الإغراء والإثارة في العالم العربي. الفيلم قصّة حب عادية وضعها المخرج في جو مختلف عن أجواء الأفلام العاطفية العربية الأخرى وقدّمها ضمن مستوي نظيف وجيّد. صحيح أن الفيلم ليس في أهمية فيلمه السابق »غرباء« (الذي دار حول وقوف التعاليم الدينية والإجتماعية عائقاً في وجه بناء مجتمع أفضل)، لكنه أفضل بمراحل من أية أفلام عاطفية أخرى من تلك التي انساب وراءها عاطف سالم او حسين كمال او باقي الأسماء المعتادة على هذا الصنف من الأفلام٠

فيلم محمد سلمان (رحم الله الجميع) كوميدي بالطبع كان المخرج الهمام بدأ بتصويره تحت عنوان »مرحباً أيها الضحك« ثم استبدل عنوانه بـ »الأستاذ أيوب« نظراً لسهولة هذا الأسم وسرعة حفظه. الممثل الرئيسي من مصر وهو محمد عوض، وشريكه في جريمة التمثيل هنا الممثل اللبناني شوقي متّى (الذي كنت تحادثت وإياه قبل سنين عديدة حول ضرورة أن يلعب شخصية جبران خليل جبران لأنه بدا شبيهاً جدّاً به)٠ أيضاً من مصر فريد شوقي ومنى إبراهيم٠
القصة دارت حول استاذ موسيقا والمقالب التي يتعرّض لها مع بنات صفّه في حين أن صحافيا يلتقط فيلماً عارياً لعشيقة رجل أعمال ثري ويضيع منه في حقيبة الأستاذ فتتقدم بضعة أحداث ومصادفات يبني عليها المخرج قصّة فيلمه كلّها٠
كانت أفلام محمد سلمان دائماً خفيفة ولم ينتم منها واحد لصنف فني او موضوعي او منطقي. وفي إطارها لم تكن متساوية. هناك الرديء جداً والرديء وغير الجيّد وهذا كان غير جيّد . كان المخرج رجلاً خاصّاً يتعامل مع جمهور يحبّه ويبادله الحب ولا شيء من الواجبات التي يمكن للناقد أن يطالبه بها يمكن أن تسري عليه، لأي لا شيء كان أقنعه بأن هذه الأفلام المتهالكة لا مكان لها في التاريخ الا من منظور السقوط فيما لم تستطع الوصول اليه قلباً او قالباً٠
ذات مرّة كتب الناقد سمير نصري نقداً قاسياً بحق محمد سلمان فكتب المخرج عن سمير نصري مقالة أقسى ونشرتها صحيفة »النهار« التي كان الأول يعمل بها. لكن من ناحيتي كنت أصغر من أن يوليني اهتمامه ولاحقاً كانت طريقتي غير فظّة في نقده وهو قبلها- بل دعاني لمشاهدة هذا الفيلم في عرض خاص معه والذي حدث هو أنني وجدت نفسي أضحك في هذا الفيلم من أوّله الى آخره. أفلامه كانت ركيكة نعم. لكن بعضها، مثل هذا الفيلم، بينما لا تفي بأي غرض سام ولا تقدّم فكراً ما، الا أنها مسلية وظريفة وضحكت لها من دون خجل٠

ماذا حدث لييري وايز؟
مات٠
ومن يكون؟
في العام 1965 أنجز هذا المخرج الذي رحل عن 91 سنة سنة 1994 أول فيلم تشيكوسلوڤاكي- بريطاني مشترك وكان عنوانه
31º in The Shade
وكان ذلك حدثاً فنيّاً آنذاك. وايز صنع نسختين واحدة بحوار إنكليزي والآخر بحوار تشيكلي لكن الأحداث بقيت واحدة تدور في براغ حول علاقة عاطفية بين مدير محل كبير (جيمس بوث) وموظّفة (البريطانية آن هايوورد) اشتركا في عملية غش كبيرة (استبدلا الخمر في الزجاجات بالشاي) وحين يتم إكتشاف الأمر توافق الموظّفة على أن تتحمّل عبء الجريمة كما لو ارتكبتها وحدها على أساس أن المدير متزوّج ولديه عائلة٠ وهي كانت صدّقت ان العقاب بسيط إذا ما اعترفت به لكنها اكتشفت ان الرجل كان ينشد البقاء حرّاً طليقاً والإيقاع بها وحدها كما كانت خائفة من عقاب السُلطة التي بدأت التحقيق في الموضوع٠ كل هذا يدفعها للإنتحار لكن الرجل بطبعه نذل فيعيّن موظّفة أخرى ويبدأ معها علاقة عاطفية جديدة كما لو أن شيئاً لم يقع٠
هناك نسخة واحدة من الفيلم موجودة في أرشيف مدينة بيركلي (قرب سان فرانسيسكو) وكان رُشّح للغولدن غلوب بعد عام من إنتاجه لكنه لم يفز به. لا أذكره الا من خلال لمحات بسيطة، إذ شاهدته في مطلع الثمانينات في عرض خاص في مهرجان سان فرانسيسكو الذي كنت أحرص على حضوره (يومها كان أكبر وأهم مهرجان في أميركا الشمالية) ولم أكتب عن هذا الفيلم الا هذه الملاحظات التي ذكرت




تقدير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحية خاصّة للمخرج محمد خان


في أثناء ندوة سياسية أقيمت في أحد أيام مهرجان القاهرة عام 1983، وقف من قال إن عيب المخرجين الجدد يكمن في أن أساليبهم متشابهة ومعالجاتهم واحدة لا تتميز بتميز الفنان الواقف خلفها وذلك على عكس مخرجي الأمس الذي كنت ترى مشهداً من نصف الفيلم فتعرف المخرج من خلاله ولو فاتك قراءة اسمه في المقدمة.
هذا الإعتقاد لم يكن بأكمله بعيداً عن الصواب، لكن حين يأتي الأمر لأفلام بعض المخرجين مثل عاطف الطيّب ومحمد خان وخيري بشارة فإنه غير قابل للتطبيق٠
صحيح أن سينما هؤلاء، تحديداً وهناك آخرون قلّة، تتشابه في منحاها الواقعي وكيفية تصوير واختيار الملامح الواقعية. الا أن أسلوب سرد الحكايات (الأسلوب بمعنى كيف تسرد الفيلم وليس ما تقوله فيه) كان دائماً حافلاً بالتفاصيل المختلفة من مخرج الى آخر٠

قبل ذلك، كانت الشكوى السائدة من أفلام المخرج محمد خان هي أنها لا تعكس هماً اجتماعياً معيناً. من بعد «مشوار عمر» ثم «عودة مواطن» وبالتأكيد »أحلام هند وكاميليا«، خف مثل هذا النقد وإن بقي في الساحة من يعتقد أن فيلماً مباشراً عن آثار الانفتاح الاقتصادي على العائلة المصرية، على طريقة ما انتشر في فجاجة في الثمانينات، أفضل من فيلم فني المعالجة ينتقد عبر القضيّة المطروحة الجانب الذي يتصدّى له من دون صراخ ورفع رايات٠
لكن على الرغم من أن أفلام محمد خان الأولى، «ضربة شمس»، «الثأر»، «الرغبة» لم تحوِ دراسات ما في أي اتجاه اجتماعي مرهون بالفترة الاقتصادية أو السياسية المحددة، لكن لُبُنات المخرج الأولى هذه حوت على تأسيس الاتجاه الفكري والسياسي الذي يميز أعماله عن أعمال غيره. هذا إلى جانب أن السينما ليست منشوراً سياسياً وحده كما أنها ليست، على العكس، فناً خالصاً من كافة علاقاته الأخرى. إنها كالحياة تماماً فيها من كل شيء في كل فترة ومهما كان الموضوع أو المفارقة. هذا بالتحديد ما تقوم عليه سينما محمد خان وما جعلها مميزة بإستمرار على صعيد الموضوع، عن سينما المخرجين المصريين الجدد الآخرين٠

ذلك الحب والحزن
الاختلاف الثاني هو ذلك المرتبط بأسلوب تنفيذ المخرج لأعماله. هذا الأسلوب الذي يبدأ أساساً من اختياره الفكرة التي ترضيه والتي تنتقل إلى الكيفية التي يختار فيها الصورة الماثلة على الشاشة. نعم، فمع محمد خان تستطيع أن تتعرف عليه لو فاتك اسمه في بداية الفيلم، وذلك لأن كل فيلم من أفلامه يتعامل مع بضع عناصر تشكل سينما محمد خان٠
أحد هذه العناصر هي الشخصيات الرئيسية التي يقدمها المخرج. لقد كتب بشير الديك معظم سيناريوهات الأفلام التي حققها المخرج ما بين 1978 (تاريخ أول فيلم روائي طويل حققه المخرج) و1985 (قبل دخول السيناريست عاصم توفيق إلى عالم المخرج بفيلم «خرج ولم يعد») وهذا لا ريب أنه عكس جزءاً من التوجهات الاجتماعية التي قامت عليها فيما بعد أعمال بشير الديك كاتباً ومخرجاً. تعامل محمد خان مع بشير الديك وقع عندما كانت أعمال الديك تتمحور حول شخصية رئيسية واحدة، أو ـ كما في «نصف أرنب» ـ شخصيتين رئيسيتين فقط. لاحقاً، عندما قام الديك بإخراج أول أفلامه، «الطوفان»، ثم ثانيها «سكة سفر»، جعل الكاتب العائلة والبيئة بأسرها هما على قدر واحد من المساواة بحيث ذابت الشخصية البطولية الفردية فيها٠
لكن إذا كان بطل «طائر على الطريق» يقتل حينما خر ج من مدينته وبطل «مشوار عمر» يتعرض لمغامرة كادت أن تقضي عليه في طريقه إلى بور سعيد وبطل «خرج ولم يعد» كان عليه الزواج من ريفية والعيش فوق أرضه حتى يستطيع التأقلم كاملاً مع الريف، فهل يعكس ذلك خوفاً تلقائياً في بال المخرج من الحياة خارج المدينة المكتظة؟
نفس النوع من الأسئلة التي تثيرها أفلام خان تنصب في إطار المرأة التي قدمها أو تناولها المخرج في أفلامه: في «طائر على الطريق» هي الضحية (فردوس عبد الحميد) لكنها الحب الجاذب والمساهم في القضاء على الرجل (آثار الحكيم)، في «موعد على العشاء» هي (سعاد حسني) الحب الذي يدفع ثمنه كل من زوجها والشاب الذي وقع في حبها (حسين فهمي وأحمد زكي) وهي الزوجة القاسية (فردوس عبد الحميد) في «الحريف» والشرك العاطفي في «مخرج ولم يعد» (ليلى علوي) ثم هي الفخ المحكم والمرأة الأنانية في «مشوار عمر» (مديحة كامل)٠
ليس ان المخرج يتقصد الجوانب السلبية في المرأة، بل إنها ليست شريرة على الاطلاق في «خرج ولم يعد» مثلاً أو في «موعد على العشاء» ولا في »زوجة رجل مهم« او في »أحلام هند وكاميليا« ولا في أي من أفلامه- هذا من دون أن يرفع راية إنه مخرج أفلام المرأة٠

اللغة المختصرة
أفلام محمد خان تعمد إلى لغة مختصرة في التعبير. مشاهده ليست مبنية في الأساس لتكون حوارية، والمواقف ليست جاهزة مستخلصة من التقليد المتمثل في معظم ما أنتجته السينما المصرية من أعمال ومشاهد. مشاهده ثم توليف هذه المشاهد (قامت بمونتاج معظم أفلامه نادية شكري) تقوم على المحافظة على إيقاع نابض بالحركة والمشاعر حتى ولو كانت تلك المشاهد تدور في جو هادىء وغير بوليسي٠
إن في تلك الأفلام كل ما تتطلبه نقلة تقنية / فنية سينمائية في ذات المقدار التي تعبر فيه عن إلمام فني بالسينما الغربية. وسواء أكان الموضوع يدور حول فرد واحد أساساً، أو حول وجوه متعددة لازمة واحدة كما في «عودة مواطن» فإن إلمام خان بالثقافة الفنية الغربية قد التقى بالبحث الاجتماعي الذي وفرته كتابات عاصم توفيق ورؤوف توفيق (لا صلة قرابة) وبشير الديك ولاحقاً وسام سليمان (كاتبة آخر أفلامه »في شقّة مصر الجديدة«) في حدود متفاوتة٠
المثير للملاحظة، رغم كل ذلك ـ وربما بسببه أيضاً ـ أن الجمهور لم يقبل على أفلام محمد خان إقباله على أفلام صديقه سمير سيف («الغول»، «واحدة بواحدة» الخ...) وهو أقرب المخرجين الجدد إلى التأثر كذلك بالسينما الغربية. السببب يكمن في أن سمير سيف قد تناول عن معطيات تلك الثقافة مكتفياً بأشكالها الخارجية. في المقابل احتوى التوليفات القصصية والمعالات المعمول بها. هنا ريما تكمن الأسباب التي جعلت من «الحريف» أكثر أفلام عادل إمام اخفاقاً و«الغول» لسمير سيف من بين أكثر أفلام الممثل ذاته نجاحاً٠

الجزء الأول من كتابات الديك ـ أي تلك التي قامت على بطولات محددة ـ هي ما لاقت عند المخرج قبولاً، ذلك لأن محمد خان، أم البطولات المنفردة في غالب الأحيان: «عودة مواطن» (سيناريو عاصم توفيق) اهتم بالشخصيات المنفردة: نور الشريف في «ضربة شمس»، أحمد زكي في «طائر على الطريق»، محمود عبد العزيز ويحيى الفخراني في «نصف أرنب»، عادل إمام في «الحريف» يحيى الفخراني في «خرج ولم يعد» ثم فاروق الفيشاوي في «مشوار عمر». لاحقاً محمود حميدة في »فارس المدينة« وأحمد زكي في »مستر كاراتيه« وباسم السمرا في »كليفتى«. تلك القليلة التي توزّعت فيها البطولة بين إثنين كانت بدورها محدودة الشخصيات. بإسثتناء »أيام السادات« لم يقدم محمد خان على عمل يشابه ما ورد في أفلام شاهين، أبو سيف، سالم، بدرخان، الخ... القضيّة في أفلامه تتحدّد بشخصيات قليلة لتتحدّث عن كل الناس الواقعة بين الهلالين ذاتيهما

السمة الأولى لهذه الشخصيات هي انفراديتها وحزنها الداخلي الذي لا تبديه إلا في مواقف تبدو للعين كما لو كانت عادية: حين يفيق يحيى الفخراني من نومه في «خرج ولم يعد» ولا يجد ماء يغسل به وجهه، حين يصيب الحب أحمد زكي في «طائر على الطريق»، الثروة المفاجئة التي تصيب محمود عبد العزيز في «نصف أرنب» وكل ما حواه دور عادل إمام من شعور عميق من الوحدة وعدم التلاقي مع الآخرين في «الحريف». حبن بتعاما بحيى الفخراني ومحمود حميدة وباسم السمرا مع ملاحظات كل منهم حول المدينة في »عودة مواطن«، »فارس المدينة« و»كليفتي« على التوالي، او حين تستمع الرائعة ميرڤت أمين الى أغاني عبد الحليم حافظ وهي تفكّر في وضعها تحت وطأة زوجها المضطّهد أحمد زكي في »زوجة رجل مهم«٠
طبعاً هناك حزن في أفلام كثيرة لغيره. لكنه في الغالب حزن من النوع الفضفاض. الحزن الذي على الممثل أن يفبركه للمشهد لأن المخرج أضعف من أن يربطه بما يدور حول الممثل او عبر الحوار وحده لأن الأصعب التعبير عنه شعورياً٠

الشخصيات والمدينة
أفلام محمد خان لم تجيء لتنضم لما كان جاهزاً ومعمولاً به في نهاية السبعينات والثمانينات وحتى اليوم. وكما أن المتابع يستطيع أن يلحظ أن أفلام خان تبتر من أجسادها الشخصيات النمطية صغيرة كانت أو كبيرة، فلا توفيق الدقن («بنصف أرتب»، «خرج ولم يعد») هو ذاته في الأفلام الأخرى. ولا عادل إمام الذي لم يمثل من قبل «الحريف» أو من بعده دوراً مشابهاً في واقعيته وقتامته وبنائه. وحزن هذه الشخصيات ينتشر كالسحاب الرقيق ليحتوي الأفلام ذاتها. لكنه ليس الحزن القاتم ولا أفلام محمد خان بالمآسي التراجيدية، إنها مثل بداية ونهاية فيلم «مشوار عمر» تبحث في شريحة الحياة المستمرة: تلك الآتية من مكان ما قبل أن يبدأ الفيلم والماضية في ذات الاتجاه من بعد نهايته. هذا من دون خطب أخلاقية حول تلكالحياة ومن دون محاولة تطويعها لموقف نمطي جاخز أو عبرة أكثر من تلك المستلخصة من ثنايا المرحلة الماثلة على الشاشة من تلك الحياة٠

إلى حين خرج محمد خان إلى الريف في فيلمه «خرج ولم يعد»، دارت كل أفلامه في المدينة. محمد خان يحب المدينة ربما ليس بالحدة ذاتها التي عند مارتن سكورسيزي في علاقته المتناقضة مع مدينة نيويورك، لكن إلى الدرجة الي تجعله مصراً على تصوير مشاهده في الشوارع والأماكن الطبيعية رغم صعوبات هذا التصوير. في فيلمه البوليسي المثير «نصف أرنب» نماذج كاملة لعلاقة خان العاطفية مع المدينة حيث الكاميرا تستغل جو المطاردة لتمسح مناطق جديدة من القاهرة لم تظهر من قبل. وعندما أراد خان تجسيد وحدة عادل إمام في «الحرّيف» لم يجد أفضل من تلك المشاهد العامة له وهو يسير في عتمة أزقتها. ثم ها هو «مشوار عمر» يبدأ بها في صبيحة يوم أحد وعلى وتيرة بارعة: عمر (الفيشاوي) أشبه بصياد حائر وهو في سيارته منطلقاً نحو ما من غير الهين القول عنه إنه هدفه (الفيلم عن شاب بلا هدف). الراديو على إذاعة مونتي كارلو المستوردة إلى آذان العرب كما السيارات التي يركبونها والكاميرا القابعة داخل السيارة تنتقل حيناً من على وجه الممثل وحيناً على الشوارع الخالية إلى أن تتوقف مع بدء الحياة في الشوارع٠
وهل نستطيع أن ننسى المدينة في »فارس المدينة« و»كليفتي« وهما فيلمين تشويقيين في النَفَس الفني واجتماعيين في الجانب الموضوعي، ؟ او »في شقّة مصر الجديدة«؟. المدينة إذاً لم تكن كحالها في معظم أفلام المخرجين السابقين واللاحقين (وكثيرون منهم لم يكترثوا لها بقليل او كثير) مجرد محيط وشوارع يرتاح الفيلم بتصويرها بين المشهد الداخلي والآخر، بل هي مكمن الحياة وشريان العلاقات الإجتماعية

لكن قبل «مشوار عمر» (الذي لاحقاً ما تنتقل أحداثه إلى طريق ريفي) قام خان بوضع كاميرته بين المدينة والريف في عمل مقارن نادر في السينما المصرية وذلك في «خرج ولم يعد». يحيى الفخراني، ابن المدينة والوظيفة الحكومية ينتقل إلى القرية لبيع قطعة أرض يتزوج من ثمنها. القرية (جميلة في الفيلم) لا تبهر ابن المدينة في الوهلة الأولى لكن الشاري المحتمل (فريد شوقي) يمهله ويستدرجه للبقاء لأنه إذ يريد الأرض، لا يملك ثمنها. في النهاية يقع الفخراني في حب القرية والريف ويدير ظهره للمدينة٠

التالي إستعادة لبضعة أفلام من تلك التي أسست لهذا المخرج الكبير في وجداننا وجعلتنا نأبه لما يفكّر به ولما يواجهه ويلاقيه . نفرح لفرحه ونُحبط لإحباطه ونعتبره عيداً وطنياً حين ينجز فيلماً. به وبأمثاله فقط عاشت السينما العربية أعيادها٠

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عودة مواطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراما إجتماعية | الشقيق الأكبر للعائلة (يحيى الفخراني) يعود الى مصر بعد
سنوات الهجرة ليكتشف أن جميع أفراد عائلته غائصين في مشاكل المتغيّرات
الإجتماعية الوقعة والرغبات الفردية والإجتماعية التي تعصف بهم جميعاً. كل
هذا يكشف له واقعاً لم يكن في حسبانه فيشهد تفكك الأسرة وانهيار القيم العائلية ٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إخراج: محمد خان٠
إنتاج: يحيى الفخراني (مصر- ١٩٨٦)٠
سيناريو: عاصم توفيق
تصوير: على الغزولي (ألوان)٠
مونتاج: نادية شكري (١١٠ د)٠
موسيقى: كمال بكير
تمثيل: يحيى الفخراني، ميرفت أمين، أحمد عبد العزيز،
ماجدة زكي، شريف منير، عبد المنعم إبراهيم، حسين
الشربيني٠
دراما اجتماعية عائلية. المدة: 110د. العرض الأول: القاهرة.


في نهاية الفيلم، إذ يتّجه المواطن يحيى الفخراني إلى المطار نراه يقبع في غرفة الانتظار٠ لا هو يريد السفر فعلاً ولا يدري إذا ما كان يرغب في البقاء٠
هذا هو ثاني تعاون يتم بين المخرج محمد خان والسيناريست عاصم توفيق من بعد «خرج ولم يعد» (المستوحى من رواية «براعم الربعي» لـ هـ. أ. باتس ـ 1958) باستثناء فيلم قصير سابق تم بينهما تحت عنوان «لقاء عائلي» دار موضوعه عن تنظيم الأسرة. مثل «خرج ولم يعد» يدور «عودة مواطن» (وكلاهما من بطولة يحيى الفخراني) حول إنسان المدينة في مواجهتها. لكن إلى هذه النقطة ينتهي اللقاء الأساسي بين الفكرتين، ففي «خرج ولم يعد» (أقرأ عنه أدناه) يجد بطل القصة خلاصه في هجرة المدينة إلى الريف، لكنه في «عودة مواطن» إذ يهم بالهجرة من وطنه كله، يعجز في النهاية عن فعل ذلك ويبقى، مثل فاروق الفيشاوي في «مشوار عمر»، معلقاً بين الوهم والحقيقة٠

أفلام محمد خان ذات مزايا خاصة لم تعهدها السينما المصرية من قبل. أسلوبه ورؤيته للعالم الذي يصوره لا علاقة له بالنمط التقليدي الذي اعتاد عليه معظم المخرجين المصريين بما فيهم أولئك الجدد الذين اختاروا الانصياع لذلك النمط بدلاً من ترويضه والخروج عنه (هذا مع حفظ الاستثناءات القليلة). سرده للقصة مفهوم دوماً، لكنه متخلص من الكليشهات التقليدية ومنحصر في إيقاع ووحدة عمل تجعله أكثر تطوراً وديناميكية من معظم ما تخرج به السينما المصرية. يضاف إلى خصائصه حقيقة أنه منذ «مشوار عمر» الذي كتبه رؤوف توفيق (لا قربى بينه وبين عاصم توفيق) وهو يضيف جديداً إلى تلك المعالجة. ذلك الجديد هو البحث في الهم الاجتماعي العام. صحيح أن بذوره كانت في «الحريف» و«خرج ولم يعد»، لكن نموها السياسي إذا أردت بدأ في «مشوار عمر» (فساد الطبقة الجديدة) ووصل مع «عودة مواطن» إلى نضج واضح وأكيد٠
«عودة مواطن» يتحدث عن ذلك الرجل الذي قطع مرحلة الشباب. لقد حرق تلك المرحلة باختياره عندما قرر الهجرة إلى إحدى الدول العربية الغنية للعمل وتوفير المال بدلاً من البقاء في وطنه والزواج والانفصال عن أسرته في حياة خاصة. مع عودته يستمر ذلك الحرق، فالرجل يجد نفسه مطالب بأن يستمر في البذل وقد وجد نفسه أمام عائلة تنهار بفعل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وليس في انهيار شقيقه الأصغر وإدمانه المخدرات هرباً من الواقع إلا إفرازاً لمتحولات أصابته، كذلك نستطيع أن نفسر حتى الوجهة المناقضة تماماً التي اختارها الشقيق الثاني موغلاً في منهج سياسي. هذا الجانب من الفيلم، جانب اختيار منهج سياسي تكشف عنه المباحث وتضع أعضاءه ـ بما فيهم الشقيق ـ في السجن، هو اهتمام سياسي منفصل عن الشق الآخر واوصلي في الموضوع. فالمخرج يصور كيف أن خال العائلة (عبد المنعم ابراهيم يزداد قوة مع السنين) كان بدوره منضم لتنظيم سياسي حين كان شاباً، وفي لفتة سريعة ينفذ الفيلم من القيود عندما يصور ببلاغة وإيجاز العهود السياسية المتوالية التي يمر بها الفيلم. «عودة مواطن» هنا لا يعمد إلى تفنيد عهد وراء آخر، وإلا لما كان الفيلم الذي نتحدث عنه، بل يمزج بين تلك المراحل في جمل حوارية أو في تأملات لا تفوت الباحث عن المضمون وراء الصورة٠

مشكلة الشقيق الأكبر أنه لم يتآلف مع الوضع السائد. لقد ضحى وحين جاء وقت قطف الثمار وجد نفسه يوزعها على أشقائه بنفس الرضا الذي مارس فيه تلك التضحية. عدم التآلف ذاك ليس نتيجة إلمام سياسي أو ثقافي بالوضع السائد، بل ـ وسواء أقصد المخرج ذلك أو لم يقصده ـ نتيجة ضعفه عن مواجهة صعبة مع ما هو مطروح أمامه من حلول أخرى (مثل اتخاذ موقف متشدد). على العكس نراه رجلاً يخاف الشرطة والمحافل الرسمية، ويتوخى ـ عندما ازداد لفيح الهواء الساخن المنبعث من مشاكل الأسرة ـ التحول إلى زاوية من أركان الحياة يمارس فيها النوم والتعاطي مع المسائل في حيرة وليس في قدرة. وعندما اختار في النهاية حلاً، رآه في العودة إلى حيث أتى، لكنه كان قد أصيب فالمسؤولية وراءه كبيرة، وأفراد العائلة صاروا بحاجة إليه من جديد وهذا ما يتركه في النهاية عاجزاً عن الحركة، فلا هو قادر على فعل الهجرة هرباً ولا هو قادر على فعل العودة ومواجهة كل تلك العصاعب٠
لقد مني الفيلم بصد الجمهور عنه حين عرض في صالات السينما. المشكلة هنا غالباً ما تعود إلى الكيفية التي لا يعمد فيها الموزع للإعلان عن بضاعته. أي غياب الإعلان المتطور، وهذه مشكلة عدد كبير جداً من الأفلام جيدة كانت أو رديئة. ما هو خاص بـ «عودة مواطن» في هذا الشأن، حقيقة أن المخرج يدفع ثمناً لمنهجه غير المتنازل. خان ليس مجرد صاحب أسلوب، فحسن الإمام له أسلوبه أيضاً، لكنه سينمائي ينتهج تطويراً فعلياً في طريقة سرد القصة. إنه لا يبحث عن الوسيلة نه يمتلكها، ما يجب أن يبحث عنه هو حل مشترك مع جميع السينمائيين لإبقاء السوق السينمائي حياً ونشطاً كما كان. أفلامه تنبض بإيقاع المدينة وهاجس العصر كما لا تفعل أفلام أي مخرج آخر، وهذا الفيلم، عنوة على أفلامه الأخرى كلها، يتميز بتطور وسائل تعبيره وبالعمق المضاف إلى معالجته بحيث لا يكتفي بالرونق في الشكل ولا يمضي ـ في ذات الوقت ـ عمودياً في المضمون، بل يولف بين الاثنين ويطوعهما لرؤيته الخاصة في كيفية إخراج فيلم يشعر به كما يشعر به كاتبه (اقرأ المقابلة المنشورة مع محمد خان)٠
يحيى الفخراني، بعد عدد متزايد ومتنوع من الأفلام، ممثل تلقائي. ممثل قابل للتصديق سواء ألعب دور الأستاذ المحكوم عليه بالموت في «للحب قصة أخيرة» (رأفت الميهي) أو دور المخرج الإعلاني الذي يجد فرحته في مساعدة الأقزام على تحقيق مطالبهم كما في «الأقزام قادمون» (شريف عرفة) أو في دوريه تحت إدارة محمد خان في «خرج ولم يعد» و«عودة مواطن». إنه ممثل لم تتلفه الكاميرا ولا الشهرة المتأتية وراءها. كذلك نرى أن ميرفت أمين قد عادت إلى قواعد واعية بعد تجارب متعددة في أدوار أقل مما صارت تتمتع به من موهبة. وإذا كان اعتماد المخرج على الفخراني وأمين كبيراً، فهو كبير أيضاً مع الوجوه الجديدة أو شبه الجديدة التي لعبت أدوار الأشقاء٠
في «عودة مواطن» ينجز خان أهم أفلامه مع ملاحظة أن أفلامه السابقة كلها كانت مهمّة كل على الصعيد الذي اختير لها، وأجمل ما فيها أنها لم تنطلق متعرجة أو متردية، بل جسدت إدراك المخرج وثقافته ونضجه وكذلك عشقه لفن السينما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خَرَج وَلم يَعُد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراما إجتماعية | يقرر الموظّف بطل الفيلم (يحيى الفخراني) الإنتقال الى الريف
لبضعة أيام لحل مشكلة عقار. على أن يعود الى المدينة ومواصلة حياته فيها. هذه
الخطّة تتعطّل تماماً بعد أيام من وصوله الى الريف ووقوعه في غرام كل شيء: المرأة
والطعام والعلاقات البشرية٠

إخراج: محمد خان
سيناريو: عاصم توفيق.
تصوير: طارق التلمساني (ألوان)٠
مونتاج: نادية شكري (9 د)٠
موسيقى: كمال بكير
إنتاج: ماجد فيلم (مصري- ١٩٨٤)٠
تمثيل: يحيى الفخراني، فريد شوقي ، ليلى علوي، توفيق الدقن، عايدة
عبد العزيز٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بداية الفيلم الذكية تحيط بإيجاز واف بكل ما تريد معرفته عن حال ذلك الموظف الذي يستيقظ صباح كل يوم ليؤدي الأعمال ذاتها في الأجواء ذاتها وفي البيئة نفسها. مثل أفلام أخرى لمحمد خان القدرة البلاغية التي لديه توظف في خدمة حس حزين ورتيب للحياة من دون مؤثرات مباشرة أو ابتكارات موجهة أو أية مشاهد تفيض عن الحاجة. مشاهد محدودة تكفي عنده لكي تعكس حياة أبطاله وظروفهم وعلاقاتهم مع تلك الظروف. و«خرج ولم يعد» يبقى نموذجاً على هذا التميز بين أترابه٠
الفكرة مستوحاة من رواية للكاتب الإنكليزي هـ. باتس عنوانها
Darling Buds of May | براعم مايو المحببة
نشرت عام 1958 ولم تصور (حسب علمي) فيلماً من قبل. حين خرجت اعتبرت الرواية عملاً مثيراً للمطالعة لما فيها من أسلوب تأليفي سلس، ومواقف كوميدية سهلة القبول وسلاسة التتابع. على أن القيمة المتعلقة بالحبكة وتلك الخاصة بالروح الأدبية للعمل، اعتبرت ـ من الناحية الأخرى ـ ضعيفة. الفيلم يعكس تماماً هذه الصفات على جانبيها: فهو ممتع، سلس وغير متكلف، لكن حين التحدث عن الحبكة فإنها ليست أساسية. الى حد معيّن غائبة. لكن إذا كان ذلك مأخذاً مهمّاً في العمل الروائي فإن السينما تستطيع تجاوز هذه الناحية إذا ما كان المخرج قادراً على استغلال ذلك في توجيه الفيلم، شكلياً وذهنياً، صوب نواح أخرى. محمد خان يفعل ذلك بنجاح وإذا ببساطة المادة الروائية التي بين يديه تنقلب إلى صالحه كما فعلت في أفلام له من قبل ومن بعد («طائر على الطريق»، «خرج ولم يعد، »مشوار عمر»)٠

يحيى الفخراني يستيقظ في يوم عادي من نومه ليجد أن الماء مقطوع في شقته التي فوق بعض السطوح. إنه موظف بسيط وهناك امرأة تحبه وهو (على الأغلب) يحبها ومتفق وإياها على الزواج. الزواج يعني المال والمال موجود في شكل قطعة أرض في الريف تركها والده له قبل وفاته. بطلنا يأخذ عطلة قصيرة من وظيفته ومن المدينة (القاهرة) التي يعيش فيها ويتجه إلى الريف لكي يبيعها. فريد شوقي، صاحب أراض مجاورة، يريدها، لكنه لا يملك المال ليشتريها به. الإقامة تطول أولاً دون رغبة القاهري الذي يريد العودة إلى وظيفته وإلى مدينته وإلى حبيبته، لكن لاحقاً ما يستسيغ البقاء خاصة وأن المشتري أخذ يفكر في نطاق تزويج ابنته (ليلى علوي) من ذلك الرجل مقابل قطعة الأرض٠

مع انتقال بطلنا من المدينة إلى الريف، ينقلنا المخرج من البيئة الخانقة والطرق الضيقة والغرف التي لا ترى النور الكافي إلى الريف الأخضر والفسيح. إنه الفيلم الأول لمحمد خان الذي يدور ـ بمعظمه ـ في الريف وهو الذي يحب المدينة دون شك ويبدع في تصويرها حتى حين يعمد إلى نقدها. لكن ريف خان هو أيضاً مختلف. هنا لا مكان لمشاهد الفلاحين الطيبين في المزارع ولا للشمس الغاربة عند الأصيل أو للقطة ترتفع من قاعدة شجرة نخيل إلى قمتها العالية. لا كليشيهات ولا صور سياحية. بل صور نظيفة وريف أخضر طبيعي وجميل يقف مناقضاً للمدينة ويربح منها النقاط. هذا بدوره يخدم مضمون الفيلم. «خرج ولم يعد» هو عن الحياة في الريف مقابل الحياة في المدينة. هنا الزمن يتوقف. النظر إلى الساعة وحسبان التوقيت يخرج من عادات الإنسان. الهواء النظيف يفتح الذهن ولا يلبده، يتيح للإنسان السكينة والوداعة. المكان بذاته يقف مضاداً للصخب والأكثر هو أن التغيير يطال، بطبيعته، الطعام (والمخرج يقول إن جزءاً أساسي من فيلمه هو عن الأكل) فالمرء هنا يأكل وبشهية لأنه لا يفكر كأبناء المدن، بالكم والرقم والتوفير والمسائل الصحية الواجب اتباعها لقاء وجبة دسمة. في الريف تقوم بفعل الأكل دون هموم وربما تعيش أكثر وإن لم تفعل فعلى الأقل أكلت في حياتك جيداً٠

يحيى الفخراني ينجح، كعادته، في تصوير الشخصية التي يقدمها والتي تبدو مثل «أليس في بلاد العجائب»، لكن إدارة المخرج لكل ممثليه هي واحدة في حزمها ومقدرتها حتى مع ممثل عتيق مثل فريد شوقي وعلى الرغم من كثرة أعماله الأخيرة. ليلى علوي ساحرة.
الفيلم يتوالى جيداً في معظم أحيانه. الفترة الوحيدة التي شعرت بها بخلل هي عندما أخذت القصة (في الربع الأخير أو نحوه) منعطف اكتشاف ليلى علوي لعلاقة يحيى الفخراني بامرأة في القاهرة وحاول أن يجعل من هذا المنعطف موضوعاً تتصاعد الأحداث بسببه. في الحقيقة أنها لم تتصاعد، أو تتقدم، بقدر ما باغتت وحدة الموضوع وانتزعت منه جزءاً. بقدر ما سارت في درب التوقعات العاطفية المعروفة. ما يؤكد المخرج خان في هذا الفيلم يبقى ـ رغم ذلك ـ أعلى مما يستطيع مثل هذا الأمر الوصول إليه وهو أنه لا يخاف الإقدام على مواضيع غير عادية بشكل سينمائي متطور وغير تقليدي. إلى هذا تستطيع إضافة ملاحظة هامة أخرى وهي أن هذا المخرج إنما يحب الشخصيات التي يقدمها ويحب السينما ذاتها كما لا يفعل سوى قلة غيره٠

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشوَار عمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراما إجتماعية | رجلان وإمرأة يلتقون في الطريق بين المدن٠ ينسجمون فيما بينهم
ويرتبطون بصداقة، لكنها صداقة طريق رغم الرغبة في توطيدها وهي سريعاً ما تبدو
محكومة برغبات ماديّة تحول دون نموّها٠
إخراج: محمد خان٠
تمثيل: مديحة كامل، فاروق الفيشاوي، ممدوح عبد
العليم، أحمد عبد الوارث
سيناريو: رؤوف توفيق ومحمد خان٠
تصوير: طارق التلمساني (ألوان)٠
مونتاج: نادية شكري (112 د)٠
إنتاج: أفلام الأصدقاء (فاروق الفيشاوي) 1986
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


محمد خان في هذا الفيلم أقرب المخرجين المصريين إلى سينما فنية بسيطة ورفيعة معاً. «مشوار عمر» يتمتع، أول ما ينظر المرء إليه، بإحساس تعبير رفيع يتلاءم والحالات التي يريد المخرج تصويرها: الوحدة الذاتية، الحزن الدفين، التيه والرحلة الصغيرة ـ الكبيرة. الكاميرا في كل ذلك منسابة وغير مقحمة، وهي أيضاً شاهدة على ما يدور أمامها من حالات وعلى ما ينتج من حزن وقسوة. إنها لا تصطاد انفعالات مقصودة، لا تتحرك حسب أغراض مرصودة. إنها تنتمي إلى رغبة المخرج في ملاحظة ما يدور وسرده دون عوائق وتداعيات أو حتى أية حادثة اعتراضية. السيناريو الذي بين يديه بسيط وهو لا يحتمل أن يطغى فيه عنصر ما على آخر٠

إنه قصة ثلاث شخصيات التقت على الطريق. عمر ـ ابن المدينة (الفيشاوي)، شاب لاه بين سيارته ونسائه، لا هدف له ولا عمل، سلبي تجاه الماضي وتجاه الحاضر والمستقبل. يستقل سيارته السريعة لتوصيل علبة مجوهرات من محل والده إلى محل في طنطا، لكنه يضطر لركن سيارته في طريق ريفية جانبية والنوم فيها عندما ينفذ البنزين منه. الشخصية الثانية اسمها أيضاً عمر (أمر طبيعي تحاشته السينما إلا نادراً) وصاحبها فلاح بسيط يعمل في محطة بنزين لجأ إليها عمر (الأول) بحثاً عن بنزين للسيارة ومن هناك تصادقا لما أنقذ الفلاح (ممدوح عبد العليم) ابن المدينة من شريرين أرادا سرقته. الشخصية الثالثة هي نجاح (مديحة كامل) اسم على غير مسمى لامرأة ليل تعمل في بور سعيد وقد جاءت تلك الأنحاء لمعايدة أمها لكن زوج أمها يمنعها من دخول البيت لسمعتها. نجاح تنضم لعمر وعمر حين يشرع الاثنان مغادرة تلك الأنحاء. عمر القاهري سعيد بهذه الصحبة، غير مكترث لإيصال العلبة التي أوصى بها والده، وعمر الفلاح ونجاح لا يقلان عنه سعادة إلى أن يعاود الشريران مهاجمة الثلاثة في ليلة شرب فيها الجميع وتخلى عن رزانته وعكس روحاً قابلة للفساد. حين يستيقظ عمر القاهري صبيحة اليوم التالي يجد أن سيارته (بما فيها) قد سرق فيعرض على عمر ونجاح معاوته في استردادها لقاء علبة المجوهرات ليتقاسماها. عمر يكتشف مكان سيارته. العلبة مفقودة. نجاح تتخلى عنه وعن عمر الآخر وتصعد أول شاحنة تجدها، عمر الفلاح يمشي عائداً إلى منطقته وروح الطيبة تعود إليه. عمر القاهري يجلس وراء المقود وهو يقود سيارته. هذه المرة السيارة لا تتحرك٠
تماماً كحياته٠

العلاقات التي يرسمها محمد خان في هذا الفيلم من أجمل ما رسم في السينما المصرية منذ سنوات. ذلك انها، على بساطتها، علاقات شائكة تنقل الشخصيات من إطار كل منها كضحية إلى إطار كل منها كجلاد ثم تعود إلى صورة الضحية دون مبالغات أو مشاهد ممسرحة. المتفرج يشعر بأن عمر القاهري في حياته العابثة كان لا بد أن يقوم بمثل هذه الرحلة. إنه أهل لها. إنسان لا يحب المسؤولية، يقود سيارته مسرعاً، يستمع إلى مونت كارلو (وليس إلى إذاعة وطنية) إلى الأغاني الغربية (تعبير ثقافي يتيم) ويحب أن تنبسط الطريق أمامه وأن يسرع فوقها وينطلق. لا يهم ـ عنده ـ إذا انتهت الرحلة بإخفاق. مثله، يفيد المخرج في المشاهد الأخيرة، لا يتعلم. إنه يعيش في زمن صعب (الحاضر) والهم المادي للفيلم ليس بعيداً عن سمائه فبطله الأول شاب ثري، ميسور، منتم لطبقة نهضت، أو إذا ما أردت لعائلة من طبقة في طنطا جاءها ريح من التغيير فدلفت إلى اليسر والثراء. وتستطيع أن تلاحظ من خلال مناجاة أحد الشريرين للآخر (أحمد عبد الوارث ليوسف رجائي) النظرة التي يوجهها المجرم لحضيته مذكراً بين الحين والآخر بأنه لم يحصل على شيء من أسباب التغيير والجاه التي تعصف بالبد وأن السطو على ذلك الشاب الوجيه وما يملكه هو «حقه». لكن العلاقة الأعمق تكمن في أن نجاح وعمر ضلا طريقهما عبر الالتحاق بعمر. المرأة اعتقدت أن عمر هو تذكرة الثروة (اكتشفت علية المجوهرات قبل سرقتها) وعمر الفلاح اعتقد أنه السبيل للنزوح إلى القاهرة وتكوين قاعدة اقتصادية ومعيشية واجتماعية صغيرة يسعد بها والده. كلاهما لم يدرك بأن عمر القاهري هو مثل الرياح المسافرة. عابر طريق حتى في حياته الخاصة، فكيف يكون قائد مسيرة؟
المرء من ناحية أخرى كان يتمنى لو كان السيناريو قد حوى موقفاً أكثر صلابة، لكنها لعلها طبيعة الحكاية ولو أني أشعر بأنه كان يمكن للسيناريست رؤوف توفيق جعل الفيلم أكثر إلحاحاً لو رغب ٠
في النهاية، لا بد وأن يذكر الناقد بإعجاب تلك الدقائق الأولى من الفيلم حيث يلتهم المخرج المكان والزمان والأجواء سريعاً ويضعنا أمام شخصيته مباشرة ودون كلمة حوار واحدة مختصراً مسافات شرح طويلة في الأفلام العربية التقليدية. هذا لأن «مشوار عمر» ليس فيلماً تقليدياً٠


بإختصار
نصف أرنب
هذا أفضل شريط بوليسي عربي ظهر ، ربما لليوم. محمد خان يقبض طوال الوقت على خيوط القصة القليلة. موظف في أحد المصارف وعضو صغير في عصابة يلهثان وراء نصف مليون جنيه ووراءهما آخرون من مواقف متباينة بينهم مجرم (يحيى الفخراني في أداء مبهر) يلقى مصرعه في مشهد في نهاية الفيلم٠
محمد خان مخرج مثقف، أي أن ثقافته السينمائية الغربية تمده بحسن معالجته لما يريد إظهاره على الشاشة من مواقف، بل وبكيفية ولوج حبكة معقدة والخروج منها في سهولة، ثم في كيفية إثارة المتفرج وتشويقه بعد ساعة ونصف من اللهث غير المتكلف من المطاردة٠أسلوب عمله ليس له مثيل في السينما المصرية والعربية، ويتحرك المتفرج غالباً بشعور من البهجة والمفاجأة وربما الرغبة في مشاهدة الفيلم ثانية وهو شعور نادر في أتون الأفلام العربية. في مشاهده لا يتوقف عقل المخرج عن الإبداع: الكاميرا ـ المحمولة غالباً ـ تدخل دهاليز أنابيب الأسمنت في أحد المشاهد، وتركب الحمالات المستخدمة في تركيب مواد البناء لكي تصور لقطة من خارج مبنى ما زال قيد العمارة. وهذه التفاصيل إلى جانب إلمامه بالروح المصرية غير المستوردة تجعل من هذا الفيلم متعة سينمائية حقيقية لا مثيل لها. محمود عبد العزيز في أحد أدواره الأفضل كذلك سعيد صالح، ويعطي توفيق الدقن شخصيته التقليدية نظرة أخرى

طائر على الطريق
أحمد زكي كان نجماً صاعداً في تلك الأيام، وهو نسج في ظهوره مع محمد خان، في تلك الأفلام الأولى بينهما (أي قبل »أيام السادات«) شخصيّة لامعة . هنا يؤدي دوراً جيداً كسائق تاكسي يعاني من ضياعه لنفسه واختلاف الأمور أمامه، كما افتراقه عن فتاته المنطلقة (آثار الحكيم) حتى يلتقي بامرأة (فردوس عبد الحميد) زوجها (فريد شوقي) يغار عليها لعجزه معها. القصة ذات الحبكة المبسطة تصير مشكلة ذات أبعاد، فعبر هذا اللقاء يتفجر بين الاثنين كل ذلك الكبت العاطفي والوجداني الذي حمله كل منهما في داخله. لون المخرج محمد خان فيلمه بمعالجة سينمائية يمكن لها أن تكبر مستقبلاً وتصير أسلوباً مميزاً خاصاً به. وأعطاه مسحات حزينة مناسبة وإن كانت لم تنجح في أن تشكل في إثارة الاهتمام بها. ربما ما على المخرج أن يعمل على حله هو علاقته بالكاميرا، التي بقدر ما تحاول هنا أن تكون قريبة وشاعرية في نفس الوقت، بقدر ما هي ـ في الإجمال ـ تفتقر إلى ما يثريها ـ موضوعياً ـ في هذا المجال. خان يمتلك الرؤيا وبدايات الأسلوب، لكن هذا الفيلم لا يبرهن انتقالهما إلى الممارسة الذاتية السليمة. إنه، من ناحية أخرى غير بعيدة، يحاول معايشة الواقع ونقل أحاسيس تنبع مباشرة من الحياة اليومية، لكن هنا، ولا أدري إلى أي حد مسؤولية المعامل غير المتقدمة، تطغي المؤثرات الصوتية على الحوار بحيث يصير من المزعج مجرد الإنصات إلى ما يقال، وتضيع رغبة المخرج في أن ينقل المعايشة المقصودة تحت وطأة الإكثار من استخدامها، كما تحت وطأة استخدامها من دون زخم أو مضمون في السيناريو الذي بين يديه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد خان يتحدث عن عودة مواطن
الناس تشعر وكأنّما الفيلم يصفعها٠


مقتطفات من مقابلة أجريت معه في العام 1968

السيناريو
لا دور لي في صياغة السيناريو، إنما دوري في كيف أُلهمُ الذين حولي باتجاه يحلو لي. طلبت من عاصم توفيق فكرة عن رجل يرجع إلى وطنه وكنت أعرف أن عاصم قضى ثماني سنوات في الغربة، وعارف بأن الكاتب سيضع تجربته الذاتية فيما يكتب. إلى جانب ذلك تثيراً اهتمامي شخصية رجل عائد لذلك لم أكن أريد أن أعبث بسيناريو عاصم توفيق مطلقاً. أحببت المادة كثيراً ولعب البيت (بيت العائلة) دوراً كبيراً في إحياء السيناريو. وكما ذكرت، كنت مهتماً كثيراً بشخصية شاكر التي لعبها يحيى، شخصية الرجل العائد الذي فقد انتمائه، لذلك عندما أخبرني أحد الأصدقاء الذين شاهدوا الفيلم بأني لا أحب أي من الشخصيات التي على الشاشة صدمت، لأني طبعاً متعاطف مع شخصية شاكر٠

استفزاز
سوداوية الظروف التي تعيش فيها شخصيات الفيلم مقصودة. أردت أن تلعب دوراً استفزازياً عند المتفرج. أن تشكل في النهاية عاملاً إيجابياً يدفع المتفرج للشعور مع ما يدور والانفعال فيه. النهاية تصور لنا رجلاً مشلولاً في المطار، فلا هو صعد الطائرة ولا دخل البلد من جديد. نهاية فيها حسرة. حتى الآن وأنا أرى الفيلم تدمع عيناي في تلك اللحظة. أنا أردت المتفرج ان يقول لنفسه عليَّ أن أفعل شيئاً"٠

ـ لكن المتفرج لم يقل ذلك، كما علمت أن إيرادات السوق كانت هابطة جداً٠

هذا غير صحيح على الإطلاق وأنا أعلم ذلك يقيناً. هذا الفيلم توقيت عرضه غلط جداً، نوعية عرضه غلط جداً بل كونه في السينما غلط جداً. إنه موجه لخمسة أو ستة مليون مصري يشكلون الطبقة المتوسطة. هذه الطبقة ترى الفيلم هذه الأيام على الفيديو، وهذا ما يفسره نجاح الفيلم الكبير على الأشرطة. الناس تشعر وكأنما الفيلم يصفعها، ودلالة ذلك النجاح عدد النسخ المطبوعة من هذا الفيلم، فالفيلم ذو النجاح العادي يطبع منه نحو نسخة، بينما طبع من هذا الفيلم 2800 نسخة. رأيي أنه من الأفلام التي ستدوم طويلاً، ستعيش، لأنه يلمس العائلة من الداخل بلباقة شبه مفقودة في سينما هذه الأيام٠
متعة
لقد حضرت نقاشاً أقيم حول الفيلم مؤخراً. بعد العرض قام أحد الشبان الذين، كما قال، سافر إلى الخارج وعاد وادعى أن الفيلم مزيف وليس حقيقي. إنه نوع من الناس الذين يرفضون مواجهة الواقع. متعتي كانت أن أحد الحاضرين قام ورد عليه وعبَّر عن شعوره الكبير بما رآه خاصة بمأساة الشقيق الذي لم يجد وظيفة وأدمن المخدرات. أعتقد أن قيمة الفيلم هي هنا، إنه لخص مصر في العشر سنوات الأخيرة، بعيداً عن تحديد المراحل، فلم يدخل ليقل لك «نحن الآن في مرحلة الانفتاح»، بل تناول الفترة تلقائياً. إنه يلخص العشر سنين في قسوة، في اختصار وفي الصميم٠

صحبة
عاصم توفيق هو مثل بطل السيناريو خريج حقوق، وهو أيضاً يخاف المحافل الحكومية، وعندما مثل يحيى الفخراني الدور كان، بإدراكه لهذه الحقيقة، يلعب دور عاصم توفيق. كان من المفروض أن ننتج الفيلم. عاصم ويحيى وأنا، معاً ونحن نعرف بعضنا البعض جيداً، لكني كنت منشغلاً في الفيلم المالديفي («يوسف وزينب») وعاصم لم تمكنه الظروف، فدفعنا بيحيى لإنتاجه٠

ـ هل واجهتكما مصاعب رقابية؟
لقد وضعنا أيدينا على قلوبنا، لكن الرقابة لم تنتبه تماماً إلى مضامين الفيلم وذلك من حسن حظنا وحسن حظ المتفرج. هنا تكمن لباقة عاصم توفيق في الحوار كما ذكاؤه. الكلمة التي تقال... أين ولماذا؟ مثلاً من أخطر الجمل التي يقولها الخال (عبد المنعم إبراهيم) «نحن عملنا يللي علينا، بكرة أولادنا يعموا اللي ما قدرناش عليه» هذه الجملة هي لب الفيلم لكن أحداً لم يحس بها، وخرج السيناريو دون ملاحظة واحدة، لأنه مكتوب جيداً وبأناقة أدبية٠

عقد
دائماً ما يحدثونك عن الشكل والمضمون والعقد إياها تلك. هنا عندي مضمون أحبه وأشعر به جداً وأعتقد أنه مضمون خطير، وفي نفس الوقت أعطيته الشكل. الكاميرا المتجولة دائماً موجودة في الفيلم. استخدم «الكران« دائماً في الفيلم كأنما أتلمس الجدار. لقد وجدت شكل الفيلم تلقائياً دون أن يعرقل مضمونه. خوفي كان أن يطغى أسلوب عملي على جمال المادة المكتوبة، لذلك كنت حذراً في تعاملي مع هذا الفيلم بالتحديد ٠

الممثلون
يحيى ممثل ناضج جداً، فطري وعلى عكس بعض الممثلين لا يفلسف أدواره، بل يعطي دون حدود، وهذا مهم جداً ونوعيته مطلوبة. وهو من الممثلين القليلين المتوفرين الذين يؤدون دور رجل الشارع بتلقائية. إنه ممتاز ومناسب. أعتقد أنه سوف لن يكون نجماً، بالمعنى المتعارف عليه، إلا بعد سنوات وهذا مما قد لا يعجبه لكنه لا يمس قدراته الفائقة كممثل. وقت يحيى قادم وسيكون مهماً جداً في السينما المصرية. بالنسبة لميرفت أمين، التي أعمل معها الآن على «زوجة رجل مهم» للمرة الثانية، أحس أن «عود مواطن» خطوة أولى في اتجاهها الجديد. إنها من ضمن جيل من النجمات اللواتي نضجن الآن ولم يستغل نضجهن بعد. إنها في الفترة الصحيحة وآمل أن ينتبه زملائي إليها على هذا الأساس من بعد أن يشاهدونها في «زوجة رجل مهم «٠


استعادات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كينغ كونغ الأول: أتكون وِحدَة العاشق سبب موته؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“No. It wasn’t the airplanes...It was
Beauty killed the Beast”
(1933) ‮- ‬من‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮«‬

تم تحقيق فيلم »كينغ كونغ« ثلاث مرّات٠
نسخة أرنست ب شويدساك ومريان س‮. ‬كوبر سنة 1933
نسخة جون غيلرمَن سنة 1976
ونسخة بيتر جاكسون سنة 2005
وحين خرجت النسخة الأخيرة بكلفة 208 ملايين دولار كان لابد من المقارنة كيف أن »كينغ كونغ« الأول لم تزد كلفته عن 350 ألف دولار. لكنه النسخة التي منحت للنسختين الأخرتين الحياة، والفيلم الذي لا يزال أكثر إثارة وأصالة من أي من هذين العملين اللاحقين على الرغم من اختلاف التقنيات المعمول بها باختلاف العصور٠
لا أنكر أن نسخة غيلرمَن كانت مقبولة ولا أن نسخة جاكسون كانت مذهلة. لكن أن تضع نفسك اليوم في إطار نسخة 1933 هو كمن تعود فعلياً الى شباب المرأة التي أحببت يوماً. هكذا هو الحال مع كل كنز سابق٠‮

‬الحقيقة أن النسخة الأولى التي‮ ‬خرجت في‮ ‬العام‮ ‬1933 لا تزال مثيرة للخيال والمتعة البصرية كما كانت آنذاك‮. ‬إذا تجاوزت السهل من الإعتبارات،‮ ‬مثل أن الفيلم بالأبيض والأسود وأن التكنولوجيا الحاضرة أكثر تقدّماً‮ ‬من تلك التي‮ ‬تمت الإستعانة بها حينذاك،‮ ‬خرجت بعمل من الصعب تقليده حتى على سبيل الإستنساخ‮.
وجه من أوجه الصعوبة تكمن في‮ ‬أن الفيلم آنذاك كان أكبر إنجاز تقني‮ ‬شهدته السينما الى ذلك الحين‮.

‬ويليس أوبرايان‮ (‬1962-1886‮) ‬وضع كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬وشروطه وحركاته فهو رئيس تقنيي‮ ‬الفيلم‮. ‬ولم‮ ‬يكن ذاك فيلمه الأول،‮ ‬إذ عمد الى السينما منذ العام‮ ‬1915‮ ‬في‮ ‬عملين قصيرين وواصل‮ ‬مهنته مؤسساً‮ ‬لنفسه مكانة
كبيرة في‮ ‬تاريخ سينما الفانتازيا والوحوش والخيال العلمي‮ ‬المبكرة‮. ‬في‮ ‬العام‮ ‬1925‮ ‬أشرف على إخراج
The Lost Word التقنيات لفيلم سالعالم المفقود«٠
ذلك كان ‮ ‬الإقتباس السينمائي‮ ‬الأول لرواية آرثر كونان دويل كما أخرجه هاري‮ ‬أو هويت‮. ‬بعد سبعة أعوام عمل أوبرايان على‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮« ‬ثم على‮ »‬إبن كينغ‮ ‬كونغ‮« ‬وعلى فيلم وحوش آخر عنوانه‮ »‬جو‮ ‬يونغ‮ ‬القوي‮« ‬(‬أخرجه أيضا إرنست ب‮. ‬شويدساك‮ - ‬1949‮). ‬وعلاقة أوبرايان بالوحوش آستمرّت منذ ذلك الحين وشلمت أكثر من فيلم بينها
The Beast of Hollow Mountain, The Black Scorpion, The Giant Behemoth‮ ‬ ‬وكما‮ ‬يمكن وضع كتاب عن صانع المؤثرات التقنية هذا،‮ ‬يمكن وضع كتاب‮ (‬او على الأقل فصل كبير‮) ‬حول إسهامه في‮ ‬تحقيق النظرة الخاصة جداً‮ ‬لـ‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮«. ‬لقد كان الفيلم من التأثير بحيث أن راي‮ ‬هاريهاوزن،‮ ‬أحد أساطير مهنة صنع الدمى المتحرّكة والمؤثرات الفنية المختلفة، لاحقاً‮ ما ‬اعتبر أن مشاهدته لهذا الفيلم وهو صغير هي‮ ‬ما دفعته للتحوّل الى هذا النوع من العمل‮. ‬

لكن هناك إعتبارات أخرى تجعل من‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮« ‬حين مشاهدته اليوم أشبه بإكتشاف منابع النيل‮. ‬إنه فيلم قائم لتجسيد الحب المستحيل‮. ‬إنه روميو وجولييت خاص جداً‮. ‬عوض الفوارق الطبقية ودوافع النقمة والإنتقام،‮ ‬هناك فوارق جنسية وخلقية وعضوية بالغة بين روميو الوحش وجولييت، - اللمرأة كما لعبتها ‬الممثلة الشقراء فاي‮ ‬راي٠
في‮ ‬فيلم بيتر جاكسون ‮ ‬يبدو كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬كما لو أنه فكّر بإلتهام هذه الآدمية التي‮ ‬يبلغ‮ ‬طولها طول أصبع‮ ‬يده الصغير ثم عدل عن ذلك‮. ‬في‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮« ‬الأول‮ ‬يبدو وقع في‮ ‬حبّها سريعاً‮. ‬لا نعرف لماذا‮. ‬كيف فهم الحب وإذا ما عرف استحالته وأغفل ذلك او كانت بالنسبة اليه‮ »‬إكتشافاَ‮«.‬لكننا نعرف أنه وحش ضار وقع في‮ ‬أسر المرأة الشقراء كما‮ ‬يقع الواحد منا في‮ ‬أسر حب سرب الحمام على سطح منزله او عصفوره الذي‮ ‬في‮ ‬القفص‮. ‬
وإذ‮ ‬ينتابني‮ ‬هذا التشبيه أتساءل إذا ما كان الإنسان،‮ ‬مهما كان عطوفاً،‮ ‬يبدو بالنسبة لأسراب الحمام،‮ ‬او لأي‮ ‬نوع من الطيور والحيوانات الداجنة،‮ ‬وحشاً‮ ‬لا‮ ‬يمكن تفسير او فهم تصرّفه‮. ‬بذلك،‮ ‬يكون كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬هو نحن في‮ ‬حالات الحياة‮. ‬فاي‮ ‬راي‮ ‬هي‮ ‬كنار القفص او قط البيت الصغيرة او سلحفاة الحديقة‮. ‬
كل‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮«‬،‮ ‬نسخة‮ ‬1933 ‮ ‬او نسخة جون‮ ‬غيلرمِن سنة‮ ‬1976‮ ‬او نسخة بيتر جاكسون الحالية‮، ‬بالإضافة الى مشتقّات عديدة‮ ‬هو عبارة عن تجسيد لذلك الحب المستحيل بين مخلوقين‮. ‬الوحش والجميلة وكونها الجميلة‮ -‬والآدمية‮- ‬يجعلها في‮ ‬إدراك مشبع بالمخاوف‮: ‬أن لا تستطيع التخلّص من قبضة الوحش‮. ‬أن‮ ‬يغيّر رأيه ويهشّمها بقبضة‮ ‬يده او‮ ‬يعطس فوقها فتغرق او حتى أن‮ ‬يمارس معها نوعاً‮ ‬من الجنس فيقضي‮ ‬عليها‮. ‬لكن كينغ‮ ‬كونغ،‮ ‬في‮ ‬نسخه المختلفة وبدءا من نسخة كوبر‮/ ‬شويدساك،‮ ‬كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬عاجز عن الفعل الأخير‮. ‬لا أعضاء تناسلية‮ ‬يمكن ملاحظتها‮. ‬لسنا متأكدين‮ -‬اذا ما ابتعدنا عن المسلّمات‮- ‬إنه ذكر‮. ‬أكثر من ذلك،‮ ‬لا‮ ‬يبدو على علاقة بأنثى كينغ‮ ‬كونغ‮. ‬وحيد في‮ ‬عالم مفقود ومسجون فوق جزيرة لم‮ ‬يغادرها أحد حياً‮ ‬لكي‮ ‬يبلغ‮ ‬عما شاهده‮. ‬
الحال هذه،‮ ‬أتكون وحدة العاشق هي‮ ‬السبب في‮ ‬حبّه؟ ألمعت في‮ ‬باله خاطرة أن‮ ‬يمنع انقراضه بعلاقة عاطفية ولو لم تكن ممكنة؟ أتكون تلك الآدمية الشقراء ريشة الحياة الملوّنة في‮ ‬عالمه الحزين؟ أم هي‮ ‬مبث عطف أبوي‮ ‬سيء فهمه؟

غريب في‮ ‬المدينة
كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬ينقذ آن‮ (‬فاي‮ ‬راي‮) ‬من الموت المحق‮. ‬تكاد تسقط من عل هنا،‮ ‬ويحاول دينوصور جائع إلتهامها هناك‮. ‬لكن الأمر‮ ‬يمتد لما بعد ذلك،‮ ‬حين‮ ‬يعاود الفريق الذي‮ ‬وطأ الجزيرة تخليصها من قبضته‮ ‬يثور ويلحق بالفريق الذي‮ ‬يهرب الى الشاطيء‮. ‬كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬يقع في‮ ‬الأسر بعدما طحنه الحب وأمعن فيه القلق في‮ ‬أن‮ ‬يعيش بعيداً‮ ‬عن شقرائه‮. ‬وكينغ‮ ‬كونغ‮ ‬يصبح الفرصة الذهبية للفريق لعرضه على خشبة المسرح للعموم وتحقيق الأرباح‮. ‬حين‮ ‬يثب كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬لوعيه‮ ‬يختلج الحب في‮ ‬صدره وينطلق بحثاً‮ ‬عن فتاته في‮ ‬قلب نيويورك ثم‮ ‬يحملها معه‮. »‬أنت تنتمين إليّ‮« ‬يكاد‮ ‬ينطق قائلاً‮ ‬لها و»سوف أحارب العالم بأسره من أجلك‮« ‬وهو‮ ‬يقف على سدة الإمباير ستايت ليفعل ذلك ثم ليموت ضحية حب على الأغلب مات دون أن‮ ‬يفهم مبعثه‮.‬
كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬يبقى وحشاً‮ ‬في‮ ‬البدء وفي‮ ‬النهاية وعلى طول الخط‮. ‬حين‮ ‬يهمس بإسمه الفيلم قبل ظهوره‮ ‬يثير به نوعاً‮ ‬من حماس المشاهد لأن‮ ‬يرتعب منه‮. ‬حين‮ ‬يظهر‮ -‬أولاً‮ ‬من وراء الشجر ثم‮ ‬يده ثم بنفسه‮- ‬يترك في‮ ‬البال وصول الوحش الى صدارة الفيلم بعد طول إنتظار‮. ‬القبول به كعاشق او كرمز جنسي‮ ‬فوق العادة كامن في‮ ‬المتلقي‮ (‬ذكراً‮ ‬وأنثى‮) ‬من جراء تضخيم صورة الوحش بصفاته جميعاً‮ ‬ثم‮ -‬وأساساً‮- ‬من وقوعه في‮ ‬تيم المحبوبة‮. ‬لكن لا شيء‮ ‬يُزيل الصورة الأساسية له كوحش‮ ‬يقطع الوحوش الأخرى أرباً‮ ‬ويتمتع بقوّة خارقة لا تعرف الرحمة او الضعف‮. ‬
لكن المزيد من صور المخلوق الإجتماعية‮ (‬او الإنسانية إذا أحببت‮) ‬تتوارد تباعاً‮ ‬خصوصاً‮ ‬عندما‮ ‬يحط الوحش في‮ ‬المدينة‮. ‬كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬إبن أدغال موحشة وبيئة‮ ‬غير متمدنة فوق جزيرة لا‮ ‬يعرف أحد كيفية الوصول اليها ناهيك العودة منها‮. ‬هذا الوحش الخاص الذي‮ ‬لم‮ ‬ير في‮ ‬حياته سوى أشجاراً‮ ‬وأنهاراً‮ ‬ووحوشاً‮ ‬أخرى،‮ ‬يتحوّل الى‮ ‬غريب في‮ ‬المدينة‮. ‬صحيح إنه لا‮ ‬يأبه لأحد باستثناء الجميلة التي‮ ‬اكتشف وتبنّى ووقع في‮ ‬هواها،‮ ‬الا أن الصحيح أيضاً‮ ‬هو أن المدينة كلها تأبه به‮. ‬في‮ ‬هذا الصدد هناك طبقات من الرموز المتسللة‮. ‬
كبداية،‮ ‬هو مخلوق مختلف في‮ ‬كل شيء عن باقي‮ ‬الخلق وما اعتاد هؤلاء مشاهدته‮. ‬في‮ ‬متناول‮ ‬يدنا تجربة شيء مشابه لمعرفة الصورة المتبادلة بين‮ ‬غريب ومواطنين‮. ‬خذ نملة واحدة سوداء او تختلف بحجمها وضعها وسط سراب نمل أشقر او أبيض او أصغر او أكبر وشاهد كيف أن فوضى شديدة تدب في‮ ‬وسط نظام سائد‮. ‬غالباً‮ ‬ما ستتكاتف القوى السائدة في‮ ‬هذا النظام لردع المتطفّل ولو بقتله‮. ‬والبشر‮ ‬يعملون على هذا المستوى حتى وإن لم‮ ‬يكن هناك وحش بحجم كينغ‮ ‬كونغ‮.
‬فما أن‮ ‬يؤم‮ ‬غريب قرية حتى تتجمّع فوق رأسه السحب‮. ‬تثار في‮ ‬وجهه علامات الإستفهام وتحيط به نظرات الشك‮ ‬والرفض‮. »‬رامبو‮«‬،‮ ‬في‮ »‬دم أول‮« ‬يجد نفسه في‮ ‬ذلك الوضع‮: ‬عائد من فييتنام وحيداً‮ ‬ومعزولاً‮ ‬ومنهزماً‮ ‬ليجد المحيط من حوله عدائي‮ ‬لمجرد إنه‮ ‬غريب‮. ‬المتهمون الثلاثة في‮ ‬فيلم‮ ‬‮ ‬لويليام ولمان
Ox-bow Incident
الذين وجدوا أنفسهم مُساقون للمشنقة بتهمة‮ سرقة المواشي‮ ‬لمجرد أنهم من مكان آخر ولأنهم رعاة‮ ‬بقر وليسوا من مالكيها‮. ‬كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬هو كل‮ ‬غريب وطأ أرضاً‮ ‬وعانى من جموع ناس تبحث عن الأمن في‮ ‬الحفاظ على خوفها ثم بث هذا الخوف تجاه الضعفاء‮. ‬وكينغ‮ ‬كونغ‮ ‬هو الضعيف‮. ‬
قلب المشاهد‮ ‬ينقلب من خوف من كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬الى خوف عليه وهو‮ ‬يبدأ بمطالعة نهايته‮. ‬ونعود نحن في‮ ‬نهاية الأمر الى ما نحن عليه‮: ‬الوحش عليه أن‮ ‬يموت‮. ‬لا‮ ‬يستطيع العيش بيننا‮. ‬قتله أرحم له و‮... ‬لنا‮.‬

أصول الفيلم تكمن في‮ ‬قصة ألّفها مريان س‮. ‬كوبر‮ (‬وهو قدم للسينما منتجاً‮ ‬ومخرجاً‮ ‬من حقل المصارف‮) ‬وإدغار والاس‮ (‬ومات قبل عام واحد من خروج الفيلم‮) ‬انتقلت الى سيناريو وضعه كل من جيمس أشمور كريلمان وروث روز‮. ‬ومن الصعب التأكد أين مصدر كل فكرة نيّرة احتواها ذلك الفيلم‮. ‬عوض ذلك،‮ ‬سأكتفي‮ ‬بضم ملاحظة أخرى لتلك السابقة الناتجة عن قراءة‮ »‬كينغ‮ ‬كونغ‮« ‬بعينين‮ ‬غير بريئتين‮. ‬ففي‮ ‬مكان ما من شقّي‮ ‬الكتابة،‮ ‬وربما في‮ ‬مرحلة أخيرة منها،‮ ‬تلك التي‮ ‬يتشبّع فيها المخرج بالمادة ويبدأ باستيحاء المنافذ الجديدة للنص،‮ ‬ولدت فكرة وجود وحش آخر لا‮ ‬يقل عن كينغ‮ ‬كونغ‮ ‬ضراوة‮. ‬إنه‮ ‬يختلف عنه من حيث أنه ليس مخلوقاً‮ ‬حيوانياً‮ ‬ضخماً،‮ ‬لكن ذلك لا‮ ‬يجعله أقل فتكاً‮. ‬الوحش هو كارل دنهام كما أدّاه روبرت أرمسترونغ‮.‬
كارل هو قائد الفريق الذي‮ ‬وصل الجزيرة‮ (‬جزيرة الجماجم‮) ‬مستكشفاً‮. ‬إنه أيضاً‮ ‬من اكتشف آن التي‮ ‬كانت ممثلة كومبارس فأتى بها لتقوم بطولة الفيلم الذي‮ ‬سيصوّره فوق تلك الجزيرة‮. ‬إنه،‮ ‬ثالثاً،‮ ‬من‮ ‬يقود الحملة لإنقاذ الممثلة ملاحظاً‮ ‬إنه‮ ‬يواجه وحشاً‮ ‬واقع في‮ ‬الحب‮ (‬يتمتم‮ »‬الجميلة والوحش‮«). ‬الصراع بينه وبين الوحش على آن ظاهره إيجابي‮ ‬من حيث إنه فعل خير إنساني‮. ‬لكن في‮ ‬باطنه هناك شعلة الصراع بين‮ ‬غريمين كل منهما على حب الفتاة ذاتها‮. ‬المسألة،‮ ‬بالنسبة لكينغ‮ ‬كونغ،‮ ‬لا تعرف المصلحة الأخرى‮. ‬إنه حب طاهر او وله متيّم بلا حسابات‮. ‬لكن لاحظ ما‮ ‬يتفوّه به كارل حين‮ ‬يسقط كونغ‮ ‬أسيراً‮: »‬العالم بأسره سوف‮ ‬يدفع لمشاهدة هذا‮- ‬كونغ،‮ ‬أعجوبة العالم الثامنة‮«. ‬
تفوّه كارل بتلك العبارة‮ ‬يمنح المشاهد فرصة أخرى وأكيدة للتعاطف مع الغوريللا الكبيرة وقد أدرك ما ستؤول إليه‮. ‬اما كارل فيبدأ من هنا بخسران ما سجّله من إعجاب النظّارة وما سجّله من إمتنان آن نفسها وقد أدرك كل منهما‮ (‬النظّارة وآن‮) ‬النيّات المادية لكارل‮. ‬رغم أنها ممتنة لكارل أنه أنقذ حياتها،‮ ‬الا أنها‮ ‬غير راضية عن منحاه‮. ‬وربما تعتقد إنها بدورها ليست أكثر من عنصر جذب لمسرحه‮. ‬ومسرحه هو دنيا المشاهدين‮. ‬ها هو وضع المرأة كفتاة متعة‮ ‬يتسلل من بين شقوق الوضع الذي‮ ‬آلت اليه الأحداث‮.‬
الجزء الأخير القائم على المواجهة هو إعادة إكتشاف كارل لخطأه‮. ‬يتابع من بعيد،‮ ‬وهذه المرة من دون تدخّل،‮ ‬صراع كونغ‮ ‬ضد الطائرات الحربية التي‮ ‬تهاجمه والمرأة التي‮ ‬فتنتهما معلّقة بدورها بين السماء والأرض‮. ‬وحين‮ ‬يسقط كونغ‮ ‬من علِّه‮ ‬يتقدم شرطي‮ ‬ويقول‮ »‬الطائرات هي‮ ‬التي‮ ‬أسقطته‮« ‬فيرد عليه المخرج داخل الفيلم‮ (‬والفيلم بأسره‮) »‬لا‮. ‬لم تكن الطائرات‮. ‬كانت الجميلة التي‮ ‬قتلت الوحش‮«. ‬


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل ما شاهده الناقد من أفلام | دودوأباشيدزه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Dodo ABASHIDZE
حياة: وُلد في جورجيا 1924 - 1990
الإسم الحقيقي: ديڤيد أباشيدزه
سنوات المهنة: 1958 الى |1988
أهمية: شارك في إخراج »أسطورة قلعة سورام« و»عاشق كريب« لجانب الأسطوري سيرغي بارادجانوف

ليس هناك الكثير المعروف او المتداول حول هذا الممثل الذي‮ ‬عمل في‮ ‬السينما الجيورجية معظم سنوات حياته‮. ‬بدأ التمثيل سنة ‮٤٥٩١ ‬بفيلم‮ »‬التنين‮ ‬يطير‮« ‬ثم شوهد بعد ذلك في‮ ‬دور رجل أسمه عبد الشهيدي‮ ‬في‮ »‬باشي‮ ‬عشوقي‮«. ‬عُرف عنه إنه،‮ ‬كمعظم الممثلين الجيورجيويين فيما كان الإتحاد السوفياتي،‮ ‬يميل الى الطبيعية والتلقائية في‮ ‬التمثيل‮. ‬فجأة في‮ ‬العام ‮٤٨٩١ ‬نقرأ أسمه الى جانب‮ (‬وفي‮ ‬بعض المراجع قبل‮) ‬إسم المخرج الجيورجي‮ ‬الآخر سيرغي‮ ‬بارادجانوف في‮ ‬فيلمين هما‮ »‬أسطورة‮ ‬قلعة سورام‮« (٤٨٩١) ‬و»عاشق كريب‮« (٨٨٩١). ‬الناقد سيرغي‮ ‬راكين كتب رداً‮ ‬على إستفسار هذا المؤلف حول السبب الذي‮ ‬من أجله اقترن إسم باردجانوف بإسم أباشيدزه مخرجاً‮ ‬بالقول‮ »‬قد‮ ‬يكون الأمر مجرد تمويه للسلطات حينها كون باردجانوف كان مضطهداً‮ ‬من قبلها‮«. ‬قد لا‮ ‬يتسنى لنا معرفة الحقيقة وإذا ما كان إسم أباشيدزه مجرد ذريعة وبذلك‮ ‬يكون باردجانوف أخرج الفيلمين كاملاً،‮ ‬او‭ ‬إن هناك إسهاماً‮ ‬فعلياً‮ ‬من جانب أباشيدزه في‮ ‬تنفيذهما


‬تقييم‮:
جمال الطبيعة والروحانيات الفولكلورية التي‮ ‬تحويها الحكاية هي‮ ‬ما‮ ‬يسود فيلم أباشدزه‮/ ‬باراجانوف‮ »‬أسطورة‮ ‬قلعة سورام‮« ‬
Ambavi Suramis Tsikhitsa (The Legend of Surgami)
‮ ( (٤٨٩١) ‬من مطلعه وحتى نهايته ولو على سحساب أسلوب السرد والمعالجة‮.. ‬حكاية أسطورية حول قرية تحاول أن تبني‮ ‬حائطاً‮ ‬لحماية الغابة الجيورجية،‮ ‬لكنها كلما بنت جزءا من الحائط وجدته مهدماً‮ ‬الى أن تفتي‮ ‬إمرأة عجوز بأن أحد شبّان القرية عليه أن‮ ‬يضحّي‮ ‬بنفسه عبر قبوله أن‮ ‬يكون جزءا من ذلك الحائط‮. ‬لكن منطلقها قد‮ ‬يكون الإنتقام من والده الذي‮ ‬هجرها بعد حب‮. ‬رغم ذلك فإن الفتى سوف‮ ‬يضحّي‮ ‬بنفسه فعلاً‮ ‬لعله‮ ‬يستطيع إنقاذ الغابة‮. ‬كمعظم ما شاهدته من أفلام أباشيدزه مخرجاً،‮ ‬فإن‮ »‬أسطورة‮ ‬غابة سورام‮« ‬مستتر تحت‮ ‬إحتفائية مخرجيه بالأسطورة والفكرة وجماليات التعبير عنها‮. ‬بعد أربع سنوات خرج‮ »‬عاشق كريب‮«‬،‮ ‬أفضل الأفلام التي‮ ‬حملت أسمه مخرجاً،‮ ‬مع التذكير بأن الحدود بينه وبين بارادجانوف ليست واضحة،‮ ‬وسوف‮ ‬يكون مجحفاً‮ ‬بحق الأخير إذا ما أرجعنا جماليات الفيلم الى أباشيدزه‮. »‬عاشق كريب‮« ‬حكاية شرقية‮ (‬تركية‮ ‬بملامح أذربيجانية‮) ‬حول شاب أسمه عاشق،‮ ‬يقع في‮ ‬حب إبنة تاجر وهذا‮ ‬يرفض تزويجه إبنته ما لم‮ ‬يكن لديه الكثير من المال‮. ‬يقرر الشاب التجوّل في‮ ‬القرى والبلدان مغنياً‮ ‬وراقصاً‮ ‬لألف‮ ‬يوم ويوم لكي‮ ‬يتسنى له العودة الى حبيبته التي‮ ‬وعدته بإنتظاره‮. ‬المخرجان أباشادزه وبارادجانوف‮ ‬يصوّران الحياة في‮ ‬لقطات زاهية ويجدان جمالاً‮ ‬في‮ ‬الملابس والأزياء‮ (‬تراث إسلامي‮) ‬وفي‮ ‬التقاليد والفولكلور كما في‮ ‬الطبيعة بأسرها ما‮ ‬يجعل الفيلم آسراً‮ ‬للمتلقي‮ ‬مع معالجة رصينة للموضوع ولمحيطه وثقافته في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تتخلله بعض الميول الكوميدية البسيطة‮. ‬
‮ ‬جوائز‮:
نال‮ »‬أسطورة‮ ‬غابة سورام‮« ‬جائزة إتحاد النقاد في‮ ‬مهرجان‮ »‬سان باولو‮« (٦٨٩١) ‬ونال‮ »‬عاشق كريب‮« ‬جملة من الجوائز من بينها جائزة الفيلم الأوروبي‮ (٨٨٩١) ‬كأفضل تصميم إنتاج وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان أسطمبول‮ (٩٨٩١).‬


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2009٠

ISSUE 8 | Angelopolos' The Weeping Meadows | Francis Ford Coppola's The Conversation | Jan Troell's Everlasting Moments| + Young Cassidy & Alamo



قبل العرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم الأسبوع
The Weeping Meadow
هل سيبقى المخرج اليوناني ليو أنجيلوبولوس ممنوعاً من المشاهدة العربية دون قرار الا لأن أفلامه ليست تجارية؟ الغالب نعم٠ لكن لدينا خيار الكتابة عنها على الأقل وفي هذا العدد رأيت إختيار فيلمه ما قبل الأخير »المرج المنتحب« لهذه الغاية بإنتظار فرصة مشاهدة فيلمه الجديد »غبار الزمن«٠
.......................................................................................................
أفلام جديدة
Milk
هناك من سيتّهمني بأني لم أحب هذا الفيلم بسبب موقفي »الأخلاقي« من الأفلام التي تبرمج نفسها كمروّجة للحب الشاذ٠ لكن -على حقيقته- ليس السبب الذي لأجله لم أطق فيلم غس ڤان سانت الجديد٠
Everlasting Moments
المخرج السويدي يان ترووَل واحد من اولئك المخرجين الذين نشأوا على أثر ذيوع شهرة مواطنه إنغمار برغمن من دون تحقيق ذات النجاح الغربي. في فيلمه الأخير »لحظات أبدية« يطرح نسيجاً من حياة ذات ملامح آسرة- كعادته٠
.......................................................................................................
استعادات
A Very Long Engagement
الفيلم الفرنسي »فترة خطوبة طويلة جداً« لمخرجه لجان- بيير جونيه (ثاني فيلم له من بطولة أودري توتو) حقق نجاحاً كبيراً حين عُرض عالمياً، لكن - وكما يرى الصديق الناقد إدغار نجّار- هناك ما هو أكثر أهمية من نجاح كبير وهو اللغة الفنية العالية التي وظّفها المخرج فيه٠
.......................................................................................................
عشرون سنة ذهبية
في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة سأختار أفلاماً مميّزة ومهمّة تنتمي الى العقدين الفريدين الرائعين من السينما العربية والعالمية وهما الستينات والسبعينات٠ في هذه الحلقة الأولى سأتوقّف ملياً عند فيلم فرنسيس فورد كوبولا »المحادثة« (بالإضافة الى فيلمين آخرين). لماذا »المحادثة«؟ ربما لأن الكاميرات الخفية والتنصّت على خصوصيات الإنسان في الغرب وصل اليوم الى ذروته... او ربما لأني أنتهيت من مشاهدته (للمرّة السادسة مثلاً) للتو واكتشفت كم أنا مسحور به٠


فيلم الأسبوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Triology: The Weeping Meadow To Livadhi Pou Dhakrisi | الثلاثية: المرج المنتحب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


Theo Angelopoulos: إخراج: ثيو أنجيلوبولوس
اليونان‮/ ‬فرنسا 2004
دراما تاريخية‮ [‬الحرب الأهلية‮/ ‬صعود الفاشية‮/ ‬الحرب الثانية‮] [ ‬ألوان‮- ٥٣ ‬مم‮- ٠٣١ ‬د‮].‬
نقد: محمد رُضا
.........................................................................................................................................

‮١. ‬سمات
كل أفلام ثيو انجيلوبولوس تتطلب صبرا طويلا اذ‮ ‬يفتح المخرج صفحات أفلامه بروية مقصودة وأحيانا بأبطأ مما‮ ‬ينبغي‮. ‬لكن‮ »‬المرج المنتحب‮« ‬أكثرها بطأً‮ ‬ورويّة‮. ‬ما‮ ‬يكوّن البطء ليس حركة الكاميرا ولا المونتاج ولا حتى التصميم المسبق للمشاهد ثم تنفيذها حسبها‮. ‬ما‮ ‬يكوّن البطء هو المعالجة المذكورة بنواحيها الثلاثة عندما لا تجد في‮ ‬الصورة المنقولة ما‮ ‬يُثير‮. ‬عندما لا‮ ‬يكون هناك في‮ ‬المادة المنقولة،‮ ‬في‮ ‬الموضوع الماثل،‮ ‬ما‮ ‬يشغل البال او العين،‮ ‬ما‮ ‬يحيل المتابعة الى عملية انتظار. ليس أن المشهد الرائع الممتثل على الشاشة فارغاً، لكن مضمونه يأتينا هذه المرّة بارداً٠‬
‮»‬المرج المنتحب‮« ‬بذا هو أقل أفلام انجيلوبولوس إثارة لأن لا شيء مثيرا‮ ‬يقع ولأن الموضوع الماثل قد‮ ‬يكون مهما ضمن معالجة أخرى،‮ ‬لكنه خال من تلك الومضات التي‮ ‬تجيز له ملء ثلاث ساعات من العرض على هذا النحو الرتيب‮. ‬حكاية المهاجرين اللذين تحابا وتزوّجا ثم نزحا من القرية التي‮ ‬غمرتها المياه وتعرضت لملاحقة الفاشية ثم انشطرت بسببها وبسبب الحرب الأهلية في‮ ‬الخمسينات معالجة من دون تفاعلاتها وبقليل او نذر من الأبعاد التي‮ ‬كان‮ ‬يمكن تجسيدها‮. ‬الكاميرا قد تأخذ وقتها لكي‮ ‬تتقدم صوب مشهد مشاة معلقة من كراعها على أغصن شجرة كبيرة،‮ ‬لكن التجسيد المقصود لا‮ ‬يوازي‮ ‬تكوين المشهد دلالة او عمقا‮. ‬انه كما لو أن المخرج صرف وقتا طويلا على التصميم وأقل على محاولة معرفة ما اذا كانت المشاهد المُصمّمة مرتبطة بما هو مقصود منها بالفعل‮.‬

‮٢. ‬سيناريو
يبدأ الفيلم بواحد من المشاهد الكبيرة المحببة لدى المخرج‮: ‬جموعا قادمة من الهضاب‮ ‬يتقدمها رجل وزوجته وولده ومعهما فتاة صغيرة التقطها الزوجان‮ ‬يتيمة‮. ‬السنة هي‮ ٩١٩١ ‬والمهاجرون هم‮ ‬يونانيون نازحون من روسيا‮ ‬يبغون العودة الى بلادهم ويصلون الى نهر ثيسالونيكي‮ ‬ويقفون عند الطرف الشمالي‮ ‬منه تحت ستار تعليق مقروء‮ (‬بصوت المخرج نفسه‮) ‬يوضح حالتهم ومن هم ثم‮ ‬يخصص العائلة المذكورة بالعناية‮. ‬حين وصول النازحين الى ضفة النهر‮ ‬ينطلق سبيروس‮ (‬فاسيليس كولوفوس‮) ‬بالكلام ناظرا مباشرة الى الكاميرا حيث من المتفرض ايضا ان‮ ‬يكون هناك مستقبل ما على الضفة الأخرى‮ ‬يوجه سبيروس كلامه اليه‮. ‬يقفز الفيلم‮ ‬سنوات الى الأمام حيث أسس النازحون قرية نشطة ومزدهرة‮ (‬بنيت خصيصا في‮ ‬منطقة كركيني‮) ‬تسرح فوقها الكاميرا‮ (‬بإداراة اندرياس سينانوس‮) ‬مصوّرة أناس وحيوانات وبيوتا تتنفس المكان الطبيعي‮ ‬بدعة‮. ‬انها نقطة عالية من الفيلم ليس بسبب الكاميرا المنصبّة من بعيد ومن فوق‮ ‬على القرية،‮ ‬بل عالية ايضا لأنها تشمل حركة كاملة محاكة بتفاصيل ثرية‮. ‬حين‮ ‬يعود المخرج الى شخصياته نجده اختص بالشخصيتين اللتين ستسودان الفيلم بأسره‮: ‬إيليني‮ (‬أيديني‮) ‬الفتاة اليتيمة وإبن سبيروس‮ (‬الذي‮ ‬يبقى بلا إسم ويؤديه نيكوس‮ ‬بورسانديس‮) ‬وكلاهما‮ ‬يحبان بعضهما البعض‮ ‬غصبا عن الأب سبيروس الذي‮ ‬كان‮ ‬يطلب الزواج من الفتاة‮ (‬بعد وفاة زوجته خارج أحداث الفيلم المباشرة‮) . لكن الفتاة والإبن يهربان من القرية التي‬تنطلق في‮ ‬البحث عنهما‮ (‬خلال البحث فإن الجميع‮ ‬ينادي‮ ‬إيلينا ولا‮ ‬ينادي‮ ‬إسم الإبن‮). ‬ينضم العاشقان الى‮ ‬فرقة موسيقية‮ ‬يقودها نيكوس‮ (‬أرمنيس‮) ‬حيث‮ ‬يبرهن الإبن عن عزف من شأنه‮ »‬جعل الأشجار ترقص‮« ‬كما‮ ‬يصف نيكوس لعب الإبن على الأكورديون‮.‬
في‮ ‬مشهد‮ ‬يقترن مباشرة بالمسرح الإغريقي‮ ‬ومنفذ بذات الحس التراجيدي‮- ‬المسرحي‮ ‬يقتحم سبيروس مسرحا مهجورا تحوّل الى مكان سكني‮ ‬للجوّالين والمهاجرين مناديا‮ ‬ايلينا راجيا منها أن ترد عليه‮. ‬يعلم أنها تسمعه‮. ‬يقف على المسرح منفردا‮ (‬والكاميرا من ورائه‮) ‬ويتلو ما‮ ‬يوازي‮ ‬صفحة حوار من السيناريو‮. ‬بعد ذلك‮ ‬يوزع المخرج‮ ‬الإداءات الرئيسية بين بعض أفراد الفرقة والعاشقين وبذلك‮ ‬يأخذ من بطولة ايلينا وزوجها مقحما الُمشاهد في‮ ‬لا مركزية الحدث وشخصيات الفيلم الى أمد بعيد هو أقسى ما‮ ‬يرد على الشاشة من فصول الفيلم كونه كان قابلاً للإختزال لو شاء‮ ‬أنجيلوبولوس ذلك‮. ‬الفترات الزمنية تتعاقب والفرقة الموسيقية تنقسم على نفسها بسبب ميل بعضهم لسياسة اليمين الفاشي‮ ‬وبقاء الآخرين عرضة لملاحقة السلطة وسجنهم لها‮. ‬حياة الزوجين،‮ ‬وقد رزقا الآن بتوأمين،‮ ‬تصبح أكثر صعوبة في‮ ‬تلك الفترة فيعودان الى القرية التي‮ ‬نزحا منها حيث‮ ‬يطالعنا مشهد الشاة المعلقة‮. ‬في‮ ‬الليلة ذاتها‮ ‬يفيض النهر ويغمر القرية ويضطر الزوجان وطفليهما للنجاة على ظهر مركب صغير‮. ‬مرة أخرى‮ ‬يستعرض المخرج تصاميمه المناظرية الواسعة لمشهد طويل من المراكب وقد حملت أعلاما تتوجه بعيدا تاركة الزوجين على الضفة الأخرى‮. ‬هذا الفصل‮ ‬يليه فصل من التطوّرات السياسية حتى آخر الفيلم‮. ‬الزوج‮ ‬يقرر تحقيق حلمه القديم والهجرة الى أميركا‮. ‬والزوجة بعدما تخسره وتمر السنوات وينشأ طفليها‮ ‬يتوجهان لجبهة قتال في‮ ‬الحرب الأهلية اليونانية في‮ ‬أواخر الأربعينات‮. ‬أحدهما تعود السلطة بجثته‮. ‬الثاني‮ ‬تجده أمه ميّتا في‮ ‬بيت العائلة القديم الذي‮ ‬لا زال‮ - ‬جزئيا‮- ‬مطمورا بمياه النهر‮ (‬في‮ ‬الواقع بحيرة كركيني‮). ‬الأم هي‮ ‬الوحيدة التي‮ ‬تبقى ناحبة الذكريات والسنون ووحدتها بغياب الزوج في‮ ‬اميركا دون أثر‮.‬


‮٣. ‬تصميم‮ ‬
يكتنز الفيلم تاريخ اليونان والمنطقة البلقانية وأوروبا اكتنازاً مبهراً. يتحدّث عن مراحل من مطلع القرن لحين نشوب الحرب العالمية الثانية ويتعرّض لعقدة أوديب من ناحية وللفاشية على بساط واسع من ناحية أخرى. إنها بانوراما نشطة وثرية من بانورامات المخرج الكبير٠
لكن الأمر يتعثر حين الإنتقال من المشهد العام الى الخاص. تعلم أن المخرج‮ ‬يدافع عن أسلوب عمل حتى من دون أن‮ ‬يملك،‮ ‬لمعظم الوقت،‮ ‬ما‮ ‬يملأ فراغات المشاهد التي‮ ‬ينفذها،‮ ‬حينما تلحظ أن تصميم المشهد التمثيلي‮ ‬يقوم على الحركة المسرحية الكلاسيكية بكل ثقلها وتتابعها الرتيب‮. ‬في‮ ‬المشاهد التي‮ ‬نرى في‮ ‬ممثلا‮ ‬يقود باقي‮ ‬الممثلين،‮ ‬متكلما او متحركا،‮ ‬تجد باقي‮ ‬الممثلين‮ ‬يتابعونه جميعا بحركة واحدة مجتمعة‮. ‬الحركة الناتجة عن متابعة الشخص الماثل كيفما تحرك‮. ‬تلك المشاهد التي‮ ‬تعكس حركة جماعية ما،‮ ‬هي‮ ‬تلك التي‮ ‬لا حوارات فيها والتي‮ ‬صممها المخرج كمشاهد كبيرة‮. ‬والحوار نفسه هو أقرب الى المونولوغ‮ ‬منه الى الديالوغ‮. ‬وبشكل‮ ‬غالب ايضا‮ ‬يثق أنجيلوبولوس بأن مناظره ذات الرمز واصلة‮. ‬ذلك المشهد المتكرر لشراشف بيضاء منشورة‮ ‬يلوح بها الهواء جميلة كتكوين لكنها خالية كمضمون‮. ‬جميلة للتعبير عن شيء،‮ ‬لكن لا‮ ‬يبدو أن هناك شيئا تعبّر عنه‮.‬
والحال هذه،‮ ‬لا عجب أن التمثيل،‮ ‬باستثناء إداء‮ ‬ألكسندرا أيديني‮ (‬في‮ ‬بعض مشاهدها الأخيرة‮) ‬ويورغوس أرمينيس‮ (‬في‮ ‬معظم مشاهده‮) ‬خال من الحياة بدوره‮. ‬انه من المؤسف كيف أن الطفلين الصغيرين‮ ‬يكادان‮ ‬ينفذان حرفيا تعاليم بدنية من نوع‮ »‬تتقدم خطوة واحدة وتقف هنا‮« ‬وشأنهما لا‮ ‬يختلف كثيرا عن شأن الكبار‮.‬
المشاهد التي‮ ‬تنجح أكثر من سواها تلك العامة الكبيرة التي‮ ‬تصوّر حالة شاملة كمشهد القرية الأول،‮ ‬ثم مشهدها وقد فاضت المياه من حولها‮. ‬هنا‮ ‬ينفذ انجيلوبولوس الى أعماله السابقة‮. ‬يجد المشاهد الرابط الإبداعي‮ ‬بين تلك الأعمال وبين هذه المشاهد المميزة‮. ‬في‮ ‬سياق الأساليب القائمة على كاميرا التأمل‮ (‬من أندريه تاركوفسكي‮ ‬وما دون‮) ‬يقف انجيلوبولوس عادة في‮ ‬موقع متقدم‮. ‬لكن هذا الفيلم لن‮ ‬يساعده بأي‮ ‬حال‮. ‬يذكر بقيمته لمن شاهد أعماله السابقة،‮
‬ويطرح سؤالا حول ما اذا كان‮ ‬يستحق كل هذه الهالة لمن لم‮ ‬يشاهد أفلامه من قبل‮.‬

٤. جمال الحزن
لكن يجب أن لا يُفهم من كل هذا أن دور الصورة، بحسانها، لم يكن الا جواد يمتطيه المخرج صوب لا شيء كبيراً. إنه في الوقت الذي يعيب هذا الناقد كل ما ورد من ملاحظات، لا يزال مشدوداً الى فيلم يسبح في الحزن كما حال أبطاله. الحزن الجميل الذي لا يعرف سبباً واحداً لكي ينتشر كالسحابات الرمادية فوق الرؤوس، بل أكثر من سبب. أهمّها ما مرّت به اليونان من تاريخ ينسج المخرج أفلامه على نسقه. أحياناً بجدارة عالية (كما الحال في »الممثلون الجوّالون« إذ يغطي التاريخ اليوناني ما بين 1939 وحتى 1952) و»الأبدية ويوم« الذي يتداول الحقبة الأوروبية الحالية) وأحياناً بهذا القدر من التميّز الذي يكتفي به الفيلم هنا٠ مثل أفلام أنيجيلوبولوس جميعاً، هذا ليس تاريخ ألكسندر الكبير ويونان الإلياذة او بلاد الشمس والبحر. إنها يونان وأوروبا وعالم متلبد السماء غير باعث على الأمل وهو ليس مفبركاً في هذا الشأن أيضاً٠

Dir: Theo Angelopoulos

Cast: Alexandra Aidini (Eleni), Nikos Poursanidis (Son), Yorgos Armenis, Vasilis Kolovos, Eva Kotamanidou, Toula Stathopoulou Zissis, Mihalis Yannatos,
Thalia Argyriou.
Scr:Angelopoulos, Tonino Guerra, Petros Markaris, Giorgio Silvagni.
Dir. of Phot.: Andreas Sinanos (C).
Editor: Yorgos Triantafyllou (178m).
Music: Eleni Karaindrou.
Producers: Angelopoulos, Fivi Ekanomopoulos.
Prod Comp: Theo Anelopoulos/ Greek Film Centre/ Attica Art/ Hellenic Broadcasting Corp/ BAC Films/ Inetermedia Arte [Greece/ France- 2004].






أفلام جديدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Milk
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


Gus Van Sant إخراج غس فان سانت
بيوغرافي | الولايات المتحدة
نقد: محمد رُضا
.......................................................................................................
ميلك هو هارڤي ميلك، أول رجل مُثلي تم إنتخابه رسمياً في وظيفة حكومية أميركية هو عمل ناجح من نواحي فنية عدّة، لكنها جميعاً غير شافية. الفيلم لا يشكّل خطوة للأمام او للوراء بالنسبة للمخرج (المستقل حيناً والعامل لهوليوود حيناً) غس ڤان سانت، بل ينتمي الى مجموعة أفلامه الترويجية للروح الليبرالية. هنا في مفهوم حق المرء أن يكون لواطياً والدفاع عن حياته وتحويله الى شخصية رائدة وبطولية طالما أنها تخدم رسالة الفيلم٠
لكن باحتواء هذه المسألة، فإن الدوافع الذاتية التي في صلب موضوع الفيلم إذ تفرض على المخرج دفع الشخصية الى الأمام بغية »بيعها« الى الجمهور العريض ، تفشل في التوجّه فعلياً الى كل الناس عبر تخصيص الحديث عن رجل لا ذنوب او أخطاء او نواقص لديه٠ بعض من يعرفون هارڤي ميلك وحياته يقولون أنه دفع بخمسة من عشّاقه الى الإنتحار. إذا كان هذا صحيحاً، لم لا نرى هذا الجانب مطروحاً كذلك على الشاشة؟
يبدأ الفيلم بهارڤي ميلك (شون بن) وهو يسرد تاريخ السنوات الثماني الأخيرة من عمره وذلك قبل يوم واحد من عيد ميلاده الأربعين. ننتقل الى مترو نيويورك حيث يتعرّف على سكوت (جيمس فرانكو) ويتصاحبان. بعد عامين هما في سان فرانسيسكو حيث يفتتحان دكاناً لبيع الكاميرات في شارع كاسترو (مشهور بقاطنيه) ويتحرّك الفيلم سريعاً فإذا بهارڤي يكوّن وجوداً ملموساً في الشارع مدافعاً عن حقوق الشاذّين ما يرشّحه ليصبح نشطاً على نحو غير رسمي ثم رسمي عاملاً على الدفاع عن حقوق أترابه. ومتحدّثاً بإسم الجماعة في الخطب والمنتديات ومهاجماً بوليس المدينة الذي يحاول إحباط المساعي السياسية للشاذّين بعدما أصبح انتشارهم، في الشارع فالحي فالمنطقة ثم المدينة لاحقاً وأميركا كلها كما لو أنهم المقصودون في فيلم
The Invasion of Body Snatchers دون سيغال الرعبي
مدهماً٠
يستعين المخرج في هذه المرحلة من الفيلم، كما في المراحل التالية، الكثير من المواد الأرشيفية لرجال البوليس وهم يضربون الرجال المخنّثين او يجرّونهم الى شاحنات الإعتقال. لا ريب هنا في موقفه فهو يتحدّث عن الشاذّين كحديث مارتن لوثر كينغ عن حقوق الأفرو- أميركيين. لكن في حين أن العنصرية التي مورست ضد السود في الولايات المتحدة، كانت قضية إنسانية لها كل مقوّمات النضال السياسي والإجتماعي فإن سانت جاهز لتجاوز هذه النقطة هنا على أساس أن المفهوم ذاته مطبّق هنا ومسلّم به٠
لكن شخصية هارڤي ميلك لا تصيب الهدف تماماً مرّة أخرى لا يعني حماس شون بن ولا جرأته (لا أحد من الممثلين يتمتّع بجرأته كونه مستقيماً يلعب دوراً شاذّاً بكل متطلّباته السطحية: قبل، ضم، لمس لكن من دون مشاهد جنسية فعلية) الا وسيلة لمشاركة المخرج رغبته في بلورة شخصية مقدامة ذات شأن في حركة الدفاع عن الشواذ. لكن الشخصية تبدو طوال الوقت واثقة من خطواتها ونتائج تلك الخطوات وبلا عمق يُذكر. لا يطلب المرء شخصية تتألّم لواقعها، لكن واحدة تستطيع أن تعكس القدر الحقيقي من المشاكل النفسية وليس فقط الناتجة عن الكر والفر بينه وبين البوليس او المحافظين المعادين٠
في السابق، كانت أفلام غس فان سانت المُثلية تلتزم بالرغبة في أن تكون موحية والى حد كبير شعرية ورمزية. صحيح إنها كانت تؤدي ذات الرسالة التي يؤديها الآن »ميلك« الا أنها كانت تنتمي الى أسلوب أكثر صدقاً في توليف الفن على الموضوع. هنا ينتقل المخرج الى العرض المباشر مثل واحد انتقل من العمل السري الى العمل العلني فافتتح دكّاناً زيّنه بالصور والألوان وجلس ينتظر الزبائن وعينه على الأوسكار في الوقت ذاته٠
DIRECTOR: Gus Van Sant.
CAST: Sean Penn, James Franco, Emile Hirsch, Josh
Brolin, Diego Luna, Alison Pill.
SCREENPLAY: Dustin Lance Black.
CINEMATOGRAPHER: Francine Maisler (Colour).
MUSIC: Danny Elfman.
EDITOR: Elliot Graham (128 min)
PRODUCER: Bruce Cohen, Dan Jinks.
PROD. COMPANY: Focus Features [USA- 2008].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Everlasting Moments Maria Larssons Eviga Ogonblick | لحظات ماريا لارسون الأبدية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



Jan Troell إخراج: يان ترووَل
دراما إجتماعية | نروج/ فنلندا/ ألمانيا- 2008
نقد: محمد رُضا
......................................................................................................
على الرغم أن يان ترووَل لم ينقطع عن الإخراج بل ثابر عليه منذ مطلع الستينات والى اليوم، الا أن شهرته ليست في مستوى موهبته وطموحاته٠ عرفه هذا الناقد من أيام بيروت حين تم عرض فيلمين متتابعين له الأول »المهاجرون«، (1971) والثاني »عروس زاندي« (1974) ثم مرّت سنوات عدّة قبل أن يلتقط له فيلماً ثالثا هو حياة المؤلّف النروجي نوت هامسون في »هامسون« (مع ماكس ڤون سيدو في سنة 1996) والآن هذا الفيلم٠
لحظات ماريا لارسون الأبدية، او »لحظات أبدية« كما العنوان الإنكليزي، قصّة ذات مراحل تاريخية تنتقل من العام 1907 الى ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. شخصياته حقيقية لكن جرى التعامل معها سينمائياً ومحورها هو ماريا لارسون (ماريا هايسكانن) المتزوّجة من سيغفريد لارسون (ميخائيل برشراند) ولهما -في مطلع الفيلم- أربعة أولاد٠ حياتهما فقيرة ومن البداية يرسم المخرج خطوطاً رمزية موحية بالوضع الطبقي المحيط: الفقير والثري. الحدود والإمكانيات الضيقّة للأول والحياة المرفّهة للثاني. حين تتصاعد النبرة اليسارية في الشارع يزيد المخرج من نسبة التعاطي في هذه المسألة مصوّراً جزءاً من الصراع بين العمّال (الزوج سيغفريد بينهم) وبين أصحاب العمل. لكن دائماً المحور الحدثي هو الحياة العاطفية والإجتماعية الخاصّة بالبطلة والقصّة هي قصّتها الخاصّة٠ فماريا تعلم أن زوجها يخونها، وتتحمّل من حين لآخر ضربه وتعنيفه وشربه وسوء أخلاقه، لكنها زوجة من طراز تلك الفترة حيث لم تكن الطرق مفتوحة أمام انتفاضة المرأة على الوضع، وإن كانت فلم تكن لكل النساء٠ هنا، في الوقت الذي نتابع فيه إيمان هذه المرأة بأهمية الحفاظ على زواجها (لأسباب إقتصادية) وبالتالي اضطرارها لإحباط الإنتفاضة على الوضع، نتابع في شكل مواز -والى حين فقط- فشل الزوج في الإنتصار على وضعيته العملية كيد عاملة في نظام رأسمالي. بالضرورة، كلا الزوجين منتم الى الآخر عن طريق تلك اللُحمة الإقتصادية والإجتماعية والأحداث تبرهن أن نمو كل منهما (وانتصار الزوج على نواقصه في النهاية) تم بسبب إصرار المرأة، وليس الرجل، على تطوير تلك الذات٠
ذات يوم تخرج ماريا من مخلّفات الأيام كاميرا فوتوغرافية يدوية وتتجه الى دكان كاميرات لبيعها وصاحب المحل (جسبر كرستنسن) يقنعها بأن تتعلّم التصوير وتمارسه. وإذ تفعل يصبح التصوير أكثر من هواية تمارسها لفنّها، بل عملاً يؤمّن لها دخلاً هي بحاجة اليه لجانب دخلها كمنظّفة بيوت وخيّاطة في بيتها. . خلال فترة سنوات طويلة تتعامل الأم مع شؤون البيت والزوج والأولاد بما في ذلك تدخّلها حين يحاول شقيق المرأة الثرية التي كانت ماريا تنظّف لها البيت مداعبة إبنتها الشابة. المرء يعيش تلك الحالات مع بطلة الفيلم ويؤيّدها بطلاقة وبنفس التلقائية التي تمثّل فيها ماريا هايسكانن الدور٠ لكن المخرج إذ يقدّم الزوج على ذلك النحو السلبي، ينشد دوماً ربط الصورة بالواقع وعدم محاولة كسب أصوات المشاهدين ضدها على نحو مجّاني هو شائع هذه الأيام٠
الى ذلك، يبهرنا العمل بقدرة مخرجه على تصوير نضال إمرأة في سبيل الحفاظ على عائلتها والحفاظ على هوايتها وفرحها بها وهي تلتقط الصور٠ هناك ذلك المشهد الذي تأخذ فيه صوراً لاجتماع ثلاثة ملوك سويدين التقوا لبحث كيفية البقاء حيادياً وسط الحرب التي تدور في الجوار. بينما هي تلتقط الصورة بكاميرتها القديمة (تبدو قديمة آنذاك أيضاً) يلتقط لها صاحب المحل بكاميرا سينما بدائية صورتها من دون أن تدري. وحين ترى صورتها مرتسمة على الشاشة تُذهل وتصدّق أنت ذهولها٠
علاقتها بصاحب المحل فيها الكثير مما يمكن بحثه. في إختصار هي لم تبرح علاقة حب من طرفها واعجاب من طرفه. لم تنتقل الى علاقة (على عكس ما اعتقد الزوج ذات مرّة) لكنها حوت كل العناصر التي كان يمكن لها أن تقع مع غير ماريا وفي غير هذا الفيلم٠
المعالجة الدرامية ليست وحدها المختلفة عن أفلام اليوم الأخرى، بل كذلك المعالجة الفنية٠ يان ترووَل هو أيضاً مدير تصوير (وهو مدير تصوير فيلمه هذا وعدد من أفلامه السابقة) لذلك تجد انسجاماً وسهولة قلّماً تجدهما في أي فيلم آخر من حيث علاقة المخرج بالكاميرا. ما هو مختلف أيضاَ في هذا المجال هو التصوير الطبيعي (في معظمه) الذي ينقلنا الى واحدة من سمات سينما الأمس القريب . لقطاته، قريبة، بعيدة، داخلية، خارجية، هي رسم في الزمن والتفاصيل والحركات٠ مع ممثلين بالغي الطبيعة في تفاصيل حركاتهم، تتلوّن الدراما بلون تلك الفترة من دون انفصام. ليس أن الفيلم مضطر لأن يغرق في التفاصيل بل هو تفاصيله المختلفة. هو الثياب والديكور ولون الطبيعة وشكل الباب وحجم المكان والوقت من النهار او الليل٠ هو أيضاً تلك اللقطات للأعين والشواهد ولما يجول في البال ويعبّر عنه الممثل صمتاً او حواراً. الفيلم يبدأ بتعليق من إحدى بنات المصوّرة (كولين أورڤول) تسرد ذكرياتها عن تلك الفترة، لكنه لا يتحوّل الى كم من التعليق الصوتي وبالتالي لا خوف من السقوط في مسألة: لماذا التعليق إذا ما كنا نرى ما يقوله لنا٠
الفيلم عن تلك المرأة في الصدارة وعن الحياة الإجتماعية والسياسية خلفها وباقي الشخصيات حولها٠ ولن تجد بين القصّة الفردية والقصّة الإجتماعية/ السياسية منفذاً تتسرّب منه العناصر الفنية تائهة او مهملة٠ عمل رائع يأتي من الأمس في زيارة لسينما اليوم لمن لا يزال يستطيع أن يتعلّم شيئاً او شيئين من هذا الفن٠
الإنتصار الكبير لهذا الفيلم هو أنه في الوقت الذي نشاهد فيه قصّة فرد في الصدارة وهي تمارس حياة كل يوم ومشاعر كل ساعة بمفهوم من الثبات والقناعة وقبول الواقع الصعب من خلال انفراجاته الصغيرة، نوالي أيضاً، وبفضل براعة الكتابة والإخراج، استقبال بانوراما للحياة الكبيرة الحاوية٠ من دون مشاهد حربية، نعيش تلك الحرب ومن دون افتعال الزمن نصبح جيراناً لماريا٠

DIRECTOR: Jan Troell
CAST: Maria Heiskanen, Mikael Persbrandt, Jesper Christensen,
Emil Jensen Ghita Nørby
SCREENPLAY: Niklas Rådström
CINEMATOGRAPHER:Jan Troell, Mischa Gavrjusjov [Colour].
MUSIC: Matti Bye
EDITOR: Niels Pagh Andersen (131 min).
PRODUCERS: Tero Kaukomaa, Christer Nilson, Thomas Stenderup,
PROD. COMPANY: Final Cut Prods./ Blind Spot
Pictures [Norway/ Finland/ Germany].



إستعادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
A Very Long Engagement Un long dimanche de fiançailles | فترة خطوبة طويلة جداً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


Jean- Pierre Jeunet | إخراج: جان-بيير جونيه
دراما عاطفية | فرنسا- 2004
نقد: إدغار نجّار
......................................................................................................

للمرة الثانية‮ ‬يبرهن لنا جان بيير جونيه بأن السينما الأوروبية‮ (‬هنا الفرنسية‮) ‬ليست مقتصرة على‮ »‬العقلانية‮« ‬و»الفنية‮« ‬فقط‮. ‬فالفكرة السائدة بأن‮ ‬غالبية الأفلام التي‮ ‬تنتجها أوروبا هي‮ »‬حرفية‮« ‬،‮ »‬داخلية‮«‬،‮ »‬بطيئة‮« ‬و»صعبة‮« ‬وبالتالي‮ »‬مضجرة‮« ‬كذّبها هذا المخرج الفرنسي‮ ‬بفيلمه الرائع‮ »‬المصير العجيب لأميلي‮ ‬بولان‮« (‬2001‮ ‬المعروف أيضاً‮ ‬بـ‮ »‬إميلي‮«) ‬الذي‮ ‬حصد نجاحاً‮ ‬فنياً‮ ‬وجماهيراً‮ ‬وحصد عدة جوائز عالمية‮ ‬وفيلمه الأخير‮ »‬يوم أحد طويل لخطوبة‮«‬،‮ ‬المعروف تحت عنوان‮ »‬خطوبة طويلة جداً‮« (‬2004‮) ‬والذي‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ »‬مصيره‮« ‬أقل رونقاً‮ ‬من سابقه‮.‬
ما‮ ‬يميّز‮ »‬إميلي‮« ‬عن‮ »‬خطوبة طويلة جداً‮« ‬هو أن الأول أنجز على الطريقة الأوروبية بميزانية ضئيلة إذ‮ ‬كان‮ »‬حرفياَ‮« ‬أكثر مما كان‮ »‬صناعياً‮ ‬متقدّماً‮« ‬بينما الثاني‮ ‬استعان بأموال أميركية واستفاد من الإمكانات الضخمة المرصودة له ليعطي‮ ‬فيلما عالمياَ‮ ‬يضاهي‮ ‬أفضل الأفلام الهوليوودية مع التشديد أن أن جونيه عرف كيف‮ ‬يبقى‭ ‬أوروبيا في‮ ‬الجوهر‮. ‬وذلك‮ ‬يتجلى في‮ ‬العمق والهم الجمالي‮ ‬والدقة التفصيلية في‮ ‬رسم الإنسان‮ ‬غير‮ »‬الأحادي‮« ‬النابض بالحياة والهواجس‮.‬
السينما في‮ ‬السنوات الأخيرة تقدّمت تقنياَ‮ ‬بشكل‮ ‬يلفت الإنتباه ويثير أحيانا الدهشة بفضل تطوّر المؤثرات الخاصة المكلفة‮ (‬صوتاً‮ ‬وصورة‮) ‬مما جعلنا نتحمّل الكثير من الأفلام المرتكزة فقط على‮ »‬الإحتفال‮« ‬بهذه التقنيات والفارغة من أي‮ ‬بعد إنساني‮ ‬او حس فني‮ ‬جمالي‮ ‬حيث وضعت الآلة او‮ »‬الصناعة‮« ‬قبل الإنسان والفن‮. ‬هكذا سينما لم تعرف كيف او لم تكن قادرة على أن تخضع الإمكانات والتقنيات لصالح او لخدمة المضمون فأتت لتبهر العين والأذن ليس إلا‮. ‬لم تتعدى كونها عرض عضلات او عرس مجاني‮ ‬وكأن هناك طلاق ما بين الفن ودوره وماهيته من جهة والتقنيات الموجودة فقط ليُنهل منها وتزوّد هكذا فن بلغة تعبيرية أفضل‮. ‬في‮ ‬الحقيقة هذه الحالة هي‮ ‬مشكلة صناعيين وليست أزمة فن أو فنانين‮. ‬فالسينمائيون المبدعون‮ ‬يعرفون تماما كيف تستعمل الوسائل التقنية الجديدة التي‮ ‬يعتبرونها موجودة فقط لدعم سردهم الدرامي‮ ‬للأحداث وليس للإستمتاع بها واستعراضها معزولة عن صلب المضمون والبناء والروائية‮. ‬
وما‮ ‬يلفت الإنتباه إنه بالرغم من أن‮ »‬خطوبة طويلة جداَ‮« ‬يُصنّف تحت خانة أفلام الحرب الا أنه‮ ‬يختلف عن‮ ‬غيره من مئات أشرطة الحرب التي‮ ‬ شاهدناها مع الإقرار بأن هذا النوع قدّم الكثير من الأفلام الجيدة والمهمة كان من آخرها‮ »‬الخط الأحمر الرفيع‮« لترنس مالك و»إنقاذ الجندي‮ ‬رايان‮« ‮ ‬لستيفن سبيلبرغ‮. ‬مشاهد المعارك في‮ »‬خطوبة‮...« ‬بألوانها الرمادية القاتمة وكادراتها المتقنة من خلال كاميرا متحركة مع تركيبها وتوليفها بشكل عصبي‮ ‬هي‮ ‬نابضة بواقعية قلّما شاهدناها‮. ‬حتى على صعيد الصوت،‮ ‬نسمع رصاص وشظايا جونيه تنهش الثياب والأجساد والبنادق والخوذات المعدنية ما‮ ‬يؤكد بأن هذا المخرج الفرنسي‮ ‬متميّز عن الكثير من زملائه من حيث أنه لا‮ ‬يتسلّى او‮ ‬يلعب بالمؤثرات الخاصة،‮ ‬بل‮ ‬يسخّرها ويستغلها ليعبّر عن همجية ووحشية الحرب‮.‬
عند جونيه العدو ليس الألماني‮ ‬كما هو شائع في‮ ‬السينما الهوليوودية بل العدو الحقيقي‮ ‬هو الحرب وعنفه ولا إنسانيته مثلما‮ ‬يصورها هذا المخرج حتى عند مواطنيه وخاصة المسؤولين الكبار منهم‮. ‬والألماني‮ ‬كما‮ ‬يظهر عنده خاصة في‮ ‬بداية الفيلم‮ ‬يثير الشفقة أكثر من البغض‮. ‬فهو إما جثة هامدة مشوّهة‮ ‬يٌسرق منها الحذاء او شاب خائف لا‮ ‬يتمكن من إطلاق النار على عدوّه الفرنسي‮ ‬فيُقتل في‮ ‬المقابل‮.‬
من جهة ثانية،‮ ‬نلاحظ أن أبطال أفلام الحرب‮ ‬دائما من الرجال‮. ‬المرأة،‮ ‬في‮ ‬حال وجودها او ظهورها،‮ ‬هي‮ ‬دوما إما صورة في‮ ‬محفظة الرجل او موجودة في‮ ‬ذاكرته ومخيّلته هو فقط‮. ‬فيلم جونيه بطلته إمرأة،‮ ‬يدور ويتمحور حول إمرأة تلعب الدور الأساسي‮ ‬فيه‮. ‬فهي‮ ‬تحرّك الأحداث،‮ ‬تسترجع الذكرى لتصبّها في‮ ‬حاضرها ومستقبلها‮.‬
وهنا‮ ‬يجدر الذكر بأن جونيه‮ ‬يمكن تصنيفه كجورج كيوكور وإنغمار برغمن من حيث إنه هو أيضا‮ »‬مخرج النساء‮«. ‬وما‮ ‬يٌسجّل له إنه تمكن في‮ »‬إميلي‮« ‬من خلق شخصية سينمائية‮ ‬قلمّا تمكن هذا الفن من إيجادها على‮ ‬غرار الأدب الروائي‮ ‬والمسرح‮. ‬ونراه في‮ »‬خطوبة‮ ...« ‬يعيد الكرة ويجعل من بطلته ماتيلد‮ (‬أودريه توتو‮) ‬شخصية لا‮ ‬يمكن نسيانها او تجاهلها فهي‮ ‬شاخصة وعائشة وراصخة أمام المشاهد أثناء العرض وبعده‮.‬
بالإضافة الى أن هناك التشابه الكبير ما بين شخصية إميلي‮ ‬وشخصية ماتيلد‮. ‬فما‮ ‬يجمعهما هو ذلك التأرجح ما بين الواقعية والفانتازيا‮. ‬وما لا‮ ‬يفرقهما هو ذلك العزم والإصرار على تغيير حياتهما وحياة الأخرين‮ (‬الأولى عبر الحلم والثانية عبر الذكرى وتخيّلها‮) ‬ويجب ملاحظة أن‮ »‬خطوبة طويلة جداً‮« ‬يعرض أحداثاً‮ ‬جرت ما بين العام‮ ‬1910‮ ‬و1920‮ ‬اي‮ ‬في‮ ‬حين كان الروائي‮ ‬الفرنسي‮ ‬الكبير مارسيل بروست ناشطاً‮ ‬على طريقته في‮ ‬البحث عن الزمن الضائع ولقائه والبطلة ماتيلد لا تستعرض وتستعيد ماضيها وذكرياتها فحسب،‮ ‬بل تعيشها وتستذكرها وتعيد بنائها في‮ ‬حاضرها‮.‬
تدور أحداث الفيلم حول فتاة في‮ ‬تمام العشرين من عمرها وُلدت في‮ ‬أول‮ ‬يوم من القرن العشرين تبحث عن خطيبها المفقود منذ سنة‮ ‬1917‮. ‬إنه مانيك‮ (‬غاسبار أولييل‮) ‬الذي‮ ‬حٌكم عليه بالإعدام مع أربعة مجنّدين آخرين لأنهم حاولوا التهرب من الخدمة كل بإطلاق النار على‮ ‬يده اليمنى‮ (‬تشويه ذاتي‮) ‬لكي‮ ‬لا‮ ‬يشترك في‮ ‬القتال‮. ‬فهل نُفّذ الإعدام بالخطيب او هل نجا من الحكم ولا‮ ‬يزال حيا؟ ونرى الفتاة تتحرى عن حبيبها وتسعى لمقابلة زملاء له ربما عرفوا شيئا عن مصيره وذلك في‮ ‬قالب تشويقي‮ ‬متين‮ ‬يتخطى كون الفيلم شريط حب او حرب‮. ‬فالأنواع الدرامية عند جونيه تختلط او تذوب ما بين التراجيدي‮ ‬والرومانسي‮ ‬والبوليسي‮ ‬والتاريخي‮ ‬مع لمسات لا تخلو من الكوميديا في‮ ‬أسلوب خلاب ومؤثر‮ ‬يتمايل ما بين الواقعية الفجة والخيال الشاعري‮ ‬المرهف‮. ‬فالروائية عنذ هذا المبدع هي‮ »‬قطعة حياة‮« ‬لا‮ ‬يحدها او‮ ‬يحصرها نوع‮.‬
وبما أن‮ »‬خطوبة‮....« ‬يعرض أحداثاً‮ ‬جرت أبان الحرب العالمية الأولى‮ ‬يتطرّق جونيه الى الوقائع ويمحورها ضمن الركائز القديمة للنظام الإجتماعي‮ ‬وهي‮ ‬الدين والحب والطب والقانون‮.‬

◊‮ ‬الدين‮ ‬◊
اللقطة الأولى من الفيلم هي‮ ‬لتمثال السيد المسيح على الصليب‮. ‬التمثال فقد جزءاً‮ ‬من منتصفه‮ ‬والصليب فقد أحد أطرافه‮. ‬في‮ ‬سياق الشريط نعلم أن كنيسة كانت قائمة ما بين الجبهة الفرنسية والجبهة الألمانية اي‮ ‬في‮ ‬الأرض المحايدة الفاصلة بين الجيشين والتي‮ ‬لا‮ ‬يملكها أحد‮ (‬منطقة حرام‮). ‬هذه الصورة الأولى وخلفيتها السماء الممطرة الملبّدة بالغيوم‮ ‬تضعنا في‮ ‬إطار المدلول على إنتهاك حرمة الدين وشرائعه‮. ‬من ثم‮ »‬تنزل‮« ‬كاميرا جونيه ببطء الى الأرض الموحلة او بالأحرى الى الخندق،‮ ‬خندق البشرية التي‮ ‬عزلت نفسها عن تعاليم‮ »‬المحبّة‮« ‬ووصية‮ »‬لا تقتل‮« ‬وذلك بعد أن تمر على جندي‮ ‬يولع سيغارته من القنديل المعلّق فوق الأسياج الشائكة ويعبيء رئتيه بسم الدخان وكأنه‮ ‬غير مبالي‮ ‬وهازيء من قوانين الأرض والسماء‮.‬
وتظهر الكنائس في‮ ‬الفيلم إما من خارجها او من على سطحها او من خلال بابها‮. ‬كاميرا جونيه لا تدخلها ولا تصوّرها من جوفها‮. ‬وعندما تتصل ماتيلد هاتفياً‮ ‬بالكاهن نرى هذا الأخير‮ ‬يخرج من الكنيسة الى الممر ليأخذ المكالمة قاطعاً‮ ‬تمارين الكورس على الأناشيد الدينية وكأن عمل الكاهن مقتصر على تلاوة الصلوات والغناء وليس على مساعدة رعاياه ومواطنيه روحياً‮ ‬وحياتيا مثلما‮ ‬يتضح في‮ »‬ردّّه‮« ‬على ماتيلد‮. ‬كما أننا نلاحظ أن هذه الأخيرة تردد دائماً‮ ‬كلمة‮ »‬المرحومين والديّ‮« ‬ feu mes paretns عوض أن تقول مثلاً‮ »‬رحمهما الله‮« ‬que Dieu ait leurs âmes ‮. ‬
ولا نراها تصلّي‮ ‬مرة واحدة او تتضرّع الى الله لتطلب منه أن‮ ‬يساعدها في‮ ‬إيجاد خطيبها حياً‮ ‬يُرزق‮. ‬عوض ذلك تلعب دوماً‮ ‬لعبة حظ صبيانية بقولها مثلاً‮ »‬إذا وصلت الى مفترق الطريق قبل السيارة فهذا‮ ‬يعني‮ ‬أن مانيك لا‮ ‬يزال حياً‮« ‬و»إذا أتى الكلب الى‮ ‬غرفتي‮ ‬قبل موعد العشاء إذاً‮ ‬خطيبي‮ ‬قد نجا‮« ‬الخ‮...‬
هذه الملاحظات تدعم قولنا سابقاً‮ ‬أن جونيه بقي‮ ‬فرنسيا في‮ ‬الصميم،‮ ‬فأدب القرن العشرين الأوروبي‮ ‬ومنذ الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثانية‮ ‬يدور بمعظمه حول‮ »‬سكوت الله‮« ‬او‮ »‬صمته‮«. ‬أي‮ ‬كيف‮ ‬يسمح سبحانه وتعالى وهو الخالق القادر بالحروب وبالمصائب التي‮ ‬تحل على البشر؟ بالطبع الجواب كان متفاوتاً‮ ‬بين الكتّاب والمفكرين الملحدين من جهة‮ (‬موقفهم او جوابهم أصلاً‮ ‬لا‮ ‬يحتاح الى تفسيرات وتعقيدات‮) ‬وبين الأدباء المؤمنين في‮ ‬جهة مقابلة والقائلين أن مشيئة الله وتدخلاته في‮ ‬حياة الناس تتجلى بأشكال متعددة وحكمة لا‮ ‬يحدها العقل البشري‮. ‬والله عند جونيه‮ ‬يتجلى بالرحمة والشفقة والرأفة والعطف والحنان اي‮ ‬بالحب الذي‮ ‬أنعم به عز وجل على عباده‮. ‬ففي‮ ‬أول لقاء للخطيبين عندما كانا طفلين مانيك‮ ‬يسأل ماتيلد العرجاء‮ »‬هل تشعرين بالوجع عندما تمشين؟‮«. ‬هذا السؤال ذاته‮ ‬يعود الشاب الفاقد الذاكرة في‮ ‬نهاية الفيلم الى طرحه من جديد في‮ ‬أول كلمة‮ ‬يتوجه بها الى هذه‮ »‬الغريبة‮« ‬التي‮ ‬أتت لزيارته‮. ‬فالحنان والعطف والشعور بآلام الآخر هو ما‮ ‬يحرك الخطيبين‮ ‬والمجتمعات التي‮ ‬هي‮ ‬علمانية أكثر‮ ‬مما هي‮ »‬روحانية‮« ‬او‮ »‬دينية‮«.‬


◊‮ ‬الحب‮ ‬◊
المجتمع الغربي‮ ‬المعاصر المادي‮ ‬والحر جنسيا فقد رونق الحب الذي‮ ‬لم‮ ‬يعد واقعياً‮ ‬بمفهومه او حتى أمراً‮ ‬يمكن تصديقه إذ أنه‮ ‬يرى في‮ ‬مجمله أن الحب،‮ ‬ضمن عدة أمور أخرى،‮ ‬هو أيضا قد مات الا في‮ ‬الخرافة وربما في‮ ‬الشعر‮. ‬وحتى في‮ ‬حال وجوده فهو لاهث وأمده قصير لا‮ ‬يعرف او‮ ‬يتعرف على الوفاء والإخلاص‮ (‬ومن هنا نرى أن العنوان‮ »‬خطوبة طويلة جداً‮« ‬له معانيه المبطّنة‮). ‬لذا‮ ‬يتضح أن مفاهيم الحب قد انقلبت وتغيّرت وفقدت من وقعها ومصداقيتها السابقة‮. ‬فقصص الحب أضحت تصنّف الآن بأنها رومانسية او ميلودرامية أي‮ ‬غير واقعية فعلا‮. ‬لكن جونيه‮ ‬يضع الحب تحت راية المأمول و»المحلوم‮« ‬اي‮ ‬في‮ ‬خانة الشعر مما‮ ‬يضفي‮ ‬على حالة الحب التي‮ ‬تحملها ماتيلد لمانيك طابعاً‮ ‬مصداقياً‮ ‬يتفاعل معه المشاهد ويعتبره مقبولاً‮ ‬منطقياً‮ ‬حتى في‮ ‬زمن لم‮ ‬يعد‮ ‬يؤمن بوجود الحب‮. ‬وماتيلد لا نراها تبكي‮ ‬كغيرها من المتيّمات في‮ ‬السينما والأدب،‮ ‬بل المرة الوحيدة التي‮ ‬تذرف الدمع بها ليست عندما‮ ‬يزفون لها الخبر الكاذب بأن مانيك قد قضى ومات بل عندما تتأكد بأن مانيك لا‮ ‬يزال حياً‮ ‬يرزق‮. ‬فالأمل والإصرار على تصديق الحلم هو ما‮ ‬يحركها،‮ ‬وبهذه الطريقة تبعث حبيبها حياً‮ ‬حتى وإن كان بالفعل قد توفّى‮.‬
وبما أنه قيل الكثير عن بعض‮ »‬الثغرات‮« ‬في‮ ‬السيناريو مثل فارق السن بين ماتيلد ومانيك،‮ ‬فهي‮ ‬تصغره،‮ ‬كما‮ ‬يتكرر في‮ ‬الفيلم،‮ ‬بسنة واحدة وقد وُلدت في‮ ‬أول‮ ‬يوم من أول شهر من العام‮ ‬1900‮ (‬تفصيل درامي‮ ‬روائي‮). ‬لكن‮ ‬يرد لاحقاً‮ ‬في‮ ‬الفيلم بأنه عندما جُنّد سنة‮ ‬1917‮ ‬كان‮ ‬ينقصه خمسة أشهر ليصبح في‮ ‬العشرين مما‮ ‬يجعله أكبر سناً‮ ‬من ماتيلد بثلاث سنوات وليس بسنة واحدة‮ (‬في‮ ‬الحوار‮ »‬الصائب‮« ‬لغيوم لوران عندما تقف ماتيلد على قبر مانيك المزعوم تقول له‮: »‬عندما كنت حياً‮ ‬كنت أكبر مني‮ ‬بسنة واحدة اما اليوم للأسف فأنا أكبر منك بكثير‮«). ‬لكنني‮ ‬أعتقد أن هذا الخطأ المفترض والجلي‮ ‬والواضح هو مقصود أي‮ ‬بأن كل هذا ربما هو إختلاق مخيلة مراهقة تريد أن تضفي‮ ‬بعض اللمسات الحلمية على علاقة ربما هي‮ ‬أيضا كانت وهمية او‮ ‬غير دقيقة‮. ‬مثلما هي‮ ‬المصابة بالشلل في‮ ‬ساقها تتمكن من الركض مسافة طويلة لتلحق بالسيارة قبل أن تصل الى مفترق الطريق لأنه بهذا‮ ‬يثبت أن خطيبها لا‮ ‬يزال على قيد الحياة‮.‬
كما إنه من الممكن أن تكون ماتيلد مثل تلك الأم التي‮ ‬فقدت إبنها في‮ ‬الحرب و»تستبدله‮« ‬بمانيك الفاقد لذاكرته‮. ‬فتلك السيدة تعرف تماماً‮ ‬بأن هذا الشاب ليس إبنها لكنها تقول للسلطات إنه هو وتعامله على هذا الأساس حتى آخر‮ ‬يوم من حياتها‮.‬
ربما أيضاً‮ ‬أن القدرس‮ (‬طائر الألباتروس‮) ‬في‮ »‬خطوبة‮...« ‬الذي‮ ‬يُعاوَد ذكره مراراً‮ ‬كإسم للطائرة الحربية الألمانية وكأحد طيور البحر الضخمة العنيدة والمثابرة التي‮ ‬حكى عنها الشاعر العملاق شارل بودلير كـ‮ »‬رفيق سفر بليد‮ ‬يتبع السفن المنزلقة فوق الهاويات المرة‮« ‬كما‮ ‬يتلو سيلستين بو‮ (‬ألبير دودونثل‮) ‬الذي‮ ‬يتغاضى ربما عمداً‮ (‬أيضاَ‮) ‬عن ذكر آخر القصيدة التي‮ ‬يرد فيها بأن الشاعر هو شبيه هذا الطير الذي‮ ‬يتحدى العواصف والمخاطر والذي‮ ‬يعرج‮ (‬مثل ماتيدا‮) ‬لأن أجنحته العملاقة تمنعه من المشي‮ (‬أسلوب الكسوف او طريقة الحجب اي‮ ‬التعمد في‮ ‬عدم تقديم كل التفاصيل في‮ ‬الفن الروائي‮ ‬الحديث‮ ‬يدفع القاريء او المشاهد الى المساهمة الأكثر فاعلية في‮ ‬عملية الخلق إذ‮ ‬يجعل من المتلقي‮ ‬شريكا للمؤلف في‮ ‬تكوين الأحداث والأجواء وتصوّر الشخصيات‮).‬
من جهة أخرى‮ ‬يتطرق جونيه الى عدة أنواع من الحب‮. ‬فبالإضافة الى حب ماتيلد ومانيك اللذان‮ ‬يحفران دائما‮ »‬ثلاث مرات حرف‮ ‬M‮ ‬على الشجر والأجراس وغيرها للتأكيد على حبهما المتبادل وكأنهما‮ ‬يريدان تثبيته وترسيخه وتسجيله في‮ ‬ذاكرة الأشياء،‮ ‬هناك أيضاً‮ ‬مثلث‮ (‬موضة معاصرة‮) ‬إيلودي‮ ‬غورد‮ (‬النجمة الأميركية جودي‮ ‬فوستر‮) ‬وزوجها‮ (‬جان بير داروسين‮) ‬وصديقه باستوش‮ (‬جيروم كيرشر‮) ‬كذلك العلاقة المميزة التي‮ ‬تربط بين الكورسيكي‮ ‬أنجل باسينبانو‮ (‬دومونيك بتنفلد‮) ‬بالمومس تينا لومباردي‮ (‬ماريون كونيار‮). ‬هذه الأخيرة‮ ‬يحركها الإنتقام من الذين تسببوا بموت عشيقها‮. ‬حبها شغف‮ ‬يتداخل‮ ‬فيه القتل والعنف بينما حب ماتيلد هو مغاير كليا لا‮ ‬يعرف العنف‮ (‬المرة الوحيدة التي‮ ‬تلجأ الى العنف عندما تصفع سيلسيتين بو الذي‮ ‬لم تكن له أي‮ ‬علاقة سلبية بما جرى لحبيبها لكنه حاول بكلامه قتل الأمل فيها لا أكثر ولا أقل‮). ‬حبها لا‮ ‬يعرف او‮ ‬يتعرّف على الموت‮ (‬النهاية‮) ‬لأنه الحياة‭ ‬‮(‬البداية والإستمرار‮). ‬كما أن حب مانيك لا‮ ‬يختلف فهو بدوره‮ ‬يرفض الموت والقتل‮. ‬يقول‮: »‬سأعود الى‭ ‬قريتي‮ ‬وحبيبتي‮ ‬بعد تنفيذ الإعدام فيّ‮«. ‬وهو‮ ‬يتطلع الى اليد التي‮ ‬تسبب في‮ ‬عطبها رافضاَ‮ ‬استعمالها للقتل خصوصاً‮ ‬وأن هذه اليد عرفت الحب من قبل إذ كان وضعها على صدر خطيبته بعد أن طارحها الغرام أول مرة‮: »‬إنني‮ ‬أسمع قلب ماتيلد‮ ‬ينبض في‮ ‬راحة‮ ‬يدي‮«. ‬حتى بعد أن فقد أصبعين من أصابع‮ ‬يده المجروحة التي‮ ‬لا تزال مهددة بالغرغرينا والبتر‮.‬

◊‮ ‬الطب‮ ‬◊‮ ‬
ماتيلد مصابة بالشلل في‮ ‬أحد ساقيها لكن لا الطب الشعبي‮ (‬لصقات خردل وشعوذات و»كأس من النبيذ‮ ‬يومياً‮ ‬يبعد الطبيب نهائياَ‮«)‬‭ ‬ولا العلمي‮ (‬علاج الأعضاء بالتدليك او الأدوية‮) ‬يساعدها‮. ‬هنا أيضا الإنسان معزول ووحيد مع آلامه وإذا كان الدين‮ ‬يهتم بخلاص الروح فالطب المهتم برفاهة الجسد والعقل كان عاجزاً‮ ‬أكثر من أيامنا هذه عن تخفيف الآلام او تقديم العلاج لجرحى الحرب او للمصابين بالعاهات الناتجة عن الأمراض الجسدية او النفسية‮ (‬فقدان الذاكرة او الجنون عند مانيك‮). ‬فالمضادات كالبنسلين‮ (‬1928‮) ‬وغيرها لم تكن متوفرة بعد كما أن الطب النفسي‮ ‬لم‮ ‬يكن متطوّراً‮ ‬مثل اليوم او مطبّقاً‮ ‬على الرغم من أن فرويد كان قد بدأ نشاطاته ونشر أكثرية مؤلفاته‮. ‬
وبما أننا نذكر فرويد فيجب أيضا أن نذكر الجنس حيث أن ماتيلد لا تظهر عارية على الشاشة عندما تطارح مانيك الحب‮. ‬لكن جونيه‮ ‬يظهر بطلته عارية أمام الممرض المدّلك الذي‮ ‬تحلم الشابة بأنه‮ ‬يشتهيها وتتصوّره في‮ ‬خلوتها‮. ‬هذه التعرية أمام الطب ما هي‮ ‬الا الإعتراف بأهمية الرغبة الجنسية ودورها في‮ ‬حياة البشر وهو علمياً‮ ‬أمر طبيعي‮ ‬أي‮ ‬غير مبتذل او لا أخلاقي‮ ‬خاصة إنه‮ ‬يبقى ضمن المتخيّل وأن ماتيلد القروية الطيّبة‮ ‬ينتابها الشعور بالذنب والخجل والندم لأنها تشعر بهكذا رغبة نحو رجل ليس خطيبها‮. ‬هي‮ ‬تريد بإصرار أن تبقى وفية لخطيبها سواء أكان في‮ ‬الذكرى او المخيّلة او حتى في‮ ‬الباطن‮.‬
والتكلم عن الطب او العلم وانعكاساته على الحياة الإجتماعية لا‮ ‬يكون مكتملاً‮ ‬إذا لم نتطرق الى الأخلاقية التي‮ ‬تحركه‮. ‬ففي‮ »‬خطوبة‮...« ‬يظهر الطبيب وكأنه الوحيد من بين جميع‮ »‬المسؤولين‮« (‬أي‮ ‬الذين‮ ‬يلعبون دوراً‮ ‬في‮ ‬حياة الناس‮) ‬الذي‮ ‬يتعاطف مع الآخرين ويعاملهم بإنسانية‮. ‬فهو‮ ‬يعرف أن بينوا نوتردام‮ (‬كلوفيس لورنياك‮) ‬ومانيك هما من‮ »‬المتهربين‮« ‬من الخدمة وبالتالي‮ »‬محكومين‮« ‬وذلك بفضل‮ ‬يديهما المجروحتين لكنه‮ ‬يعالجهما دون أن‮ ‬يفضح أمرهما‮. ‬همّه أن‮ ‬ينقذ مرضاه وأن‮ ‬يخفف من آلامهم ضمن الإمكانات المتوفرة لديه‮. ‬في‮ ‬حين أن الشرائع المعمول بها والتي‮ ‬تطبّق على المجتمع خاصة أبان الحروب تدفع بالمواطنين نحو العذاب والموت‮. ‬كما إنه‮ ‬يمكن إعتبار عدم تسليم الطبيب مريضيه المحكومين الى السلطات بأنه‮ »‬تفهم‮« ‬لخصوصيات البشر وظروفهم‮. ‬فالناس لا تتصرف جميعها بنفس الطريقة إذ لها‮ »‬نفسيات‮« ‬مختلفة وأسباب تحرك هذا الفرد بإتجاه مغاير عن سواه‮.‬

◊‮ ‬القانون‮ ‬◊‮ ‬
منذ الدقائق الأولى من الفيلم،‮ ‬أي‮ ‬عند تعرّفنا الى الرجال الخمسة الذين حُكم عليهم بالإعدام،‮ ‬نرى كيف أن هؤلاء سُلخوا قسراً‮ ‬عن بيوتهم وحياتهم الخاصة ليجنّدوا ويُبعث بهم الى الجبهة للقتال‮. ‬أصبحوا أرقاماً‮- ‬كما‮ ‬يعدد صوت راوية الفيلم‮- ‬بفعل قانون جرّدهم من هوياتهم ليصيروا لا مجرّد جنود فحسب،‮ ‬بل حاملي‮ ‬بنادق‮ ‬ينصاعون عنوة لأوامر عسكرية تعسّفية تطبّق بصرامة‮. ‬ومن أجمل لقطات او مشاهد الفيلم هو عندما‮ ‬يأتي‮ ‬العسكر لأخذ المزارع نوتردام الى الجندية دون سابق إنذار فيقوى الريح فجأة بإتجاه عربته والى جانبه زوجته وطفله فيحني‮ ‬السنابل المتموّجة المزروعة على جانبي‮ ‬الطريق وكأنما هبّت عاصفة مباغتة أتت لتقصف وتطيح أبضاً‮ ‬برؤوس الناس العاديين وتقتلعهم من حياتهم الهادئة‮.‬
وكما‮ ‬يقول الفرنسيون‮ »‬القانون هو القانون‮« ‬أي‮ ‬إنه‮ ‬يجب تنفيذه والإنصياع له مهما كان جائراً‮ (‬فبدون‮ »‬نظام‮« ‬يتفتت المجتمع‮). ‬هذا بالطبع أمر مقبول خاصة في‮ ‬الأيام‮ ‬غير الطبيعية‮ (‬الحرب‮) ‬عندما‮ ‬يكون‮ »‬القانون فوق الجميع‮« ‬ويطبّق على الجميع‮. ‬لكن جونيه‮ ‬يرينا أن أول من‮ ‬يضرب بهذا القانون عرض الحائط ويستخف به هم القيّمون عليه‮. ‬فالضباط الكبار في‮ »‬خطوبة طويلة جداً‮« ‬لا‮ ‬ينفّذون أوامر رؤسائهم ويتجاهلونها‮. ‬وعندما‮ ‬يأتي‮ ‬العفو من الرئيس بوانكاريه عن الخمسة محكومين تُمزَّق الورقة او‮ ‬يوضع خطاب الأوامر في‮ ‬الماء لمحو الكلمات المكتوبة‮. ‬هذا الإستهتار بالقانون وبحياة الناس‮ ‬يشدد عليه جونيه بتصويره الضابط الذي‮ ‬يقتله نوتردام‮. ‬فهذا الضابط‮ ‬يركل جثث جنوده ويحثهم على القيام والقتال‮. ‬إنهم جُنِّدوا لكي‮ ‬يقاتلوا ليس الا إذ ليس بالمسموح الموت او العيش الا بأوامره وحسب نزواته‮. ‬أي‮ ‬أن القانون هنا هو ليس لحماية البشر والدفاع عن حقوقهم وحرياتهم‮. ‬أنه قانون وُضع للموت وليس للحياة الحرة الكريمة‮. ‬قانون‮ ‬يفصّل أين وكيف ومتى‮ ‬يموت المرء وليس بأي‮ ‬طريقة‮ ‬يعيش‮. ‬قانون‮ ‬غير عادل‮ ‬يركّز على الواجبات ولا‮ ‬يعتبر او‮ ‬يحترم حقوق الإنسان‮. ‬وهو بعيد كل البعد عن قواعد ومفاهيم‮ »‬الجمهورية‮« ‬الا وهي‮ »‬الحرية،‮ ‬المساواة،‮ ‬الأخوّة‮«.‬
وماتيلد لا تلجأ،‮ ‬حتى بعد الحرب والأحكام العرفية،‮ ‬الى القانون او لمؤسسات الدولة في‮ ‬بحثها عن مصير خطيبها‮. ‬إذ نراها تستعين ليس بالبوليس مثلاً،‮ ‬بل بالتحري‮ ‬الخاص جيرمين بيير‮ (‬تيكي‮ ‬هولفادو‮) ‬وبمحاميها بياري‮ ‬ماري‮ ‬روفيير‮ (‬أندريه دوسولييه‮) ‬الذي‮ ‬تتلاعب عليه وعن طريقه تتمكن من‮ »‬سرقة‮« ‬بعض المستندات المصنّفة سرية لدى الجيش والدولة‮.‬
‮»‬خطوبة طويلة جداً‮« ‬هو فيلم ممتع ومتين‮. ‬ذكي‮ ‬وغني‮ ‬في‮ ‬تفاصيله التي‮ ‬يمكن قراءتها على عدة مستويات بالإضافة الى كونه مشوّقاً‮ ‬وصادقاً‭ ‬في‮ ‬إنسانيّته‮. ‬فهو عمل ممتاز متقن سردياً‮ ‬وتقنيا وجمالياً‮ ‬مبني‮ ‬كأحجوجة سلسلة عناصرها محلكة بحس درامي‮ ‬شعري‮ ‬ناتج عن وجهات نظر متعددة لشخصيات نابضة بالحياة‮. ‬متأصلة في‮ ‬ماضيها وحاضرها ساعدتها إدارة ممثلين عميقة،‮ ‬رقيقة ونافذة‮ (‬أودري‮ ‬توتو كعادتها رائعة ومرهفة في‮ ‬دور ماتيلد وكذلك‮ ‬غاسبار أولييل وغيرهما‮). ‬ومشاهد الفلاشباك الكثيرة ليست مقتصرة على البطلة فقط،‮ ‬بل تعيشها عدة شخصيات وتنساب وتتداخل بشكل فاعل كقطع صغيرة ملوّنة لتشكل اللوحة النهائية‮ (‬فسيفساء‮) ‬للحقيقة المطعّمة بالخيال‮.‬


عشرون سنة ذهبية
(1980-1960)
محمد رُضا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
The Conversation | المحادثة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


إخراج: فرنسيس فورد كوبولا
تشويق، دراما - 1974
الأهمية: مُطلقة
ذات مرّة، ما بين مشاهدتي لفيلمي جيمس بوند »ثندربول« و»أنت تعيش مرّتين فقط« أذاع راديو بي بي سي
تقريراً عن آخر البدع التجسسية. كونها الستينات والحرب الباردة ومغامرات جيمس بوند فإن التقرير كان في وقته وتحدّث، عن مصادر علمية، عن بعض الإبتكارات للتنصت سمعاً وبصراً على الغير. أذكر إبتكاراً قال أن العلماء توصّلوا إليه وهو جهاز هاتف يعمل ككل جهاز مماثل حين تتصل برقم ما، لكن الهاتف الذي تتصل به سوف لن يرن، وعلى ذلك لن يرفع أحد السمّاعة. ما سيحدث هو أن المتصِل سيستطيع الإستماع الى ما يتم تداوله من حديث في مكان المتّصَل به٠
في فيلم فرنسيس فورد كوبولا، وفي مشهد لمعرض أجهزة التجسس، يروّج بائع لهاتف مماثل في فيلم يعتمد على تصوير حياة محترف تجسس وتنصّت لصالح من يدفع وهو يستخدم أدوات متعددة تتيح له تسجيل الحوار الدائر صوت وصورة من دون أن يعلم أحد. في عالم كعالمنا اليوم لا يزال الموضوع الذي كتبه وحققه الرائع كوبولا مطروحاً بامتياز ولا يزال الفيلم شابّاً بالمقارنة يتحدّث عن حالات الإنسان اليوم كما الأمس٠
جين هاكمان هو ذلك الواحد. وهذا أفضل دور لعبه في حياته رغم أن يستسلم قليلاً للخروج من الشخصية صوب شخصيّته المعهودة من حين لآخر. مطلوب منه أن يسترق السمع على رجل وإمرأة في الحب يتمشيّان في ساحة من ساحات مدينة سان فرانسيسكو وذلك لقاء 20 ألف دولار. محترف مثله لن يرض تقديم نتيجة تقنياً رديئة وهو مهتم بعمله على هذا الوجه٠ هذا الى أن يبدأ عالمه الداخلي (ذلك الذي بين رأسه وصدره) بالإهتزاز ويكتشف أنه هو نفسه غير آمن من تنصّت الآخرين عليه، ويدرك أن عمله إنما يؤذي أناساً عاديين يستحقون الحياة
المشهد الأول من الفيلم الكاميرا تهبط ببطء شديد على ساحة المدينة. الماثل أمامنا حركة عادية لأناس يمشون وآخرون يجلسون ويلعبون وكلب عابر وكل شيء طبيعي. لكن هناك شيء ما خطأ في الصورة. وهناك صوت تقني يتدخل في حوار قائم (بين الرجل والمرأة: فردريك فورست وسيندي وليامز)٠
المشهد الأخير نحن محصورين مع هاري (هاكمان) في شقّته. يبحث في أرجائها عن جهاز تنصّت. يبدأ بهاتفه وبالثريا المتدلّية من سقف الشقّة، ثم ينتهي وقد خلع ألواح الخشب في أرضية الشقّة ونقّب في الجدران. وها هو بعدما فشل في إيجاد ما يبحث عنه يلجأ الى آلة الساكسفون يعزف عليها لحنه الحزين لحياته الحزينة٠
جين هاكمان لا يخرج من جلدة الشخصية الا مرّتين او ثلاثة ينتقل بها الى حركاته الصغيرة في أي فيلم. لا بأس. الجهد الذي يبذله هنا لتشخيص الدور ثابت وتلك المشاهد التي تتبدّى له الحقائق ويجد فيها نفسه وقد تحوّل الى ريشة تتلاعب بها رياح خفية تبقى في البال٠ رجل لا يستطيع أن يحب. لا يثق بأحد ولا يقدر على أن يعيش كما البشر. حين يحاول أن يهتم يكاد يغرق. حين يقفل الباب على نفسه فإن أحداً لا يستطيع سماع صوت استغاثته. حتي هو٠
لجانب تمثيل هاكمان الجيد، ومعه جون غازال وروبرت دوڤال اللذان ظهراً أيضاً في »العرّاب«، فإن من حسنات الفيلم المتعددة الصوت والمونتاج الصوتي٠ حين تشاهده »استرق« السمع اليهما. فيلم عن هذا الموضوع لا يمكن أن يتم من دون إتقان عملية التوليف الصوتي والمؤثرات الصوتية على أفضل وجه ممكن. لكن الفيلم بحد ذاته فريد وممتع وتشويقي هاديء والمخرج يسيطر على أدواته كما لا يفعل سوى كبار المخرجين٠
.....................................................................................................
Young Cassidy

إخراج: جاك كاردِف
سيرة حياة، دراما - 1965

الأهمية: إذا كنت مهتماً بجون فورد و/أو سير حياة الشاعر الأيرلندي٠


كان من المفترض أن يخرج الفيلم جون فورد هذا الفيلم عن حياة الشاعر الأيرلندي جون كاسيدي ، أولاً لأنه جون فورد وثانياً لأنه سبق له وأن تحدّث عن أيرلندا (أصله) في أفلامه الأميركية كما في بعض الأفلام التي عاد من أجلها الى وطن أسرته ليصوّرها هناك ٠ لكن بعد أسبوعين من بدء التصوير او نحوهما، مرض المخرج فتم تسليم العملية الى جاك كارديف الذي أكمل الفيلم. معظم ما صوّره جون فورد موجود في الدقائق الخمسة عشر الأولى، وهي تقريباً أفضل مما في الفيلم لناحية معالجتها للزمان والمكان٠ بعد ذلك، هي طريق غير متوازنة بالنسبة لكارديف مدير التصوير البريطاني الذي أنجز نحو خمسة عشر فيلماً كمخرج لكن ليس من بينها ذلك الفيلم الكلاسيكي العريق (بينما في تصويره أكثر من مثل لمدير تصوير فذ)٠
رود تايلور وضع نفسه محل المسرحي شون كايسي (1880- 1964) في هذا الإقتباس المباشر عن سيرة وضعها شون بنفسه والفيلم ينتخب خطّين متلازمين إذ يتحدّث عن نضال الكاتب السياسي لأجل استقلال أيرلندا من ناحية ووقوعه في حب موظفة المكتبة (ماغي سميث) من ناحية أخرى وصولاً الى كيف توصّل الى أن يصبح كاتباً مسرحياً مرموقاً بعد بداية أثار فيها العديد من الإنتقاد والهجوم سواء بسبب مواضيعها او بسبب حواراتها التي اعتبرت بذيئة٠
رود تايلور لعب الدور جيّداً والتفاصيل الحياتية في مطلع القرن الماضي مرصودة جيّداً . المرء يتمنّى لو أن ذات الرعاية تسللت الى معالجة الفيلم الدرامية حيث تأتي المسألة السياسية كما لو كانت دخيلة رغم أنها أساسية وذلك بسبب أنها لا تتبدّى عاملاً أساسياً في تكوين شخصية الكاتب النفسية والسياسية على نحو صحيح. عوامل أخرى في هذا الفيلم جعلته مع الأيام منسياً من بينها نقد الكتّاب الذين عاصروا الكاتب الذي مات قبل أن يرى الفيلم٠
.....................................................................................................
The Alamo

إخراج: جون واين
وسترن/ واقعة تاريخية - 1960
الأهمية: 1 : أول فيلم من إخراج الممثل جون واين. 2: لسنوات شكّل حجر أساس لقراءة التاريخ الأميركي من وجهة نظر يمينية٠

حين شاهدت هذا الفيلم للمرّة الأولى بعد خمسة عشر سنة على إنتاجه (وبالسينما سكوت الحقيقي) وكان ذلك في باريس، وجدت نفسي منجذباً إليه بسبب حسن إخراج واين لمشاهد المعارك وبسبب الأحداث التي لم أكن -آنذاك- أعلم عنها الكثير: قلعة ألامو في تكساس كانت ملاذ الأميركيين المعادين للقوات المكسيكية المحتلة لتكساس قبل أن تتحر بالفعل وتصبح ولاية وُلد فيها -من بين من وُلد- جورج و. بوش٠ اليوم أعرف أكثر عن الفيلم ذاته بعدما التقطّه على ديسك٠ ما بين المرّتين الأولى والثانية شاهدت المزيد من أفلام اليميني المحافظ جون واين الذي كان »ألامو« أول أفلامه مخرجاً ليتبعه بفيلم ثان وأخير هو »القبّعات الخضر« او
The Green Berets
ألامو ليس فيلماً يمينياً غبياً. كان واين، الذي عمل تحت إدارة جون فورد طويلاً، ينتظر الفرصة لكي يقدّم فيلماً من إخراجه. و»ألامو« كان تلك الفرصة: بضع عشرات من الأميركيين البيض (ورجل أسود واحد لعبه ممثل مات سنة 2000 عن 98 سنة ونحو خمسين فيلماً أسمه جستر هيرستون) يقاومون جيشاً من نحو سبعة آلاف جندي مكسيكي مصمم على إحتلال القلعة ودحر المقاومين٠ جون واين ورتشارد ويدمارك ولورنس هارڤي و(إبن جون) باتريك واين كلهم لعبوا شخصيات حقيقية في التاريخ مقررين البقاء في القلعة والدفاع عنها حتى الموت رغم أن فرصة البقاء على قيد الحياة عُرضت عليهم. حين يبدأ الجيش المكسيكي بضرب القلعة بمن فيها يتصّدى التكساسيون في بطولات نادرة ويردّون الجيش المكسيكي أكثر من مرّة قبل أن يبدأ الإنهيار ويموت الجميع واحداً تلو الآخر٠
تأثير جون فورد واضح من خلال معالجتي واين الدرامية وإخراج مشاهد المعارك لكن الفيلم يؤخذ كمثال على القراءة الأميركية اليمينية المحافظة للتاريخ والوطنية٠ هناك مشهد لرتشارد ويدمارك المصاب والذي يمنح الحريّة لعبده الأسود. يعتقه حرّاً. لكن العبد الشهم يرفض أن يتخلّى عن صاحبه ويموتان معاً تحت وابل رصاص المكسيكيين٠


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2008٠