أفلام مهرجان كان: غاتسبي العظيم


Year 5/ Issue: 157
غاتسبي العظيم  *  The Great Gatsby

غاتسبي عظيم بقلم فيتزجرالد، لكنه بائس 
ويائس على شاشة مخرج لا يريد أن يكبر

هناك مفارقة ساخرة ناتجة عن إختيار «غاتسبي العظيم» لإفتتاح مهرجان «كان» السينمائي الدولي. فبعد ساعات تلتئم عناصر الحفل الكبير: صانعو الفيلم، جمهور الضيوف والمشاركين وجمهور المتواجدين أمام مدخل القصر، ومئات المصوّرين ونحو 1500 صحافي وناقد سيحضرون الفيلم في عرضه المسائي ثم يخرجون منه ويتوزّعون. لكن عدداً كبيراً منهم سيدلف بعد ذلك الحفلة الساهرة الكبيرة التي تقيمها شركة الإنتاج وورنر والتي ستصدح فيها الموسيقا وتقدّم فيها المأكولات والمشروبات. ثياب السهرة. الليموزين السوداء والبيضاء. الصدور العارمة والأوداج المنتفخة. الثراء البادي والغرور المتناهي … وكل «ذلك الجاز»!. إنه فيلم الإفتتاح ومن حق الجميع أن يفرحوا لهذا التكريم. لكن المفارقة الساخرة تكمن في أن رواية ف. سكوت فيتزجرالد ذاتها، تلك التي اقتبس منها المخرج باز لورمان عمله هذا، تنتقد البذخ والإسراف ومظاهر الثراء وتبحث في كيف يفسد المال الذمم ويهدد الأخلاقيات.
رواية ف. سكوت فيتزجرالد المنشورة سنة 1925 تقص حكاية رجل أسمه جاي غاتسبي يعيش حياة مزدوجة ولو أنها تبدو ملتحمة في هيئة واحدة. جانب منها يحيا في الواقع وجانب آخر يعيش في الحلم وذلك الآخر يكبر كلما ازدادت شراسته بغية تحقيق ذلك الحلم. غاتسبي لا يبحث عن الثراء والسُـلطة بل يطاردهما. وهو يعيش قصّـة حب يعتبرها جزءاً مما يحلم به ويتمناه لنفسه قبل أن يدرك بأن الحب صعب المنال إذا لم يكن خالصاً، وإنه غير مهيؤ للمزج بالطموحات المادية من أي نوع.
ليست كلّ الرواية عن هذا المضمون، لكن هذا المضمون من بين أهمّـها وهو موجود وفاعل  في مختلف مؤلّـفاته الطويلة و«غاتسبي العظيم» من بين أهمها وفي رأي نقاد كتب متخصصين أفضلها. الرواية هي تعليق لمجتمع انتفخت جيوبه سريعاً في زمن عرف بسنوات اليأس الإقتصادي. ليس بعيداً عن الوضع الإقتصادي الذي عاشته الولايات المتحدة سنة 2008 عندما تعرض النظام المصرفي والإقتصادي إلى هزّة كادت أن تشلّـه. وككثير من روايات فيتزجرالد، تتميّـز الرواية بوضوحها وبعناية الكاتب بعباراتها كما بشخصياتها. هذه واضحة تعيش ما تحلم به لتكتشف أنها تسير لكنها لا تتقدم.
في الرواية جاي غاتسبي هو شخص موضوع تحت رصد شخص آخر. هذا الشخص هو نك كاراواي (توبي ماكغواير في الفيلم) الذي يسجّـل ويرصد وينقل للقراء (وفي الفيلم للمشاهدين) ملاحظاته حول غاتسبي. شاب متخرج أتيحت له فرصة التعرّف على غاتسبي بعدما استأجر منزلاً قريباً من بيت غاتسبي الفخم والكبير وهذا كان يدعوه لحفلاته، ويسر له من حين لآخر بما يشغل باله. فهو يحب فتاة شابّة أسمها دايزي (كاري موليغن) ودايزي التي بادلته الحب حيناً متزوّجـة الآن من رجل آخر. غاتسبي يعرف أنه خسرها لكنه لا يعترف بذلك. لا يزال يحاول أن يكسبها من جديد. ومع أن علاقتهما العاطفية تنطلق من جديد إلا أنها علاقة محكوم عليها بالفشل بعد عدّة فصول.

ضجيج وحركة
في الرواية يسرد نك كالاواي الحكاية، وهذا طبيعي، فهو الصوت الوحيد للسرد. كما هو معلوم لا يمكن على الورق أن يكون لديك صوتان مجتمعان في عبارة واحدة. أنت إما تكتب الرواية في صيغة ذاتك أو في صيغة ذات أخرى. المخرج باز لورمان لا يبدو أنه يعرف شيئاً من هذه البديهة. يريد أن يؤكد لك أن يعرف الحكاية فيستعين بكالاواي لكي يسرد ما يدور ويعلّق عليه… هذا في الوقت الذي نرى فيه، بصرياً، ما يتحدّث عنه كالاواي. وصف على وصف. سينمائياً، هناك حالات ينجح فيها التعليق في إثراء العمل، وفي حالة «غاتسبي العظيم» ينجح في تدميره.
لورمان (صاحب «مولان روج»، «أستراليا» وحفنة أفلام كبيرة وهوجاء أخرى) مشكلة بحد ذاته. في كل مرّة لديه فيلماً يستحق أن يُسرد (ودائماً ما لديه مواضيع هي خامات درامية جيّدة) وفي كل مرّة يعمد إلى تمزيق ما لديه  إما بموسيقاه الضاجّـة أو بحركات الكاميرا اللاهثة أو بمعالجته التي تضرب على الحواف ولا تحقق المطلوب مطلقاً. 
نعم رواية «غاتسبي العظيم» تكشف عن أسلوب الحياة التي كانت تعيشه شخصيات مفصولة عما حولها، لكن هذا لا يجب أن يعني أن أسلوب المخرج يجب أن يحاكي القشرة التي تغطّي تلك النظرة. وصف ثراء شخص واحد لا يعني مطلقاً ضرورة أن تقفز الكاميرا من مكانها لتحلّق فوق الرؤوس أو لكي تدور حول الشخصيات أو لكي يمنح الفيلم مظهره الزمني. زوم باك لكي يكشف عن نيويورك تحت البناء. الكاميرا تؤدي شخصية سوبرمان ذاتها. تريد أن تطير وتحلق كما يفعل ذلك الرجل الطائر أو أي رجل طائر سواه. وفي كل ما تفعله مضي بعيد عن روح الرواية الأصلية وأسباب وجودها. 
وفي حين أن المخرج يسرد الحكاية على لسان إحدى شخصياته ربما من باب الأمانة، نجده يطيح بالعناصر الأخرى جميعاً متجاهلاً روحها الأدبية كما الدرامية. هذا هو «غاتسبي العظيم» حسب رؤية لورمان وليس مؤلّفه ما يشكّـل سوء تقديم وفهم لماهية تلك الرواية. همّ لورمان هو التشكيل البصري. إنه كما لو كان طارزان يحضر حفلة في قصر الأليزيه فيمضي الوقت قافزاً من عمود إلى آخر تماشياً مع ما كان يفعله في أدغال أفريقيا. أول اهتمامات  هذا المراهق السينمائي هو استخدام الكاميرا كما لو كانت كرة قدم، وآخر مشاغله هو أن يحقق فنّـا. طبعاً بعض النقاد اعتبروا أن التشكيل البصري الذي اعتاد على ممارسته فن بحد ذاته، وهؤلاء قد يضيفوا إلى آرائهم المبدعة أن توظيف الأبعاد الثلاثة في هذا الفيلم هو من صرح ذلك الفن (معظمهم ينتظر آراء النقد الغربي ليبني موقفه).
ضمن ما هو مهدور هنا ليس فقط نحو 140 مليون دولار مصروفة على عمل لا قيمة له، بل عمق المادة الأصلية التي أطيح بها وبرسالاتها الإجتماعية، تلك التي استطاع فيلم جاك كلايتون «غاتسبي العظيم» (نسخة 1974) الإحتفاظ بها. ذلك الفيلم ورد باهتاً وعلى شيء من البلادة حينها، لكنه بالتأكيد ليس بركاكة ورداءة هذه النسخة. وفي حين أن روبرت ردفورد منح شخصية غاتسبي حضورها الأدبي، فإن ديكابريو، وهو من أفضل ممثلي عصره، لا يستطيع إلا وأن يتماشى مع اللهو المطلق الذي ينجزه لورمان حولها. إنه لا يزال يحتاج إلى مخرج جيّد تماماً كحال هذا الإقتباس، هذا على الرغم من أنه أفضل الممثلين في هذه الملهاة المملّـة. 
لورمان اعتبر، في بعض أحاديثه، أن فيلمه هذا «ملحمة رومانسية»، لكن الفيلم، وقد شوهد في لندن قبل أيام، ليس ملحمياً ولا رومانسياً. مجرد إضاعة وقت بالأبعاد الثلاثة.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

0 comments: