Year 5/ Issue: 158
*** عُـمر لهاني أبو أسعد
السؤال الصعب حول حق الحياة وتفضيل ذلك على الموت يتبدّى كذلك في فيلم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد (تم تقديم الفيلم رسمياً على أساس أنه اشتراك فلسطيني في مسابقة «نظرة ما»). بطله (أدام بكري) شاب في الحب وحبيبته هي ناديا (ليم لُـبّـاني) شقيقة صديقه المقرّب طارق (إياد حوراني). صديق آخر هو أمجد (سامر بشارات) والثلاثة يخططون لقتل جندي إسرائيلي… في قرى فلسطين المحتلّـة تستطيع أن تتظاهر وسيتعرّض لك الأمن الإسرائيلي بقسوة. أن تظهر حنقك وغضبك حيال المعاملة غير الإنسانية وسيهدوك منها المزيد، لكن أن تقتل جندياً إسرائيلياً فهذه هي الجريمة التي لن يغفر لها الإسرائيليون وسوف يلاحقونك للقبر كما يقول له ضابط الإستخبارات الذي يجيد الحديث باللكنة الفلسطينية لدرجة أنه يوهم عمر بأنه فلسطيني مثله (وليد زعيتر الذي هو منتج الفيلم أيضاً).
يبدأ الفيلم بالجدار المنتصب عالياً ومهارة عمر في تسلّـقه للطرف الثاني من الأرض، ولو أن رصاص الجنود سيتطاير ما سيعيده سريعاً إلى حيث أتى. بعد ذلك هناك الدورية التي توقفه وتزدريه ثم تطلب منه الوقوف على حجر ويديه فوق رأسه. أفراد الدورية يتسامرون وهو لا يستطيع أن يتحمّـل. ينزل عن الحجر ويعود فيبادره جندي بضربه بكعب بندقيّـته: "الآن إذهب وقف على قدم واحدة فوق ذلك الحجر".
هنا يكون المخرج أبو أسعد نجح في شحن الموقف عاطفياً وجلب الجمهور لصف بطله. شحن يعتمد على المشاعر الجاهزة بلا ريب لكن كل ذلك سيتعمّـق حين يمضي الفيلم في سرد ما يلاقيه عمر في سعيه للوصول لمن يحب. فبعد قتل الجنود يمسك به أفراد الجيش ويسلّمونه للمحققين الذين يعذّبونه ثم يستقبله الضابط رامي الذي يخيّـره: السجن أو العمالة. يطلق سراحه على أساس شهر من التجربة عليه فيها المساعدة في تسليم القاتل. الضابط يعتقد أن طارق هو الفاعل لكن أمجد هو من أطلق النار. ووضع عمر دقيق حتى حيال صاحبيه وحيال حبيته. هذا الوضع الدقيق يبلور- لجانب سقوطه ضحية الإستخبارات- وضعاً متعدد الجوانب وأكثر تعقيداً. ومهارة المخرج أبو أسعد هي أنه عرف كيف يتعامل مع كل الجوانب من دون خطابات أو سياسات مباشرة ويمنحها جميعاً صوتها المألوف لكي تصف به مصالحها المتناقضة.
كما الحال في «الجنة الآن»، فيلمه السابق الذي أوصله إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية، فإن الموضوع هنا هو تردد فلسطيني في لعب الدور الذي يُـفرض عليه. في الفيلم السابق كان على بطله أن يقوم بتفجير إنتحاري لصالح الفلسطينيين (لكن ليس لصالح فلسطين) لكنه يمتنع. هنا عليه أن يقوم بالتجسس على الفلسطينيين لكنه يمتنع. الجانب العاطفي يلعب دوراً كبيراً (لا ضرورة للإفصاح عن طبيعته هنا) يؤدي إلى النهاية المتفجّـرة التي يخلص إليها الفيلم.
The Last of the Unjust **
لا يعرف المخرج الفرنسي كلود لانزمان معنى الإيجاز. فيلمه «شواه» (1985) تألّـف من تسع ساعات ونصف (هناك نسخة من ثماني ساعات ونصف أيضاً) تاركاً أكثر من تجسيد لذكرى الناجين من الهولوكوست: قدر كبير من الملل. الفيلم الجديد يقترب من أربع ساعات، وموضوعه مقابلة أجراها المخرج مع بنجامين مورملستين الذي وثّـق العديد من تاريخ التجربة اليهودية المرّة مع النازية. فيلم وثائقي مصنوع بغاية إبقاء الذاكرة حيّـة بصرف النظر عن أن العالم اتجه سياسياً وثقافياً في دروب مختلفة بحيث تبدو تجربة «الهولوكوست» على هولها، واحدة من الكوارث الإنسانية الكبيرة التي سبقت الحرب العالمية الثانية أو تبعتها (يكفي ذكر مذابح ستالين لقومه مثلاً) أو حتى واكبتها.
الموضوع في فيلمه الجديد «آخر اللإ إنصاف» مثير للإهتمام من الناحية الرصدية وحدها: بنجامين مورملستين هو آخر اليهود الأحياء الذين قام النازيون بتعيينهم كمشرفين على المعسكرات التي خصصت لليهود. منطقته كانت تشيكوسلوفاكيا (عندما كانت دولة واحدة قبل إنفصال سلمي أدى إلى خلق دولتين هماج جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا). المقابلة المصوّرة قام بها لانزمان سنة 1975 وعودته إليها هي نوع من النبش أكثر مما هي حاجة المشاهد لفيلم آخر عن الهولوكوست. رغم ذلك يفتح الفيلم العين على رجل سجّـل في البال كما في الوثائق أهوال ما عايشه من حالات وأوضاع. لكن لا شيء في الفيلم هو أكثر إثارة للحديث من حقيقة أن مورملستين يبقى متعاوناً مع النازية سواء أكان يهودياً أم لا، أو كان مجبراً على ذلك أو قبل لأجل البقاء حيّـاً. هذه الحقيقة لا يمر عليها الفيلم سريعاً، وهي ليست مطروحة اليوم فقط، بل سبق طرحها من قـِـبل مؤرخين يهود (بينهم غرشوم شولم) الذي حكموا على مورملستين بأنه مذنب وبل طالبوا بأن يتم شنقه.
فيلم لانزمان لا يستطيع إلا وأن يفتح باب النقاش مجدداً حول هذه النقطة: هل رغبة البقاء حيّـاً في أزمة كتلك التي عصفت بملايين الناس خلال الحرب العالمية الثانية هي جريمة بحد ذاتها أو حق من حقوقه؟ هل كان عليه أن يمتنع عن إدارة المعسكر وما كان يحدث فيه من قتل ويرضى بأن يدفع حياته ثمناً لامتناعه أو أن يستجيب؟
لا ريب أن السؤال ليس سهلاً والإجابة عليه أصعب من ذلك. بالتأكيد ما رواه مورملستين أمام الكاميرا كان مؤلماً له اليوم كما كان مؤلماً له بالأمس.
الفيلم في ساعاته الأربعة ليس عملاً فنيّـاً، بل هو أقرب إلى أطروحة تاريخية من الصعب أن تجد جمهوراً لها خارج المعنيين أساساً بالموضوع. هناك أسئلة ذكية، وإجابات لا تقل عنها ذكاءاً. حين سأل لانزمان محدّثه: "كيف تستطيع أن تتحدّث في هذا الموضوع من دون أن يبدو عليك التأثر؟" أجابه محدّثه: "لو أن الجرّاح يبكي فوق المريض على طاولة العمليات لقتله". هناك استخدام جيّـد للوثائق، لكن لا شيء في أربع ساعات لم يكن من الممكن تلخيصه إلى ساعتين أو حتى أقل. طبعاً، كون الفيلم معد بتوليف جديد بهدف التوزيع هذا العام فإن الكثير من المشاهدين سيتساءلون ليس بالضرورة عن جدواه (بعد عشرات الأفلام التي بحثت في هذا الموضوع على نحو أو آخر) بل عن إبتعاده عن طرح الحاضر حول ما يحدث في فلسطين.
الحقيقة هو أن ما يحدث في فلسطين يبقى فعلاً منفصلاً. لا يمكن لوم هذا الفيلم لعدم ولوج الدرب الفلسطيني أو كونه تخصص في الأزمة الفكرية والعاطفية التي يعاني منها لانزمان وتدفعه لتحقيق أفلام تتبلور دائماً حول الموضوع ذاته. لانزمان ليس مطالباً بذلك (إلا لو أراد) واعتبار هذا من سلبيات الفيلم هو تماماً كالتساؤل حول السبب في أن فيلم «زيرو دارك ثيرتي» لم يخصص حديثه لسرد حياة أسامة بن لادن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
0 comments:
Post a Comment