أسرار عائلية
*****
إخراج: هاني فوزي | مصري (2014).
تمثيل : محمد مهران، سلوى محمد علي، طارق سليمان، عماد الراهب،
بست شوقي، مريم محمد علي، أحمد عبد الوهاب.
سيناريو: محمد عبد القادر | تصوير: عمرو فاروق | توليف: دعاء فتحي | موسيقا: راجح داوود | إنتاج: محمد سطوحي [شركة الأمل للإنتاج السينمائي]
بالنسبة للبعض قد يكون الأمر مجرد خطأ بسيط، وهو بسيط فقط شكلياً، لكنه خطأ على كل حال وفي صميمه قد يكون كاشفاً: نور (الذي أسمه الحقيقي في الفيلم مروان لكنه يفضل حتى نصف ساعة قبل النهاية أن يناديه البعض بنور) جالس مع أمه (سلوى محمد علي) وشقيقته (بسنت شوقي) في مقهى عند حمام سباحة يعج بالرجال والنساء. بينه وبين أمـه راديو أو تسجيل للمغني المفضل لدى الأم محمد عبدالمطّـلب. يمد نور يده إلى الزر الدوّار عند الجانب الأعلى من الجهاز ويخفض الصوت بحركة من إصبعه تجاه والدته ونسمع صوت الأغنية قد خفت كثيراً. والدته لم يعجبها ما فعله إبنها فتمد أصبعها صوب الزر نفسه وتحرّكه تجاهها هي، فيعلو صوت الأغنية من جديد! هذا أول جهاز يعمل بحركة ذات إتجاه واحد لخفض الصوت ولرفعه معاً. يذكّرني بأحد أفلام طارزن من بطولة جوني ويسمولر الذي كان يصيح (مدّعياً أنه يتحدّث لغة الحيوانات الأفريقية) «إنغاوا» فيتقدم منه الفيل، يصيح أيضاً «إنغاوا» فيشد الفيل الحبل متراجعاً وطارزان واقفاً على الرافعة ما يجعله يرتفع إلى شقته الفخمة عند رأس الشجرة. بعد قليل «إنغاوا» هذه يقولها للشامبانزي فتسرع إستجابة لأمره. هي أيضاً إنغاوا عندما يحاول الحديث بلغة إحدى القبائل. هي كلمة واحدة لكل الأفعال وللجميع.
حجم الخطأ المذكور أعلاه كان يمكن أن يصغر حتى يتلاشى. يُمـحى تماماً من الذاكرة لو أن الفيلم تطوّر إلى عمل جيّد. هو عمل جاد بالتأكيد لكن الجدية ليست تماماً إجادة. «أسرار عائلية» يخفق على أكثر من صعيد بإستثناء صعيد واحد هو أنه يعالج موضوعاً لم تعالجه السينما المصرية مباشرة من قبل: الشذوذ الجنسي (من شذّ عن السائد وليس أكثر).
يبدأ الفيلم بوصلة كمان وناي. ثقافة الحزن من مطلع الفيلم عبر موسيقا العناوين وتستمر بلا إنقطاع تقريباً. ثم نحن في مشهد سيرد، كفترة زمنية في منتصف حياة بطله نور (محمد مهران). المشهد عبارة عن لقاء بين نور وأحد عشاقه الذي عاد للتو من الحاج. عاد وتأنيب الضمير ينهشه. لا يريد إستمرار العلاقة بينهما وهو غيّـر مفتاح الشقّـة (كيف دخل نور؟) ويطلب منه أن لا يزوره بعد اليوم. ثم سنعود خمس سنوات إلى الوراء بعد هذا المشهد المُمثّـل والمنفّـذ دراماتيكياً.
نور، يشرح لنا ما يحدث على الشاشة. ما نراه ماثلاً في معظم الحالات. لكن من قبل إيضاح المشكلة في هذا الموقف، لابد أن آنتهي من المشكلة السابقة: تضع لو كنت سينمائياً، مشهداً ثم تعود عنه إلى الوراء خمسة أيام أو خمسة أشهر أو خمسة سنوات، حين يكون المشهد هو محور الدراما الماثلة، أو القمّـة في سلسلة الأحداث. لا تستخدمه على هذا النحو لو كان مجرّد مشهد هو من حيث القيمة الدرامية ليس ذي بال على الإطلاق.
من ناحية التعليق لن أقول أكثر من أن «جمال أميركي» يحمل تعليق الشخصية الرئيسية بصفة أنا كالحال هنا، لكن هل هناك مشهد واحد في ذلك الفيلم كان يمكن إلغاء التعليق فيه؟ التعليق لا يعني أن نتحدّث عما نراه، بل هو- إذا ما كان له بد- لطرح ما لا نراه. هذا لا يقع هنا لأن المخرج هاني فوزي في محاولته تبكيل عمل "من جميعه" أراد التعليق كما أراد تلك البداية والعودة إلى الوراء ثم الوصول إليها وتجاوزها بعد منتصف الفيلم.
أراد أيضاً تقديم حكاية الشاب نور (المجتهد محمد مهران) الذي يحس بجاذبية صوب الذكور وليس صوب الإناث. شقيقته التي كانت ترصده كانت تعلم بذلك حتى قبل أن يعترف لها. حملت إعترافه وذهبت به إلى والدتها التي صرخت "لا إبني طبيعي". وهي تأخذه عند دكتور العائلة فيحوّله إلى طبيبة تتحدّث في كل شيء ما عدا المشكلة ومنها إلى طبيب آخر لا يفقه شيئاً ومنه إلى … إختصاراً هناك خمسة أطباء في فيلم يتقصّـد الفيلم تصوير أربعة منهم كحمقى لا يفقهون فيما يقومون به. ليس أنه أمر غير قابل للتصديق مع بعض التنازل، لكنك تستطيع أن تصم وتنتقد من دون الحاجة لتقديم أربعة نماذج تؤدي إلى الغرض نفسه، خصوصاً وأن الفيلم عن نور وليس عن أطبّـاء علم النفس. آخر هؤلاء، رقم خمسة، يعرف كثيراً أفضل من سواه وهو الذي يبدأ بوضع نور (الذي عاد فتمسّـك بإسمه الأصلي مروان كدلالة على بدء شفائه) على الطريق الصحيح للخلاص من معضلته التي يؤكد له مراراً وتكراراً أنه ليس مرض إلا في مجتمع قاصر عن فهم وضعه ("المشكلة مشكلة مجتمع بحالو" يقول له الطبيب) وينصحه بأن يسافر ليعيش في الغرب لأنهم هناك أكثر قبولاً بكثير من المجتمع العربي برمّته.
لأن هاني فوزي، كاتباً ومخرجاً، يريد أن يضع كل شيء في الوعاء الذي يطبخ فيه هذا الفيلم، لا يكتفي بنقد الأطبّاء بل بنقد الدين (الشيخ الذي يتقدّم نور منه بحثاً عن حل يصرخ فيه: "أعوذ بالله من غضب الله" وهذا كل ما يستطيع توفيره من نصيحة) والمعلّـمين (هناك مشهد انتقام ساذج لنور من الأستاذ الذي سخر من حركاته الأنثوية ومشهد ساذج آخر ينتقم فيه نور من الطبيبة التي لا تفقه شيئاً) ثم يستدير لتكملة نقد كان بدأه مع العائلة ذاتها: الأم سلبية. الأخ الأكبر أناني. الأب مسافر. هذه عائلة مفككة وتفككها ربما، يقترح الفيلم، هو ما قاد الصبي إلى الوضع المشكو منه. لكن حين يعود الفيلم لكي يبحث المزيد، وليضيف توابل أكثر على الموضوع) يقرر عودة الأب لكي يساعد ذلك في كشف المستور: غياب الأب (في أميركا) هو جزء من السبب لأن نور كان يبحث عنه كأب وعطف وكصديق كبير فلا يجده. الأم جزء من السبب لأنها كانت تدلّـعه وهو صغير ولأنها كانت دوماً تريد أن تثبت أنها تدير البيت بنجاح في غياب الأب كونها تخاف من المسؤولية. بعد قليل يكشف لنا الفيلم في تكديس آخر أن شقيق نور هو سبب أساسي أيضاً "أعتدى عليّ وأكثر من مرّة".
الآن صرنا في وضع مستمع كان اكتفى من هذه الحكاية التي لا تريد أن تنتهي. وها هو الأخ يذهب لمقابلة الطبيب نفسه لكي- وفي تمثيل يعتقد أنه إذا تأتأ فيه أجاد- يشرح وضعه ويطلب علاجاً.
في كل ذلك يضع الكاتب نفسه موضع المحلل. يحاول حقاً أن يقدّم دراسة عن حالة وهو صادق ونزيه وغير مستثمر ولا يريد أن يحوّل فيلمه إلى مستودع من النصائح، لكن المسألة شائكة عليه، إن لم يكن بسبب حوار كثير من جمله متكررة ("قلت لك مليون مرّة"… و"طول عمري وأنا…") مع تدخل التعليق بحيث لا يترك للحوار ما يضيفه، فبسبب تعدد الرغبات وإتساع حلقات الطرح وعدم تنظيم الأفكار في بساطة موجزة وعميقة.
في الدقيقة الـ 144 من أصل 150 كان لا يزال الفيلم لا يريد أن ينتهي. لم يكتب ليفتح فصلاً من حياة بل ليفتح كتاباً على المخرج نقله كاملاً. ها هو الأب في تلك الدقيقة يقرر أنه يريد العودة إلى اميركا، لكن نور يمنعه. الأب يقبَـل نور والإثنان، بعد لحظات، صارا صديقين رائعين. أكثر من ذلك، نور انتهى أو كاد من مشكلته. لقد اتصل به الحاج حازم فجأة فذهب لنداء الواجب ليجد حازم حلق ذقنه واستعاد ليبراليّـته وجاهز لكن ما أن يُـغلق الباب عليهما، حتى يُـفتح من جديد ويخرج نور رافضاً العودة. إستطراد آخر في شكل مقابلة أخيرة مع الطبيب الخامس. لقد جاءه شاكياً أنه شعر بالضعف. الطبيب يفهم كل شيء وهو يكرر إرشاداته "إقبل نفسك" و"أنت تصعد جبلاً ولابد أن تتعثّـر لكنك ستصعد من جديد… حتى ولو وقعت وعدت إلى الصفر ستصعد من جديد"… مع مثل هذه النصائح بدأت أعتقد أن الفيلم يقصد التمهيد لساعة أخرى من التعثر والوقوع. لكن هذا هو الكاتب الذي يتكلّـم واضعاً كلماته على لسان ممثل يؤدي دور طبيب ويريد بالفعل إقفال الدائرة التي فتحها.
مع الحاج حازم معضلة هي الجانب الآخر من سوء إستخدام مشهد المقدّمة بينهما. لقد فرض كاتب السيناريو على نفسه أن يعود إلى الوراء، لكن بما أن الحاج حازم لا يعدو سوى حادثة هامشية (حتى مع الرجوع إليه) وإلى جانب أن المشهد لا يلبّـي ما يحتاجه الفيلم من مبرر درامي قوي لاستخدام الفلاشباك الطويل، فإن المشكلة الناشئة أيضاً هي الإنتقال من فترة إلى فترة. هذا ما لدينا في هذا الصدد:
- نور في زمن حاضر ما.
- نور قبل خمس سنوات.
- نور لابد وأنه وصل إلى نهاية الخمس سنوات.
- نور بعد الخمس سنوات
- نور يلتقي مجدداً مع حازم
تركيبة كتابية لا تعرف أين تفصل الأزمنة. لا تدري كمشاهد أين تقع هذه الفترات. ثم يضيف الكاتب شيئاً لاستكمال هذه العثرات:
- نور سيعود بذاكرته إلى صباه (أي قبل الخمس سنوات الأولى) لكي نراه وشقيقه الذي اعتدى عليه، قبل أن يعود إلى الزمن الحالي الذي هو الزمن الذي يسبق نهاية الفيلم.
«أسرار عائلية» بسبب كل هذه الجوانب مفترقة ومجتمعة لا يعرف الذروة الدرامية. مع تعليق رتيب وأداء فقير الإدارة وتقديم بطل بعين ثالثة (رغم التعليق الشخصي) وليست عين ذاتية أو قريبة (على عكس «جيش الخلاص» الفيلم المغربي الذي خرج في العام الماضي وتداول فيه المخرج عبدالله طايع مشكلته هو كونه مثلي) ومحاولة تحليله طوال الوقت، لم يكن من الممكن سرد فيلم بتصاعد درامي كون إهتمام المخرج هو البرهنة عن فهمه وطرحه وتحليله ما منعنا من حكاية تسرد الوضع بلا تعليق وتطرح ما تريد من نقد من دون إرشادات وتوجيهات مصاحبة. بعد 34 دقيقة تماماً شعرت برتابة الوضع ولم ينقذني من تلك الرتابة إلا توقف الفيلم عن العرض. لقد حقق ما أراده: أن يكون أوّل (ونحن نعلم سحر كلمة أوّل في ثقافتنا) فيلم مصري عن الشذوذ الجنسي، وأن يحمل لمشاهده كل ما يمكن طرحه من مسببات ودوافع وأصابع إتهام. ما لم يحققه هو فيلم آخر أفضل منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
0 comments:
Post a Comment