"فيلليني ساتيريكون"
المخرج: فديريكو فيلليني | Federico Fellini
النوع : تاريخ | إنتاج: إيطالي
العرض الأول: مهرجان فينيسيا: 1969/9/4
محمد رُضــا
لا شيء في السينما يشبه عالم فيلليني.
ولا فيلم لفيلليني يشبه "ساتيريكون".
بناء «ساتيريكون» واحد من أهم ما بناه المخرجون الكبار من فن في السرد. نتحدّث دائما، وعن حق، عن طريقة أكيرا كوراساوا عندما حقق «راشامون» (1950) أو ستانلي كوبريك في «القتل» (1956). الشيء ذاته هنا والمفتاح الخاص بفيلليني (هنا وفي أفلام أخرى له) هي تفضيل الصورة على الحكاية. لذلك من ينتظر أن يرى قصّـة ذات بداية ونهاية، سيصاب بخيبة أمل، وإذا لم يكن مستعداً للتجاوب مع طريقة فيلليني في السرد والعرض، فإن هذا الفيلم ليس له. لكن إذا ما تابعه وجد مخرجاً يملأ الشاشة مشاهد مرسومة- فعلياً- بالكاميرا (في تلاؤم مع ما يتحدث عنه الفيلم في صميمه: الفن (وأيضاً غيابه).
رواية ساخرة
في «فيلليني روما» (1972) و«أماركورد» (1973) و«تمرين الأوركسترا» (1978) عمد المخرج الإيطالي الفذ فيديريكو فيلليني إلى نقد الحاضر حبّـاً بتاريخ مضى. روما العتيقة وثقافتها وفنها. الموسيقا وتقاليدها. التاريخ وما حدث له من إنفصام. لكن في مرّتين على الأقل، إحداهما «فيلليني ساتيريكون» نقد التاريخ نفسه (الثاني «كازانوڤا»، 1976).
«ساتيريكون» فيلم ساخر بقدر ما كان الأصل، كما وضعه غايوس بترونيوس ساخراً. هذا كان نجم بلاط في الفترة التي حكم فيها نيرو روما. وُلد سنة 27 قبل الميلاد وتوفي سنة 66 قبل الميلاد في أكثر الإحتمالات شيوعاً. وضع روايات أخرى غير «ساتيريكون» لكن هذه الرواية التي تتناول ما عرفته روما آنذاك من حياة متعة شاذّة، في معانيها المختلفة وليس فقط الجنسية، بقيت أشهرها. قوام الرواية أحداث حب مثلي بين أسياد وعبيد تشهد حالات إنتقام وحالات أخرى من الغيرة والحسد والقتل. الروسي ألكسندر بوشكين وضع رواية قصيرة سنة 1835 تناول فيها الأيام الأخيرة من حياة بترونيوس، وحسب «إنسايكلوبيديا بريتانيكا»، فإن موت بترونيوس لم يكن زهداً في الحياة أو فعلاً عاطفياً محضاً، بل نتيجة إيغال أعدائه صدر البلاط الإمبراطوري، ما أدّى إلى إتهامه بالخيانة فتم إلقاء القبض عليه تمهيداً لتنفيذ حكم الإعدام. لكن بترونيوس سارع بالإنتحار. هذا من بعد أن كشف في كتاباته بشاعة حكم نيرو وعلاقاته المعيبة بحاشيته، رجالاً ونساءاً.
لا توجد وثائق موقعة بيد بترونيوس تثبت بأنه صاحب الرواية، لكن كذلك لا توجد وثائق تنفي ذلك. على العكس، فإن الأجدر إعتماد المتداول من أنه كتب «ساتيريكون» لأنه في الواقع كان أحد المقرّبين من نيرو إذ كان عمله هو مستشار الملك للأناقة. هذا، إفتراضياً، مكّـنه من التعرّف على حياة القصر والمخادع وما يدور فيها. صحيح أنه كتب رواية لا تتعاطى وشخصيات محددة في عالمه، إلا أنها مستوحاة، كما كتبت كاثرين كونورز في مقدّمة كتابها «بترونيوس الشاعر: نثر وتقاليد أدب في ساتيريكون» (منشور سنة 1998)، من العالم الذي عايشه.
والرواية كتبت بسخرية عُـرف بها الكاتب. فيلليني لم يكن بحاجة لمن يجذبه إلى الأسلوب الساخر في العرض. كل أعماله، بإستثناء حفنة من تلك الأولى قبل هذا الفيلم، فيها تصوير كاريكاتوري ساخر للشخصيات جميعاً. «ساتيريكون»- الفيلم كان فرصته لنبش الوجه البشع من التاريخ الروماني. ذاك الذي عرفته روايات وأفلام كثيرة بينها مسرحية «يوليوس قيصر» لوليام شكسبير. لكن المختلف هو طريقته التي لا تترك الحكاية تقود الفيلم بل تمتهن الإمتزاج بمشاهده التي تبدو كما لو كانت مرسومة.
بين الروي والتوثيق
بدءاً من «ساتيريكون» خط فيلليني منهجاً جديداً لفنه. قبل ذلك، في أفلامه من «الشيخ الأبيض» (1952) الى «جولييت والأرواح» (1965)، هناك سينما تنتمي الى الرغبة في تكوين الرسالة التي يحملها كل فيلم ضمن عالم محدد الأماكن واقعي الشكل. لا يعني هذا أن نظرة فيلليني على هذا العالم مقتصرة على مجرد تقديم واستعراض قصّـة، بل يعني أن منحاه تطوّر شكلاً بحيث أصبحت الحكاية بالنسبة إليه أداة تعبير عما يخرج من إطار الأحداث والمفارقات.
بعد «ساتيريكون»، بات العالم أكثر خيالية وأبعد منالاً عن المتوقّع في معالجات فيلليني. ويمكن الكشف عن هذا التباعد بملاحظة حقيقة أن المخرج إبتعد عن العمل (باستثناء مشاركته في «أرواح الموتى» الذي كان من تنفيذ عدد من المخرجين كل بفصل) لسنوات قبل العودة بهذا الفيلم المختلف عن أعماله السابقة. ما يبقى على علاقة وطيدة هو الموقف الأخلاقي الذي من خلاله ينظر المخرج الى ما يتناوله منتقداً إنهيار الروح تحت وطأة المادة٠
إسم فيلليني في العنوان لم يكن إختيار فيلليني الأول لأن ما حدث هو أن إقتباساً آخر تم إنتاجه في السنة ذاتها (1969) للمخرج جيان لويجي بوليدورو وهو سينمائي محدود الشهرة أنتج له المنتجان الإيطاليان الشهيران كارلو بونتي ودينو ديلا رونتيس (كل على حدة) بضعة أفلام في مطلع الستينات. لكن وضع فيلليني أسمه على العنوان كان مفيداً للفيلم، كون سمعة المخرج السابقة مكّـنته من التميّـز أولاً، وثانياً لأن فيلليني لم يأخذ الرواية كما كُـتبت بل خرج عنها معتمداً على إقتباس متحرر من الأصل بالنسبة للأحداث ولو أنه أبقى على الفترة الزمنية وعلى الأجواء والعوالم المناسبة لها.
الرواية نفسها كتبت كما كانت تكتب الروايات القديمة لقرون عديدة (من «الإلياذة» وما بعد) حيث هي نص بين الروي والتوثيق وأقرب الى التقطيع المشهدي منها الى العمل المروى بنَفَس واحد وبتطوّر درامي متواصل. في هذا الإطار الشخصيات ليست ما تحرّك النص بل الوصف. أما الشخصيات فلا عاملاً أساسياً لها وفي مقدور الشخصية التي تبدو رئيسية في مقدمة النص أن تغيب تماماً بعد ذلك. الفيلم يأخذ هذا الوضع ويبثّه بأطره الجديدة. يجعل منه عملاً بصرياً أخّاذاً وإذا ما شاهدت أفلام المخرج الباقية، وجدته نقطة أكبر حجماً مما سبق ومتوازية مع تلك اللاحقة على الصعيدين البانوراما البصرية الملقاة على التاريخ الإيطالي، وعمق هذا التاريخ. في ذلك الإتجاه هو الفيلم «التاريخي» الوحيد الذي حققه فيلليني إذا ما اعتبرنا أن «كازانوڤا»، وهو فيلم آخر يقع في الماضي، هو أكثر تعاملاً مع السيرة منه مع الحيثيات التاريخية أو أحداثها.
مسرح حضيض
اللقطة الأولى على جدار كبير. زوم باك لتكشف أن الجدار مرسوم عليه بالطبشورين الأبيض والأسود كلمات وأشكال مبهمة كحال جدران السجون. هناك شاب يواجه الجدار. إنه إنكولبيو (مارتن بوتر) حين يستدير إلى الكاميرا متحدّثاً بغضب عن كيف خسر حبيبه جيتون (ماكس بورن) بعدما تمكن أشيتلو (هيرام كَـلر) من خطفه وعن أنه لن يسامح أشيتلوس عما فعله وسيسترد منه صديقه، نكتشف أننا أمام وجه جميل. فيلليني اختار ممثليه المتناحرين هنا واضعاً جمال الوجه (ناهيك عن جمال الجسد) في مقدّمة إعتباراته. لم يختر ممثلين معروفين يؤدون أدواراً جميلة بل ممثلين جميلين يمثلون. بذلك تجاوز إعادة التأليف إلى شيء من التوثيق. في الوقت ذاته، إنكلوبيبو و-لاحقاً- أشيتلوس ينظرون إلى الكاميرا بضع مرّات حين يتحدّثون. إذ يتحدّث الأول عن خديعة أشتيلوس يوزع نظراته على جمهور غير موجود في المشهد (كما لو كان إنكلوبيبو يواجه جمهور المسرح). الثاني، يزحف من مكانه في حجر يقع تحت أعمدة ثم ينظر مباشرة إلى الكاميرا وهو يقرر كيف ولماذا «سرق» جيتون.
مباشرة قبل ذلك، كان إنكلوبيبو قد ترك جمهوره غير المرئي وجلس على الأرض مواجهاً الجدار من جديد وهو يتحدّث عن حبّـه لجيتون الذي كان بمثابة روحه وشمسه كما يقول. بعد قليل سيواجه أشيتلوس إنكلوبيبو والإثنان سيتعاركان قليلاً. في نهاية العراك سيعترف أشيتلوس بأنه باع جيتون لممثل أسمه ڤرناكيو. وبذلك الإعتراف يترك فيلليني الموقع الأول الذي هو عبارة عن ردهات كبيرة تحت أرضية تحتوي على حمامات بخار (مكان مفضل للمثليين في هذا الفيلم ولاحقاً في أفلام أخرى) لينتقل إلى خشبة مسرحية. لكن الدكانة والألوان الرمادية في الخلفية تبقى ذاتها. هذا عالم متآكل من اللقطة الأولى.
المسرح الذي يقدّمه ڤرناكيو ليس فنّـاً، ولا يحاول فيلليني تقديمه على هذا الأساس، بل هو حضيض فني يهدف المخرج عبر تقديمه إلى النيل منه. إنكلوبيبو يسترد جيتون من الممثل ويسير معه في روما القديمة ليلاً. من بعيد تتقدّم عربة تجرها الخيول وفوقها تمثال لوجه نيرو. يسارع الإثنان الخطا ويمرّان بنيران مشتعلة (الربط بين نيرو والحريق المقبل!). يصلان إلى إمرأة عجوز تجلس أمام باب أصفر. ترحّـب بهما. هناك رجال ينادون على الشابين لكنهما يدخلان من ذلك الباب.
هذا ماخور كبير آخر يقع على الأرض وتحته حيث بركة ماء كبيرة ينتشر حولها رجال ونساء. الرجل الذي استقبلهما يحاول جذب جيتون لكي يعرّفه على بعض الرجال الجالسين عند البركة. جيتون، الذي لم يمانع (من دون أن نرى ذلك) الذهاب مع أشيتلوس ولم يمانع بيعه للممثل ڤرناكيو لا يبدو أنه يمانع (كما نرى الآن) الذهاب مع ذلك الرجل لرجل آخر. حتى الآن هو مجرد وجه جميل (آخر) صامت بعينين كبيرتين وأنوثة واضحة. إنكلوبيبو يركض وراءه ويخلّـصه من الآخرين. كاميرا فيلليني (تصوير الرائع جيسيبّـي روتانو) تستشرف المكان. مثل تطفّـلاتها السابقة، هي مرصودة لالتقاط وجوه معظمها كاريكاتوري (المهنة التي مارسها المخرج قبل أن يصبح كاتباً سينمائياً ومن ثم مخرجاً). وجوه النساء، كما في معظم أفلامه اللاحقة، أعتني بمكياجاتهن وبتصاميم شعورهن ليبدون بالغات الغرابة والرجال الشاذّيـن لا يختلفون كثيراً عنهم. ثم في ذلك الإستعراض ها هما إنكلوبيبو وجيتون ينظران إلى الكاميرا من جديد. يد الأول على كتف الثاني ويوجه للكاميرا نظرة ذئبية- شيطانية. نظرة جيتوني نظرة إغوائية كاملة. خلفهما غرفة ركعت فيها إمرأتان عاريتان تظهران وتحركان مؤخرتيهما لتأكيد نوعية وهوية ومستوى لا المكان وحده، بل الثقافة الإجتماعية ذاتها.
يواصل فيلليني إكتشاف المكان (أشبه بمدينة كاملة تحت الأرض) كلها دكاكين متعة للرجال وللنساء. أماكن داكنة وفيها غرف مضاءة جيّـدة تظهر نساءاً عاريات ورجالاً يرقصون وأولاد فرحون بزوّار ورجال ونساء مصطفين خارج الغرف. إنها مدينة الليل نسخة الفترة الزمنية التي تقع فيها الأحداث.
بين لوحات العالم
ثم هما في فناء خارجي مؤلف من طبقات. ترتفع الكاميرا لتشمل المكان. يدخلان حجرة ونفهم (من اللقطة التالية) أنهما مارسا الحب. يدخل عليهما أشيتلوس وهما نائمين. يهب إنكلوبيبو مستيقظاً ويطلب أن يتقاسما الممتلكات التي كانا يشتركان في إقتنائها. أشيتلوس يطلب من جيتون أن يختار مع من يريد أن يبقى. المرّة الأولى التي نسمع بها جيتون يتكلم هي عندما يشير لأشيتلوس قائلاً "معك أنت". يضحك أشيتلوس ويتركان المكان معاً وإنكلوبيبو وحيداً. حصان أبيض في حفرة. ثم فجأة… زلزال يقع. رجال ونساء يخرجون من داراتهم للهرب. حصان أبيض وحصان بني يهربان. الحصان الذي في الحفرة يحاول الخروج ويفشل.
هذا الفصل المكتوب بدراية والمنفّـذ بدراية أعلى يسبق فصلاً آخر يدعوك للمقارنة بين العالم الذي شاهدناه في حاضر الفيلم، والعالم الذي مضى. بعد الزلزال نجد إنكلوبيبو في صالة عرض فنية (غاليري). يخرج له من يقدّم نفسه على أنه يوموبولوس (هو شخصية أسطورية إبن للآلهة بوسايدون) ويبدأ بالحديث له ولنا. بينما الكاميرا تجول معه على اللوحات الفنية الرائعة الموزّعة على جدران المعرض، ينتقد يوموبولوس الزمن الراهن (زمن الفيلم) وتخلفه («زمن المادة والعهر») وفيما يقوله "ذات مرة مثاليات الرجل كانت فضيلة، بسيطة وصافية" ويقارن بين عالم اليوم وعالم الأمس بالتذكير بأن أحد الفنانين مات جوعاً وهو يحاول إتقان لوحة بينما "شاخ يوكسودوس وهو في أعلى جبل يدرس حركة النبات".
فنياً، يأتي الفصل مناقضاً تماماً لما سبق. الشخصيات التي فيه (الرئيس وجمهرة المعرض) أفضل حالاً وفيلليني يمنحهم ظهوراً أقرب إلى العادي بعيداً عن التصوير الكاريكاتوري الساخر لشخصياته السابقة. بالنسبة للمعرض المذكور نجد أن فيلليني استبدله بفصول مشابهة في عدد من أفلامه الأخرى، بل أن «تدريب الأوركسترا» يدور بأسره عن تلك المقارنات. وفي «لا دولشي فيتا» (1960) مشهداً موازياً (مارشيللو ماستروياني يمر على معرض جداري يذكّر بفن الأمس).
الفصل التالي هو من نسيج مختلف تماماً.
يخرج يوموبولوس وإنكلوبيبو إلى الطريق العام، يصلان إلى مسرح مكشوف. يختار فيلليني زمناً من اليوم عند غروب الشمس. السماء برتقالية عند الأفق وفوقهما سحاب أسود. هناك ثيران في الحقل. أمام يوموبولوس وإنكلوبيبو، ينتصب مسرح على الأرض مع شموع في مقدّمته. الموسيقا تختلف. إنها ملائمة لفيلم فضائي (تلك النوتة التي تمزّق السكون وذلك الصوت الذي يبدو كما لو كان لطائر دينوصوري).
بعد هذين الفصلين، سينتقل فيلليني طوال الوقت بين لوحات العالم الذي يعرضه، ومعظمها لوحات نقد مشبع بالأسى لجمال ذابل، لعالم من الشهوات معتبراً الأخلاق هي منبع الفن والشهوة هي دركه. لا يكترث للحكم على المثليين أخلاقياً أو لعدم الحكم وليس الفيلم في وارد هذا النوع من الأفلام الذي سينطلق للإدانة أو للقبول، ولو أنه في النهاية يحمل في طيات رسالته تطهّـر النفس. ما يشغله هو العالم الذي تختزله تلك التصرّفات وتعبّـر عنه. يراها ملازمة للإنحدار في ذلك لا يستثني الفقير والغني ولا المرأة ولا الرجل ويمضي، فيما بقي من الفيلم يعزز كل مضمون بما يفوقه من إجادته الفنية في العام وفي الخاص.
التصرّف (الشهوة المباحة، الشره، الضغينة، الحسد، النميمة الخ...) ليس وحده ما يتحدّث فيه المخرج منتقلاً من نص/ لوحة الى نص/ لوحة أخرى، بل ما يعرضه في ذلك النص وما نسمعه أيضاً. شخصياته مخيفة لو كانت واقعية، مثيرة للتندّر كونها ليست كذلك. بعضها مشوّهة، وبعضها عادي لكنه يتحرّك بصورة مشوّهة. الرجولية مخنّثة والأنثوية وحشية وكلاهما يبدوان هاجساً عند فيلليني كما لو أنه يعرضه ليقضي عليه ولا ينسى في غمار كل ذلك أن يبقى على سدّته في كيفية التعبير عما يُريد وما يعرضه على الشاشة من فن٠
العالم المرتسم على الشاشة في داخل الأقبية والبلاطات كما في خارجها هواجسي بالفعل. صوره الفاقعة وشخصياته الغريبة وحتى ما يؤكل على الموائد وما يُتلى من تعليق وتعريف وأشعار تشكّل عناصر كابوس لا ينتهي. وبالنسبة لفيلليني فإنه بدءاً من هذا الفيلم انتقل من مقاس معيّن يعكس فيه ما يريد الى مقاس أكبر. من خامة الى أخرى أكثر إشباعاً لحكاياته عن روما وإيطاليا والتاريخ وعن الذات البشرية التي إذ تتعرّض للفساد تتعرّض في رأيه لعوامل التحلل كيميائياً.
حين ينقل فيلليني، في أحد فصوله، مأدبة الطعام الكبيرة التي يقيمها الإمبراطور نيرو لحاشيته وضيوفه، يصوّر ذات الشهوات التي لا يمكن فصلها عن عادات الطعام. النهم والتخمة والطعام الخارج من الفم والناس التي لا تتوقف عن تناوله. الصورة الأكبر لكل ذلك تلتقي مع كل اللوحات والفصول التالية.
أفريقيا الحرية
يتحدّث كل فصل/ لوحة عن الحياة مقابل الموت والعفن النفسي والجسدي. أكثر من شخصية مصابة بداء وأكثر من شخصية مشوّهة وبعض الشخصيات تنتحر وأخرى تُـقتل. في الوقت ذاته يعبر إنكولبيو عن الشباب والمتعة لكن في عالم معاكس لهذا البحث ما يخلق تناقضاً ثانياً (الأول يكمن في الحياة مقابل الموت).
وإذ يواصل الإنتقال من فصل لآخر رابطه الوحيد هو إنكولبيو الباحث عن مكان له فوق أرض تميد به، نرى رحلته تمر عبر بيئات طبيعية مختلفة: بعد المدينة الغارقة، هناك الجبال وهناك الصحارى وهناك البحر. هذا البحر نراه في فصلين. الأول يتم جر إنكولبيو وصديقه السابق أشيلتو كعبد ليخدم جزافاً ثم ليتزوجه أحد أعيان الإمبراطور قبل أن يغير جنود رومان على السفينة ويقطع أحدهم رأس القائد. لقطة فريدة لرأسه يغرق في الماء.
البحر الثاني هو النهاية. إنكولبيو تم عتقه وعاد إلى التجوال. مر في تجارب عديدة كلها تعاونت على إنتزاع كرامته لكنها لم تنجح في انتزاع بحثه عن حريّـته ودوره الإجتماعي. في الفصل الأخير يصل إلى حيث سيجد ما يبحث عنه: على شواطيء إغريقية وعلى خلفية من غناء أفريقي (بلوز) وبعض العبارات العربية (لهجة مصرية) يتم إعادة تأهيله. لقد نجح في ممارسة الحب مع إمرأة. ركض في السهل المنفتح ليعلن انتصاره. يتحدث إلى أشيلتو معتقداً أنه وراءه. لكن أشيلتو كان أصيب بطعنة وسقط ميّـتاً: ولادة إنكولبيو من جديد هي نهاية أشيلتو الذي يجسد الماضي.
في المشهد النهائي ينضم إنكولبيو إلى بحارة سود وبيض تم تحريرهم سيركبون سفينة صغيرة قاصدين بها جزراً تفصلهم عن أفريقيا. هنا يكون إنكولبيو تحرر وتكون أفريقيا رمز الحرية.
قبل ذلك، تبدو الأرض كلّـها مقهورة، مكسورة، سواء أكان الحدث يدور تحتها أو فوقها. حياة ما قبل المسيح، يرى فيلليني، كانت تستحق أن تنتهي، لكن ما قبلها كان كنزاً من الفنون الراقية التي أغفل الرومان عن تقديرها ، كما يقول الشاعر الذي سريعاً ما هوى بعد تقديمه أيضاً، مقبلين على الملذّات.
الجميع يواجهون نظرة فيلليني الشرسة. كل الطبقات. كل أنواع الناس وكل مصادر حياتهم، ولو أن الأمل في النهاية متمثّـل ببضعة أشخاص تم عتقهم سيتوجه إنكولبيو معهم إلى عالم أفضل.
«ساتيريكون» مُـصدم في نقده وما يعرضه في هذا النقد، وبقدر ما هو مصدم هو فني يشيع حبّاً بالسينما ويتركك مدهوشاً بعينين مفتوحتين على آخرهما تتلقيان دروساً في تاريخ من منظور فنان يراه بيروقراطياً. نرجسياً. ملذّاتياً وعفناً٠
FILLENI'S SATYRICON
Directed By: Federico Fellini
Cast: Martin Potter, Hiram Keller, Salvo Randone, Max Born, Mario Romagnoli, Capucine, Alain Cundy, Gordon Mitchell.
Cinematography: Gusippe Totunno (Color). Editor: Ruggero Mastroianni (129 min), Music: Nino Rota
Producer: Alberto Grimaldi [Italy- 1959]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من غير المسموح إعـادة نشر أي مادة في «فيلم ريدر» من دون ذكر إسم
المؤلف ومكان النشر الأصلي وذلك تبعــاً لملكية حقــوق المؤلف المسجـلة في
المؤسسات القانونية الأوروبية.
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2015
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ