Dallas Buyers Club | Nymphomania: Volume 1 | Oldboy | The Past | صدى

Dallas Buyers Club     
«دالاس بايرز كلوب»
✩✪✪✪✪  | نقد: محمد رُضـــا
الولايات المتحدة 2013/4
إخراج: جان-مارل ڤالي


تكساسي معتد بنفسه ينحدر… وكل شيء آخر ينحدر معه
في أول فيلم أميركي له، يقوم المخرج الكندي جان-مارك ڤالي باستخدام ماهر لبضع عناصر متوفّرة بين يديه: أ) موضوع عن الأيدز ب) مأخود من واقعة حقيقية وت) سيناريو يستحق، كما الفيلم، التحليق حول الأوسكار، كذلك ث) الممثل الذكي ماثيو ماكوهوني… وكل ذلك بميزانية لم تتجاوز الستة ملايين دولار.
يؤدي ماكوهوني شخصية رون وودروف: من لاعبي الروديو (ركوب الخيول الجانحة في ميادين مخصصة)  شبه الماهرين. كل شيء في شخصيّـته عادي ومنتشر وغير مميّـز بما في ذلك إقباله على النساء والكوكايين ونبذه للشاذين. في أحد الأيام يسقط أرضاً ويُـنقل إلى المستشفى حيث يواجهه الطبيب بأنه مريض بالأيدز. الأحداث تقع سنة 1985 ويومها كان المنتشر هو أن هذا الداء لا ينتقل إلا بممارسة جنسية مثلية. الطبيب يخبره أن لديه شهر ليعيش. وودروف يخرج محطّـماً لكنه يحاول استعادة عالمه. لن يتوقّـف عن استهلاك المخدرات ولن ينبذ حياة الفسق ولن يغيّـر موقفه من أصحاب الميول المثلية حتى بعدما علم أن المرض وصل إليه بوسيلة أخرى. 
سيقوم رون بمحاولة توظيف مرضه والداء بأسره لمصالحه الخاصّة. سيتّجه إلى بلدة مكسيكية قريبة من الحدود حيث يُـباع عقار AZT الممنوع تداوله في أميركا. يفتتح لنفسه عيادة غير رسمية يبيع فيها الدواء المستورد (الذي برهن عن فاعليّته) للمصابين ويستخدم منه أيضاً. 
ماكوهوني موجود في معظم مشاهد الفيلم. إنه لولبه. لن يتحرّك الفيلم من دونه ولو تم إستبداله لتحرّك على نحو مختلف. إنه مثالي في الدور. تصدّقه في كل لحظة. وإخراج ڤالي (الذي سبق له وأن طرح في أفلامه الكندية القليلة مواضيع حول معاناة فردية) يعلم ذلك. يمنح الممثل (الذي خسر أكثر من 20 كيلو وهو النحيف أصلاً) كل دعم من ميكانيكية الفيلم ومعالجته. يمنحه تلك المشاهد الصامتة التي تصل فيه صرخته إلى الحناجر، وتلك المشاهد التي يتحدّى فيها العالم والمرض والظروف وتلك التي تصوّره وهو يعترف بعجزه. يمنحه الطقس التكساسي الكامل. الشعور بالقوّة والشعور بالعجز معاً ثم السقوط في هوّة بينهما.
«دالاس بايرز كلوب» ليس بحاجة لتقديم موعظة ولا للتحلّي برسالة أخلاقية، لكنه على عكس «ذئب وول ستريت» (الذي لعب فيه كرستيان بايل شخصية لا تقل شراهة في الجنس وفي استهلاك المخدرات وظهر ماكوهوني فيه بدور محدود لكنه ملحوظ) لا يحتفي بذلك ويلمّـع صورته بل يمنحه لونا قاتماً يبدأ بطله فيه لامعاً وينتهي داكناً وحزيناً.
علاقة الفيلم بالشذوذ، أو المثلية، مستنتجة من علاقة بطله بها. رون رجل معتد بذكوريّـته وميوله المستقيمة ولن يسمح لأحد أن يرتاب بهما. يتخاصم مع خلان الأمس حينما يبدأون الإرتياب به. ويقبل على المزيد من العلاقات النسائية في أبشع صورها غير الإنسانية. إنه ينحدر وكل شيء آخر له علاقة به ينحدر معه. 
في أحد المشاهد يشتم المثليين. وهناك مشهد أول يجمعه مع مخنّـث (مدمن على المخدرات أيضاً ويؤديه جارد ليتو) ينضوي على كل «سياسة» رون بهؤلاء الناس. وفي خلفية كل ذلك وعمقه، يواجه الفيلم عزوف مسؤولي إدارة العقاقير والأدوية الفدرالية الأميركية للمشكلة الأيدز وتأخرها في السماح للمصابين باستخدام أحد الأدوية التي قد تحد من الإنتشار ولو أنها لا تقتل المرض. هناك غضب في الفيلم لكنه مثل خيوط تلتقي لتنفجر في أداء ماكوهوني اللامع. وعلى نحو ذكي يتجنّـب المخرج توجيه فيلمه كما لو كان عن بطله ضد الأيدز أو بطله ضد الحكومة. إنه ضد نفسه أولاً.


Nymphomaniac: Volume 1     
شبقة : جزء 1
✩✩✩✪✪ | نقد: محمد رُضـــا

دنمارك، ألمانيا، فرنسا، بلجيكا، بريطانيا- 2014
إخراج: لارس فون ترايير 

الإعجاب الغربي الغالب بهذا الفيلم ليس له سوى ردّ واحد 
ما هو الأجدى؟ مشاهدة فيلم «سكس» أو ممارسة «السكس»؟
المخرج لارس فون ترايير يجعل الجواب هيّـناً: حين لا يكون لديك وقت لممارسة الجنس، أو الرغبة به، اعتبر «شبقة: جزء بديلاً.
في أيام مضت، كانت هناك صالات في باريس وبرلين وأمستردام تعرض أفلاماً أباحية. وكان بعضها يركّـب للمشاهد الجنسية المتواصلة بعض الحبكة يرشّـها مثل بهارات على الطعام لكي لا يبدو الفيلم كما لو كان مشهداً واحداً. مثلاً (وأقول ذلك لأني شاهدت بعض هذه الأفلام في السبعينات): فتاة تذهب لمقابلة عمل. بعض قليل تمارس الجنس مع المدير… الذي يعود للبيت (وهناك مشهد سيارة ومراب وفيلا) ويمارس الحب مع زوجته (أو خادمته) وبعد ذلك نعود ربما للفتاة الأولى التي تستلم عملها ويدخل عليها إبن المدير ويمارس معها… بعد 80 دقيقة ينتهي الفيلم ويعود المشاهد إلى الحياة الواقعية. 
سؤالي لنفسي وأنا أشاهد «شبقة» هو التالي: هل يختلف فيلم ترايير فعلاً عن تلك الأفلام الإباحية التي كانت تنتج في ذلك الحين؟ إذا كان يختلف فبماذا؟. قبل أن يهب عليّ البعض متهمين أنني أخلاقي، أؤكد أن سؤالي سينمائي خالص. ليحقق ما يريد المخرج (أي مخرج) من الأفلام وسأحقق ما أريد من الكتابة؟ OK؟
إذاً بماذا يختلف هذا الفيلم عملياً (أي خارج نطاق عناصر الإنتاج والكاستينغ) عن تلك الأفلام؟ بمساحة أكبر للحكاية؟ التركيبة ذاتها: إمرأة تسرد حكاياتها الغرامية بالتفصيل وننتقل مع كل حكاية لنتابعها بصرياً. هناك الكثير من العري والكثير من مشاهد الجنس الواضح. ليس هناك أي من حسنات الإيحاء. كله مرمي في وجه المشاهد. 
أن يُقال أن هناك فنّ يقف وراء التنفيذ ببساطة لا أعتقد. هناك ممثل جيّـد واحد يحاول خلق شيء من دوره كمستمع (ستيلان سكارسغارد) والباقون منفّـذون للمطلوب. هناك عناية بالتشكيل الفني، لكن الفن ليس فقط تشكيلاً، بل هو معالجة كليّـة تصبو إلى الكمال. لا كمال هنا. وأحياناً لا إثارة حسيّـة لأن الغاية هي السرد وليس البحث عمقاً. تغطية الفعل وليس سبر غور الشخصيات الفاعلة. لا يكفي أن تتولّى شارلوت غينسبورغ سرد حكاياتها لنقف على أبعاد ما لشخصيّتها الجانحة، بل كان على الفيلم أن يقدّم ذلك التبرير وليصوّر ما يريد بعد ذلك.
«أنا إنسانة عاطلة»، تقول جو (غينسبورغ) بعد أن نقلها رجل متقدّم في العمر أسمه سيليمان (سكارسغارد) إلى منزله عندما وجدها ملقاة على الأرض ومرضوضة الوجه. يضعها في غرفة نوم صغيرة ذات حائط شاحب وبلا ديكورات، ويجلس ليستمع إلى حكاياتها الواردة على شكل فلاشباك. بعد أقل من ساعة تقول له: "أنت تحاكمني أخلاقياً" وذلك ردّا على رأي أبداه. لكنه في الواقع رجل شغوف بالإستماع. حكاية جو أنها دخلت على جيروم (شايا لابوف) وعرضت عليه أن يفض بكارتها وهي في الخامسة عشر من عمرها. لا مانع لديه. بعد ذلك هي على منوال ميكانيكي تبحث عن المتعة الجنسية المباحة مع كل رجل ترغب به أو ترغب بالممارسة معه لأنها شبقة. المشكلة التي يعانيها الفيلم هنا هو أن لا يوجد ما يبرر مشاهدة الفيلم حتى وإن تابعناه. ولك أن تتصوّر ألف ناقد يتابعون ما يدور وكل يفكّـر كيف سيمنح هو التبرير لكي ينفي عن نفسه تهمة أنه "رجعي" أو "لديه مشكلة" أو- الأسوأ بإعتقاده "أخلاقي".
لكن مهما قلبت الفيلم يبقى عملاً بلا تبرير فعلي. ومع حوارات مثل «الوحدة كانت شريكي الدائم» و«أنا إمرأة عاطلة» و«أشعر بالعار» يضع الفيلم بطلته في ضوء خافت. هنا يبرز فرق لم أدر به عندما بدأت الكتابة، واكتشفته الآن: في أفلام البورنو القديمة، كانت البطلة تبدو مستمتعة بما تمارسه. بطلة ڤون ترايير تبدو بائسة معظم الوقت وإذا كانت تشعر بالعار فلم الفيلم أساساً.
أحياة ڤون ترايير فارغة مثل حياة بطلته؟ هل بناها على شخصه (ليس أنه مصاب بداء الشبق، لكنه مصاب بداء الفراغ)؟ طبعاً ستجد في «شَـبِـقة» قدراً من الترفيه بصرف النظر عن مشاهده. الترفيه ذاته الذي تتلقاه إذا ما استمعت إلى أحداث مشابهة كما كان يسمع سيليمان إلى جو في حديثها المتواصل. من لا يود أن يتابع سماع المغامرات الجنسية لشخص ما؟ لكن ما كان يقض احتمال أن ينتقل العمل من الترفيه الوارد إلى مفاد سليم وعميق هو أن المخرج تسلّـح بإسمه (مرّة أخرى) وقرر أنه يريد فيلماً صادماً في حين أن أفلام سواه (حتى تلك التي لم تكن برونوغرافية تماماً أيضاً مثل سلسلة أفلام «إيمانويل») كانت لا تكترث لأن تدعي شيئاً. 


Oldboy       
«فتى كبير» 
✩✩✪✪✪ | نقد: محمد رُضـــا

الولايات المتحدة 2013
إخراج: سبايك لي 

سبايك لي أخرج، بعد غياب، فيلماً جيّـداً ليس هناك من بحاجة إليه
 إعادة صنع للفيلم الكوري الذي حققه سنة 2004 بارك تشان-ووك وفيه أن رجلاً استيقظ ذات يوم (من شرب حتى التهلكة) ليجد نفسه حبيس غرفة تشبه غرف الفنادق أثاثاً لكن بلا نافذة. والباب الذي يؤدي منها وإليها صلب لا يمكن خلعه ومقفول من الخارج مع فتحة في نهايته لإطعامه. لخمسة عشر سنة (في الفيلم الكوري وعشرين سنة في النسخة الأميركية) لم ير هذا الرجل وجه مخلوق سوى من يظهر على شاشة التلفزيون في غرفته. لنصف هذه السنوات ربما، لم يفعل هذا الرجل شيئاً سوى الشرب (يمرر له المعتقل زجاجة فودكا أو نحوها كل يوم) والصراخ والضرب على الجدران والباب ومحاولة الإنتحار. في نصف تلك السنوات الأخرى يبدأ بتدريب نفسه على الجودو مستلهماً حركات برنامج تلفزيوني يومي. أقلع عن الشرب وشحن نفسه بالأمل في أنه سينجح في الخروج من هذه الغرفة يوماً وينتقم من سجّـانه. 
المخرج سبايك لي ينجز الفيلم نفسه مع تغييرات قليلة ويحافظ، لجانب الأحداث، على العنف الذي حمله الفيلم الكوري. لكن إذا ما كنت أذكر فيلم تشان-ووك جيّداً، وهو ربح جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» آنذاك، هناك عنف أكثر في ذلك الفيلم الكوري مما هو هنا. لكن نسخة لي عنيفة بلا ريب. ليس فقط عنف المعارك اليدوية بينه وبين الأشرار وعنف القتل الذي يواليه بعد الإفراج عنه، بل عنف شخصيّـته الرئيسية جو (جوش برولين) على نفسه. هو رجل أعمال يكاد ينجز صفقة ناجحة لكن حين تفشل يؤم الشرب حتى يهوى. يستيقظ في تلك الغرفة التي تشبه غرف الفنادق ويبدأ مرحلة عيش تبدأ من العام 1993 وتنتهي عام إنتاج الفيلم (2003). مثل البطل السابق، يضعه معتقله أمام خيار صعب: عليه أن ينجح في معرفة هويته التي لا زالت خافية عليه، في ثلاثة أيام وإلا سينتقم منه. بكلمات أخرى، خاطفه (الذي يملك سبباً جوهرياً لما قام به) يعرض على جو أن يبحث ويكشف النقاب عن السبب الدفين في الأمس ليكشف هويته ولينفّـذ فيه إنتقامه معتقداً أنه سوف لن يستطيع. 
السبب الدفين يعود إلى حين كان بطل الفيلم المعتدى عليه، وعدوّه المعتدي صغيران في المدرسة والأول أقدم على فعل ترك أثراً عميقاً في نفس الثاني استوجب رغبته في الإنتقام ما ولّـد الرغبة في إنتقام مضاد.
صفّـق النقاد كثيراً للفيلم الكوري وقليلاً لفيلم سبايك لي. لكنهما متساويان في معظم العناصر بإستثناء أن كل ما هو «فرنجي برنجي» (الله يرحمك يا عمر الزعني) وما يجمع بينهما غياب الرسالة فالحكاية فردية ولا تتمدد تجاه نقد إجتماعي أو تلقي بظلالها على أي إتجاه خارج قصّـة نجحت في أن تنطلق من فكرة لافتة. إذ أقول ذلك، لا يفوتني القول أيضاً أن تنفيذ سبايك لي (ومن قبله تشان ووك) ركيكاً أو معدوم الخصال. يكفيه أنه مساق جيّـداً ومثير للإهتمام كحكاية تشويقية. صحيح أنها لا تفيد أحداً من المشاهدين، لكنها على الأقل مثيرة وتمثيل برولين مقنع.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


The Monument Men نقد فيلم «الميدان» لجيهان نجيم وفيلم جورج كلوني الجديد

أفلام مهرجان برلين 3

The Monument Men     
رجال النُـصُـب
    *****
الولايات المتحدة | إخراج: جورج كلوني (المسابقة)

هذا الأسبوع، وافقت الحكومة الأميركية على طلب بولندي بإعادة لوحات وآثار تاريخية كانت وصلت إلى الولايات المتحدة إثر إنتهاء الحرب العالمية الثانية. هل نفهم إذاً أنه، وعلى عكس ما يدّعي فيلم جورج كلوني الجديد، لم تعد كل المقطوعات والنُـصب والآثار واللوحات إلى دولها آنذاك؟ هل انتهى بعضها في بواخر شحنتها إلى الولايات المتحدة؟
بصرف النظر عن الجواب «رجال النُـصب» الذي يتولّى التأكيد على أنه مقتبس من أحداث حقيقية مع اللحظة الأولى للفيلم، يشتغل كما لو كان الموضوع هيّـن جداً. هناك كسل في إخراج هذا الفيلم وفي الوقت ذاته نقص في أكسجينه. المشاهد تتوالى مكتفية بإيحاءاتها من دون تفعيل حقيقي، ومن دون روح في بعض الأحيان. كلوني الذي أنجز أربعة أفلام سابقة كمخرج كل واحد منها أفضل من هذا الفيلم، وبعضها أفضل بكثير، ربما قصد أن يقدم فيلماً يدور في رحى الحرب (أو ما تبقى منها) من دون أن يكون حربياً. عظيم. لكن هذا وحده ليس ضمانة لعمل جيّد. في أفضل أحواله، هو مجرد إختيار.
في بدء الفيلم نرى جورج كلوني يخاطب الرئيس الأميركي وبعض أعوانه طالباً منهم السماح له بتشكيل فرقة من علماء الآثار واللوحات الفنية (ستّة أفراد) للسفر إلى أوروبا للبحث عن تلك اللوحات المسروقة من قبل المحتلين النازيين. الموعد مناسب لأن النازيين كانوا بدأوا يولّـون الأدبار من المساحات الهائلة من أراضي الدول الأوروبية الأخرى التي استولوا عليها في السنوات الثلاث الأولى من الحرب العالمية الثانية. يوافق الرئيس على الطلب وها هو كلوني، الذي يتمتع بلياقة بدنية جيّـدة، يؤلف فريقه: هوي بونفيل، مات دامون، بيل موراي، جان دوجاردان، جون غودمان وبوب بالابان ولاحقاً ينضم ديمتري ليونيداس إلى الفريق. يصلون إلى النورماندي بعد التحرير لكن لا يمكن ملاحظة أن هذا النزول هاديء أكثر من اللزوم، كما لو أن المجموعة حطّت في سياحة على أحد سواحل هونولولو. يوزّع رئيس الفريق (كلوني) المهام مقسّماً الفريق إلى ثلاثة. يرينا على الخريطة أين سيتوجه كل فريق وماذا يتوقع له أن يجد.
تتوقع أن يبدأ الفيلم هنا. السعي لإعادة اكتشاف اللوحات الثمينة لكبار الفنانين لا يمكن أن يكون نزهة سياحية حتى ولو أن الأحداث تقع بعد الأيام الأولى لاندحار القوات النازية عن بعض الأراضي الفرنسية. نعم، هناك مشهد لجون غودمان وجان دوجاردان يكتشفان أنهما محاطان بمجموعة من الجنود الألمان. عظيم. هل ننتظر معركة؟ نعم. هل تقع؟ لا. في مشهد آخر هناك رصاص قنّـاص يطلق بإتجاه بوب بالابان وبيل موراي. يدخل موراي المبنى الذي يتحصّـن فيه القنّـاص. هل من معركة؟ لا. القنّـاص ليس سوى صبي مرتعد.

هنا تكمن المشكلة: في الوقت الذي ليس من الضروري أن يتجه فيلم كهذا، مبني على أحداث داخل الحرب من دون أن يكون حربياً، لتصوير معارك، إلا أن معالجة كل من هذين المشهدين هي "ضد الذروة" Anti Climax. إحذفهما وسوف لن تلحظ أثراً لا إيجابي ولا سلبي على الفيلم. بالنتيجة كل الفيلم "ضد الذروة". كما لو أن المخرج ضاع فوق خارطة فما عاد يعرف أي نوع من الأفلام هذا الذي بصدد إخراجه. الجزء الأكبر من هذا الفقدان للبوصلة كامن في سيناريو يحكي قصّـة ولا يجيدها ثم لا يحكي سواها. بعض المشاهد توفر صوراً كاريكاتورية لشخصياتها. لا شيء جاداً (ناهيك عن ناجحاً) يمكن أن ينتج عن بيل موراي وهو يمثّـل شخصيته المعتادة أو جون غودمان وهو لا يستطيع النهوض عن الأرض بسبب ثقل وزنه، ولا بوب بالابان الذي يبدو أكبر سنّـاً من أن يشترك في مغامرة كهذه.
خيط جانبي مهم يتحوّل إلى هامشي ذاك الذي يؤدي فيه مات دامون وكايت بلانشيت (الوحيدان اللذان يمثلان جيّداً) دوريهما: هو أحد أعضاء هذا الفريق وهي سكرتيرة سابقة لنازي من مسؤولي تهريب اللوحات تساعده في إيجاد الثروات المخبّـأة. 
في النهاية يخبرنا الفيلم أن نحو خمسة ملايين قطعة أثرية (تماثيل ولوحات) تم إكتشافها بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية. شاهدنا منها ربما عشرة أو عشرين في حكاية ليس من حقّها أن لا تحمل تشويقاً ما خصوصاً وإنها ليست حكاية جادّة في موضوعها وإلا لربطت الماضي بالحاضر عن طريق توجيه رسالة ما (ضد الحرب، ضد سرقة المتاحف، ضد أي شيء).

أفلام مهرجان برلين 4
   
 الميدان     
*****
الولايات المتحدة | إخراج: جيهان نجيم (فورام).

لماذا بقي مشهد معيّن في بالي أكثر من سواه؟ سألت نفسي منذ أن شاهدت «الميدان» الذي سبق وعُـرض في مهرجان دبي، والآن يعرض في برلين وهو بالطبع مرشّـح لأوسكار أفضل فيلم تسجيلي، و- أقولها من الآن- قد يفوز بها.
طبعاً الكثير قيل فيه بما في ذلك خطأ شاع بقصد عاطفي أو من دون قصد على الإطلاق وهو أنه فيلم مصري ما يجعل ترشيحه للأوسكار أول ترشيح مصري رسمي لهذه الجائزة. وكانت السينما المصرية قدّمت للترشيح 29 فيلماً خلال تاريخ الأوسكار، لكن لم يدخل أي منها الترشيحات الرسمية وبالطبع لم يفز بالتالي أي فيلم. لكن الحقيقة أن الفيلم يحمل موضوعاً مصرياً ومخرجته مولودة في مصر (وتحمل الآن الجنسية الأميركية) لكن الفيلم ليس مصرياً بل أميركياً محضاً. وسواء أفاز الفيلم أو لم يفز فإنه لا يمثّـل السينما المصرية مطلقاً. فهوية الفيلم تتحدّد بالتمويل وليس بهوية صانعه.
المشهد الذي بدا نافراً يصوّر الأخواني مجدي يدخل منزله تتقدّمه الكاميرا. لسبب ما (لا يعلّق الفيلم على ذلك) يده اليمنى مربوطة بضمادة بيضاء من الرسغ وحتى ما بعد الكوع. ربما من آثار إعتداء البوليس، كونه من الذين شاركوا في ثورة يونيو، أو قد تكون ناتجة عن سقوطه أو أي حادثة عرضية أخرى. المشهد التالي له وهو يتحدث مستخدماً كلا اليدين في الإشارة. الضمادة لا تزال ظاهرة في اليد اليمنى. الأم تتكلم. الكاميرا تعود إليه. الضمادة لا زالت في يده اليمنى. الأم تتكلم أكثر. الكاميرا تعود إليه: الضمادة- للقطة واحدة فقط- أصبحت في اليد اليسرى. بعد ذلك تعود إلى اليد اليمنى!
تساءلت ما هذا؟ وحين سنحت لي فرصة مشاهدته على الإنترنت أعدت عرض هذه اللقطات البسيطة ثلاث مرّات لكي أتأكد. في مشهد واحد، بثياب واحدة، في وقت واحد من اليوم، في جلسة واحدة، تنتقل الضمادة من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى ثم تعود إلى حيث كانت. حين إنتقالها إلى اليد اليسرى تبدو اليد اليمنى عادية. في باقي اللقطات، اليد اليسرى عادية. لا جروح أو رضوض.
المسألة ليست بسيطة على الإطلاق. غلطة من النوع الذي يمكن يمكن أن يقع في فيلم روائي. أما أن تقع الغلطة في فيلم تسجيلي فإن هذا لا معنى له إلا إذا الضمادة هي لإبلاغ رسالة مثل أنه تعرّض للضرب من قـِبل قوات السُـلطة. في هذه الحالة، لم تكن يد مجدي مصابة على الإطلاق. في هذه الحالة أيضاً هناك إحتمال كذب، وفي كل الأحوال إهمال لا ريب عندي أن المخرجة ومن معها من العاملين في الفيلم انتبهوا إليها (إلم ينتبهوا لها فالوضع أصعب).

«الميدان» فيلم جديد لجهيان نجيم التي سبق لها وأن حققت فيلم إنطلاقتها عن محطة «الجزيرة» بعنوان «غرفة الكونترول» والذي نفذت منه للحديث عن الغزو الأميركي للعراق وكيف أن مكتب المحطّـة في بغداد كان مستهدفاً بحد ذاته. هنا لا حديث عن الجزيرة ولا موقفها السلبي حيال الثورة المصرية منذ بدايتها ولا كيف تحمّـست لوصول عضو الأخوان المسلمين محمد مرسي إلى الحكم، ثم انضمت إلى أولئك المحتجّـين على قيام الجيش بخلعه من الحكم بموافقة شعبية زادت نسبتها عن الـ 51 بالمئة التي أوصلت مرسي إلى الحكم.
لا يثير هذا الجانب همّ المخرجة نجيم بل تحاول في نحو ساعتين الإلمام بمسيرة الحياة السياسية من وجهة نظر الشارع الموحّـد في البداية والمنقسم لاحقاً. تنطلق من الميدان وتنتهي إليه بعد ثلاث سنوات من الثورة. تنطلق بالمرور سريعاً على بداية الثورة التي أدّت إلى الإطاحة بالرئيس مبارك وقد يكون السبب في ذلك أنها وجدت العديد من الأفلام الوثائقية سبقتها إلى خوض هذا الموضوع ولأنها تريد وقتاً أطول لمتابعة الأحداث التي لا تتوقف عن الوقوع. 
بعد مبارك تصوّر نبض الشارع السعيد بذلك، ثم تبدأ المخرجة مرحلتها الأصعب وهي تقدم (وإبراز) وجهة النظر السلبية في الفترة التي تلت ذلك مباشرة والتي مارست فيها السُـلطة العسكرية الحلول العنيفة ذاتها التي اعتمدها حكم مبارك قبل سقوطه. هذا ما يدلف بها إلى بداية الحس العام بأن حزب الإخوان المسلمين يعملون لجانب العسكر على تفريغ الثورة من مضامينها واستغلال الفترة الحرجة للتمكن من إحتلال البرلمان ثم الوصول بمحمد مرسي إلى الرئاسة.
مجال الفيلم الزمني، بعد ذلك، ضيق للتعريف الكامل بدور الأخوان المسلمين في دفع البلاد إلى الهاوية والهيمنة على شرايين الحياة على نحو دكتاتوري شامل. تختصر المخرجة كل ذلك بتقرير قصير حول كيف تصرّف مرسي حال استلامه كرسي الرئاسة وكيف عادت جموع الشعب، بالملايين منه، لإعلان حكمها السريع ضده ما أدّى إلى عزله وإلقاء القبض عليه. لكنها لا تلومه ولا تظهر الضراوة التي حاول فيها التمسّـك بالسُلطة وخروج أزلام الحزب لمهاجمة المعارضين له. 
في المقابل، وعلى العكس من ذلك، تفرد معـظم الوقت لتناول الكيفية التي واجه بها الحكم العسكري، حال خلع الرئيس السابق حسني مبارك، ثوار الميدان المطالبين برحيل الحكومة العسكرية. هذا اللا توازن يُـسجل على الفيلم الذي يدّعى أنه متوازن، وهذا الإدعاء يتخذ شكل الحديث عن الثورات الثلاث متوالية: ضد حكم مبارك (نحو عشر دقائق) وضد سلطة العسكر ثم  ضد حكم الأخوان (نحو ربع ساعة).
تم تصوير الفيلم على مراحل. النسخة التي شوهدت في مهرجان صندانس في مطلع العام الماضي لم تضم دحر الثوار حكم الرئيس الأخواني، هذا جاء لاحقاً. من حيث مستوى العمل لا ريب أن المخرجة تعرف كيف تخلق للمادة المصوّرة حضورها الصحيح.  بعض المشاهد موزّعـة على النحو الصحيح تماماً لكي تعبّـر عن المرحلة في مونتاج جيد وواع لطبيعة النظرة البانورامية التي تبغيها المخرجة. في هذا الصدد هو فيلم جيّد وما شوهد من أفلام تسجيلية أخرى من تلك المنافسة على الأوسكار يقترح أن المنافسة ستكون كبيرة. 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

The Grand Budapest Hotel | '71 : نقد أفلام مهرجان برلين


Year 7 | Issue 183
أفلام مهرجان برلين - 1
 The Grand Budapest Hotel     
فندق بودابست الكبير
    *****
الولايات المتحدة | إخراج: وس أندرسن (المسابقة)

الذي صنع أفلاماً من نوعية «راشمور» و«الحياة المائية لستيف زيسو» و«دارجيلينغ ليمتد» ثم «مملكة سطوع القمر» Moonshine Kingdom وميّـزها بأسلوبه الدقيق، لا يستطيع أن يخرج عن هذا المنهج مطلقاً خوفاً من فقدان هويّـته. كل ما يستطيع فعله هو محاولة تطويره. هذا هو حال مخرج هذه الأفلام وس أندرسون في عمله الجديد «فندق بودابست الكبير» الذي افتتح الدورة الرابعة والستين من مهرجان برلين.
كالعادة هو فيلم أسلوبي منفّـذ بصرياً لاستغلال حب المخرج للتصميم المختلف: هناك المشاهد التي يلتقي فيها لون الخلفية مع لون ملابس الممثلين ولون السقف ولون الأرض، وهناك العناوين التي تظهر على الشاشة مشاركة في تأليف المشهد والبدع الصغيرة الأخرى المألوفة في أفلام أندرسون. 
أكثر من ذلك، يختار هنا الإنتقال من مقاس فيلمي إلى آخر حسب الفترة الزمنية: الستينات مصوّرة بنظام الشاشة العريض. الثلاثينات بمقياس 35 مم الأصغر من مقاس 35 مم المعمول به حالياً. 
العالم الذي يتعامل معه هذا المخرج ليس في الواقع، حتى عندما يذهب إلى الهند في «ذا دارجيلينغ ليمتد» (2007) أو إلى هذه المقاطعة غير المسمّـاة من أوروبا التي تقع فيها الأحداث ما بين الحربين العالميين وما بعد (تنطلق من اليوم ثم تزور أواخر الستينات ثم تمضي في الأمس أكثر لمشارف سنة 1932). الفندق الذي في العنوان مميّـز بقدر الفندقين اللذين شاهدناهما في فيلم «سايكو» لألفرد هيتشكوك (1960) و«اللمعان» لستانلي كوبريك (1980) لكن في استخدام مختلف، فهو ليس فيلم رعب، كحال هذين العملين البديعين، بل فيلم ذكرى وذاكرة. حنين إلى أمس يراه المخرج، وربما معه الحق في ذلك، جميلاً وشبه منزّه عن زلات البشر. إنه عن السلوكيات الإجتماعية التي تبدلت وانحدرت من تصرفاتها الدمثة وسلوكياتها المرهفة إلى ما نحن عليه اليوم. ولا تستطيع أن تخطيء المخرج في هذا الموقف فما نعيشه يتجاوب مع ما نراه على الشاشة ويؤيده. 
في ذلك الفندق نتعرّف على مالكه مصطفى (ف. موراي إبراهام) وعلى «الكونسييرج» غوستاف الذي لجانب انضباطه في العمل لا يمانع في إقامة علاقات عاطفية مع بعض نزيلاته حين تتاح الفرصة (والفرصة متاحة الآن مع نزيلة إرستقراطية عجوز تؤديها تيلدا سوينتون). إبنها (أدريان برودي) سرعان ما يتهم غوستاف بقتل والدته في تطوّر لحبكة لا تتوقف عن فتح نوافذ كل منها يطل على حبكة أصغر. قصّـة داخل قصّـة والفيلم يتمدد لكن من دون أن يفقد معناه أو متنه الأهم.
لكن في الوقت الذي يستمتع فيه البعض بكل هذا التركيب، يمكن للبعض الآخر، ولن يكون بعيداً عن الصواب، النظر إلى أسلوب أندرسون على أنه مفبرك ومتكلّـف. كلاهما يحمل قدراً مقبولاً من الحقيقة بلا ريب.


أفلام مهرجان برلين  - 2
  
 '71     
*****
بريطانيا | إخراج: يان ديمانج (المسابقة).

العنوان هو رقم العام الذي وقعت فيه الأحداث (1971) … أو لعلها لم تقع مطلقاً. فيلم يان دمانج، الذي انشغل في السنوات الأولى من مهنته بتحقيق مسلسلات تلفزيونية وأفلام قصيرة، ليس مبنياً على واقعة فعلية لكنه يستند إلى تاريخ واقعي إذ يدور خلال الحرب الأيرلندية الأهلية التي لا ريب شهدت حكايات تشابه الحكاية المسرودة هنا قسوة إذا لم تتجاوزها.
يؤسس السيناريو لشخصية بطله غاري (جاك أو كونيل) الشاب الملتحق بالخدمة العسكرية حديثاً الذي يتلقى فجر أحد الأيام الأمر بالتوجه إلى أيرلندا الملتهبة بالصراع بين البروتستانتيين المخلصين لبريطانيا والكاثوليكيين المناهضين لها. 
قبل ركوب السفينة التي ستنقل الحامية، يلاعب غاري إبنه الموجود في مدرسة داخلية والذي يخشى أن لا يعود والده من تلك الحرب. غاري يطمئن إبنه ثم ينطلق. بعد يوم على الأكثر يجد نفسه في أرض العدو. لقد حاصره الأيرلنديون عندما دخلت الحامية منطقة كاثوليكية هو ورفيق معه وانهالوا عليهما ضرباً. أحدهم أطلق النار على رفيقه لكن غاري هرب والقاتل في أعقابه. هناك مطاردة، تذكر بأسلوب المخرج بول غرينغراس في سلسلة «بورن» التشويقية،  لكنها ليست بقـوّة مونتاجه، وتقع بين عضو منظمّـة أيرلندا الجمهورية IRA وغاري الباحث عن النجاة. 
المطاردة  مفتاح الموضوع بأسره. كنه سرده. فالجندي غريب في تلك المنطقة من المدينة ولا يعرف بمن يثق به والمطاردون (إزداد عددهم طبعاً) يبحثون عنه. يلتقطه صبي صغير ويقرر مساعدته. لكن إنفجاراً يقع في المكان الذي لجآ إليه ويصاب غاري فينقله أيرلندي وإبنته خفية إلى شقّـتهما. الجنود البريطانيون يبحثون عنه من ناحية والمطاردون كذلك والعوامل والإتجاهات السياسية تتضارب بحيث تتشابك المصالح خصوصاً وإن الإدارة السياسية للحامية البريطانية لديها «أجندتها» الخاصّـة في هذا الوضع.
لمعظمه هو فيلم تشويقي مع نهاية غير مؤذية لأحد.  لكن التشويق ليس على حساب الموضوع وتشعّـباته. هذا فيلم عن معاناة فرد ويمكن قراءة معاناة الحرب الأهلية ووقعها على المواطنين. ربما ليس من المفضـّـل وصفه بأنه فيلم مضاد للحرب، إذ يأتي هذا عرضاً طبيعياً من دون جهد، لكنه بالتأكيد يصفها بالعبثية ولديه ما يقوله عن تصرّفات الجيش البريطاني منذ قيامه في مطلع الفيلم بالتراجع أمام ثورة أهل الحي تاركاً غاري لمصيره.
أسلوب العمل يعتمد على تصوير متحرك (كاميرا محمولة ومهزوزة لكنها مناسبة) ومونتاج متلاحق والمخرج يعامل الموضوع بأسره حسب الأسلوب التشويقي الملائم إنما بثقة الحريص على توظيف هذا الأسلوب لخدمة الجانب الإنساني من حياة مجنّـد يحاول البقاء حيّـاً والعودة إلى ولده في نهاية المطاف. خلال العرض ينجح المخرج في الإيحاء بأنه في الواقع وراء فيلم حربي. الإختلاف بينه وبين سواه أن الحرب هنا أهلية خمدت نيرانها قبل سنوات قليلة لتنشب في بلاد أخرى وبين مذاهب مختلفة. 



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أسرار عائلية



أسرار عائلية
*****

إخراج: هاني فوزي | مصري (2014).
تمثيل : محمد مهران، سلوى محمد علي، طارق سليمان، عماد الراهب،
بست شوقي، مريم محمد علي، أحمد عبد الوهاب.
سيناريو: محمد عبد القادر | تصوير: عمرو فاروق | توليف: دعاء فتحي | موسيقا: راجح داوود | إنتاج: محمد سطوحي [شركة الأمل للإنتاج السينمائي]

بالنسبة للبعض قد يكون الأمر مجرد خطأ بسيط، وهو بسيط فقط شكلياً، لكنه خطأ على كل حال وفي صميمه قد يكون كاشفاً: نور (الذي أسمه الحقيقي في الفيلم مروان لكنه يفضل حتى نصف ساعة قبل النهاية أن يناديه البعض بنور) جالس مع أمه (سلوى محمد علي) وشقيقته (بسنت شوقي) في مقهى عند حمام سباحة يعج بالرجال والنساء. بينه وبين أمـه راديو أو تسجيل للمغني المفضل لدى الأم محمد عبدالمطّـلب. يمد نور يده إلى الزر الدوّار عند الجانب الأعلى من الجهاز ويخفض الصوت بحركة من إصبعه تجاه والدته ونسمع صوت الأغنية قد خفت كثيراً. والدته لم يعجبها ما فعله إبنها فتمد أصبعها صوب الزر نفسه وتحرّكه تجاهها هي، فيعلو صوت الأغنية من جديد! هذا أول جهاز يعمل بحركة ذات إتجاه واحد لخفض الصوت ولرفعه معاً. يذكّرني بأحد أفلام طارزن من بطولة جوني ويسمولر الذي كان يصيح (مدّعياً أنه يتحدّث لغة الحيوانات الأفريقية) «إنغاوا» فيتقدم منه الفيل، يصيح أيضاً «إنغاوا» فيشد الفيل الحبل متراجعاً وطارزان واقفاً على الرافعة ما يجعله يرتفع إلى شقته الفخمة عند رأس الشجرة. بعد قليل «إنغاوا» هذه يقولها للشامبانزي فتسرع إستجابة لأمره. هي أيضاً إنغاوا عندما يحاول الحديث بلغة إحدى القبائل. هي كلمة واحدة لكل الأفعال وللجميع.
حجم الخطأ المذكور أعلاه كان يمكن أن يصغر حتى يتلاشى. يُمـحى تماماً من الذاكرة لو أن الفيلم تطوّر إلى عمل جيّد. هو عمل جاد بالتأكيد لكن الجدية ليست تماماً إجادة.  «أسرار عائلية» يخفق على أكثر من صعيد بإستثناء صعيد واحد هو أنه يعالج موضوعاً لم تعالجه السينما المصرية مباشرة من قبل: الشذوذ الجنسي (من شذّ عن السائد وليس أكثر).
يبدأ الفيلم بوصلة كمان وناي. ثقافة الحزن من مطلع الفيلم عبر موسيقا العناوين وتستمر بلا إنقطاع تقريباً. ثم نحن في مشهد سيرد، كفترة زمنية في منتصف حياة بطله نور (محمد مهران). المشهد عبارة عن لقاء بين نور وأحد عشاقه الذي عاد للتو من الحاج. عاد وتأنيب الضمير ينهشه. لا يريد إستمرار العلاقة بينهما وهو غيّـر مفتاح الشقّـة (كيف دخل نور؟) ويطلب منه أن لا يزوره بعد اليوم. ثم سنعود خمس سنوات إلى الوراء بعد هذا المشهد المُمثّـل والمنفّـذ دراماتيكياً.
نور، يشرح لنا ما يحدث على الشاشة. ما نراه ماثلاً في معظم الحالات. لكن من قبل إيضاح المشكلة في هذا الموقف، لابد أن آنتهي من المشكلة السابقة: تضع لو كنت سينمائياً، مشهداً ثم تعود عنه إلى الوراء خمسة أيام أو خمسة أشهر أو خمسة سنوات، حين يكون المشهد هو محور الدراما الماثلة، أو القمّـة في سلسلة الأحداث. لا تستخدمه على هذا النحو لو كان مجرّد مشهد هو من حيث القيمة الدرامية ليس ذي بال على الإطلاق.
من ناحية التعليق لن أقول أكثر من أن «جمال أميركي» يحمل تعليق الشخصية الرئيسية بصفة أنا كالحال هنا، لكن هل هناك مشهد واحد في ذلك الفيلم كان يمكن إلغاء التعليق فيه؟ التعليق لا يعني أن نتحدّث عما نراه، بل هو- إذا ما كان له بد-  لطرح ما لا نراه. هذا لا يقع هنا لأن المخرج هاني فوزي في محاولته تبكيل عمل "من جميعه" أراد التعليق كما أراد تلك البداية والعودة إلى الوراء ثم الوصول إليها وتجاوزها بعد منتصف الفيلم. 
أراد أيضاً تقديم حكاية الشاب نور (المجتهد محمد مهران)  الذي يحس بجاذبية صوب الذكور وليس صوب الإناث. شقيقته التي كانت ترصده كانت تعلم بذلك حتى قبل أن يعترف لها. حملت إعترافه وذهبت به إلى والدتها التي صرخت "لا إبني طبيعي". وهي تأخذه عند دكتور العائلة فيحوّله إلى طبيبة تتحدّث في كل شيء ما عدا المشكلة ومنها إلى طبيب آخر لا يفقه شيئاً ومنه إلى … إختصاراً هناك خمسة أطباء في فيلم يتقصّـد الفيلم تصوير أربعة منهم كحمقى لا يفقهون فيما يقومون به. ليس أنه أمر غير قابل للتصديق مع بعض التنازل، لكنك تستطيع أن تصم وتنتقد من دون الحاجة لتقديم أربعة نماذج تؤدي إلى الغرض نفسه، خصوصاً وأن الفيلم عن نور وليس عن أطبّـاء علم النفس. آخر هؤلاء، رقم خمسة، يعرف كثيراً أفضل من سواه وهو الذي يبدأ بوضع نور (الذي عاد فتمسّـك بإسمه الأصلي مروان كدلالة على بدء شفائه) على الطريق الصحيح للخلاص من معضلته التي يؤكد له مراراً وتكراراً أنه ليس مرض إلا في مجتمع قاصر عن فهم وضعه ("المشكلة مشكلة مجتمع بحالو" يقول له الطبيب) وينصحه بأن يسافر ليعيش في الغرب لأنهم هناك أكثر قبولاً بكثير من المجتمع العربي برمّته. 
لأن هاني فوزي، كاتباً ومخرجاً، يريد أن يضع كل شيء في الوعاء الذي يطبخ فيه هذا الفيلم، لا يكتفي بنقد الأطبّاء بل بنقد الدين (الشيخ الذي يتقدّم نور منه بحثاً عن حل يصرخ فيه: "أعوذ بالله من غضب الله" وهذا كل ما يستطيع توفيره من نصيحة) والمعلّـمين (هناك مشهد انتقام ساذج لنور من الأستاذ الذي سخر من حركاته الأنثوية ومشهد ساذج آخر ينتقم فيه نور من الطبيبة التي لا تفقه شيئاً) ثم يستدير لتكملة نقد كان بدأه مع العائلة ذاتها: الأم سلبية. الأخ الأكبر أناني. الأب مسافر. هذه عائلة مفككة وتفككها ربما، يقترح الفيلم، هو ما قاد الصبي إلى الوضع المشكو منه. لكن حين يعود الفيلم لكي يبحث المزيد، وليضيف توابل أكثر على الموضوع) يقرر عودة الأب لكي يساعد ذلك في كشف المستور: غياب الأب (في أميركا) هو جزء من السبب لأن نور كان يبحث عنه كأب وعطف وكصديق كبير فلا يجده. الأم جزء من السبب لأنها كانت تدلّـعه وهو صغير ولأنها كانت دوماً تريد أن تثبت أنها تدير البيت بنجاح في غياب الأب كونها تخاف من المسؤولية. بعد قليل يكشف لنا الفيلم في تكديس آخر أن شقيق نور هو سبب أساسي أيضاً "أعتدى عليّ وأكثر من مرّة".
الآن صرنا في وضع مستمع كان اكتفى من هذه الحكاية التي لا تريد أن تنتهي. وها هو الأخ يذهب لمقابلة الطبيب نفسه لكي- وفي تمثيل يعتقد أنه إذا تأتأ فيه أجاد- يشرح وضعه ويطلب علاجاً. 
في كل ذلك يضع الكاتب نفسه موضع المحلل. يحاول حقاً أن يقدّم دراسة عن حالة وهو صادق ونزيه وغير مستثمر ولا يريد أن يحوّل فيلمه إلى مستودع من النصائح، لكن المسألة شائكة عليه، إن لم يكن بسبب حوار كثير من جمله متكررة ("قلت لك مليون مرّة"… و"طول عمري وأنا…") مع تدخل التعليق بحيث لا يترك للحوار ما يضيفه، فبسبب تعدد الرغبات وإتساع حلقات الطرح وعدم تنظيم الأفكار في بساطة موجزة وعميقة. 
في الدقيقة الـ 144 من أصل 150 كان لا يزال الفيلم لا يريد أن ينتهي. لم يكتب ليفتح فصلاً من حياة بل ليفتح كتاباً على المخرج نقله كاملاً. ها هو الأب في تلك الدقيقة يقرر أنه يريد العودة إلى اميركا، لكن نور يمنعه. الأب يقبَـل نور والإثنان، بعد لحظات، صارا صديقين رائعين. أكثر من ذلك، نور انتهى أو كاد من مشكلته. لقد اتصل به الحاج حازم فجأة فذهب لنداء الواجب ليجد حازم حلق ذقنه واستعاد ليبراليّـته وجاهز لكن ما أن يُـغلق الباب عليهما، حتى يُـفتح من جديد ويخرج نور رافضاً العودة. إستطراد آخر في شكل مقابلة أخيرة مع الطبيب الخامس. لقد جاءه شاكياً أنه شعر بالضعف. الطبيب يفهم كل شيء وهو يكرر إرشاداته "إقبل نفسك" و"أنت تصعد جبلاً ولابد أن تتعثّـر لكنك ستصعد من جديد… حتى ولو وقعت وعدت إلى الصفر ستصعد من جديد"… مع مثل هذه النصائح بدأت أعتقد أن الفيلم يقصد التمهيد لساعة أخرى من التعثر والوقوع. لكن هذا هو الكاتب الذي يتكلّـم واضعاً كلماته على لسان ممثل يؤدي دور طبيب ويريد بالفعل إقفال الدائرة التي فتحها.
مع الحاج حازم معضلة هي الجانب الآخر من سوء إستخدام مشهد المقدّمة بينهما. لقد فرض كاتب السيناريو على نفسه أن يعود إلى الوراء، لكن بما أن الحاج حازم لا يعدو سوى حادثة هامشية (حتى مع الرجوع إليه) وإلى جانب أن المشهد لا يلبّـي ما يحتاجه الفيلم من  مبرر درامي قوي لاستخدام الفلاشباك الطويل، فإن المشكلة الناشئة أيضاً هي الإنتقال من فترة إلى فترة. هذا ما لدينا في هذا الصدد:
- نور في زمن حاضر ما.
- نور قبل خمس سنوات.
- نور لابد وأنه وصل إلى نهاية الخمس سنوات.
- نور بعد الخمس سنوات
- نور يلتقي مجدداً مع حازم
تركيبة كتابية لا تعرف أين تفصل الأزمنة. لا تدري كمشاهد أين تقع هذه الفترات. ثم يضيف الكاتب شيئاً لاستكمال هذه العثرات:
- نور سيعود بذاكرته إلى صباه (أي قبل الخمس سنوات الأولى) لكي نراه وشقيقه الذي اعتدى عليه، قبل أن يعود إلى الزمن الحالي الذي هو الزمن الذي يسبق نهاية الفيلم.



«أسرار عائلية» بسبب كل هذه الجوانب مفترقة ومجتمعة لا يعرف الذروة الدرامية. مع تعليق رتيب وأداء فقير الإدارة وتقديم بطل بعين ثالثة (رغم التعليق الشخصي)  وليست عين ذاتية أو قريبة (على عكس «جيش الخلاص» الفيلم المغربي الذي خرج في العام الماضي وتداول فيه المخرج عبدالله طايع مشكلته هو كونه مثلي) ومحاولة تحليله طوال الوقت، لم يكن من الممكن سرد فيلم بتصاعد درامي كون إهتمام المخرج هو البرهنة عن فهمه وطرحه وتحليله ما منعنا من حكاية تسرد الوضع بلا تعليق وتطرح ما تريد من نقد من دون إرشادات وتوجيهات مصاحبة. بعد 34 دقيقة تماماً شعرت برتابة الوضع ولم ينقذني من تلك الرتابة إلا توقف الفيلم عن العرض. لقد حقق ما أراده: أن يكون أوّل (ونحن نعلم سحر كلمة أوّل في ثقافتنا) فيلم مصري عن الشذوذ الجنسي، وأن يحمل لمشاهده كل ما يمكن طرحه من مسببات ودوافع وأصابع إتهام. ما لم يحققه هو فيلم آخر أفضل منه.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ