ساتيريكون فيلليني |


                         "فيلليني ساتيريكون"

المخرج: فديريكو فيلليني | Federico Fellini  
النوع  : تاريخ | إنتاج: إيطالي
العرض الأول:  مهرجان فينيسيا: 1969/9/4

محمد رُضــا
لا شيء في السينما يشبه عالم فيلليني.
ولا فيلم لفيلليني يشبه "ساتيريكون".


بناء «ساتيريكون» واحد من أهم ما بناه المخرجون الكبار من فن في السرد. نتحدّث دائما، وعن حق، عن طريقة أكيرا كوراساوا عندما حقق «راشامون» (1950) أو ستانلي كوبريك في «القتل» (1956). الشيء ذاته هنا والمفتاح الخاص بفيلليني (هنا وفي أفلام أخرى له) هي تفضيل الصورة على الحكاية. لذلك من ينتظر أن يرى قصّـة ذات بداية ونهاية، سيصاب بخيبة أمل، وإذا لم يكن مستعداً للتجاوب مع طريقة فيلليني في السرد والعرض، فإن هذا الفيلم ليس له. لكن إذا ما تابعه وجد مخرجاً يملأ الشاشة مشاهد مرسومة- فعلياً- بالكاميرا (في تلاؤم مع ما يتحدث عنه الفيلم في صميمه: الفن (وأيضاً غيابه).

رواية ساخرة
 في «فيلليني روما» (1972) و«أماركورد» (1973) و«تمرين الأوركسترا» (1978) عمد المخرج الإيطالي الفذ فيديريكو فيلليني إلى نقد الحاضر حبّـاً بتاريخ مضى. روما العتيقة وثقافتها وفنها. الموسيقا وتقاليدها. التاريخ وما حدث له من إنفصام. لكن في مرّتين على الأقل، إحداهما «فيلليني ساتيريكون» نقد التاريخ نفسه (الثاني «كازانوڤا»، 1976).
«ساتيريكون» فيلم ساخر بقدر ما كان الأصل، كما وضعه غايوس بترونيوس ساخراً. هذا كان نجم بلاط في الفترة التي حكم فيها نيرو روما. وُلد سنة 27 قبل الميلاد وتوفي سنة 66 قبل الميلاد في أكثر الإحتمالات شيوعاً. وضع روايات أخرى غير «ساتيريكون» لكن هذه الرواية التي تتناول ما عرفته روما آنذاك من حياة متعة شاذّة، في معانيها المختلفة وليس فقط الجنسية، بقيت أشهرها. قوام الرواية أحداث حب مثلي بين أسياد وعبيد تشهد حالات إنتقام وحالات أخرى من الغيرة والحسد والقتل. الروسي ألكسندر بوشكين وضع رواية قصيرة سنة 1835 تناول فيها الأيام الأخيرة من حياة بترونيوس، وحسب «إنسايكلوبيديا بريتانيكا»، فإن موت بترونيوس لم يكن زهداً في الحياة أو فعلاً عاطفياً محضاً، بل نتيجة إيغال أعدائه صدر البلاط الإمبراطوري، ما أدّى إلى إتهامه بالخيانة فتم إلقاء القبض عليه تمهيداً لتنفيذ حكم الإعدام. لكن بترونيوس سارع بالإنتحار. هذا من بعد أن كشف في كتاباته بشاعة حكم نيرو وعلاقاته المعيبة بحاشيته، رجالاً ونساءاً.
لا توجد وثائق موقعة بيد بترونيوس تثبت بأنه صاحب الرواية، لكن كذلك لا توجد وثائق تنفي ذلك. على العكس، فإن الأجدر إعتماد المتداول من أنه كتب «ساتيريكون» لأنه في الواقع كان أحد المقرّبين من نيرو إذ كان عمله هو مستشار الملك للأناقة. هذا، إفتراضياً، مكّـنه من التعرّف على حياة القصر والمخادع وما يدور فيها. صحيح أنه كتب رواية لا تتعاطى وشخصيات محددة في عالمه، إلا أنها مستوحاة، كما كتبت كاثرين كونورز في مقدّمة كتابها «بترونيوس الشاعر: نثر وتقاليد أدب في ساتيريكون» (منشور سنة 1998)، من العالم الذي عايشه.
والرواية كتبت بسخرية عُـرف بها الكاتب. فيلليني لم يكن بحاجة لمن يجذبه إلى الأسلوب الساخر في العرض. كل أعماله، بإستثناء حفنة من تلك الأولى قبل هذا الفيلم، فيها تصوير كاريكاتوري ساخر للشخصيات جميعاً. «ساتيريكون»- الفيلم كان فرصته لنبش الوجه البشع من التاريخ الروماني. ذاك الذي عرفته روايات وأفلام كثيرة بينها مسرحية «يوليوس قيصر» لوليام شكسبير. لكن المختلف هو طريقته التي لا تترك الحكاية تقود الفيلم بل تمتهن الإمتزاج بمشاهده التي تبدو كما لو كانت مرسومة.

بين الروي والتوثيق
بدءاً من «ساتيريكون» خط فيلليني منهجاً جديداً لفنه. قبل ذلك، في أفلامه من «الشيخ الأبيض» (1952) الى «جولييت والأرواح» (1965)، هناك سينما تنتمي الى الرغبة في تكوين الرسالة التي يحملها كل فيلم ضمن عالم محدد الأماكن واقعي الشكل. لا يعني هذا أن نظرة فيلليني على هذا العالم مقتصرة على مجرد تقديم واستعراض قصّـة، بل يعني أن منحاه تطوّر شكلاً بحيث أصبحت الحكاية بالنسبة إليه أداة تعبير عما يخرج من إطار الأحداث والمفارقات. 

بعد «ساتيريكون»، بات  العالم أكثر خيالية وأبعد منالاً عن المتوقّع في معالجات فيلليني. ويمكن الكشف عن هذا التباعد بملاحظة حقيقة أن  المخرج إبتعد عن العمل (باستثناء مشاركته في «أرواح الموتى» الذي كان من تنفيذ عدد من المخرجين كل بفصل) لسنوات قبل العودة بهذا الفيلم المختلف عن أعماله السابقة.  ما يبقى على علاقة وطيدة هو الموقف الأخلاقي الذي من خلاله ينظر المخرج الى ما يتناوله منتقداً إنهيار الروح تحت وطأة المادة٠
إسم فيلليني في العنوان لم يكن إختيار فيلليني الأول لأن ما حدث هو أن إقتباساً آخر تم إنتاجه في السنة ذاتها (1969) للمخرج جيان لويجي بوليدورو وهو سينمائي محدود الشهرة أنتج له المنتجان الإيطاليان الشهيران كارلو بونتي ودينو ديلا رونتيس (كل على حدة) بضعة أفلام في مطلع الستينات. لكن وضع فيلليني أسمه على العنوان كان مفيداً للفيلم، كون سمعة المخرج السابقة مكّـنته من التميّـز أولاً، وثانياً لأن فيلليني لم يأخذ الرواية كما كُـتبت بل خرج عنها معتمداً على إقتباس متحرر من الأصل بالنسبة للأحداث ولو أنه أبقى على الفترة الزمنية وعلى الأجواء والعوالم المناسبة لها.
الرواية نفسها كتبت كما كانت تكتب الروايات القديمة لقرون عديدة (من «الإلياذة» وما بعد) حيث هي نص بين الروي والتوثيق وأقرب الى  التقطيع المشهدي منها الى العمل المروى بنَفَس واحد وبتطوّر درامي متواصل. في هذا الإطار الشخصيات ليست ما تحرّك النص  بل الوصف. أما الشخصيات فلا  عاملاً  أساسياً لها وفي مقدور الشخصية  التي تبدو  رئيسية في مقدمة النص أن تغيب تماماً بعد ذلك. الفيلم يأخذ هذا الوضع ويبثّه بأطره الجديدة. يجعل منه عملاً بصرياً أخّاذاً وإذا ما شاهدت أفلام المخرج الباقية، وجدته نقطة أكبر حجماً مما سبق ومتوازية مع تلك اللاحقة  على الصعيدين البانوراما البصرية الملقاة على التاريخ الإيطالي، وعمق هذا التاريخ. في ذلك الإتجاه هو الفيلم «التاريخي» الوحيد الذي حققه فيلليني إذا ما اعتبرنا أن «كازانوڤا»، وهو فيلم آخر يقع في الماضي، هو أكثر تعاملاً مع السيرة منه مع الحيثيات التاريخية أو أحداثها.

مسرح حضيض 
اللقطة الأولى على جدار كبير. زوم باك لتكشف أن الجدار مرسوم عليه بالطبشورين الأبيض والأسود كلمات وأشكال مبهمة كحال جدران السجون. هناك شاب يواجه الجدار. إنه إنكولبيو (مارتن بوتر) حين يستدير إلى الكاميرا متحدّثاً بغضب عن كيف خسر حبيبه جيتون (ماكس بورن) بعدما تمكن أشيتلو (هيرام كَـلر) من خطفه وعن أنه لن يسامح أشيتلوس عما فعله وسيسترد منه صديقه، نكتشف أننا أمام وجه جميل. فيلليني اختار ممثليه المتناحرين هنا واضعاً جمال الوجه (ناهيك عن جمال الجسد) في مقدّمة إعتباراته. لم يختر ممثلين معروفين يؤدون أدواراً جميلة بل ممثلين جميلين يمثلون. بذلك تجاوز إعادة التأليف إلى شيء من التوثيق. في الوقت ذاته، إنكلوبيبو و-لاحقاً- أشيتلوس ينظرون إلى الكاميرا بضع مرّات حين يتحدّثون. إذ يتحدّث الأول عن خديعة أشتيلوس يوزع نظراته على جمهور غير موجود في المشهد (كما لو كان إنكلوبيبو يواجه جمهور المسرح). الثاني، يزحف من مكانه في حجر يقع تحت أعمدة ثم ينظر مباشرة إلى الكاميرا وهو يقرر كيف ولماذا «سرق» جيتون. 

مباشرة قبل ذلك، كان إنكلوبيبو قد ترك جمهوره غير المرئي وجلس على الأرض مواجهاً الجدار من جديد وهو يتحدّث عن حبّـه لجيتون الذي كان بمثابة روحه وشمسه كما يقول. بعد قليل سيواجه أشيتلوس إنكلوبيبو والإثنان سيتعاركان قليلاً. في نهاية العراك سيعترف أشيتلوس بأنه باع جيتون لممثل أسمه ڤرناكيو. وبذلك الإعتراف يترك فيلليني الموقع الأول الذي هو عبارة عن ردهات كبيرة تحت أرضية تحتوي على حمامات بخار (مكان مفضل للمثليين في هذا الفيلم ولاحقاً في أفلام أخرى) لينتقل إلى خشبة مسرحية. لكن الدكانة والألوان الرمادية في الخلفية تبقى ذاتها. هذا عالم متآكل من اللقطة الأولى.
المسرح الذي يقدّمه ڤرناكيو ليس فنّـاً، ولا يحاول فيلليني تقديمه على هذا الأساس، بل هو حضيض فني يهدف المخرج عبر تقديمه إلى النيل منه. إنكلوبيبو يسترد جيتون من الممثل ويسير معه في روما القديمة ليلاً. من بعيد تتقدّم عربة تجرها الخيول وفوقها تمثال لوجه نيرو. يسارع الإثنان الخطا ويمرّان بنيران مشتعلة (الربط بين نيرو والحريق المقبل!). يصلان إلى إمرأة عجوز تجلس أمام باب أصفر. ترحّـب بهما. هناك رجال ينادون على الشابين لكنهما يدخلان من ذلك الباب.
هذا ماخور كبير آخر يقع على الأرض وتحته حيث بركة ماء كبيرة ينتشر حولها رجال ونساء. الرجل الذي استقبلهما يحاول جذب جيتون لكي يعرّفه على بعض الرجال الجالسين عند البركة. جيتون، الذي لم يمانع (من دون أن نرى ذلك) الذهاب مع أشيتلوس ولم يمانع بيعه للممثل ڤرناكيو لا يبدو أنه يمانع (كما نرى الآن) الذهاب مع ذلك الرجل لرجل آخر. حتى الآن هو مجرد وجه جميل (آخر) صامت بعينين كبيرتين وأنوثة واضحة. إنكلوبيبو يركض وراءه ويخلّـصه من الآخرين. كاميرا فيلليني (تصوير الرائع جيسيبّـي روتانو) تستشرف المكان. مثل تطفّـلاتها السابقة، هي  مرصودة لالتقاط وجوه معظمها كاريكاتوري (المهنة التي مارسها المخرج قبل أن يصبح كاتباً سينمائياً ومن ثم مخرجاً). وجوه النساء، كما في معظم أفلامه اللاحقة، أعتني بمكياجاتهن وبتصاميم شعورهن ليبدون بالغات الغرابة والرجال الشاذّيـن لا يختلفون كثيراً عنهم.  ثم في ذلك الإستعراض ها هما إنكلوبيبو وجيتون ينظران إلى الكاميرا من جديد. يد الأول على كتف الثاني ويوجه للكاميرا نظرة ذئبية- شيطانية. نظرة جيتوني نظرة إغوائية كاملة. خلفهما غرفة ركعت فيها إمرأتان عاريتان تظهران وتحركان مؤخرتيهما لتأكيد نوعية وهوية ومستوى لا المكان وحده، بل الثقافة الإجتماعية ذاتها.
يواصل فيلليني إكتشاف المكان (أشبه بمدينة كاملة تحت الأرض) كلها دكاكين متعة للرجال وللنساء. أماكن داكنة وفيها غرف مضاءة جيّـدة تظهر نساءاً عاريات ورجالاً يرقصون وأولاد فرحون بزوّار ورجال ونساء مصطفين خارج الغرف. إنها مدينة الليل نسخة الفترة الزمنية التي تقع فيها الأحداث.

بين لوحات العالم
ثم هما في فناء خارجي مؤلف من طبقات. ترتفع الكاميرا لتشمل المكان. يدخلان حجرة ونفهم (من اللقطة التالية) أنهما مارسا الحب. يدخل عليهما أشيتلوس وهما نائمين. يهب إنكلوبيبو مستيقظاً ويطلب أن يتقاسما الممتلكات التي كانا يشتركان في إقتنائها. أشيتلوس يطلب من جيتون أن يختار مع من يريد أن يبقى. المرّة الأولى التي نسمع بها جيتون يتكلم هي عندما يشير لأشيتلوس قائلاً "معك أنت". يضحك أشيتلوس ويتركان المكان معاً وإنكلوبيبو وحيداً. حصان أبيض في حفرة. ثم فجأة… زلزال يقع. رجال ونساء يخرجون من داراتهم للهرب. حصان أبيض وحصان بني يهربان. الحصان الذي في الحفرة يحاول الخروج ويفشل.
هذا الفصل المكتوب بدراية والمنفّـذ بدراية أعلى يسبق فصلاً آخر يدعوك للمقارنة بين العالم الذي  شاهدناه في حاضر الفيلم،  والعالم الذي مضى. بعد الزلزال نجد إنكلوبيبو في صالة عرض فنية (غاليري). يخرج له من يقدّم نفسه على أنه يوموبولوس (هو شخصية أسطورية إبن للآلهة بوسايدون) ويبدأ بالحديث له ولنا. بينما الكاميرا تجول معه على اللوحات الفنية الرائعة الموزّعة على جدران المعرض، ينتقد يوموبولوس الزمن الراهن (زمن الفيلم) وتخلفه زمن المادة والعهر») وفيما يقوله "ذات مرة مثاليات الرجل كانت فضيلة، بسيطة وصافية" ويقارن بين عالم اليوم وعالم الأمس بالتذكير بأن أحد الفنانين مات جوعاً وهو يحاول إتقان لوحة بينما "شاخ يوكسودوس وهو في أعلى جبل يدرس حركة النبات"

فنياً، يأتي الفصل مناقضاً تماماً لما سبق. الشخصيات التي فيه (الرئيس وجمهرة المعرض) أفضل حالاً وفيلليني يمنحهم ظهوراً أقرب إلى العادي بعيداً عن التصوير الكاريكاتوري الساخر لشخصياته السابقة. بالنسبة للمعرض المذكور نجد أن فيلليني استبدله بفصول مشابهة في عدد من أفلامه الأخرى، بل أن «تدريب الأوركسترا» يدور بأسره عن تلك المقارنات. وفي «لا دولشي فيتا» (1960) مشهداً موازياً (مارشيللو ماستروياني يمر على معرض جداري يذكّر بفن الأمس).
الفصل التالي هو من نسيج مختلف تماماً.
يخرج يوموبولوس وإنكلوبيبو إلى الطريق العام، يصلان إلى مسرح مكشوف. يختار فيلليني زمناً من اليوم عند غروب الشمس. السماء برتقالية عند الأفق وفوقهما سحاب أسود. هناك ثيران في الحقل. أمام يوموبولوس وإنكلوبيبو، ينتصب مسرح على الأرض مع شموع في مقدّمته. الموسيقا تختلف. إنها ملائمة لفيلم فضائي (تلك النوتة التي تمزّق السكون وذلك الصوت الذي يبدو كما لو كان لطائر دينوصوري).
بعد هذين الفصلين، سينتقل فيلليني طوال الوقت بين لوحات العالم الذي يعرضه، ومعظمها لوحات نقد مشبع بالأسى لجمال ذابل، لعالم من الشهوات معتبراً الأخلاق هي منبع الفن والشهوة هي دركه. لا يكترث للحكم على المثليين أخلاقياً أو لعدم الحكم وليس الفيلم في وارد هذا النوع من الأفلام الذي سينطلق للإدانة أو للقبول، ولو أنه في النهاية يحمل في طيات رسالته تطهّـر النفس. ما يشغله هو العالم الذي تختزله تلك التصرّفات وتعبّـر عنه. يراها ملازمة للإنحدار في ذلك لا يستثني الفقير والغني ولا المرأة ولا الرجل ويمضي، فيما بقي من الفيلم يعزز كل مضمون بما يفوقه من إجادته الفنية في العام وفي الخاص.
التصرّف (الشهوة المباحة، الشره، الضغينة، الحسد، النميمة الخ...) ليس وحده ما يتحدّث فيه المخرج منتقلاً من نص/ لوحة الى نص/ لوحة أخرى، بل ما يعرضه في ذلك النص وما نسمعه  أيضاً. شخصياته مخيفة لو كانت واقعية، مثيرة للتندّر كونها ليست كذلك. بعضها مشوّهة، وبعضها عادي لكنه يتحرّك بصورة مشوّهة. الرجولية مخنّثة والأنثوية وحشية وكلاهما يبدوان هاجساً عند فيلليني كما لو أنه يعرضه ليقضي عليه ولا ينسى في غمار كل ذلك أن يبقى على سدّته في كيفية التعبير عما يُريد وما يعرضه على الشاشة من فن٠
العالم المرتسم على الشاشة في داخل الأقبية والبلاطات كما في خارجها هواجسي بالفعل. صوره الفاقعة وشخصياته الغريبة وحتى ما يؤكل على الموائد وما يُتلى من تعليق وتعريف وأشعار تشكّل عناصر كابوس لا ينتهي. وبالنسبة لفيلليني فإنه بدءاً من هذا الفيلم انتقل من مقاس معيّن يعكس فيه ما يريد الى مقاس أكبر. من خامة الى أخرى أكثر إشباعاً لحكاياته عن روما وإيطاليا والتاريخ وعن الذات البشرية التي إذ تتعرّض للفساد تتعرّض في رأيه لعوامل التحلل كيميائياً. 
حين ينقل فيلليني، في أحد فصوله، مأدبة الطعام الكبيرة التي يقيمها الإمبراطور نيرو لحاشيته وضيوفه، يصوّر ذات الشهوات التي لا يمكن فصلها عن عادات الطعام. النهم والتخمة والطعام الخارج من الفم والناس التي لا تتوقف عن تناوله. الصورة الأكبر لكل ذلك تلتقي مع كل اللوحات والفصول التالية.

أفريقيا الحرية
يتحدّث كل فصل/ لوحة عن الحياة مقابل الموت والعفن النفسي والجسدي. أكثر من شخصية مصابة بداء وأكثر من شخصية مشوّهة وبعض الشخصيات تنتحر وأخرى تُـقتل. في الوقت ذاته يعبر إنكولبيو عن الشباب والمتعة لكن في عالم معاكس لهذا البحث ما يخلق تناقضاً ثانياً (الأول يكمن في الحياة مقابل الموت)
وإذ يواصل الإنتقال من فصل لآخر رابطه الوحيد هو إنكولبيو الباحث عن مكان له فوق أرض تميد به، نرى رحلته تمر عبر بيئات طبيعية مختلفة: بعد المدينة الغارقة، هناك الجبال وهناك الصحارى وهناك البحر. هذا البحر نراه في فصلين. الأول يتم جر إنكولبيو وصديقه السابق أشيلتو كعبد ليخدم جزافاً ثم ليتزوجه أحد أعيان الإمبراطور قبل أن يغير جنود رومان على السفينة ويقطع أحدهم رأس القائد. لقطة فريدة لرأسه يغرق في الماء.
البحر الثاني هو النهاية. إنكولبيو تم عتقه وعاد إلى التجوال. مر في تجارب عديدة كلها تعاونت على إنتزاع كرامته لكنها لم تنجح في انتزاع بحثه عن حريّـته ودوره الإجتماعي. في الفصل الأخير يصل إلى حيث سيجد ما يبحث عنه: على شواطيء إغريقية وعلى خلفية من غناء أفريقي (بلوز) وبعض العبارات العربية (لهجة مصرية) يتم إعادة تأهيله. لقد نجح في ممارسة الحب مع إمرأة. ركض في السهل المنفتح ليعلن انتصاره. يتحدث إلى أشيلتو معتقداً أنه وراءه. لكن أشيلتو كان أصيب بطعنة وسقط ميّـتاً: ولادة إنكولبيو من جديد هي نهاية أشيلتو الذي يجسد الماضي.
في المشهد النهائي ينضم إنكولبيو إلى بحارة سود وبيض تم تحريرهم سيركبون سفينة صغيرة قاصدين بها جزراً تفصلهم عن أفريقيا. هنا يكون إنكولبيو تحرر وتكون أفريقيا رمز الحرية.
قبل ذلك، تبدو الأرض كلّـها مقهورة، مكسورة، سواء أكان الحدث يدور تحتها أو فوقها. حياة ما قبل المسيح، يرى فيلليني، كانت تستحق أن تنتهي، لكن ما قبلها كان كنزاً من الفنون الراقية التي أغفل الرومان عن تقديرها ، كما يقول الشاعر الذي سريعاً ما هوى بعد تقديمه أيضاً، مقبلين على الملذّات. 
الجميع يواجهون نظرة فيلليني الشرسة. كل الطبقات. كل أنواع الناس وكل مصادر حياتهم، ولو أن الأمل في النهاية متمثّـل ببضعة أشخاص تم عتقهم سيتوجه إنكولبيو معهم إلى عالم أفضل. 
«ساتيريكون» مُـصدم في نقده وما يعرضه في هذا النقد، وبقدر ما هو مصدم هو فني يشيع حبّاً بالسينما ويتركك مدهوشاً بعينين مفتوحتين على آخرهما تتلقيان دروساً في تاريخ من منظور فنان يراه  بيروقراطياً. نرجسياً. ملذّاتياً  وعفناً٠   




 FILLENI'S SATYRICON
Directed By: Federico Fellini
Cast: Martin Potter, Hiram Keller,  Salvo Randone,  Max Born, Mario Romagnoli, Capucine, Alain Cundy,  Gordon Mitchell.
Cinematography: Gusippe Totunno (Color).  Editor: Ruggero Mastroianni (129 min),  Music: Nino Rota
Producer: Alberto Grimaldi [Italy- 1959]



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من غير المسموح إعـادة نشر أي مادة في «فيلم ريدر» من دون ذكر إسم
المؤلف ومكان النشر الأصلي وذلك تبعــاً لملكية حقــوق المؤلف المسجـلة في 
المؤسسات القانونية الأوروبية.
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2015

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

White Zombie | Wild Horses | Frontera | Terminator Genisys |


                         "زومبي أبيض"
المخرج: ڤكتور هالبيرين | Victor Halperin  
النوع  : رعب | إنتاج: أميركي
العرض الأول:  1932/8/4
شاهده على: http://www.rottentomatoes.com/m/white_zombie/



أول فيلم زومبي في التاريخ 

عندما تناهى إلى سمع المؤلف وليام ب. سيبروك أن الأخوين إدوارد وڤكتور هالبيرين سيقومان بتحقيق فيلمهما هذا (الأول كمنتج، الثاني كمخرج) سارع إلى رفع دعوى قضائية يتهمهما فيها بالسرقة. سيبروك كان نشر رواية سنة 1929 بعنوان «جزيرة السحر» The Magic Island حول "الأموات- الأحياء" فوق جزيرة هايتي الكاريبية حيث نشطت عبادة السحر الأسود (Voodoo). المحكمة ردّت الدعوة بعدما دافع الشقيقان عن نفسيهما بالقول أن كلمة «زومبي» الواردة في عنوان مشروعهما المقبل لا ملكية لأحد عليها. أما الحكاية فهي مختلفة عن تلك الواردة في الرواية.
لكن هناك تشابهات بالتأكيد: شاهد الفيلم ثم إقرأ هذه الكلمات كما وردت في الرواية (أو إقرأها أولاً إذا أردت): 
"العينان كانتا الأسوأ. لم أكن أتخيل. كانتا، في الحقيقة، لرجل ميّـت. ليس أعمى، لكنهما محدّقتان وغير مثببتان. لا يريان.  كل الوجه كان بشعاً. كما لو لم يكن هناك شيء وراءه. لم يكن فقط بلا تعابير بل غير قادر على التعبير".
بالإنكليزية: 
"The Eyes were the worst. It was not my imagination. They were in truth like the Eyes of a dead man, not blind, but staring, unfocused, unseeing. The whole face was bad enough. It was vacant, as if there was nothing behind it. It seemed not only expressionless, but incapable of expression"
في الفيلم فإن الموتى- الأحياء هم كذلك فعلاً. لا يمكن القول أن المخرج استوحى أشكالها من ذلك الوصف، لكن الوصف ينطبق على شخوص الفيلم.

مستر جريمة

يتولّـى "زومبي أبيض" سرد حكاية ساحر شرير يملك عبيداً من «الزومبي» يأتمرون بأمره. ذات مرّة يرى إمرأة بالغة الجمال فيستولي بسحره الأسود على قرارها ويخطفها إلى دارته. لكنه ليس الوحيد الواقع بحبّـها إذ أن هناك زوجها من ناحية وصاحب المزرعة الذي شهد زواجهما من ناحية أخرى (الحكاية في موقع آخر من الصفحة لمن يحب أن يقرأ التفاصيل).
الأخوان هالبيرين من شيكاغو أصلاً. وصلا إلى هوليوود في مطلع العشرينات وبدآ العمل في السينما منذ العام 1922 وأنجزا نحو عشرين فيلم صامت. ڤكتور كان الأكبر سناً إولد سنة 1895، العام الذي عرض فيه الأخوين لوميير أفلامهما للمرة الأولى وإدوارد وُلد سنة 1908، العام الذي تحوّل فيه د. و. غريڤيث من ممثل إلى مخرج (منجزاً فيلمه الأول «مغامرات دوللي» The Adventures of Dollie). غالب ما قاما بتحقيقه حتى العام 1932 كان صامتاً ومن النوع العاطفي، ونجاحهما التجاري الأكبر حتى هذا الفيلم حدث سنة 1927 عندما أخرجا «سحر الرقص» Dance Magic
مثل كل أفلامهما جاء «زومبي أبيض» عملاً مستقلاً عن الشركات الكبيرة (فوكس أو وورنر أو باراماونت حينها) وهما قاما بإنتاجه لحساب شركتهما الخاصّـة لكن التمويل جاء من شركة أخرى هي "يونايتد آرتستس" التي كانت تعتبر صغيرة آنذاك (وحتى لاحقاً بقيت من ذوات الصف الثاني).
الميزانية (50 ألف دولار فقط)  كانت لا تكفي لتحقيق فيلم فكتوري المرجعية التاريخية. تلك الفترة الزمنية المحببة لدى الأخوين هالبيرين التي أنجزها بها العديد من أعمالهما الرومانسية السابقة. الأجواء القوطية. القصور الكبيرة. الشخصيات ذات الإنتماء الأرستقراطي الظاهر. كذلك لم تكن تكفي لصنع المؤثرات التي خططا لها. هذا لأن الميزانية بلغت 50 ألف دولار فقط، وكان على الأخوين جلب ممثل معروف ليسند الفيلم تجارياً.
الممثل المختار هو بيلا لاغوسي الذي كان، قبل عام واحد، لعب بطولة «دراكولا» لحساب يونيفرسال بنجاح. لكنه اعتذر عن بطولة «المومياء» الذي عرضته عليه الشركة ذاتها فقام بوريس كارلوف بدورها (تشايني ببدنه الأكبر أصلح على أي حال). عرض الأخوين هالبيرين لم يكن مغرياً مادياً (500 دولار في الأسبوع) لكن الدور البطولي كان مناسباً ولاغوسي وافق على المبلغ على أن ينتهي التصوير في أسبوع واحد. 
في الفيلم، لجانب قيام ميردر (وإسمه بالإنكليزية مكتوب تماماً ككلمة جريمة Murder) بتشغيل قواه التليباثية (ليس فقط على عبيده الزومبيز بل على الإناس العاديين أيضاً) فإنه يستخدم قبضتي يده على نحو معيّـن لإدارة تصرّفات البعض من بعيد. القبضتان المطبّـقتان بشدّة تتحوّل إلى تفعيلة لتشخيص قواه وتسهم مباشرة في جعل دور الممثل لاغوسي في هذا الفيلم علامة مميّـزة من بين علاماته إذ كان أحد أبرع وأشهر ممثلي الرعب في ذلك الحين لجانب بوريس كارلوف ولون تشاني (ولاحقاً ڤنسنت برايس)

أجساد بلا أرواح
مدّة التصوير بكاملها امتدت لأسبوعين (غير واضح الآن إذا ما أنجز الأخوين كل مشاهد لاغوسي في أسبوع أو اضطرا للعودة إليه لاحقاً). مدير التصوير، آرثر مارتينللي كان عاطلاً عن العمل ورضى بـ 40 دولار في الأسبوع لقاء عمله. 
مادج بيلامي هي أيضاً من ممثلات السينما الصامتة.  ولدت سنة 1899 (توفيت سنة 1990)  وظهرت في السينما من العام 1920 (دور بطولة في فيلم بعنوان «اللغز: إمرأة») ولعبت بطولة فيلم جون فورد «القطار» The Iron Horse سنة 1924. واستمرت في التمثيل حتى العام 1945 عندما لعبت دوراً مسانداً في وسترن عنوانه «قافلة شمال غربية» Northwest Trail)
جون هارون مثل 170 فيلماً من دون أن يكتسب شهرة إستثنائية. وُلد سنة 1903 وتوفي سنة 1939 لكنه عكس أداءاً جيّـداً في أفلامه خلال الثلاثينات علماً بأن بدايته كانت ضمن أدوار ثانوية.
تابع أدناه


ملخص
لا أنصح بقراءة الملخّص قبل مشاهدة الفيلم
عربة تقل الخطيبين مادلين ونيل متوجهة ليلاً إلى مزرعة يملكها بيومونت حيث سيقيمان حفل زواجهما. سائق العربة الأسود يتوقف عند مشهد لمواطنين في إحتفاء موتى. يقوم هؤلاء بحفر القبور في منتصف الطرقات خوفاً من استيلاء أحد على الجثث (لأن الطريق تبقى مطروقة بالعابرين). بعد استكمال الرحلة بقليل يتوقف السائق ليسأل رجلاً عن الإتجاه صوب المزرعة. الرجل ينظر إلى مادلين. من ورائه مجموعة من الموتى- الأحياء. ينطلق السائق بالعربة. تتوقف العربة عند مدخل المنزل ويخرج بيومونت للإستقبال حيث يفاجأ بجمال مادلين. يصل دكتور برونر الذي سيرتب الزواج. بيومونت يركب عربته ويقابل ميردر طالباً منه مساعدته على استحواذ قلب مادلين. لكن ميردر يريد استحواذها لنفسه ويمنح بيومونت، تنفيذاً لخطته، مادّة مخدّرة يضعها في مشروب مادلين. بعد إتمام المراسيم تشرب وتسقط أرضاً ويعتقد الزوج إنها ماتت. 

بيلا لاغوسي الوحيد بين الممثلين الذي تجاوز الأداء المبالغ فيه. وهناك شقان للموضوع. الأول أن المخرجين كانا تعوّدا على السينما الصامتة التي تتطلّـب ذلك النوع من الأداءات المبالغ فيها (مسرحية التأسيس) والثاني أنهما أيضاً لم يكترثا بدور الحوار في الحكاية. هذا الأمر الثاني لعب دوراً إيجابياً هنا إذ جعل المخرج وممثليه ومدير تصويره مارتينللي يعملون على الصورة أكثر مما يسندون إلى الحوار مهمّـة الشرح والتفسير. يجب أن نعلم هنا أن معظم صانعي الأفلام في  هوليوود عندما اكتشفت النطق سارعوا إلى تفضيل الحوارات على البصريات لإعتقادهم بأن هذا الإختراع الجديد (إختراق الصوت) هو مرحلة إيجابية كاملة في العمل السينمائي. بذلك غيّـبوا الكثير من أهمية التعبير بالصورة. 
لعب الأخوان هالبيرين على النحو الذي ألفاه في أفلامهما الصامتة لذلك نجد الفيلم مليء بالرغبة بالتعبير بالصورة بينما الحوار هو الإضافة التي في محلها لإيضاح النوايا. هذا لا يعفي أحداً من مسؤولية التمثيل المسرحي. كلهم، بإستثناء بيلا لاغوسي الأكثر حرفة على ما يبدو، عمدوا إلى ذلك النوع من الأداء. 
على الرغم من هذا، لن يستوقف المشاهد الأداء الممسرح طويلاً. الفيلم مشحون بالتشويق الناتج عن موضوع كان جديداً من نوعه آنذاك، واليوم يبقى جديداً من حيث أن الزومبيز الذين نراهم لا يشبهون مطلقاً من نراهم في أفلام "الزومبيز" اليوم. إنهم أجساد بلا أرواح يديرهم بقواه «التلباثية» (توارد خواطر) ليشتغلوا عنده كقتلة، كما أن بعضهم يعمل في المطحنة كعبيد. وفي مشهد رائع المفادات نرى أحدهم يقع في المطحنة التي لابد أنها تعصره من دون أن يتوقف أحد عند ما حدث. الزومبي الذي وقع سقط مثل قصاصة ورق بلا صوت ولا رد فعل. هذا أيضاً حال باقي الزومبيز الذين يديرون المطحنة فهم لا يرون ما حدث ولا ينفعلون على الإطلاق. 
أكثر من ذلك، المعالجة الكلية لما نراه رائعة. حضور ما يشغل المقدّمة من المشاهد وما يؤلف الخلفية متجانس كأي فيلم فني. الحس الذي يعالج به ڤكتور هالبيرين الفيلم بأسره مصمم لكي يؤدي هدفاً فنياً لجانب الحكاية المشوّقة. يذكر بالأفلام التعبيرية الألمانية التي خرجت من رحم السينما الصامتة في العشرينات، لكنه لا يحاول أن يكون مثالاً بينها، لذلك هو ليس منها وإن كان قريباً مما منحته من قوة بصرية لمواضيعها. 

هنا يلعب المخرج على الإضاءة والظلال على النحو ذاته. الرغبة في ذلك ليس التنويع الشكلي للصورة، بل استخدام الضوء والظل كأداة تعبيرية عما في داخل النفس. أكثر من هذا أن مدير التصوير مارتينللي عرف كيف يكسر حدّة بعض المشاهد التي تتطلّـب حواراً لا تستطيع التخلّـي عنه وذلك بحركة دائمة. 
والإتفاق الساري بين المخرج ومدير تصويره هو الذي يخلق من مشهد كان يمكن أن يمر عادياً وضعاً فنياً خاصاً وخالصاً. أحد هذه المشاهد، على سبيل المثال، تلك الحركة المتنوّعة والدائمة للكاميرا عندما يقوم "ميردر" بإصدار أمره للمرأة بقتل زوجها. هي لا تستطيع أن تقاوم رغبات ميردر. تترك مكانها في القاعة الكبيرة وتذهب إلى حيث تستل سكيناً ثم تصعد الدرجات العريضة إلى حيث غاب زوجها عن الوعي. هنا ينتقل المخرج إلى اللقطة القريبة- المتوسّـطة المفترض بها أن تصوّر فعل القتل (إذا ما تم) وما يمكن أن نطالعه على وجه الزوجة المغيّـبة عن الوعي.

مادلين وثلاثة رجال
هناك مشهد مهم آخر من حيث بنائه هو قيامها بالعزف على البيانو في قاعة صاحب المزرعة الذي جلس بعيداً عنها يستمع بشغف. عمق الصورة بالإضافة إلى تصميم المكان يؤلّـف المشهد وليس الفعل (عزف واستماع) فقط. هذا هو فعل الإخراج.
على الرغم من عنوانه، فإن «زومبي أبيض» ليس عن الزومبيز بقدر ما هو عن ذلك الجو الشيطاني الذي يزرعه ميردر في النفوس. هو من يدير هؤلاء بعدما يمنع عنهم الموت الكامل وهو من يريد أن يدير كل الذين يعارضونه. وهو لا يمكن أن يكون قد وقع في حب الفتاة مادلين لأنك تعرف منذ البداية أنه منيع عن المشاعر الإيجابية. هو فقط يرغب في تحويلها إلى عبدة أخرى ولو لوظائف مختلفة عن تلك التي يقوم بها الزومبيز. ويحلم بمستقبل يسيطر فيه على الناس عبر سحب أرواحهم من ذواتهم على تلك الطريقة وتركهم مجرد أبدان تتحرك كما تؤمر.
بقدر مقارب من الأهمية، هناك الزوج الذي يفجع بالوفاة الظاهرة والمفاجئة لزوجته، قبل أن يكتشف أن التابوت الذي وُضعت فيه بات خالياً. هذا يدفعه إلى البحث عما قد يكون حدث لكن ليس من قبل أن ينهار ويدمن الشرب. المشهد الذي نراه فيه يعبّـر عن حالات الألم النفسي والضياع وقوفاً عند جدار حانة وعليه ظلال لشخصين لا نرى منهما سوى الظل وهما يتحدّثان هو واحد من تلك الحلول التي وجدها المخرج مناسبة لتعميق الأزمة النفسية.
الغاية من تحويل مادلين إلى مطواعة لا إرادة لها، تشبه الزومبيز ولو أنها تختلف عنهم، ليست واضحة. هذا فيلم عن ثلاثة رجال يدورون حولها في الوقت ذاته: الخطيب الذي تحوّل إلى زوج بعد قليل من وصوله إلى قصر صاحب المزرعة. صاحب المزرعة بيومونت الذي يتقرّب منها بعدما سحره جماليها، وميردر الذي حوّلها إلى عبدة مطواعة. هل الثلاثة يريدون الشيء ذاته منها؟ الزوج هو الذي يحبّـها وهو الذي لم يتح له معاشرتها بعد الزواج منها. بيومونت يحبها ويكاد يفوز بها لولا امتناعها. لكن ميردر بهتته منذ مطلع الفيلم عندما اعترض طريق العربة ذات الخيول التي أوقفها. هل من البدهي أنه نال وطره منها جنسياً أيضاً؟ معقول. نحن لا نرى ذلك لأن المخرج قرر أن الغموض هو سلاح جيّـد في متناوله وكان على حق.

تحويل مادلين إلى زومبي يختلف من تحويل الآخرين (كلهم رجال) إلى زومبي. هناك العامل الجنسي المتواري والعامل الإقتصادي. دخول مادلين كواحد من ممتلكات ميردر البشرية هو تطوّر في خطّـة استخدمها ميردر، حتى الآن، لاستنفاذ القوى العاملة وعبوديتها. هؤلاء يعملون مجاناً ولا يأكلون ولا يرتاحون ولا توجد لديهم أي مشاغل أخرى. أيدي عاملة ليست رخيصة فقط، بل مجانية بالكامل. الفحوى هنا بالغ الأهمية لأنه يحدد أطماعاً رأسمالية تشبه تلك التي سادت أيام عبودية البيض للسود. هذا ما يدفع إلى السؤال: لماذا هؤلاء الزومبي من البيض وليسوا من المواطنين السود لجزيرة هاييتي؟ 

أحد الأسباب المحتملة (وربما أقواها) هو أن المخرج لم يرد الدخول في تجاذب حول العنصرية. الغالب هنا أنه وجد أنه وجود زومبي من المواطنين السود سيحدد الفيلم في خانة لا يريد المخرج الإنضواء تحتها. المسألة، بالتالي، هي أكبر من مجرد سود وبيض: هي عِـمالة استعبادية تسعد ميردر ويحلم بتطويرها تدريجياً. لكنه في الوقت ذاته يدرك إنه يغامر بحياته فعندما يسأله بيومونت عما سيفعله الزومبيز به إذا ما استعادوا أرواحهم يقول "سيقطعونني إرباً (They will tear me to pieces).



 بطاقة
الكاتب: Garnett Weston
مدير التصوير: Arthur Martinelli
توليف:  Harold McLernon
المنتج: Edward Helperin
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الممثلون
ميردر: Bela Lugosi
مادلين: Madge Bellamy
بيومونت: Robert Frazer
الزوج نيل: John Harron
دكتور برونر: Joseph Cawthorn
خادم بيومونت (سيلڤر): Brandon Hurst
سائق العربة الأسود: Clarence Muse
الزومبي الضخم: Frederick Peters




All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2015
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ