عمر للفلسطيني هاني أبو أسعد | The Last of the Unjust


Year 5/ Issue: 158
***   عُـمر لهاني أبو أسعد


السؤال الصعب حول حق الحياة وتفضيل ذلك على الموت يتبدّى كذلك في فيلم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد (تم تقديم الفيلم رسمياً على أساس أنه اشتراك فلسطيني في مسابقة «نظرة ما»). بطله (أدام بكري) شاب في الحب وحبيبته هي ناديا (ليم لُـبّـاني) شقيقة صديقه المقرّب طارق (إياد حوراني). صديق آخر هو أمجد (سامر بشارات) والثلاثة يخططون لقتل جندي إسرائيلي… في قرى فلسطين المحتلّـة تستطيع أن تتظاهر وسيتعرّض لك الأمن الإسرائيلي بقسوة. أن تظهر حنقك وغضبك حيال المعاملة غير الإنسانية وسيهدوك منها المزيد، لكن أن تقتل جندياً إسرائيلياً فهذه هي الجريمة التي لن يغفر لها الإسرائيليون وسوف يلاحقونك للقبر كما يقول له ضابط الإستخبارات الذي يجيد الحديث باللكنة الفلسطينية لدرجة أنه يوهم عمر بأنه فلسطيني مثله (وليد زعيتر الذي هو منتج الفيلم أيضاً).
يبدأ الفيلم بالجدار المنتصب عالياً ومهارة عمر في تسلّـقه للطرف الثاني من الأرض، ولو أن رصاص الجنود سيتطاير ما سيعيده سريعاً إلى حيث أتى. بعد ذلك هناك الدورية التي توقفه وتزدريه ثم تطلب منه الوقوف على حجر ويديه فوق رأسه. أفراد الدورية يتسامرون وهو لا يستطيع أن يتحمّـل. ينزل عن الحجر ويعود فيبادره جندي بضربه بكعب بندقيّـته: "الآن إذهب وقف على قدم واحدة فوق ذلك الحجر"
هنا يكون المخرج أبو أسعد نجح في شحن الموقف عاطفياً وجلب الجمهور لصف بطله. شحن يعتمد على المشاعر الجاهزة بلا ريب لكن كل ذلك سيتعمّـق حين يمضي الفيلم في سرد ما يلاقيه عمر في سعيه للوصول لمن يحب. فبعد قتل الجنود يمسك به أفراد الجيش ويسلّمونه للمحققين الذين يعذّبونه ثم يستقبله الضابط رامي الذي يخيّـره: السجن أو العمالة.  يطلق سراحه على أساس شهر من التجربة عليه فيها المساعدة في تسليم القاتل. الضابط يعتقد أن طارق هو الفاعل لكن أمجد هو من أطلق النار. ووضع عمر دقيق حتى حيال صاحبيه وحيال حبيته. هذا الوضع الدقيق يبلور- لجانب سقوطه ضحية الإستخبارات- وضعاً متعدد الجوانب وأكثر تعقيداً. ومهارة المخرج أبو أسعد هي أنه عرف كيف يتعامل مع كل الجوانب من دون خطابات أو سياسات مباشرة ويمنحها جميعاً صوتها المألوف لكي تصف به مصالحها المتناقضة.
كما الحال في «الجنة الآن»، فيلمه السابق الذي أوصله إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية، فإن الموضوع هنا هو تردد فلسطيني في لعب الدور الذي يُـفرض عليه. في الفيلم السابق كان على بطله أن يقوم بتفجير إنتحاري لصالح الفلسطينيين (لكن ليس لصالح فلسطين) لكنه يمتنع. هنا عليه أن يقوم بالتجسس على الفلسطينيين لكنه يمتنع. الجانب العاطفي يلعب دوراً كبيراً (لا ضرورة للإفصاح عن طبيعته هنا) يؤدي إلى النهاية المتفجّـرة التي يخلص إليها الفيلم. 

The Last of the Unjust **


لا يعرف المخرج الفرنسي كلود لانزمان معنى الإيجاز. فيلمه «شواه» (1985) تألّـف من تسع ساعات ونصف (هناك نسخة من ثماني ساعات ونصف أيضاً) تاركاً أكثر من تجسيد لذكرى الناجين من الهولوكوست: قدر كبير من الملل. الفيلم الجديد يقترب من أربع ساعات،  وموضوعه مقابلة أجراها المخرج مع بنجامين مورملستين الذي وثّـق العديد من تاريخ التجربة اليهودية المرّة مع النازية. فيلم وثائقي مصنوع بغاية إبقاء الذاكرة حيّـة بصرف النظر عن أن العالم اتجه سياسياً وثقافياً في دروب مختلفة بحيث تبدو تجربة «الهولوكوست» على هولها، واحدة من الكوارث الإنسانية الكبيرة التي سبقت الحرب العالمية الثانية أو تبعتها (يكفي ذكر مذابح ستالين لقومه مثلاً) أو حتى واكبتها.
الموضوع في فيلمه الجديد  «آخر اللإ إنصاف» مثير للإهتمام من الناحية الرصدية وحدها: بنجامين مورملستين هو آخر اليهود الأحياء الذين قام النازيون بتعيينهم كمشرفين على المعسكرات التي خصصت لليهود. منطقته كانت تشيكوسلوفاكيا (عندما كانت دولة واحدة قبل إنفصال سلمي أدى إلى خلق دولتين هماج    جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا). المقابلة المصوّرة قام بها لانزمان سنة 1975 وعودته إليها هي نوع من النبش أكثر مما هي حاجة المشاهد لفيلم آخر عن الهولوكوست. رغم ذلك يفتح الفيلم العين على رجل سجّـل في البال كما في الوثائق أهوال ما عايشه من حالات وأوضاع. لكن لا شيء في الفيلم هو أكثر إثارة للحديث من حقيقة أن مورملستين يبقى متعاوناً مع النازية سواء أكان يهودياً أم لا، أو كان مجبراً على ذلك أو قبل لأجل البقاء حيّـاً. هذه الحقيقة لا يمر عليها الفيلم سريعاً، وهي ليست مطروحة اليوم فقط، بل سبق طرحها من قـِـبل مؤرخين يهود (بينهم غرشوم شولم) الذي حكموا على مورملستين بأنه مذنب وبل طالبوا بأن يتم شنقه. 
فيلم لانزمان لا يستطيع إلا وأن يفتح باب النقاش مجدداً حول هذه النقطة: هل رغبة البقاء حيّـاً في أزمة كتلك التي عصفت بملايين الناس خلال الحرب العالمية الثانية هي جريمة بحد ذاتها أو حق من حقوقه؟ هل كان عليه أن يمتنع عن إدارة المعسكر وما كان يحدث فيه من قتل ويرضى بأن يدفع حياته ثمناً لامتناعه أو أن يستجيب؟
لا ريب أن السؤال ليس سهلاً والإجابة عليه أصعب من ذلك. بالتأكيد ما رواه مورملستين أمام الكاميرا كان مؤلماً له اليوم كما كان مؤلماً له بالأمس.  
الفيلم في ساعاته الأربعة ليس عملاً فنيّـاً، بل هو أقرب إلى أطروحة تاريخية من الصعب أن تجد جمهوراً لها خارج المعنيين أساساً بالموضوع. هناك أسئلة ذكية، وإجابات لا تقل عنها ذكاءاً. حين سأل لانزمان محدّثه: "كيف تستطيع أن تتحدّث في هذا الموضوع من دون أن يبدو عليك التأثر؟" أجابه محدّثه: "لو أن الجرّاح يبكي فوق المريض على طاولة العمليات لقتله". هناك استخدام جيّـد للوثائق، لكن لا شيء في أربع ساعات لم يكن من الممكن تلخيصه إلى ساعتين أو حتى أقل.  طبعاً، كون الفيلم معد بتوليف جديد بهدف التوزيع هذا العام فإن الكثير من المشاهدين سيتساءلون ليس بالضرورة عن جدواه (بعد عشرات الأفلام التي بحثت في هذا الموضوع على نحو أو آخر) بل عن إبتعاده عن طرح الحاضر حول ما يحدث في فلسطين. 
الحقيقة هو أن ما يحدث في فلسطين يبقى فعلاً منفصلاً. لا يمكن لوم هذا الفيلم لعدم ولوج الدرب الفلسطيني أو كونه تخصص في الأزمة الفكرية والعاطفية التي يعاني منها لانزمان وتدفعه لتحقيق أفلام تتبلور دائماً حول الموضوع ذاته. لانزمان ليس مطالباً بذلك (إلا لو أراد) واعتبار هذا من سلبيات الفيلم هو تماماً كالتساؤل حول السبب في أن فيلم «زيرو دارك ثيرتي» لم يخصص حديثه لسرد حياة أسامة بن لادن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أفلام مهرجان كان- المجموعة الثانية


Year 5/ Issue: 158
**   Young and Beautiful

فرنسوا أوزون الذي لا يحرج بطلته

أول فيلم شوهد من أعمال المسابقة هو الفرنسي «جميلة وشابّـة» الذي هو من إخراج السينمائي الفرنسي المنطلق فرنسوا أوزون صاحب الفيلم المعروض حالياً في الأسواق تحت عنوان «في البيت». البيت لا يزال كياناً مهمّـاً في هذا الفيلم (وإذا لم أكن على خطأ في معظم أعماله السابقة أيضاً) لكن الفارق هو أن «في البيت» مركّب أكثر ومتشابك على نحو لغزي إلى حد ملحوظ في مقابل عمله الجديد الواضح والسهل.
إنه حول فتاة شابّـة أسمها إيزابيل (مارين فاكت) نتعرّف عليها في الصيف على شاطيء البحر. في السابعة عشر ولا زالت عذراء لكنها سريعاً ما سوف تجد حلاً لذلك مع صديق ألماني قبل أن تعود مع والدتها وزوج والدها وشقيقها الصغير إلى باريس. بعد حين نجدها تحوّلت إلى عاهرة بالسر عن أهلها ورفاق المدرسة. تعرض خدماتها وأسعارها في رسائل هاتفية وتتلقى الإجابات وتقوم بالزيارات. واحد من زبائنها المفضلين هو رجل فوق الستين. ومع أن العلاقة جنسية (خدمة مقابل مال) إلا أن لها جانباً دافئاً على عكس زبائنها الآخرين. ذات يوم يموت الرجل بالسكتة القلبية وهي معه في الفراش. يفتضح أمرها وتحاول الأم أن تجد حلاً وهي التي باتت تخشى على سعادتها البيتية من إبنتها. في النهاية، وهذا التلخيص لا يفي بسعة الموضوع وتشعباته، ها هي الفتاة تضع قدمها على الطريق الصحيح. تجد نفسها للمرّة الأولى في جو شبابي طبيعي صالح لمن هم في سنّـها. هذه المرّة تبتسم راضية بهذا التغيير.
قدر كبير من الفيلم يقوم على التلصلص كما في أفلام هيتشكوك، لكن المخرج البريطاني الفذ لم يكن مكترثاً (ولا التقاليد الإجتماعية كانت تسمح له) بعرض مشاهد حب وعري. أوزون يفعل ذلك مراراً وتكراراً. يريد من المشاهد أن يتلذذ بما يعرضه في الوقت الذي يأخذ هو من الموضوع بأسره مسافة أخلاقية يدين فيها الفتاة من دون أن يحرجها أمام المشاهد. إنها تحتاج للمال لمتابعة دراستها والطريقة الوحيدة لجلبه هو التحول إلى العهر. تقرّب آخر صوب المشاهد العادي موجود في إستخدام الأغاني كوسيلة لتعليق عاطفي (جوهرياً على طريقة أفلام مصرية قديمة). لا يقوى الفيلم وتتكثّـف مواقفه إلا من بعد الفضيحة وتعدد الإحتمالات.
في مكان ما في النصف الأول من الفيلم قد يخطر لك، إذا ما كنت متابعاً سينمائياً للجديد والقديم، أن الدور الذي تقوم به البطلة هنا محاذ للدور الذي لعبته كاثرين دينوف في مطلع عملها السينمائي في فيلم لوي بانويل «حسناء النهار» (1967). 

 **  The Bling Ring

صوفيا كوبولا تفتقد السبب

الجيل الجديد هو أيضاً في قائمة إهتمامات فيلم صوفيا كوبولا الجديد «ذا بينغ رينغ». شوهد كفيلم إفتتاح قسم «نظرة ما» ما يجعل فيلما الإفتتاح (الرسمي المتمثل بـ «غاتسبي العظيم» والرديف متمثلاً بهذا الفيلم) خيبتا أمل كبيرتان.
كما ورد معنا بالأمس، فإن «ذ بينغ رينغ» مبني على أحداث حقيقية لعصبة من بضعة فتيات وشاب (ثم شبّان آخرين من حين لآخر) تخصصوا بسرقة منازل النجوم والأثرياء. أحدهم كان يرصد إذا ما كان النجم موجوداً خارج مدينة لوس أنجيليس (في رحلة عمل مثلاً) ويخبر الفتيات الثلاث اللواتي كن أجرأ منه في إقتحام الأماكن المغلقة. في كل مرّة يدخلون فيها واحداً من قصور الثراء هذه يقدمون على سرقة المال والمجوهرات والملابس والأحذية والنظارات الشمسية الثمينة. وإذا ما كانوا محظوظين السيارات الفارهة أيضاً. 
فيلم صوفيا لا يضيف جديداً على الوصف أعلاه ولا على وصف البارحة الذي كُـتب حسب المعلومات المبتسرة التي وردت عن الفيلم، ذلك لأن الستين دقيقة الأولى من الفيلم مصروفة على متابعة هذه العصبة وهي تمارس فقط نوعين من الأعمال: تسرق وتسهر. المشاهد متكررة إلى حد فاضح: في كل مرّة يتم فيها دخول منزل ما علينا أن نتابع بالوتيرة ذاتها التي سبق ورودها ما تفعله العصبة داخل البيت. كيف تتسلل إلى المكان وكيف تفتح الأدراج وكيف تختطف المجوهرات ثم كيف تغادر المكان منتشية بنجاحها. حتى الحوارات متشابهة: «أنظروا ماذا وجدت» تصرخ كل فتاة على حدة كل قليل، أو «علينا أن نغادر هذا المكان فوراً» يقول الشاب في كل مرّة كم لو أن صوفيا (وقد كتبت السيناريو) نسيت أنا استخدمت الكلمات ذاتها في المشهد السابق أو الذي قبله.
وهناك السهرات وما يحدث فيها من إدمان على المخدّرات… تستطيع أن تلم بما يحدث من مشهد وإذا كان لابد من مشهدين… لكن المسألة تتحوّل إلى «وظيفة» وأنت تتابع المشاهد ذاتها مرّة تلو المرّة.
ما تفعله المخرجة هو سردها لما يؤلّـف عملاً من تسعين دقيقة خال من أي بحث مستقل واضح، ويفتقد وجهة نظر أو أي قدر من التحليل الإجتماعي. أحداثها، على الشكل الذي وردت به، يمكن أن تكون خيالية وليست واقعية. صحيح أن أسلوب تصويرها تقريري (كما الريبورتاج) لكن ذلك يمكن أن «يُـفبركه» أي مخرج وراء الكاميرا.
أحداث الفيلم وقعت بالفعل بالفعل (ما بين 2008 و2009)  فهذه مادة منقولة عن أحداث حقيقية، لكن هل وقعت على هذا النحو؟ هل كل السيارات التي تم معاينتها (سواء أكانت أبوابها مقفولة أو لا) بلا صفارات إنذار كما نرى هنا؟ هل كل المنازل كانت سهلة الدخول لأن أحدهم نسى بابا زجاجياً مفتوحاً؟ تمنيّت صفارة إنذار واحدة. ثم بدأت أبحث عن مفاجأة وبعد ذلك عن فيلم آخر كان من الممكن لصوفيا كوبولا أن تقوم به. عن معالجة لا تتضمن موسيقا شبابية كما لو أنها من المقررات وحس ريبورتاجي كما لو أن الفيلم مصنوع لساعة تلفزيونية. وهو كان أحرى به أن يكون سهرة تلفزيونية لأنه من الأسهل على المرء أن يغيّـر القناة متى أراد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أفلام مهرجان كان: غاتسبي العظيم


Year 5/ Issue: 157
غاتسبي العظيم  *  The Great Gatsby

غاتسبي عظيم بقلم فيتزجرالد، لكنه بائس 
ويائس على شاشة مخرج لا يريد أن يكبر

هناك مفارقة ساخرة ناتجة عن إختيار «غاتسبي العظيم» لإفتتاح مهرجان «كان» السينمائي الدولي. فبعد ساعات تلتئم عناصر الحفل الكبير: صانعو الفيلم، جمهور الضيوف والمشاركين وجمهور المتواجدين أمام مدخل القصر، ومئات المصوّرين ونحو 1500 صحافي وناقد سيحضرون الفيلم في عرضه المسائي ثم يخرجون منه ويتوزّعون. لكن عدداً كبيراً منهم سيدلف بعد ذلك الحفلة الساهرة الكبيرة التي تقيمها شركة الإنتاج وورنر والتي ستصدح فيها الموسيقا وتقدّم فيها المأكولات والمشروبات. ثياب السهرة. الليموزين السوداء والبيضاء. الصدور العارمة والأوداج المنتفخة. الثراء البادي والغرور المتناهي … وكل «ذلك الجاز»!. إنه فيلم الإفتتاح ومن حق الجميع أن يفرحوا لهذا التكريم. لكن المفارقة الساخرة تكمن في أن رواية ف. سكوت فيتزجرالد ذاتها، تلك التي اقتبس منها المخرج باز لورمان عمله هذا، تنتقد البذخ والإسراف ومظاهر الثراء وتبحث في كيف يفسد المال الذمم ويهدد الأخلاقيات.
رواية ف. سكوت فيتزجرالد المنشورة سنة 1925 تقص حكاية رجل أسمه جاي غاتسبي يعيش حياة مزدوجة ولو أنها تبدو ملتحمة في هيئة واحدة. جانب منها يحيا في الواقع وجانب آخر يعيش في الحلم وذلك الآخر يكبر كلما ازدادت شراسته بغية تحقيق ذلك الحلم. غاتسبي لا يبحث عن الثراء والسُـلطة بل يطاردهما. وهو يعيش قصّـة حب يعتبرها جزءاً مما يحلم به ويتمناه لنفسه قبل أن يدرك بأن الحب صعب المنال إذا لم يكن خالصاً، وإنه غير مهيؤ للمزج بالطموحات المادية من أي نوع.
ليست كلّ الرواية عن هذا المضمون، لكن هذا المضمون من بين أهمّـها وهو موجود وفاعل  في مختلف مؤلّـفاته الطويلة و«غاتسبي العظيم» من بين أهمها وفي رأي نقاد كتب متخصصين أفضلها. الرواية هي تعليق لمجتمع انتفخت جيوبه سريعاً في زمن عرف بسنوات اليأس الإقتصادي. ليس بعيداً عن الوضع الإقتصادي الذي عاشته الولايات المتحدة سنة 2008 عندما تعرض النظام المصرفي والإقتصادي إلى هزّة كادت أن تشلّـه. وككثير من روايات فيتزجرالد، تتميّـز الرواية بوضوحها وبعناية الكاتب بعباراتها كما بشخصياتها. هذه واضحة تعيش ما تحلم به لتكتشف أنها تسير لكنها لا تتقدم.
في الرواية جاي غاتسبي هو شخص موضوع تحت رصد شخص آخر. هذا الشخص هو نك كاراواي (توبي ماكغواير في الفيلم) الذي يسجّـل ويرصد وينقل للقراء (وفي الفيلم للمشاهدين) ملاحظاته حول غاتسبي. شاب متخرج أتيحت له فرصة التعرّف على غاتسبي بعدما استأجر منزلاً قريباً من بيت غاتسبي الفخم والكبير وهذا كان يدعوه لحفلاته، ويسر له من حين لآخر بما يشغل باله. فهو يحب فتاة شابّة أسمها دايزي (كاري موليغن) ودايزي التي بادلته الحب حيناً متزوّجـة الآن من رجل آخر. غاتسبي يعرف أنه خسرها لكنه لا يعترف بذلك. لا يزال يحاول أن يكسبها من جديد. ومع أن علاقتهما العاطفية تنطلق من جديد إلا أنها علاقة محكوم عليها بالفشل بعد عدّة فصول.

ضجيج وحركة
في الرواية يسرد نك كالاواي الحكاية، وهذا طبيعي، فهو الصوت الوحيد للسرد. كما هو معلوم لا يمكن على الورق أن يكون لديك صوتان مجتمعان في عبارة واحدة. أنت إما تكتب الرواية في صيغة ذاتك أو في صيغة ذات أخرى. المخرج باز لورمان لا يبدو أنه يعرف شيئاً من هذه البديهة. يريد أن يؤكد لك أن يعرف الحكاية فيستعين بكالاواي لكي يسرد ما يدور ويعلّق عليه… هذا في الوقت الذي نرى فيه، بصرياً، ما يتحدّث عنه كالاواي. وصف على وصف. سينمائياً، هناك حالات ينجح فيها التعليق في إثراء العمل، وفي حالة «غاتسبي العظيم» ينجح في تدميره.
لورمان (صاحب «مولان روج»، «أستراليا» وحفنة أفلام كبيرة وهوجاء أخرى) مشكلة بحد ذاته. في كل مرّة لديه فيلماً يستحق أن يُسرد (ودائماً ما لديه مواضيع هي خامات درامية جيّدة) وفي كل مرّة يعمد إلى تمزيق ما لديه  إما بموسيقاه الضاجّـة أو بحركات الكاميرا اللاهثة أو بمعالجته التي تضرب على الحواف ولا تحقق المطلوب مطلقاً. 
نعم رواية «غاتسبي العظيم» تكشف عن أسلوب الحياة التي كانت تعيشه شخصيات مفصولة عما حولها، لكن هذا لا يجب أن يعني أن أسلوب المخرج يجب أن يحاكي القشرة التي تغطّي تلك النظرة. وصف ثراء شخص واحد لا يعني مطلقاً ضرورة أن تقفز الكاميرا من مكانها لتحلّق فوق الرؤوس أو لكي تدور حول الشخصيات أو لكي يمنح الفيلم مظهره الزمني. زوم باك لكي يكشف عن نيويورك تحت البناء. الكاميرا تؤدي شخصية سوبرمان ذاتها. تريد أن تطير وتحلق كما يفعل ذلك الرجل الطائر أو أي رجل طائر سواه. وفي كل ما تفعله مضي بعيد عن روح الرواية الأصلية وأسباب وجودها. 
وفي حين أن المخرج يسرد الحكاية على لسان إحدى شخصياته ربما من باب الأمانة، نجده يطيح بالعناصر الأخرى جميعاً متجاهلاً روحها الأدبية كما الدرامية. هذا هو «غاتسبي العظيم» حسب رؤية لورمان وليس مؤلّفه ما يشكّـل سوء تقديم وفهم لماهية تلك الرواية. همّ لورمان هو التشكيل البصري. إنه كما لو كان طارزان يحضر حفلة في قصر الأليزيه فيمضي الوقت قافزاً من عمود إلى آخر تماشياً مع ما كان يفعله في أدغال أفريقيا. أول اهتمامات  هذا المراهق السينمائي هو استخدام الكاميرا كما لو كانت كرة قدم، وآخر مشاغله هو أن يحقق فنّـا. طبعاً بعض النقاد اعتبروا أن التشكيل البصري الذي اعتاد على ممارسته فن بحد ذاته، وهؤلاء قد يضيفوا إلى آرائهم المبدعة أن توظيف الأبعاد الثلاثة في هذا الفيلم هو من صرح ذلك الفن (معظمهم ينتظر آراء النقد الغربي ليبني موقفه).
ضمن ما هو مهدور هنا ليس فقط نحو 140 مليون دولار مصروفة على عمل لا قيمة له، بل عمق المادة الأصلية التي أطيح بها وبرسالاتها الإجتماعية، تلك التي استطاع فيلم جاك كلايتون «غاتسبي العظيم» (نسخة 1974) الإحتفاظ بها. ذلك الفيلم ورد باهتاً وعلى شيء من البلادة حينها، لكنه بالتأكيد ليس بركاكة ورداءة هذه النسخة. وفي حين أن روبرت ردفورد منح شخصية غاتسبي حضورها الأدبي، فإن ديكابريو، وهو من أفضل ممثلي عصره، لا يستطيع إلا وأن يتماشى مع اللهو المطلق الذي ينجزه لورمان حولها. إنه لا يزال يحتاج إلى مخرج جيّد تماماً كحال هذا الإقتباس، هذا على الرغم من أنه أفضل الممثلين في هذه الملهاة المملّـة. 
لورمان اعتبر، في بعض أحاديثه، أن فيلمه هذا «ملحمة رومانسية»، لكن الفيلم، وقد شوهد في لندن قبل أيام، ليس ملحمياً ولا رومانسياً. مجرد إضاعة وقت بالأبعاد الثلاثة.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ