Film Review
Call Me by Your Name – Luca Guadagnino
"نادني بأسمك" لـ لوكا غوادانينو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقد: ميسر المسكي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• إخراج: لوكا غوادانينو
• دراما عاطفية | إيطاليا، برازيل، فرنسا (2017)
• تقييم الناقد: ★★★★★
كل صورة في فيلم غوادانينو البديع تشي بالرغبة المُتقدة
حسناً، من البداية، يجب أن أعترف أني مُنحاز لـ لوكا غوادانينو. مُنحاز لرهافة إحساسه. مُنحاز لقدرته على خلق الجمال من أشياء الحياة العادية. مُنحاز لإحتفائه بالجسد البشري كونه أجمل وأرقى عمل فني جادت به الطبيعة. مُنحاز لعذوبة وعمق تناوله لذلك الموضوع الشائك والغامض والمُترَبص في عمق النفس: الرغبة!
منذ أن شاهدت فيلمه الأول "إثارة أكبر" وجدتُ نفسي متورطاً في سينماه العذبة حتى الألم. في فيلمه الثاني "أنا الحب" ذهب أبعد في تناول العاطفة والرغبة على خلفية من الإسقاط الاجتماعي. هنا، في "نادني بأسمك"، هو يسبر من جديد، وبجمال شديد الرهافة، مواطن اللوعة والتوق.
أفلام غودانينو أنت لا تشاهدها فقط، بل تجد نفسك مُستدرجاً إلى التورط فيها حتى أُذنيك. لا ينفع أن تقول أن عليك أن تكون موضوعياً أو حيادياً وأن تترك مسافة لترى بوضوح. هو يغويك لإن تخوض التجربة بكل حواسك. ولو حاولت أن تستدرك ذاتك ولو مَرّة لتعيد النظر، فستجد أن الوقت قد فات، فأنت الآن أسير تلك العذوبة والجمال والقلق، فتغوص أكثر لتستمتع أكثر. في أفلام غوادانينو أنت لا تشاهد أوتسمع فقط. أنت تلمس الأشياء، تشمها، تعيشها وتنتمي إليها.
في "نادني بأسمك" قد يستفظع البعض أن العلاقة مثلية بين أميركي متخرج حديثاً من الجامعة ويقصد إيطاليا لدراسة الفن اليوناني-الروماني، وبين يافع في السابعة عشر من عمره. لكن، أبداً، أبداً الفيلم ليس عن الجنس المثلي ولا عن الإحتفاء به. هو عن عذابات الحب الأول وإكتشاف الذات والإبحار في جغرافيا الداخل الشري حيث لا شيء مُستكشف من قبل. في متاهات تلك الجغرافيا الغريبة يتلمس إيليو اليافع طريقه إلى ذاته عبر المرارة كما عبر العذوبة، عبر العاطفة كما عبر الجنس.
"نادني بأسمك" جميل جداً بحيث بالكاد تجد الرغبة (عند البعض) لإستحضار الموانع الأخلاقية والموروثة لعرقلة الإستمتاع بدفق الجمال المُرهَفْ الذي لا مناص منه في كل مَرّة يقف فيها غوادانينو خلف الكاميرا.
يَصَلْ أوليفر (أرمي هامر، ممتاز)، الخرّيج الأميركي، إلى كارمونا (قريبة من ميلانو) ليقيم فترة ستة أسابيع في فيلا ريفية يملكها برفسور جامعي (يلعبه بإجادة مايكل ستولبارغ) يقدم منح إقامة لدارسي الفن الإغريقي-الروماني. في الفيلا يلتقي أوليفر أيضاً بـزوجة البرفسور (الإيرانية أميرة قَصّار في دور لافت) و...إبنهما الوحيد إيليو (المدهش تيموثي شالامي). الأخير في السابعة عشر، يكتب الموسيقى ويعزف البيانو وضائع في أحاسيسه اليافعة والمُتقدة بشدة. لكنه أيضاً قليل الخبرة ويتلمس طريقه في تردد عبر علاقات غير مُستقرّة مع صبايا يلتقيهن في نادي البلدة أو يقصدن فيلا والده. حضور أوليفر يرسل شرارة توتر في الفيلا المُسترخية، وساكنيها، في كسل صيفي لذيذ. لا شيء يُقال. لكن لعبة ممتعة ومُقلقة من الإشارات والنظرات تبدأ بالتأثير على إيليو الذي يشعر بتغير في داخله يُعذبه ويُمتعه في آن. لعبة من الكَرّ والفَرّ العاطفي في مناورة أحاسيس مُعقَدَة تفرضها شروط الداخل الإنساني المهجوس بالرغبة والخوف واللهفة والقلق...والحب! أجمل ما في فيلم غوادانينو هو أن تجلس وتتابع مسار الشخصيات وهي تدور في دوائر إهليليجية لتقترب من بعضها ومن ثم تبتعد. ومع كل إقتراب وإبتعاد شحنة من رغبة وعذاب ولهفة تخترق القلب.
كل صورة في فيلم غوادانينو البديع التصوير (التايلندي سويومبو موكديبروم) تشي بالرغبة المُتقدة في داخل أوليفر وإيليو. الصيف الحار، البساتين الطافرة بالخُضرة، الشجر المُثقل بالفواكه التي يحملها، الأجساد المتعرقة قبل أن تغطس في بركة السباحة. الشخصيات التي تتجنب بعضها لكن كل ما في روحها وحركتها يتوق إلى لقاء حميم. وحين يحصل اللقاء، فإن كاميرا غوادانينو لا تبقى لتبصبص بل هي تتحرك بهدوء، تخرج من النافذة وتقف عند شجرة تتقد بالأخضر.
أوليفر و إيليو يختبران العالم حولهما بقدر ما يغوصان في عمق ذاتهما. كليهما لهما علاقات نسائية. أوليفر يبدو أنه يؤديها أكثر مما يعيشها. أما إيليو فليس من الصدفة أنه فقد عذريته مرتين في يوم واحد: ظهراً مارَسَ الجنس، للمرة الأولى في حياته، مع صديقته، وليلاً مع أوليفر في مشهد مُقدمته تحمل طرافة مُدهشة بقدر التوتر الذي يُحسّهُ الإثنان.
ينثر غوادانينو على فيلمه لقطات سريعة، خلابة، بديعة لأشياء تبدو غير لافتة لعين غير خبيرة بجمال العاديات: دراجة هوائية مُستندة على جدار قديم، زاوية شرفة في صباح صيفي حار، سطح بركة ماء راكدة، طريق ريفي غير مُعَبَدْ.... هي ليست مشاهد مجانية، بل أساسية في خلق المناخ العام الذي يمارس خلاله أوليفر وإيليو لعبتهما العاطفية الخطرة. حسناً أقول الخطرة لإن هذا هو المتوقع لعلاقة من هذا النوع وتحت عيون الوالدين. لكننا مع الوقت نُدرك أن ما كان يبدو أنه كان يدور في الخفاء بين أوليفر وإيليو لم يكن أكثر من "سرّ مُعلَنْ".
يحتفي غوادانينو بالحب والرغبة واللوعة واللهفة في عالم يختلف تماماً عن أعمال سابقة تناولت العلاقات المثلية بأسلوب فيه تعاطف ساذج أو قتامة مُنذرة بالعقاب. كما أنه يقف (وهو الذي أعلن مثليته منذ أن كان بعمر إيليو، كما يقول) ليعبر عن وقته وجيله. فالعلاقة المثلية في فيلم فيسكونتي العظيم، "الموت في البندقية"، 1971 (عن رواية توماس مان) كانت تشي بشكلها المكبوت والداكن ونهايتها التراجيدية عن إحتضار أوروبا على مشارف الحرب العالمية الثانية. أما فيلم جون هيوستن البديع "إنعكاس في عين ذهبية"، 1967، فقد تناول العلاقة المثلية في جو من القمع العاطفي والجنسي القاتم لشخصيته الرئيسة. أما غوادانينو فهو يصور العلاقة في بيئة بورجوازية، مُثقفة، مُنفتحة وفي صيف برّاق، حار، وفيلا طافحة بالجمال. لا شيء يوحي بالقمع والكبت في "نادني بأسمك" إلا ربما قلق وهاجس أوليفر وإيليو الداخليين. المُحيط عند غوادانينو وجيله وزمانه لم يعد اللاعب الأهم في تحديد وتقييم العواطف والرغبات. وربما الحوار عند نهاية الفيلم بين إيليو ووالده يقول الكثير عن هذا.
في البداية كان من المُفترَضْ أن يُخرج الفيلم المُخضرَم جيمس آيفوري ("موريس"، "غرفة ذات إطلالة"...) لكن إنتهى الأمر به كاتباً للسيناريو المُستند إلى نَصّ أدبي لـ أندريه أسيمان. الرواية الأصلية كانت تضع الأحداث عند نهاية حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، لكن غوادانينو شاء أن يبكر فيها أكثر فدفعهل إلى أول الثمانينيات. في لقاء مع الأوبزرفر اللندنية يقول أنه أختارَ هذا لإنه أرادَ زماناً لم يكن تلوثَ بعد بـ رونالد ريغان ومارغريت تاتشر ولا بالهواتف النقالة ولا الكومبيوتر ,,,وربما أضيف هنا أنه كان يريد زماناً مسكوناً بالقلق من الأيدز!
"نادني بأسمك" متعة خلابة تستدرجك إلى تجربتها الطافرة بالضوء واللون و الرغبة كما حبة الدرّاق الجميلة تلك المُعلقة على غصن ينوء بها قبل أن تقطفها يد إيليو.
0 comments:
Post a Comment