SUBMERGENCE ★★ | Mohammed Rouda

فيلم  الألماني ڤيم ڤندرز الجديد  «إنغماس» قصّـة حب سريعة تغرف قليلاً من تاريخ المخرج وأسلوبه والكثير من محاولات التطرّق إلى الوضع القائم تبعاً لرواية تبحث في صراع الأديان والحضارات | محمد رُضا 



من الصعب معرفة ما إذا كانت العالمة البيولوجية دانييل (أليسا ڤيكاندر) مصابة بموبيا (نظر ضعيف عن قرب) أو بهيبرروبيا (نظر ضعيف عن بعد). ها هي في مشهد يقع بعد نحو ثلث ساعة من الفيلم تخرج نظارتها لتقرأ صفحة الكومبيوتر وتنظر إلى الرجل الجالس أمامها. بعد قليل تخلع النظارة وتتحدث معه ثم تقرأ من جديد إنما من دون نظارة. 
لن نعرف إذاً طبيعة عينيها، لكن من الممكن معرفة طبيعة الممثلة وهي تؤدي هذه الشخصية بجهد محدود وحماسة أقل. الرجل الذي يجلس قبالتها أسمه جيمس (جيمس ماكأڤوي) الذي يعمل لصالح المخابرات البريطانية (M 16) لكنه متخف في وظيفة مهندس مياه. التقيا صدفة في فندق على الساحل النورمندي وكل وقع في حب الآخر. إذاً الألماني ڤيم ڤندرز في توليفة عاطفية هذه المرّة. واحدة تأخذ مداها (أكثر من نصف دقائق الفيلم) وتستخدم ذلك اللقاء وعدد واسع من مشاهد الإستعادة وتنتهي فاترة كما بدأت.
بين البداية والنهاية الكثير من الفتور في رواية كتبها ج م لدغارد وكتب عنها الروائي تود مكيوان نقداً في صحيفة «ذَ غارديان» في أيلول/ سبتمبر 2011 عكس عدم إعجابه بطروحاتها التي وجدها "موجهة" و"خطابية" وذات شخصيات لا تثير الإهتمام.
في فيلم ڤندرز تثير شخصية جيمس الإهتمام كثيراً. إنه جاسوس سيء الحظ سيقع قيد إعتقال منظمة القاعدة في الصومال حال وصوله وهو الذي جاء ليتجسس عليها. سيوضع في غرفة أرضية صغيرة فيها ثقب صغير بمستوى الأرض وبلا نافذة وبالتالي بلا إضاءة. هذا قبل أن ننتقل إلى الماضي وكيف تعرّف جيمس على دانييل وحملها على الشاطيء ليرميها في البحر على سبيل المداعبة. لاحقاً تداعبه بممارسة الغرام معه وحين يفترقا يوعز المخرج بأنه سيكون فراقاً كاملاً لا لقاء بعده.
بعد ذلك نحن ما بين استمرارها في الغطس بحثاً عن كيف تلتقي البكتيريا الحية بالفطر الميّت في  أعماق المحيط واستمرار اعتقال جيمس من قبل صوماليي القاعدة. هي تسعى لغاية علمية سامية وهو يواجه جهل المسلمين الذين يعدونه بالجنة إذا ما اعتنق الإسلام. في فيلم ڤندرز هذا ليست هناك شخصيات تطرح اسئلة على نفسها أو تسعى لفهم الآخر، بل مجرد عالمين واحد أفضل من الآخر.
ڤندرز يستخدم سرداً متأنياً حالماً في بعض أجزائه مع موسيقا من فرناندو ڤيلاسكيز قريبة الشبه ببعض ما وضعه ووغنر (خصوصاً في نصف الساعة الأولى من الفيلم) وهذا يساهم في نسج مشاهد ذات تأثير شبه شعري. لكن ذلك لا ينفع كثيراً في إشادة عمل متماسك يطرح أسئلته ثم استنتاجاته بقليل من البحث. تحت يدي ريدلي سكوت مثلاً كان يمكن للفيلم أن يثير كل الأبعاد المطروحة هنا بقدر أعلى من الإثارة الذهنية كما العاطفية.

من بين هذه الأبعاد تصوير جيمس كما لو كان المسيح وقد قتله المسلحون المسلمون. في الدقائق الأخيرة من الفيلم هناك يقف بقيوده وبثيابه البالية ووجهه المتعب رافضاً التخلي عن مسيحيته وتصديق وعود المسلمين بأنه إذا ما أعتنق الأسلام دخل الجنة. لا غبار هنا على ذلك مطلقاً فالإيمان لا يفرض فرضاً، لكن المشكلة هي في تصويره مقابلاً موضوعياً لإيمان الآخرين بدينهم. حين نرى الشيخ يطلب من أحد المسلحين تدريب طفله الصغير (لا يزيد عن خمس سنوات) على استخدام السلاح، ندرك أين يتجه الفيلم برسالته. هذا الشيخ الذي يصلّـي لله ويعلّم إبنه على القتل. مفهوم القضية يختلف هنا جذرياً عن هناك. لكن ما يبني عليه الفيلم حجته ضعيف لكون أعداء جيمس (وأعداء العلم والحضارة الغربية) هم متطرفون لا يعبرون عن الإسلام الا على نحو مجزأ يلبي حاجاتهم السياسية. تغييب هذه الحقيقة فاقع هنا لأن المقارنة ليست صحيحة. وحتى الطبيب (ألكسندر صدّيق) يُـظهر ضيق أفقه، ولو أنه لاحقاً ما يعاني من ازدواجية عمله فهو، كما يصفه جيمس، طبيب يداوي الناس لكنه يعمل لصالح قتلة.


Screenplay: Erin Dignam
Dir. of Photography: Benoit Debie
Music: Fernando Velázquez
Editors:  Tony Froschhammer.
Producer: Cameron Lamb.
Cast: Alicia Vikander, James McCoy, Alexander Siddig, Reda Kateb..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاشة الناقد

The Death of Stalin
موت ستالين

•  إخراج: أرماندو أيانوتشي
  كوميديا | بلجيكا/ فرنسا 2017
•  تقييم:   ★★★

| نقد: محمد رُضا

لم يترك الدكتاتور جوزف ستالين (1878-1953) محباً له أو معجباً به أو من يود الدفاع عن حكمه الذي كلّـف الإتحاد السوفييتي ملايين القتلى من المدنيين قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها من دون تعداد من مات خلالها. هو الذي قال،  ربما لتبرير أفعاله التي حطت على المزارعين كقدر غاضب «موت فرد واحد مأساة، موت الملايين مسألة إحصائية».

Black Panther | بلاك بانثر


كلوز- أب

BLACK PANTHER
«بلاك بانثر»
 فارس أفريقيا الجديد يتحدى العالم برسالة سلام 
في فيلم يكرّس أول سوبرمان أسود 

| محمد رُضــا
إخراج: رايان كوغلر
أكشن [كوميكس] | الولايات المتحدة (2018)
تقييم الناقد: ★★★

Darkest Hour | الساعة الأحلك


سيرة 
Darkest Hour
الساعة الأحلك

  يعرض المخرج جو رايت الوجه الآخر من 
«دنكيرك» عندما أختار تشرشل تحدي
النازية 
| نقد: محمد رُضــا

•  إخراج: جو رايت
  سيرة | بريطانيا 2018
•  تقييم:   ★★★★ 


Mudbound | مدباوند

فيلم وقضية 

Mudbound
«مدباوند»
 لا يسرد هذا الفيلم المعادي للعنصرية الواضح
بقدر ما يدخل تحت بشرته.
محمد رُضــا


•  إخراج:  دي ريز  Dee Rees
  دراما إجتماعية | الولايات المتحدة، 2017
•  تقييم:   ★★★★



City of the Sun | مدينة الشمس

تسجيلي

City of the Sun
مدينة الشمس
 تاريخ وحاضر بلدة جيورجية صغيرة 
وصفها الروائي بوريس باسترناك بأنها
"كارثة مريعة" 

| نقد: محمد رُضــا

 •  إخراج:  راتي أونلي
  تسجيلي | جورجيا، 2017
•  تقييم:   ★★★ 

نتائج الأوسكار وبعض خفاياه


 دل تورو ومكدورمند وأولدمان في عداد الفائزين
التشيليون احتفلوا بفوزهم واللبناني انضم لمن لم يفز

لوس أنجيليس - محمد رُضـا

جاءت جوائز الأوسكار في حفلتها التسعين كما توقعناها هنا غالباً. لكن هذا لا يعني أنها كانت مثار ضجر أو ملل، أو أنها خلت من المفاجآت.



الواقع هو أن الأفلام التي تسابقت على ذلك التمثال الذهبي الأيقوني الشهير كانت من التنافس بحيث أن أي منها حصد توقعات المراقبين بفوزه وكان، لو خرج بالأوسكار، لعبّـر عن جمهور عريض من المحبذين والمتوقعين. كذلك الحال في سباقات المهن الأخرى من الكتابة إلى التوليف الصوتي ومن التصوير إلى تصميم الملابس مروراً بالموسيقى والغناء وتصميم المناظر وسواها.

مضامين جائزة وجاهزة 
رغم ذلك، ولأنه لا يوجد فوز من دون خسارة على الجانب الآخر، فإن فوز بعض الأفلام  والسينمائيين خسارة للغالبية خصوصاً تلك التي وجدت نفسها محمّـلة بالتوقعات ما رفع أسهمها وأحلامها لأعلى نقطة في تاريخ حياتها.
ومن مسافة آمنة، يمكن القول أن ما حدث مع زياد الدويري وفيلمه «الإهانة» هو تحديداً ما نقوله هنا. بمراجعة نقاد المواقع المختلفة، سينمائية وسواها، نجد أن النسبة الأعلى منها توقع أن يخرج هذا الفيلم اللبناني بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وهو الأمر لذي لم يقع. بذلك حملت رياح الأمنيات بالون التوقعات عالياً قبل أن يتبدد كل شيء بإعلان فوز الفيلم التشيلي «إمرأة رائعة» بذلك الأوسكار. والمفارقة هي

الأوسكار الليلة... احتمالات وتوقعات | محمد رُضا


صراع بين الحديث والقديم يتوّجها
الأفلام والسينمائيون المرشّحون واحتمالات فوزهم

هناك تمثيل رائع من لورنس فيشبورن وبرايان كرانستون وستيف كارل في فيلم ممتاز من المخررج رتشارد لينكلاتر في فيلم عنوانه «آخر علم طائر» (Last Flag Flying) لكن لا الممثلين ولا المخرج ولا الفيلم مرشحون للأوسكار.
وإذا ما بحث المرء سيجد بين الأكوام المهملة من تلك الأفلام التي أنتجت في العام الماضي ويتنافس بعضها على أوسكارات العام 2018 بعض الأفلام الرائعة التي لم يكن لها حظ في الوثوب إلى الحلبة. «آخر علم طائر» أحد أفضلها.
ما  هو موجود وعلينا الإلتزام به مجموعة الأفلام والسينمائيين المرشحين للأوسكار في حقول الأداء والتصوير والكتابة وسواها من حقول المهن السينمائية الرفيعة وليس الأمر مجرد رصد إحتمال أوردته المواقع هنا أو التخمين بتأثير حدس شخصي ما، بل هو موازنة بين مجموعة كبيرة من العوامل والعناصر التي تتدخل في سياق عشرات الترشيحات ألوف العاملين في الحقل السينمائي في الولايات المتحدة. أحياناً تبدو المسألة مثل رفع الأثقال الحديدية. تضع حلقة حديدية وترفعها. تضع فوقها حلقة أخرى فتدرك أن المسألة باتت أصعب من التوقع وأبعد منالاً من التمنيات.
  • Phantom Thread

1 افضل فيلم 

هناك خمسة أفلام فقط من التي فازت بالأوسكار من سنة 2000 إلى السنة الماضية تنتمي إلى هوليوود التقليدية (الإنتاج الكبير مدعوماً بالحكاية ذات الأزمنة والشخصيات الشاسعة والكثير من العناصر الفنية والتقنية) وهذا في مقابل ...> [أنقر Read More أدناه للمتابعة]



من أفلام مهرجان برلين 2018

حكاية وطن مسلوب وقّوة قاهرة في
7 Days in Entebbe

اليوم الرابع من مهرجان برلين كان تكملة ليوم ثالث حافل بالأعمال التي تستدعي الإهتمام إن لم يكن التقدير كذلك. عدد منها تعامل مع قضايا مطروحة منذ الأمس وإلى اليوم وما زالت بلا حل يٌرتجى. تحديداً ما يُـعرف بالقضية الفلسطينية. هذا الوضع الذي دفع المخرج البرازيلي جوزيه بَديّـا (لبناني الأصل من عائلة بديعة) لإعادة طرح وتصوير عملية اختطاف طائرة إيرفرانس من أثينا إلى مطار عنتابي في العاصمة الأوغندية سنة 1976 وعلى متنها 248 مسافر من بينه 102 مسافر يهودي أو بجوازات إسرائيلية.
ما أن قامت القوات الإسرائيلية بالإغارة على مطار عنتابي لانتزاع رهائنها، في عملية ناجحة عسكريا وإعلامياً، حتى قامت السينما بتتويج تلك العملية في عملين متعاقبين.  الأميركي مارفن ج. تشومسكي (وهو مخرج تلفزيوني ببراعات محدودة) أخرج فيلماً بثته محطة ABC الأميركية بعنوان «نصر في عنتبي». المنتج الإسرائيلي الراحل مناحيم غولان قدم، من إخراج الأميركي مارفن كيرشنر الفيلم التالي  «غارة على عنتبي» لحساب شركته كانون في العام ذاته. 
بمقارنتهما (وهناك أفلام أخرى بعدهما) بفيلم جوزيه بَديّـا الحالي، وعنوانه «7 أيام في عنتابي»، يتبدى كم غرق الفيلمان السابقان في المواطنية العاطفية التي لم تأخذ في حسابها طرح أي وضع سياسي أو تتناول البعد الأساسي لما حدث آنذاك. أكثر من ذلك تعامل الفيلمان مع سيل من العواطف الهشة أو التي بدت، من كثرة التباكي هنا والفخر هناك، كذلك.
«7 أيام في عنتابي» يتناول العواطف بصدق ويضعها في إطار صحيح كونه من البداية هدف لتقديم عمل لا ينحرف عن خط وجده ملتقى لمختلف الغايات من تلك العملية. بذلك هو الفيلم الوحيد الذي لا يتحدث عن معاناة اليهود الخائفين من عاقبة الخطف، بل وجهة نظر الفلسطينيين وعضوي بايدر مانهوف الألمانية اللذان شاركا فيها. 
بالنسبة للفلسطينيين فإن شخصية جابر تطرح المسألة بوضوح أكثر من مرّة. مثلاً المرّة الذي يتحدث فيها عن «الشلل الذي أصاب العقل الألماني نتيجة الشعور بالذنب» حيال ما آل إليه اليهود تحت قبضة النازيين، أو العبارة القوية التي ينطق بها قائلاً للشريك الألماني «أنت لديك وطن تكره...أنا لدي وطن أحبه لكنه ليس لي".

إشكال
يبدأ الفيلم بمشهد موسيقي مدهم: مجموعة كبيرة من راقصي الباليه الإستعراضي في إسرائيل يقومون على كلمات أغنية فولكلورية (أغنية بإسم Echad yi Yodea كما يتردد) بتقديم استعراض راقص على الكراسي. هناك العدد الموازي لعدد الراقصين وهم يتلوون عليها أو يقفزون عنها ويطيحون بحيوية ملحوظة بأجسادهم في كل إتجاه. كلهم يجيدون ما يقومون به بإستثناء راقصة واحدة تسقط أرضاً في كل مرّة. 
علاقة هذا المشهد (الذي يتكرر كما يختم الفيلم بالتناوب مع عملية الإنقاذ ذاتها) تتبدى سريعاً لمن يلحظ أن السقوط يقع بعدما تدخل الرقصة فصلاً حاسماً: كل الراقصين يبدأون استعراضهم بثياب الحاخاميين وبعد حين يخلعون تلك الثياب (الرداء ثم القميص) بإستثناء الفتاة التي تقع أرضاً قبيل إتمام هذا المشهد. 
الرمز هنا واضح وهو أن التمسك بالتطرف الديني يؤدي إلى السقوط. إذ يتكرر ذلك في مشاهد النهاية فإن هذه الرسالة تأتي لتغلف الإنتصار الإسرائيلي بعبثيته مؤيداً ما يطرحه الفيلم من أن ذلك التشدد السياسي ورفض الحوار المتساوي مع الجانب الفلسطيني (حسب رؤية رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين) لا يمكن أن يعزز استقرار إسرائيل. في الفيلم يقول رابين لشمعون بيريز: "نحن في وسط جيران عرب وعلينا أن نتعايش معهم»
خط سير الفيلم تتابعي مقسم إلى سبعة أيام مع بعض مشاهد الإستعادة والكثير من الإنتقال ما بين عنتابي وتل أبيب. الجانب الإنساني نراه يكمن لدى الدوافع التي حدت بالفلسطينيين للقيام بتلك العملية. الجانب العسكري محدد بإقرار خطة مداهمة أثبتت نجاحها إذ لم ينتج عنها سوى قتيل إسرائيلي واحد.
اللغات المستخدمة هي، حسب حجمها من الحوار، الإنكليزية  والألمانية والعربية. لكن المخرج لابد وجد أن جعل الشخصيات الإسرائيلية تتحدث الإنكليزية فيما بينها ضروري لأن المشاهد الإسرائيلية المصوّرة (في لندن كما في إسرائيل) كثيرة ما يعني أن المتلقي عليه أن يعيش نحو نصف الفيلم مع لغة صعبة التلقي وتحتاج إلى ترجمة ما يعيق وصول الفيلم وغاياته.

النهاية فيها إشكال كبير واحد: بإعادة مشاهد الرقص رغم ما تؤديه من مفاد، تشهد مشاهد انقاذ الرهائن مستعجلة وأقل إندماجاً مع قوّة ما سبق. ولكن هذا، على الأرجح، مقصود بسبب أن غاية الفيلم ليس تقديم غارة عنتابي كبطولة، كما فعلت الأفلام السابقة له، بل كحدث واحد في فصل متتابع من فصول القضية التي لم تُـحل بعد لا سلمياً ولا حربياً. لكن في كل خانة أخرى من خانات الفيلم الفنية نجاح متين في توليفته وفي صنعته.


FILM REVIEW
Dunkirk

ميسر المسكي يجد فيلم كريستوفر نولان
الأخير خالٍ من إبداعات المخرج السابقة

|*| يبدو فيلم "دنكرك" لـ كريستوفر نولان أقرب للبروباغندا التاريخية منه إلى الملحمة، رغم اللقطات العريضة وحركات الكاميرا الواسعة والتناول الدرامي. قد يبدو فجاً ومُستهجناً وَصْم"دنكرك" بالبروباغندا وهو المُرَشَح لثماني أوسكارات والذي حاز ترحيباً نقدياً. لكن البروباغندا لم تَعُدْ تلك الدعاية السمجة والثقيلة والتي هدفها تشويه الآخر والإعلاء من شأن الذات. البروباغندا أصبحت أعمالاً فنية كبيرة تُرَوج لفكرٍ ما أولأسلوب حياة معينة بطريقة فعالة و رفيعة اللغة الإبداعية. كما أن الروباغندا لم تَعُد مُرتبطة بحدثٍ مرحلي أوصراع حالي، بل هي سيرة طويلة من الأعمال الفنية التي لا تكفّ عن الطرق في رأس المُتلقي لترسيخ أيديولجيا أو فكرةٍ ما. الشيوعية سقطت منذ أكثر من عشرين عاماً، والنازية سبقتها بعقودٍ طويلة، لكننا لا زلنا نتلقى كل عام حفنة من الأعمال (تتفاوت في جودتها وجدّيتها) تُبجلّ نصر العالم الحُرّ على أفكار "الظلام"!
لنعُد إلى الواقعة، في الأساس عمل نولان يتناول مرحلة من الحرب العالمية الثانية يكاد يتفق المؤرخون على أن تأريخها لاحقاً بأقلام المُنتصرين في الحرب حولها من هزيمة موصوفة وبكل المقاييس إلى "إنتصار" أو شيء يقاربه. ففي أوائل صيف 1940 أندفعَتْ الطوابير المُدرعة الألمانية والمدعومة جواً بفعالية، عبر بلاد البلجيك وتدفقت جنوباً مكتسحة شمال فرنسا. لم يستطع الحلفاء الفرنسيون والبريطانيون من مواجهة التكتيكات العسكرية الألمانية الحديثة فأنسحبوا بسرعة وسط فوضى وهبوط حاد في المعنويات. و وَجَدَ حوالي أربعمئة ألف جندي أنفسهم محاصرين في جيب صغير حول ميناء "دنكرك". فجأة، وبدون أي سبب أستراتيجي مفهوم، توقَفَ الألمان عن الهجوم للقضاء نهائياً على الجيب المُحَاصَرْ. يقول المؤرخون (أو بعضهم) لاحقاً أن هتلر أمَرَ قادته بالتمهل لأيام لإعطاء فرصة للبريطانيين لإجلاء قسم من جنودهم وإنقاذ ماء الوجه، بحيث يمكن التفاهم معهم لاحقاً على وقف الحرب بعد أن يستكمل إحتلال فرنسا (المحاولة الثانية كانت في الرحلة الغامضة إلى اليوم التي قام بها رودولف هيس إلى بريطانيا بعد عام من نهاية كارثة"دنكرك") في هذه الأيام الثلاث الحاسمة جمع البريطانيون أسطولاً هجيناً من السفن الصغيرة التي أسرعت لإجلاء المُحاصرين. حين إنجلى دخان القتال والقصف عن شاطئ الدنكرك كان الثمن الذي دفعهُ البريطانيون باهظاً: حوالي السبعين ألف قتيل ومثلهم من الأسرى (بحساب الأسرى الفرنسيين أيضاً) وعتاد الجيش البريطاني والفرنسي بكامله.
ماذا عن الفيلم؟ على خلفية الكارثة في ميناء دنكرك، أختارَ نولان أن ينحاز إلى وهم الإنتصار والبطولة (أول عناصر البروباغندا التاريخية) فمن المُقدمة المكتوبة والتي تسبق الفيلم نقرأ أن "العدو" يحاصر الجيش البريطاني في الميناء الفرنسي. لم يخترْ نولان أن يقول "الجيش الألماني" أو "القوات الألمانية" بل هو تَعَمّدَ، ومن البداية، أن يحول الرؤية التاريخية إلى "نحن" و"هُمّ". وإمعاناً في تكريس الإنحياز الدرامي إلى شخصياته عَمَدَ إلى تجهيل "العدو". فنحن لا نرى الجنود الألمان ولا طياريهم. لا نراهم يعانون ولا عذابات موتهم بالحركة البطيئة. هم فقط هناك يطلقون النار ويقصفون دون هوادة. لا وجه لهم، لا روح، لا تشخيص، لا عذاب، لا أحلام مكسورة، ولا.....بطولة، بالتأكيد.


شخصيات فيلم نولان تبدو وكأنها ترميز لفكرته. فالطيار المُقاتل (يلعبه توم هاردي دون تأثير) هو إختصار للتحدي البريطاني للهزيمة (التي ربما يُعبّر عنها أولئك الجنود على الأرض الذين لا ينفكوا عن محاولة التسلل إلى مراكب الإخلاء) وحتى حين يُوضع بين خيار أن يعود إلى قاعدته لقرب خلو خزانات طائرته من الوقود وبين التصدي للطائرات الألمانية المُغيرة على قوارب الإخلاء فهو يختار فعل البطولة والتضحية وتقديم سلامة الآخرين على النجاة بالذات (عنصر آخر من البروباغندا البطولية)
طبعاً، لا ينسى نولان أن يختم فيلمه بخطاب الصمود الشهير لونستون تشرتشل عن أن بريطانيا تحتفي بأولادها العائدين من البرّ الأوروبي وأنها ستواصل القتال في البرّ والبحر والجو حتى هزيمة المُعتدي. هو تبني كامل لرؤية التاريخ من زاوية المُنتصر كما يريدنا أن نراها بعد سبعين عاماً من الكارثة.
كاميرا السويسري-الهولندي فان هويتما (في جعبته واحد من أفلام جيمس بوند "سبيكتر" وفيلم الخيال العلمي "انتر ستيلر")
تحتفي بمناخ البطولة بحركات كاميرا واسعة، آخاذة وساحرة لكنها تفتقد إلى روح الملحمة التي أجاد ديفيد لين في خلقها في فيلم مثل "لورنس العرب". فالملحمية ليست شاشة عريضة وكاميرا مُذهلة الحركة وتكوينات بصرية خلابة. بل هي تناول التاريخ (ولو من زاوية مُحددة) بنظرة شاملة تصل إلى عمقها عبر السبر في سيرة الشخصيات التاريخية الحقيقي منها أو المُتخيل. لا يمكن للبروباغندا أن تصنع فيلماً تاريخياً ملحمياً، وإلا لكانت العديد من إنتاجات ستوديو "موسفيلم" السوفيتي الكبيرة تحولت إلى ملاحم سينمائية. لكن الحقيقة أن تلك الأفلام بقيت إنتاجات ضخمة تُطنب في الضرب على وتر البطولة السوفيتية و "وحشية" النازيين.


"دنكرك" مُخيّب للأمل. نعم. لكنه ليس فيلماً رديئاً بالمعنى التنفيذي والتقني. بالعكس بل أن بعض تفاصيله باهرة. فالفيلم يفتح على مشهد جميل جداً: صمت تام. الكاميرا تأخذ عدداً من الجنود البريطانيين يسيرون في شوارع المدينة المهجورة فيما مئات قصاصات الورق تتساقط عليهم من السماء في جو أقرب إلى الإحتفال. يبدو المشهد وكأنه خارج من الحلم و الخرافة. يلتقط أحد الجنود واحدة من القصاصات لنرى أنها تحذيراً من الألمان للمُحَاصرين أن يستسلموا. وبعدها يلعلع الرصاص. كما أن مشهد الجنود المحصورين في جوف سفينة  وعليهم أن يختاروا بين الموت غرقاً أو بالرصاص لو تجرأوا على الصعود إلى السطح قوي بدلالاته وتقطيعه وبنائه.

إذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن "دنكرك" كريستوفر نولان يُذَكّر بفيلم صغير عن نفس الواقعة صنعه الفرنسي هنري فرنوي عام 1964. الفيلمان يختلفان في كل شيء في الميزانية كما الحكاية كما التناول. لكن فيلم فرنوي (لعبه جان بول بلمندو وكاترين سباك) يبقى الأكثر حميمية، أقرب للروح....والحقيقة.