جديد | المصري نصف بريء في فيلم "فناء" للمكسيكي كارلوس كاريرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#62| El Traspatio (Backyard) فناء
.....................................................................................................................
إخراج: كارلوس كاريرا
أدوار أولى: آنا دي لا رغويرا، يواكيم كوسيو، جيمي سميتس، سيّد بدرية٠
دراما [تبويب: أحداث وقعت| عرب| قرية حدودية | قتل متسلسل]٠
المكسيك - 2009
***: تقييم الناقد
.....................................................................................................................
من عروض جمعية مراسلي هوليوود الأجانب المتواصلة هذا الفيلم الذي كان عُرض في مهرجان شيكاغو قبل أشهر قليلة، والذي كان فاز بجائزة أفضل سيناريو (لسابينا برمان) وأفضل مونتاج (لأوسكار فيغروا) من مهرجان هاڤانا قبل أن يتوجه لترشيحات الأوسكار في مجال أفضل فيلم أجنبي٠على عكس فيلمه السابق "جريمة الأب أمارو" (2002) فيلم كارلوس كاريرا الجديد مستوحى عن أحداث حقيقية ضجّت بها الحدود الأميركية- المكسيكية قبل سنوات قليلة مفادها اختفاء نساء ثم ظهورهن مغتصبات ومقتولات في أحواش وأفنية بلدة سويداد يواريز الحدودية٠
في العام 2006 قام المخرج غريغوري نافا بتحقيق
Bordertown عن الحوادث المذكورة من بطولة جنيفر لوبيز
كان أكثر من مقبول وتناول فيه جانباً بوليسياً باحثاً عمن قد يكون الفاعل. لكن "فناء" يذهب أكثر قليلاً في محاولة لرسم سياسة المنطقة والسُلطة التي تديرها وكيف أن هذه المئات من الضحايا (نحو 400) ضحية جريمة متعددة الأطراف : الفقر الإجتماعي والسُلطة الفاسدة والشبق الجنسي (او أي تعبير مماثل يُمكن أن تطلق عليه). في الفيلم السابق شاهدنا جنيفر لوبيز كصحافية أميركية تدخل البلدة الصناعية لكي تجري تحقيقاً تكشف فيه هوية القاتل او القتلة وتتعرّض، كما لابد، الى الخطر بدورها. هنا يمضي كاريرا خطوات في درب مختلف. المسألة مرتبطة بدائرة أوسع من المسببات كما أن العمل على كشف مرتكبيها مرّ بسلسلة من الإعتبارات من بينها الرغبة في إبقاء هوية أحد الفاعلين مستترة. بذلك، فإن لا توجد أسباب تدعو للشك في رواية المخرج كاريرا ولو أنه لا يكمل دائرة الإتهامات على نحو نهائي او كامل٠
بسبب الوضع الإقتصادي الصعب للمكسيكيين والفريد لبلدة سويداد يوارز حيث العمل مُتاح ولو بأبخس الأسعار كونها مدينة حدود تصدر ما تصنعه الى الولايات المتحدة وتأمل أن تكسب المزيد من دعم المؤسسات الآسيوية التي تبحث عن استثماراتها هناك، فإن طالبي العمل يأتون إليها من كل أنحاء المكسيك وبينهم جوانيتا (أسور زاغادا) فتاة شابّة من أصول هندية (كمعظم أبناء الطبقات الكادحة في أميركا اللاتينية) التي يتابعها الفيلم حين تصل البلدة قبيل المساء باحثة عن عنوان قريبة لها (أموريتا راسغادا) تمشي في الأزقّة. تلحظها عيون الشبيبة. ثم تصل الى بيت قريبتها التي كانت بانتظارها. واحد من الأمور الأساسية التي تحذّرها قريبتها منها هو أن تحبل، لأن أصحاب المصنع سيطردونها إذا ما فعلت. ما ينتظر جوانيتا هو أكثر من ذلك٠
البلدة تشهد قدوما آخر. التحريّة بلانكا براڤو (أنا لي لا رغويرا) تستلم مهام عملها في بوليس المدينة. والمهمّة الأولى التي تواجهها هي التحقيق في ضحية جديدة . جثّة إمرأة تم تمزيق ثديها وتركت في بعض قفار الأرض المحيطة بالبلدة. يتم تحديد صاحبة الجثّة فهي صديقة رجل مصري الأصل يحمل إسم سُلطان (سيد بدرية) الذي يتم -أوتوماتيكياً- إلقاء القبض عليه واتهامه بالجريمة خصوصاً وأنه كان قدم من الولايات المتحدة حيث كان حوكم بقضايا عنف جنسية متعددة. يتم سجن سلطان لمحاكمته رغم نفيه ضلوعه بالجريمة واتهام المسؤولين بالعنصرية حياله. لكن حاكم المدينة كان قرر أنه يريد اغلاق ملف تلك الجرائم وسُلطان باليد ولا عشرة علي الشجرة. لكن بلانكا ليست مقتنعة ولديها أسباب لذلك من أقواها أن جثثاً أخرى تم اكتشافها لنساء قُتلن، بعد التمثيل بهن، من بعد سجن سُلطان. كذل تبرز الى السطح وجود عصابة إجرامية أسمها تشيروس ليست بريئة من الذنب. من ناحيتها، تتعرّف جوانيتا على شاب عاطفي. تقيم معه علاقة، لكنه بقدر ما يحبّها ويريدها صديقة دائمة بقدر ما تتفتّح براعمها صوب علاقات أخرى. هي أيضاً ستنتهي جثّة
مصاعب التحرية بلانكا تزداد تدريجياً. لديها مساعد (أليخاندرو كالفا) لا تستطيع أن تأمن إليه، وحاكم منطقة (إينوك ليانو) الذي يهمّه إنقاذ ما تبقّى من سمعة البلدة لصالح الفوز بالإستثمارات الآسيوية سواء تم معرفة الجناة أم لا. قبل ذلك، نتعرّف على ميكي سانتوس (جيمي سميتس) رجل أعمال مكسيكي ناجح يعمل في الجانب التكساسي من الحدود ويزور البلدة بحثاً عن متعته الجنسية. هو أيضاً قد يكون قاتلاً، ليس قاتل كل تلك المئات ولا يطلب الفيلم منه أن يكون فغاية المخرج هي توزيع الضحايا على البيئة البشرية التي تعيش أزمات متّحدة سياسية واقتصادية واخلاقية٠
المصلحة الخاصة لرجال البوليس والسياسية للحاكم ومعاونيه، والفقر وعدم محاربة الجريمة المنظّمة كلها مسببات لما زاد عدده عن ثلاثة ألاف ضحية في شتّى الدول اللاتينية كلّهن من النساء وذلك خلال السنوات السبع الأخيرة او سواها٠
لا أعرف إلى أي حد اعتمد المخرج على أحداث وقعت. هل المصري سُلطان شخصية حقيقية فعلاً او أنها إضافة لإيصال رسالة مفادها استعداد السلطات للتضحية به؟ ولماذا كان عليه اختيارها ذا سوابق مشابهة؟ سيّد بدرية هنا يؤدّي الشخصية كما لو أنها مطابقة للرغبة في وصمها. شخصية وحشية المظهر، كارهة، شاتمة، تستطيع أن تتصوّرها وقد عاشت بالفعل في تلك الهوامش الإجتماعية الموحشة حيث لا نقاوة ولا ضمائر. تمثيله جيّد من حيث لا تريده أن يكون لما فيه من وصمة. بلكنته الإنكليزية الثقيلة ومظهره غير اللائق يترك المُشاهد غير مرتاح وربما، لا أستطيع الحكم على سواي، غير مكترث لما قد يؤول إليه٠
النهاية تبدو أقل أهمية من الفيلم بأسره. هناك موقف بوليسي معتاد: المكسيكي الثري يزور البلدة ليبحث عن ضحية. يلتقط طالبة مدرسة وينطلق بها ليجد نفسه في مواجهة التحرية بلانكا التي ترديه قتيلاً حين يحاول قتل الفتاة٠
هناك دراية لدى المخرج كاريرا بموضوعه، وهذا واضح. لقد درسه وخبره تماماً. لكن المرء لا يستطيع الا أن يشك في أنه يسرد كل ما يعرف، وإنه في النهاية لم يقدّم سوى جزءاً من القضية وليس كلّها. لكن هذا الجزء مهم ينتج عنه فيلم يطرح أكثر مما يُعالج. جيّد في تنفيذه بحدود طموحات مخرج يستطيع أن يفعل أكثر يوماً ما٠
جديد | فيلم آخر عن الأسرار والعيون والصور الفوتوغرافية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك عدّة نواح متشابهة بين فيلم جوان جوزيه كامبانيلا "السر في عيونهم" (الذي تحدّثت عنه مراراً هنا) وبين "الفتاة ذات الوشم التنين" للمخرج الدنماركي نيلز أردن أوبلڤ. كلاهما وكل ناحية منها مثيرة للتأمّل. لكن أهم هذه النواحي مسألتان تتعلّقان بالقصّة ذاتها. الأولى: أنهما يعتمدان على الصورة الفوتوغرافية ككاشفة عن الجريمة التي يتم التحقيق بشأنها، الثانية أنهما يتحدّثان عن شخصيات من اليوم تعود الى أحداث وقعت في الماضي. طبعاً هناك الناحية الثالثة التي لا تقل أهمية: كلاهما بوليسي٠
الفتاة في عنوان "الفتاة ذات الوشم التنين" هي ليزبث (ناوومي راباس): إمرأة شابّة متمرّدة من أصول برجوازية نتعرّف عليها تلاحق قضية ذلك الصحافي اليساري مايكل (مايكل نيكفست) الذي حكمت عليه المحكمة بتهمة باطلة عقوبتها ثلاثة أشهر في اقامة جبرية بسبب تعرّضه لشخصية اجتماعية وسياسية مشهورة. لن يبدأ تنفيذ هذه العقوبة الا بعد حين. خلال ذلك، يستلم الصحافي مهمّة يسندها اليه رجل عجوز يريد أن يعرف، وقبل أن يموت، من قتل الفتاة التي رعاها واختفت في ظروف غامضة قبل أربعين سنة. لم يرزق بأولاد واعتبرها إبنته وتألّم كثيراً حين اختفى وكل ما يريد معرفته قبل أن يغمض عيناه الى الأبد هو معرفة كيف ولماذا تم قتلها. إنهما، هو وتلك الفتاة التي أسمها هارييت، ينتميان الى عائلة من كبار البرجوازيين يعيشون في منطقة بعيدة عن العمران فوق منطقة غمرتها ثلوج الشتاء. الصحافي يبدأ مهامه. ليزابث مهتمّة بأمره ولن يلتقيا الا بعد أكثر من ساعة من بدء الفيلم (ساعتين و35 دقيقة)٠
عمل الصحافي شاق. ليس لديه لأجل الكشف عن السر سوى النظر الى تلك الصور التي افترش جدار المنزل بها. واحدة من تلك الصور هي لهارييت وهي تنظر بعيداً عن باقي المصطفين لحضور عرض ما. نذكر أنه في فيلم كامبانيلا، هناك تلك الصورة لرجل ينظر الى الفتاة- الضحية، بينما باقي الذين في الصورة ينظرون الى إتجاه واحد آخر. وبناءاً عليها تقدّم بحث المحقق. هنا نجد صورة (بالأبيض والأسود) للفتاة الضحية وهي تنظر الى جهة معيّنة بينما الباقون ينظرون الى جهة أخرى٠
يحاول الصحافي الذي طلب منه إنجاز ما لم يستطع البوليس إنجازه من بحث، أن يربط بين هذه الصورة وصور أخرى ويجد أن الفتاة إنما يمكن أنها كانت تنظر الى رجل موجود في صورة أخرى. لكنه موجود في الخلفية ووجهه ليس واضحاً٠
في هذه الأثناء، تنتقل الأحداث الى المدينة. ليزبت هذه عليها أن تطلب المال من الوصي على ميراثها وهذا الشخص رجل سادي متوحّش يفرض عليها ممارسة الجنس معه. يحدث هذا في المرّة الأولى حين تحتاج لمبلغ تشتري به كومبيوتر جديد. في المرّة الثانية يربطها ويعرّيها ويمارس معها جنساً وحشياً غير إنساني. في المرّة الثالثة تدخل بيته بخطّة. تصعقه بجهاز كهربائي فيغمى عليه وحين يستيقظ يجد نفسه مربوطاً وعارياً وهي تنتقم منه على النحو الذي سيوصمه كما حاول وصمها. الجاني صار ضحية ويستحق ذلك٠
حين تنضم ليزبث الى مايكل وتبدأ بمساعدته يتقدّمان أكثر في تحقيقاتهما. يربطان بين اختفاء هارييت واختفاء ومقتل بضع نساء من قبل في أماكن متفرّقة. فجأة يتناهى الى ليزبث أن كل المختفيات سابقاً يشتركن في أمر واحد: إما يهوديات او لهن أسماءاً يهودية، وندرك من قبل ذلك أن بعض أرباب هذه العائلة كانوا نازيين سابقين ... تم حل المشكلة. الباقي تحصيل حاصل من نوع كيف سيمكن معرفة أي فرد من تلك العائلة ارتكب هذه الجرائم وكيف ستكون النهاية٠
فيلم نيلز أردن أوبليف، مثير للإهتمام ومشغول بعناية أيضاً، لكنه لا يرتقي الى مستوى "السر في عيونهم" لأسباب مهمّة: الفيلم الأول لا ينسى الرومانسية ويجعلها محوراً مهمّاً. الفيلم الثاني يستبدل الرومانسية بمشاهد حب وعلاقات. الفيلم الأول تكفيه جريمة واحدة لسبر غور جوانب الحياة والسياسة، الفيلم الثاني يتحدّث عن جرائم لا تنتهي (كما نعرف في ثلث الساعة الأخيرة). و"السر في عيونهم" لا يستخدم مساعدة الكومبيوتر في حل الجريمة، لأن الجريمة وقعت قبل عصر الكومبيوتر. أما "الفتاة ذات الوشم التنين" فهو يستند الى الكومبيوتر مبتدعاً الصور (على نحو أن بعض الصور ليست موجودة في الحقيقة بل تم ابتكارها على الآبل ماكنتوتش. ما يدفع الى السؤال: هل كان بإمكان الصحافي معرفة الجاني وحل قضية اختفاء الفتاة صاحبة الصورة لو لم يعمد الى الكومبيوتر؟ وإذا كان الجواب لا (وهو لا من فرط اعتماد الرواية والسيناريو على الكومبيوتر كعنصر) فما هو الجهد البوليسي الفردي الذي تقوم عليه القصّة؟
ثم هناك مستوى الإخراج نفسه: الأرجنتيني كامبانيلا مرتاح وفيلمه آسر. الدنماركي أوبلف مشوّش ومتوتّر ولو أنه منفّذ حرفي جيّد. لكن الإهتمام في النهاية واحد: تلك الصور الفوتوغرافية التي تخترق فيها النظرات الورق التي طُبعت عليه لتطبّق المثل المعروف: الصورة بألف كلمة
هذا الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب البوليسي السويدي ستيغ لارسون الذي بدأ حياته صحافياً وناشطاً صحافياً ومات سنة 2004 بعد أن أنجز ثلاث روايات أولها "الفتاة ذات الوشم التنين" هذا. وهو كان شيوعي الإتجاه. لذلك حين استخدمت كلمة "برجوازيون" كنت استمدّها من الصفة التي أطلقها هو. لكن إذ لم أقرأ الرواية فلا علم عندي إذا ما كان الفيلم يتطابق معها خصوصاً في تلك المواقف العنيفة التي يستعرضها. هذه المواقف ذاتها لا ترفع من قيمة الفيلم على الإطلاق. ليس منها ما هو ضروري، حتى مسألة الإعتداء على الفتاة ليزبث ليست مرتبطة عضوياً بالموضوع الرئيسي، بل على نحو جانبي. الغاية هي إظهار عنف الرجل على المرأة (تماماً كما في "فناء") خصوصاً وأن اختفاء هارييت له علاقة مماثلة إذ تتعرّض لاعتداء والدها عليها قبل أن تهرب من البيت وتلجأ لدى قريبها الطيّب وقبل أن تختفي عن الأنظار بعدما أدركت أن قريباً آخر هو الذي يقتل ويمثّل بالنساء. بذلك العنف مرتبط من السلطويين النافذين والأثرياء، لكن هذا مفهوم تبسيطي ساذج وبالنسبة للفيلم ليس الوسيلة الوحيدة للوصول إلى تحقيقه٠
كلاسيكيات عربية حديثة | لوحة جميلة تكتب كل شخصية كلماتها عليه٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#64| الكُتبية
فيلم نوفل صاحب من الإتقان وحسن التصميم في العمل لدرجة إنه من غير المتاح للمشاهد النظر الى الفيلم كعمل تقع معظم أحداثه داخل مكتبة وبضع غرف صغيرة في مبنى واحد. وإذا كان المخرج تعب كثيرا لأجل أن يعالج حدود المكان الواحد، فإن ذلك ليس واضحاً في النتيجة التي أمامنا. »الكتبية« (او »المكتبة«) عمل جيد وناضج بلغة سلسلة. يستخدم المخرج قواعد سرد تصوير منضبطة. يرتاح الى الكاميرا المؤسسة ذات العراقة والى التمثيل الناضج المتلاحم في مشاكل شخصياته من دون اصطدام او ضعف. قليلا فقط تبدو القصة كما لو أنها تريد جذب الفيلم الى وضع ميلودرامي تلفزيوني، لكن الشخصيات القوية والتمثيل الممعن في قوّة إيحاءاته يوجه الفيلم الى مستوياته الجادة. ولولا أن النهاية، في الدقائق العشر الأخيرة او نحوها، أضعف بكثير مما يتوقعه المرء من فيلم عرض لمشاكل أهم من أن تُحل على النحو الذي يرد في ختام هذا الفيلم لكان أمامنا تحفة حقيقية.
يبدأ الفيلم ببطله جميل (أحمد الحفيان) يحمل حقائبه القليلة بعدما عاد الى الوطن بعد عشر سنوات من الغياب. يجد عملاً في مكتبة قديمة تقع في وسط مدينة تونس. صاحب المكتبة هو طارق (باجي) يعرض عليه الوظيفة وفوقها غرفة للنوم تقع في الطابق الأرضي ذاته. فوق المكتبة تقع الغرفة التي يعيش فيها طارق مع زوجته الجميلة ليلى (صبري). الى جانبهما غرفة أخرى تعيش فيها والدتها (مارتين جفصي). أول دخول جميل يسمع صوت ليلى وهي تغني أسمهان. والمرء منا يحاول إستباقة الأحداث فيتصوّر أن علاقة عاطفية ستنشأ بين هذا القادم الجديد الذي يحتفظ بسرّه لنفسه ويتحدث بهدوء وصوت منخفض دائما وبين ليلى الجميلة التي تطمح لشق طريقها في عالم الغناء- إن استطاعت. لكن من حسن حظ الفيلم ومشاهديه هذا لا يقع. هناك ملاطفة. مداعبة لكن المشكلة ستقع في إطار بعيد جداً ولن يكون لجميل أي سبب فيها.
هذا بعض قوّة الفيلم كونه يعمل على عكس المتوقع منذ اللحظة الأولى. ومنذ اللحظة الأولى فإن جميل عنصر من عناصر العائلة وما يحدث لها وفيها. طرف رابع في معادلة غير متوقعة. الأم ذاتها لا تخفي إنجذابها لهذا الشاب الهاديء لكنها تحافظ طويلا على المسافة بينهما الى أن تزول تلك المسافة في ليلة إنفردا بها. قبل ذلك، تجد ليلى في جميل مناسبة لتجديد زواجها الذي لم يمض عليه وقتا طويلا. إنها تريد من زوجها ترك العمل في المكتبة لجميل والخروج من هذا المكان الذي باتت تراه موحشاً ومقبضاً خصوصاً وأنها، كأي فتاة تحلم بتحقيق طموح يختلف عن حياة الكتب، تنوي التحوّل الى مغنية محترفة. ويزيد المشكلة بينها وبين زوجها تفاقماً زيارة رجل وزوجته يسمعان ليلى تغني ويدعوانها للغناء في حفل لقاء مال. هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها ليلى بالغناء احترافياً ونيل مكافأة عليه. لكنها حين تعود يواجهها زوجها غاضباً فتترك البيت. الزوج يفقد عقله إذ يحبها أكثر مما كان يعتقد. جميل والأم يحاولان إنقاذه، ثم يحاولان التعايش مع مصيبة الإبن الى أن يقرر المخرج الإنتقال الى نهاية تختلط فيها الفانتازيا بواجبات المشهد الختامي السعيد. هنا يفقد الفيلم الكثير مما بناه على صعيد قضيّته المثارة.
لكنه لا يفقد حسناته الكثيرة على صعيدي الكتابة والإخراج ولا على صعيد منح الفيلم النظرة الصحيحة. المعالجة المحترمة للأجواء المطلوبة. الإيقاع المتمهل الذي يشبه قراءة كتاب قد يأخذ وقته في الوصف لكنه آسر في كل كلمة منه. أهم ما يكمن في حسنات المخرج معرفته شخصياته جيداً وتوظيف هذه المعرفة على الشاشة بحيث يصبح المشاهد مدركاً لمواقعها ولخصائصها. هذا فيلم لا يحتاج الى أخيار وأشرار، وفي حين أن كل شخصياته الرئيسية طيّبة الا أنها ليست ساذجة. والموضوع العاطفي القائم بينها ليس إعتباطياً وليس أيضا محاك بسرعة لاستنفاذ بضعة مشاعر حادة. جميل يبقى اللوح الذي يكتب كل واحد من الآخرين كلماته عليه. الزوجة تشكو إليه حالها، والأم تجد فيه ما تفتقده من حياة عاطفية كانت خسرتها وهي لا زالت شابة. وطارق يثق به ويعتبره صديقاً. جميل في خلال كل ذلك هو الوحيد القادر على إدارة المكتبة وهو يفعل ذلك متحمّلا وحدته ومشاكل الشخصيات الأخرى في العمق والصميم. قليل ما نشاهد أفلاماً عربية تحسن شرح المواقف على هذا النحو.
الأجواء المشادة، بفضل تصوير جيد من جيل بورت، لا تدعي أكثر مما تريد أن تنجز. لا أحد في الفيلم يحاول إنشاء معضلة ليست موجودة، والتصوير في هذه الحالة لا يحاول خلق حالة ضيق حدودي كون المكان مغلقاً، بل يستغله كما لو كان ملعباً كبيراً. المكان في هذا الشأن يؤدي وظيفة مهمة في رصف الأجواء المطلوبة. وحقيقة أن الدكان الذي اختاره كاتبا السيناريو نواف صاحب-الطابا وطارق بن شبانة مكتبة، يعكس ثقلاً محبباً على شخصياته كما على علاقة هذه الشخصيات بالعالم الخارجي. المكتبة ليست مكاناً غاصاً بالزبائن والزوّار. لم تعد كذلك منذ أن إنحسرت الثقافة عن الناس، وهذا وجع يظهر عرضاً في الفيلم مقصوداً او غير مقصود.
من أرشيف مهرجان "كان" | مخرج يوغوسلافي في أستراليا عن الكوكا كولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المشكلة هي أنه فيلم كوميدي وأنه عكس المتوقع من الفيلم الكوميدي ... لا يُثير الضحك٠ هو لا يثير الحزن أيضاً. في الحقيقة لا تعرف ما الذي يريدك الفيلم أن تشعر به٠
إنع عن شاب أميركي (إريك روبرتس في واحد من أدوار البطولة القليلة التي سُنحت لشقيق جوليا) يحتل منصباً مهماً في شركة الكوكا كولا (التي يُشير الفيلم أن الشركة الأصلية لا علاقة لها بالفيلم) يصل الى استراليا وفي أوّل اجتماع يعقده مع مدراء وخبراء فرع الشركة، يكتشف أن هناك منطقة ما زالت تخلو من الكوكا كولا فيقرر غزوها. هنا ينتقل الفيلم، ببطء من نوع ما، الى مسألة مجابهة الجديد القادم وكيف أن الجديد يجرف القديم وكيف أن كل قديم مصيره الزوال. ما يواجهه بيكر (روبرتس) أن أهالي المنطقة لا يقبلون على الكولا الذي يشتغل بها، بل على كولا محلّية يصنعها رجل عجوز مكتف بما تحققه له من إيراد ضئيل٠
بالتالي، فإن ما سيحاول بيكر فعله، هو إبرام حكم الإعدام على الصناعة المحلية المستقلّة. كان يمكن المخرج أن يوضّح ما إذا كان دافع الفيلم الحديث عن هيمنة الشركات الأميركية او عن احتلال الحاضر للماضي. طبعاً من السهل تصوّر الوضع الأول، او الوضعين معاً، لكن التلخيص السابق أفضل وضعاً من الطريقة التي رصفها الفيلم لأحداثه ومعانيه. وهو لا يصيب حظّاً كبيراً لا في مسألة الهيمنة ولا في مسألة تعاقب الأجيال او تأييد الأمس على اليوم، إذا ما كان هذا مسعاه. يزيد ذلك سوءاً أنه لا يعرف ما يريد من مشاهديه حيال بطله: التعاطف او عدمه. هل بيكر هو الضحية من حيث لا يعلم؟ هو هو عدو نفسه كونه يعاني من عزلته فرضها على نفسه؟
اختيار روبرتس للدور لم يكن أفضل الإختيارات. هو ممثل موهوب، لكن موهبته ليست في هذا الصنف الطيّب من الأدوار. إنه غير مقنع وفيه طاقة شريرة تريد الخروج من تحد جلد هذا الدور الأملس، لكنها لا تستطيع٠
مخرجون كبار | روبرت ألتمَن حقق هذا الفيلم عن أسطورة جيمس دين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم روبرت ألتمَن هذا هو حول الوهم قبل كل أمر آخر. بطلاته هن نساء يعشن في الوهم، واقعهن قائم عليه وذكرياتهن تعيش منه. إنه تحول منذ زمن بعيد إلى حقيقة تعيش شخصيات ألتمَن عليها رافضة أن تفتح عينها من جديد على الواقع٠
في الأصل كتب أد كرايجك المسرحية التي قدمها روبرت ألتمَن نفسه على المسرح. سنوات قليلة من بعد نقلها المخرج إلى هذا الفيلم الذي صوره بكاميرا سوبر 16 ملم، في 19 يوماً وبميزانية بالغة الضآلة. وليس مفاجئاً، ربما، القول أن الفيلم، وأن عرف عروضاً تجارية، إلا أنه لم يعرف أي مستوى فعلي من النجاح. من جديد، نحن أمام مخرج ينشط كثيراً ويحقق أفلاماً متوالية بعضها أفضل من بعضها الآخر، لكنها لا تصب في محيط السينما الجماهيرية الكبيرة والمعروفة٠
فيلم «عد إلى مخزن الخمس والعشر...» هو نموذج ألتمَني لعدة أوجه. نموذج للسينما التي كان يحققها بعيداً عن القنوات التجارية وشركات هوليوود الكبيرة، نموذج للسينما التي يسجل فيها ملاحظاته حول ما يسكن داخل الناس وسط البيئة التي من حولهم، نموذج لطريقته الساخرة في تناول أو تسجيل تلك الملاحظات، ثم نموذج للشكل المسرحي ـ التفصيلي ـ الاستعراضي الذي يبينه حول أفلامه الأخيرة مع الملاحظة أنه هنا لا يخرج من المكان الذي تدور فيه الأحداث مطلقاً، والمكان هو متجر (محل) من تلك الرخيصة التي كانت تنتشر في المدن الصحراوية الصغيرة (في تكساس، كاليفورنيا وأريزونا) لتبيع كل ما هو رخيص الثمن وغالباً ما حوت على بضائع لا رابط بينها. روبرت ألتمَن يضعنا في داخل المحل كما يضع المسرح جمهوره داخل الصالة ويكون أمام الممثلين مساحة محدودة يتحركون فوقها، لكن الفارق هنا هو أن الكاميرا تستطيع بدورها أن تتحرك في ذلك المكان المزدحم. وهي إذ تفعل ذلك تتجنب أولاً تغيير الشكل والنمط المسرحيين في العمل، فلا حركات استعراضية ولا زوايا متعددة بهدف كسر حدة المسرح الذي في الفيلم. المونتاج أيضاً يمارس الحذر نفسه فيأتينا الفيلم بكامله سلساً ومشبعاً في الوقت ذاته٠
لكن ما الذي يمكن لمخرج ما أن يحكيه في فيلم مغلق كهذا وينجو من السقوط في السأم؟
الحكاية ذات خط بسيط جداً: بعد عشرين سنة من موت الممثل جيمس دين، تلتقي بعض عضوات جمعية معجبين سابقة في المحل التي تملكه إحداهن. الحديث ينتقل بكل منهن إلى الماضي. من الواقع إلى الوهم الذي حاكته كل واحدة حولها وعاشت فيه. تحكي روايات مختلفة في بعضها وأخرى تكشف فيها أسراراً لم تكن الباقيات على علم بها، وأحياناً ما تكشف الواحدة للأخرى عن تلك الأسرار المتعلقة بالثانية معيدة إياها إلى الواقع من أرض الوهم. هذا كله ليس بالتعقيد الذي توحيه هذه الكلمات، ألتمَن يزيّن المحل بمرآة كبيرة وهذه المرآة تصير اللوحة التي تعكس الماضي والأوهام والذكريات. حينها يصور ألتمَن نساءه على المرآة، أما حين يعشن اليوم ـ أو الحدث الذي أمامنا ـ فهو يصورهن من دون تلك المرآة. لكن هذا التفسير بدوره يوحي بتبسيط غير واقعي٠
المسألة في طبيعتها هي أن ألتمَن قد عرف كيف يوصل ما بين ذلك الوهم الذي يظهر في المرآة وفي ماضي بعض شخصياته وبين الواقع الذي يصوره من دون المرآة وفي حاضر تلك الشخصيات. أنه خيط عاطفي ونفسي يتجسد في شخصية مونا (ساندي دنيس البارعة دوماً في أدوارها) التي تدعي إنها كانت قد التقت بجيمس دين حينما كان يمثل آخر أفلامه «عملاق» أمام اليزابيت تيلور، وإنها كانت من «كومبارس» الممثلين ووقفت وراء اليزابيت تبلور في أحد المشاهد. وأن علاقتها بجيمس دين تطورت فحبلت منه ولداً نسمعها تتحدث عنه وتناديه ولكننا لا نراه٠
الشخصيات الأخرى ـ وبينها جوان (كارين بلاك) التي اختفت من المجموعة قبل عدة سنات رجلاً مخنثاً وعادت إليها بعد أن أجرت عملية تحولت بها إلى أنثى ـ هي أيضاً خيوط ما بين الماضي والحاضر وبين الوهم والحقيقة، لكن الفيلم غير مصنوع لأدانة تلك العلاقة ولبحث نتائجها ولو أنه في النهاية يعتم الصورة التي رسمها حول تلك النسوة وهن يكتشفن وهم السنوات العشرون الماضية. جوان ذاتها تكون مفتاح النوافذ التي كانت موصدة. ونفهم أن الليلة التي تدعي مونا إنها قد قضتها مع جيمس دين قبل انطلاقه في سيارة سريعة واختفائه (موته بحادثة) لم تكن سوى معها هي عندما كانت شاباً ذكراً٠
لكن المسألة ليست بالمرة وقفاً على حكاية معجبات يتبادلن الحديث عن أنفسهن وعواطفهن. ما يجعل الفيلم أكثر قيمة أن المادة التي يتداولنها وينطلقن منها هي جيمس دين ـ هوليوود ـ السينما. ونحن بعد أن نغوص قليلاً في استعراض ألتمَن ندرك أنه قد اختار ميدان السينما مكاناً لنقده هذه المرة (الوسط الموسيقي في «ناشفيل» العسكرية في «ماش» و »مظليون» ثم عالم الأزياء وعالم التمثيل الخ...). ألتمَن يتحدث هنا عن الأسطورة وراء الممثل. عن كيف تصنع المجلات الكبيرة الهالات الكبيرة، وكيف تغذيها السينما ـ الجماهيرية التي ـ في الواقع ـ لا تستهوي ألتمَن ولا هو يستهويها٠
ألتمَن يفتح جرحاً صغيراً في تلك الأسطورة لكنه جرح كاف لأن ينزف طويلاً. وإحدى عبارات الفيلم ذات الأبعاد تقول: "الإيمان شيء غريب ـ أليس كذلك؟ عندما لا يدري من تؤمن به إنك موجود"٠
بالنسبة إلى مونا كان جيمس بوند وبقي الشكل الذي آمنت به طويلاً، لكن ذلك الكل ـ الإنسان لم يعرفها. إنه أبداً لم يلتق بها، كما لم يلتق يوماً بملايين المعجبين به والمؤمنين بأسطورته، وهذه عند ألتمَن كافية لكي تشير إلا أن خللاً رئيسياً يحدث في كل مرة تستولي فيها قوة الخيال على الناس٠
الفيلم يحمل، من خلال هذا، رمزياته المتعددة واحداً إنه إذا كان جيمس دين هو السحر والأسطورة والهالة. فإنه وعلى أصعدة أخرى لا علاقة لها بالسينما ـ هناك أكثر من جيمس دين وكل له سحره وأسطورته وهالته، وكل استولى على معجبيه وربما نقلهم من الواقع إلى الخيال٠
التمثيل هنا تجربة لكل من الممثلات والمشاهدين، كل واحدة أعطت أفضل أداء ممكن لها، وهو أداء عال ومتوتر خاصة وأن الفيلم بقي على علاقة ـ هنا ـ بتقنية المسرح وطبيعته السردية. ألتمَن يرعى ممثلاته بكثير من التفهم ويديرهن جيداً. في الحقيقة أنه يدير كل هذا الفيلم جيداً ويصنع عملاً يثير الإعجاب والاحترام لتكامله ـ من جهة ـ ولخروجه عن مسار السينما التي ينتقدها ولو أنه لم يكن لديه مجال في الأصل لينتمي إليها بعدما كرّس معظم أعماله في منهج بحثي وعرضي لا علاقة له بالطريقة المألوفة لسرد قصة. هذا العمل هو قمة نجاحه في هذا المنهج٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2010٠
#63| The Girl With the Dragon Tattoo الفتاة ذات الوشم التنين
.....................................................................................................................
إخراج: نيلز أردن أوبلڤ
أدوار أولى: ناوومي راباس، مايكل نكفيست، لينا أندريه، بيتر هَبِر٠
تشويق بوليسي [تبويب: قتل متسلسل]٠
السويد/النروج/ دنمارك/ ألماني - 2010
**: تقييم الناقد
.....................................................................................................................
هناك عدّة نواح متشابهة بين فيلم جوان جوزيه كامبانيلا "السر في عيونهم" (الذي تحدّثت عنه مراراً هنا) وبين "الفتاة ذات الوشم التنين" للمخرج الدنماركي نيلز أردن أوبلڤ. كلاهما وكل ناحية منها مثيرة للتأمّل. لكن أهم هذه النواحي مسألتان تتعلّقان بالقصّة ذاتها. الأولى: أنهما يعتمدان على الصورة الفوتوغرافية ككاشفة عن الجريمة التي يتم التحقيق بشأنها، الثانية أنهما يتحدّثان عن شخصيات من اليوم تعود الى أحداث وقعت في الماضي. طبعاً هناك الناحية الثالثة التي لا تقل أهمية: كلاهما بوليسي٠
الفتاة في عنوان "الفتاة ذات الوشم التنين" هي ليزبث (ناوومي راباس): إمرأة شابّة متمرّدة من أصول برجوازية نتعرّف عليها تلاحق قضية ذلك الصحافي اليساري مايكل (مايكل نيكفست) الذي حكمت عليه المحكمة بتهمة باطلة عقوبتها ثلاثة أشهر في اقامة جبرية بسبب تعرّضه لشخصية اجتماعية وسياسية مشهورة. لن يبدأ تنفيذ هذه العقوبة الا بعد حين. خلال ذلك، يستلم الصحافي مهمّة يسندها اليه رجل عجوز يريد أن يعرف، وقبل أن يموت، من قتل الفتاة التي رعاها واختفت في ظروف غامضة قبل أربعين سنة. لم يرزق بأولاد واعتبرها إبنته وتألّم كثيراً حين اختفى وكل ما يريد معرفته قبل أن يغمض عيناه الى الأبد هو معرفة كيف ولماذا تم قتلها. إنهما، هو وتلك الفتاة التي أسمها هارييت، ينتميان الى عائلة من كبار البرجوازيين يعيشون في منطقة بعيدة عن العمران فوق منطقة غمرتها ثلوج الشتاء. الصحافي يبدأ مهامه. ليزابث مهتمّة بأمره ولن يلتقيا الا بعد أكثر من ساعة من بدء الفيلم (ساعتين و35 دقيقة)٠
عمل الصحافي شاق. ليس لديه لأجل الكشف عن السر سوى النظر الى تلك الصور التي افترش جدار المنزل بها. واحدة من تلك الصور هي لهارييت وهي تنظر بعيداً عن باقي المصطفين لحضور عرض ما. نذكر أنه في فيلم كامبانيلا، هناك تلك الصورة لرجل ينظر الى الفتاة- الضحية، بينما باقي الذين في الصورة ينظرون الى إتجاه واحد آخر. وبناءاً عليها تقدّم بحث المحقق. هنا نجد صورة (بالأبيض والأسود) للفتاة الضحية وهي تنظر الى جهة معيّنة بينما الباقون ينظرون الى جهة أخرى٠
يحاول الصحافي الذي طلب منه إنجاز ما لم يستطع البوليس إنجازه من بحث، أن يربط بين هذه الصورة وصور أخرى ويجد أن الفتاة إنما يمكن أنها كانت تنظر الى رجل موجود في صورة أخرى. لكنه موجود في الخلفية ووجهه ليس واضحاً٠
في هذه الأثناء، تنتقل الأحداث الى المدينة. ليزبت هذه عليها أن تطلب المال من الوصي على ميراثها وهذا الشخص رجل سادي متوحّش يفرض عليها ممارسة الجنس معه. يحدث هذا في المرّة الأولى حين تحتاج لمبلغ تشتري به كومبيوتر جديد. في المرّة الثانية يربطها ويعرّيها ويمارس معها جنساً وحشياً غير إنساني. في المرّة الثالثة تدخل بيته بخطّة. تصعقه بجهاز كهربائي فيغمى عليه وحين يستيقظ يجد نفسه مربوطاً وعارياً وهي تنتقم منه على النحو الذي سيوصمه كما حاول وصمها. الجاني صار ضحية ويستحق ذلك٠
حين تنضم ليزبث الى مايكل وتبدأ بمساعدته يتقدّمان أكثر في تحقيقاتهما. يربطان بين اختفاء هارييت واختفاء ومقتل بضع نساء من قبل في أماكن متفرّقة. فجأة يتناهى الى ليزبث أن كل المختفيات سابقاً يشتركن في أمر واحد: إما يهوديات او لهن أسماءاً يهودية، وندرك من قبل ذلك أن بعض أرباب هذه العائلة كانوا نازيين سابقين ... تم حل المشكلة. الباقي تحصيل حاصل من نوع كيف سيمكن معرفة أي فرد من تلك العائلة ارتكب هذه الجرائم وكيف ستكون النهاية٠
فيلم نيلز أردن أوبليف، مثير للإهتمام ومشغول بعناية أيضاً، لكنه لا يرتقي الى مستوى "السر في عيونهم" لأسباب مهمّة: الفيلم الأول لا ينسى الرومانسية ويجعلها محوراً مهمّاً. الفيلم الثاني يستبدل الرومانسية بمشاهد حب وعلاقات. الفيلم الأول تكفيه جريمة واحدة لسبر غور جوانب الحياة والسياسة، الفيلم الثاني يتحدّث عن جرائم لا تنتهي (كما نعرف في ثلث الساعة الأخيرة). و"السر في عيونهم" لا يستخدم مساعدة الكومبيوتر في حل الجريمة، لأن الجريمة وقعت قبل عصر الكومبيوتر. أما "الفتاة ذات الوشم التنين" فهو يستند الى الكومبيوتر مبتدعاً الصور (على نحو أن بعض الصور ليست موجودة في الحقيقة بل تم ابتكارها على الآبل ماكنتوتش. ما يدفع الى السؤال: هل كان بإمكان الصحافي معرفة الجاني وحل قضية اختفاء الفتاة صاحبة الصورة لو لم يعمد الى الكومبيوتر؟ وإذا كان الجواب لا (وهو لا من فرط اعتماد الرواية والسيناريو على الكومبيوتر كعنصر) فما هو الجهد البوليسي الفردي الذي تقوم عليه القصّة؟
ثم هناك مستوى الإخراج نفسه: الأرجنتيني كامبانيلا مرتاح وفيلمه آسر. الدنماركي أوبلف مشوّش ومتوتّر ولو أنه منفّذ حرفي جيّد. لكن الإهتمام في النهاية واحد: تلك الصور الفوتوغرافية التي تخترق فيها النظرات الورق التي طُبعت عليه لتطبّق المثل المعروف: الصورة بألف كلمة
هذا الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب البوليسي السويدي ستيغ لارسون الذي بدأ حياته صحافياً وناشطاً صحافياً ومات سنة 2004 بعد أن أنجز ثلاث روايات أولها "الفتاة ذات الوشم التنين" هذا. وهو كان شيوعي الإتجاه. لذلك حين استخدمت كلمة "برجوازيون" كنت استمدّها من الصفة التي أطلقها هو. لكن إذ لم أقرأ الرواية فلا علم عندي إذا ما كان الفيلم يتطابق معها خصوصاً في تلك المواقف العنيفة التي يستعرضها. هذه المواقف ذاتها لا ترفع من قيمة الفيلم على الإطلاق. ليس منها ما هو ضروري، حتى مسألة الإعتداء على الفتاة ليزبث ليست مرتبطة عضوياً بالموضوع الرئيسي، بل على نحو جانبي. الغاية هي إظهار عنف الرجل على المرأة (تماماً كما في "فناء") خصوصاً وأن اختفاء هارييت له علاقة مماثلة إذ تتعرّض لاعتداء والدها عليها قبل أن تهرب من البيت وتلجأ لدى قريبها الطيّب وقبل أن تختفي عن الأنظار بعدما أدركت أن قريباً آخر هو الذي يقتل ويمثّل بالنساء. بذلك العنف مرتبط من السلطويين النافذين والأثرياء، لكن هذا مفهوم تبسيطي ساذج وبالنسبة للفيلم ليس الوسيلة الوحيدة للوصول إلى تحقيقه٠
كلاسيكيات عربية حديثة | لوحة جميلة تكتب كل شخصية كلماتها عليه٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#64| الكُتبية
.....................................................................................................................
إخراج: نوفل صاحب- إلطابا
أدوار أولى: هند صبري، أحمد الحفيان، مارتن جافي، عيد باجي، رؤوف بن عمّور٠
دراما إجتماعية ٠
تونس/ المغرب/ فرنسا - 2003
****: تقييم الناقد
.....................................................................................................................
فيلم نوفل صاحب من الإتقان وحسن التصميم في العمل لدرجة إنه من غير المتاح للمشاهد النظر الى الفيلم كعمل تقع معظم أحداثه داخل مكتبة وبضع غرف صغيرة في مبنى واحد. وإذا كان المخرج تعب كثيرا لأجل أن يعالج حدود المكان الواحد، فإن ذلك ليس واضحاً في النتيجة التي أمامنا. »الكتبية« (او »المكتبة«) عمل جيد وناضج بلغة سلسلة. يستخدم المخرج قواعد سرد تصوير منضبطة. يرتاح الى الكاميرا المؤسسة ذات العراقة والى التمثيل الناضج المتلاحم في مشاكل شخصياته من دون اصطدام او ضعف. قليلا فقط تبدو القصة كما لو أنها تريد جذب الفيلم الى وضع ميلودرامي تلفزيوني، لكن الشخصيات القوية والتمثيل الممعن في قوّة إيحاءاته يوجه الفيلم الى مستوياته الجادة. ولولا أن النهاية، في الدقائق العشر الأخيرة او نحوها، أضعف بكثير مما يتوقعه المرء من فيلم عرض لمشاكل أهم من أن تُحل على النحو الذي يرد في ختام هذا الفيلم لكان أمامنا تحفة حقيقية.
يبدأ الفيلم ببطله جميل (أحمد الحفيان) يحمل حقائبه القليلة بعدما عاد الى الوطن بعد عشر سنوات من الغياب. يجد عملاً في مكتبة قديمة تقع في وسط مدينة تونس. صاحب المكتبة هو طارق (باجي) يعرض عليه الوظيفة وفوقها غرفة للنوم تقع في الطابق الأرضي ذاته. فوق المكتبة تقع الغرفة التي يعيش فيها طارق مع زوجته الجميلة ليلى (صبري). الى جانبهما غرفة أخرى تعيش فيها والدتها (مارتين جفصي). أول دخول جميل يسمع صوت ليلى وهي تغني أسمهان. والمرء منا يحاول إستباقة الأحداث فيتصوّر أن علاقة عاطفية ستنشأ بين هذا القادم الجديد الذي يحتفظ بسرّه لنفسه ويتحدث بهدوء وصوت منخفض دائما وبين ليلى الجميلة التي تطمح لشق طريقها في عالم الغناء- إن استطاعت. لكن من حسن حظ الفيلم ومشاهديه هذا لا يقع. هناك ملاطفة. مداعبة لكن المشكلة ستقع في إطار بعيد جداً ولن يكون لجميل أي سبب فيها.
هذا بعض قوّة الفيلم كونه يعمل على عكس المتوقع منذ اللحظة الأولى. ومنذ اللحظة الأولى فإن جميل عنصر من عناصر العائلة وما يحدث لها وفيها. طرف رابع في معادلة غير متوقعة. الأم ذاتها لا تخفي إنجذابها لهذا الشاب الهاديء لكنها تحافظ طويلا على المسافة بينهما الى أن تزول تلك المسافة في ليلة إنفردا بها. قبل ذلك، تجد ليلى في جميل مناسبة لتجديد زواجها الذي لم يمض عليه وقتا طويلا. إنها تريد من زوجها ترك العمل في المكتبة لجميل والخروج من هذا المكان الذي باتت تراه موحشاً ومقبضاً خصوصاً وأنها، كأي فتاة تحلم بتحقيق طموح يختلف عن حياة الكتب، تنوي التحوّل الى مغنية محترفة. ويزيد المشكلة بينها وبين زوجها تفاقماً زيارة رجل وزوجته يسمعان ليلى تغني ويدعوانها للغناء في حفل لقاء مال. هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها ليلى بالغناء احترافياً ونيل مكافأة عليه. لكنها حين تعود يواجهها زوجها غاضباً فتترك البيت. الزوج يفقد عقله إذ يحبها أكثر مما كان يعتقد. جميل والأم يحاولان إنقاذه، ثم يحاولان التعايش مع مصيبة الإبن الى أن يقرر المخرج الإنتقال الى نهاية تختلط فيها الفانتازيا بواجبات المشهد الختامي السعيد. هنا يفقد الفيلم الكثير مما بناه على صعيد قضيّته المثارة.
لكنه لا يفقد حسناته الكثيرة على صعيدي الكتابة والإخراج ولا على صعيد منح الفيلم النظرة الصحيحة. المعالجة المحترمة للأجواء المطلوبة. الإيقاع المتمهل الذي يشبه قراءة كتاب قد يأخذ وقته في الوصف لكنه آسر في كل كلمة منه. أهم ما يكمن في حسنات المخرج معرفته شخصياته جيداً وتوظيف هذه المعرفة على الشاشة بحيث يصبح المشاهد مدركاً لمواقعها ولخصائصها. هذا فيلم لا يحتاج الى أخيار وأشرار، وفي حين أن كل شخصياته الرئيسية طيّبة الا أنها ليست ساذجة. والموضوع العاطفي القائم بينها ليس إعتباطياً وليس أيضا محاك بسرعة لاستنفاذ بضعة مشاعر حادة. جميل يبقى اللوح الذي يكتب كل واحد من الآخرين كلماته عليه. الزوجة تشكو إليه حالها، والأم تجد فيه ما تفتقده من حياة عاطفية كانت خسرتها وهي لا زالت شابة. وطارق يثق به ويعتبره صديقاً. جميل في خلال كل ذلك هو الوحيد القادر على إدارة المكتبة وهو يفعل ذلك متحمّلا وحدته ومشاكل الشخصيات الأخرى في العمق والصميم. قليل ما نشاهد أفلاماً عربية تحسن شرح المواقف على هذا النحو.
الأجواء المشادة، بفضل تصوير جيد من جيل بورت، لا تدعي أكثر مما تريد أن تنجز. لا أحد في الفيلم يحاول إنشاء معضلة ليست موجودة، والتصوير في هذه الحالة لا يحاول خلق حالة ضيق حدودي كون المكان مغلقاً، بل يستغله كما لو كان ملعباً كبيراً. المكان في هذا الشأن يؤدي وظيفة مهمة في رصف الأجواء المطلوبة. وحقيقة أن الدكان الذي اختاره كاتبا السيناريو نواف صاحب-الطابا وطارق بن شبانة مكتبة، يعكس ثقلاً محبباً على شخصياته كما على علاقة هذه الشخصيات بالعالم الخارجي. المكتبة ليست مكاناً غاصاً بالزبائن والزوّار. لم تعد كذلك منذ أن إنحسرت الثقافة عن الناس، وهذا وجع يظهر عرضاً في الفيلم مقصوداً او غير مقصود.
من أرشيف مهرجان "كان" | مخرج يوغوسلافي في أستراليا عن الكوكا كولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
# 65 | The Coca-Cola Kid| فتى الكوكا كولا
.....................................................................................................................
إخراج: دوسان مكافييف
أدوار أولى: إريك روبرتس، غريتا سكاكي، بيل كير٠٠
كوميديا سوداء ٠
اوستراليا - 1984
** : تقييم الناقد
.....................................................................................................................
في الوقت الذي كانت فيه شركة كوكاكولا تجري تجاربها على نوع جديد من مشروبها الحامل إسمها، كان المخرج اليوغوسلافي دوسان مكافييف يجري تجاربه على فيلمه الجديد هذا. المصدر مجموعة قصص قصيرة للكاتب الإسترالي فرانك مورهاوس، ولا علاقة بين الكوكا كولا الحقيقية وكوكا كولا الفيلم سوى أن تجربتيهما انتهتا بفشل متساو: المشروب الجديد الذي أطلقته في الشهر الخامس من العام 1984 في السوق الأميركية استقبل بفتور فعادت الشركة الى تركيبتها السابقة المعهودة، والفيلم الذي سطع على شاشة "كان" متنافساً في الشهر ذاته، فار سريعاً ولم يترك مفعولاً مؤثراً بدوره٠المشكلة هي أنه فيلم كوميدي وأنه عكس المتوقع من الفيلم الكوميدي ... لا يُثير الضحك٠ هو لا يثير الحزن أيضاً. في الحقيقة لا تعرف ما الذي يريدك الفيلم أن تشعر به٠
إنع عن شاب أميركي (إريك روبرتس في واحد من أدوار البطولة القليلة التي سُنحت لشقيق جوليا) يحتل منصباً مهماً في شركة الكوكا كولا (التي يُشير الفيلم أن الشركة الأصلية لا علاقة لها بالفيلم) يصل الى استراليا وفي أوّل اجتماع يعقده مع مدراء وخبراء فرع الشركة، يكتشف أن هناك منطقة ما زالت تخلو من الكوكا كولا فيقرر غزوها. هنا ينتقل الفيلم، ببطء من نوع ما، الى مسألة مجابهة الجديد القادم وكيف أن الجديد يجرف القديم وكيف أن كل قديم مصيره الزوال. ما يواجهه بيكر (روبرتس) أن أهالي المنطقة لا يقبلون على الكولا الذي يشتغل بها، بل على كولا محلّية يصنعها رجل عجوز مكتف بما تحققه له من إيراد ضئيل٠
بالتالي، فإن ما سيحاول بيكر فعله، هو إبرام حكم الإعدام على الصناعة المحلية المستقلّة. كان يمكن المخرج أن يوضّح ما إذا كان دافع الفيلم الحديث عن هيمنة الشركات الأميركية او عن احتلال الحاضر للماضي. طبعاً من السهل تصوّر الوضع الأول، او الوضعين معاً، لكن التلخيص السابق أفضل وضعاً من الطريقة التي رصفها الفيلم لأحداثه ومعانيه. وهو لا يصيب حظّاً كبيراً لا في مسألة الهيمنة ولا في مسألة تعاقب الأجيال او تأييد الأمس على اليوم، إذا ما كان هذا مسعاه. يزيد ذلك سوءاً أنه لا يعرف ما يريد من مشاهديه حيال بطله: التعاطف او عدمه. هل بيكر هو الضحية من حيث لا يعلم؟ هو هو عدو نفسه كونه يعاني من عزلته فرضها على نفسه؟
اختيار روبرتس للدور لم يكن أفضل الإختيارات. هو ممثل موهوب، لكن موهبته ليست في هذا الصنف الطيّب من الأدوار. إنه غير مقنع وفيه طاقة شريرة تريد الخروج من تحد جلد هذا الدور الأملس، لكنها لا تستطيع٠
مخرجون كبار | روبرت ألتمَن حقق هذا الفيلم عن أسطورة جيمس دين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
# 66 | Come Back To the Fives & Dimes, Jimmey Dean, Jimmy Dean| تعال الى متجر الخمس والعشر سنتات، جيمي دين
.....................................................................................................................
إخراج: روبرت ألتمَن
أدوار أولى: ساندي دنيس، شير، سودي بوند، كارين بلاك، كاثي بايتس٠
دراما ساخرة [تكساس، السينما المستقلة، سينما ألتمَن، نجومية]٠
الولايات المتحدة - 1982
**** : تقييم الناقد
.....................................................................................................................
فيلم روبرت ألتمَن هذا هو حول الوهم قبل كل أمر آخر. بطلاته هن نساء يعشن في الوهم، واقعهن قائم عليه وذكرياتهن تعيش منه. إنه تحول منذ زمن بعيد إلى حقيقة تعيش شخصيات ألتمَن عليها رافضة أن تفتح عينها من جديد على الواقع٠
في الأصل كتب أد كرايجك المسرحية التي قدمها روبرت ألتمَن نفسه على المسرح. سنوات قليلة من بعد نقلها المخرج إلى هذا الفيلم الذي صوره بكاميرا سوبر 16 ملم، في 19 يوماً وبميزانية بالغة الضآلة. وليس مفاجئاً، ربما، القول أن الفيلم، وأن عرف عروضاً تجارية، إلا أنه لم يعرف أي مستوى فعلي من النجاح. من جديد، نحن أمام مخرج ينشط كثيراً ويحقق أفلاماً متوالية بعضها أفضل من بعضها الآخر، لكنها لا تصب في محيط السينما الجماهيرية الكبيرة والمعروفة٠
فيلم «عد إلى مخزن الخمس والعشر...» هو نموذج ألتمَني لعدة أوجه. نموذج للسينما التي كان يحققها بعيداً عن القنوات التجارية وشركات هوليوود الكبيرة، نموذج للسينما التي يسجل فيها ملاحظاته حول ما يسكن داخل الناس وسط البيئة التي من حولهم، نموذج لطريقته الساخرة في تناول أو تسجيل تلك الملاحظات، ثم نموذج للشكل المسرحي ـ التفصيلي ـ الاستعراضي الذي يبينه حول أفلامه الأخيرة مع الملاحظة أنه هنا لا يخرج من المكان الذي تدور فيه الأحداث مطلقاً، والمكان هو متجر (محل) من تلك الرخيصة التي كانت تنتشر في المدن الصحراوية الصغيرة (في تكساس، كاليفورنيا وأريزونا) لتبيع كل ما هو رخيص الثمن وغالباً ما حوت على بضائع لا رابط بينها. روبرت ألتمَن يضعنا في داخل المحل كما يضع المسرح جمهوره داخل الصالة ويكون أمام الممثلين مساحة محدودة يتحركون فوقها، لكن الفارق هنا هو أن الكاميرا تستطيع بدورها أن تتحرك في ذلك المكان المزدحم. وهي إذ تفعل ذلك تتجنب أولاً تغيير الشكل والنمط المسرحيين في العمل، فلا حركات استعراضية ولا زوايا متعددة بهدف كسر حدة المسرح الذي في الفيلم. المونتاج أيضاً يمارس الحذر نفسه فيأتينا الفيلم بكامله سلساً ومشبعاً في الوقت ذاته٠
لكن ما الذي يمكن لمخرج ما أن يحكيه في فيلم مغلق كهذا وينجو من السقوط في السأم؟
الحكاية ذات خط بسيط جداً: بعد عشرين سنة من موت الممثل جيمس دين، تلتقي بعض عضوات جمعية معجبين سابقة في المحل التي تملكه إحداهن. الحديث ينتقل بكل منهن إلى الماضي. من الواقع إلى الوهم الذي حاكته كل واحدة حولها وعاشت فيه. تحكي روايات مختلفة في بعضها وأخرى تكشف فيها أسراراً لم تكن الباقيات على علم بها، وأحياناً ما تكشف الواحدة للأخرى عن تلك الأسرار المتعلقة بالثانية معيدة إياها إلى الواقع من أرض الوهم. هذا كله ليس بالتعقيد الذي توحيه هذه الكلمات، ألتمَن يزيّن المحل بمرآة كبيرة وهذه المرآة تصير اللوحة التي تعكس الماضي والأوهام والذكريات. حينها يصور ألتمَن نساءه على المرآة، أما حين يعشن اليوم ـ أو الحدث الذي أمامنا ـ فهو يصورهن من دون تلك المرآة. لكن هذا التفسير بدوره يوحي بتبسيط غير واقعي٠
المسألة في طبيعتها هي أن ألتمَن قد عرف كيف يوصل ما بين ذلك الوهم الذي يظهر في المرآة وفي ماضي بعض شخصياته وبين الواقع الذي يصوره من دون المرآة وفي حاضر تلك الشخصيات. أنه خيط عاطفي ونفسي يتجسد في شخصية مونا (ساندي دنيس البارعة دوماً في أدوارها) التي تدعي إنها كانت قد التقت بجيمس دين حينما كان يمثل آخر أفلامه «عملاق» أمام اليزابيت تيلور، وإنها كانت من «كومبارس» الممثلين ووقفت وراء اليزابيت تبلور في أحد المشاهد. وأن علاقتها بجيمس دين تطورت فحبلت منه ولداً نسمعها تتحدث عنه وتناديه ولكننا لا نراه٠
الشخصيات الأخرى ـ وبينها جوان (كارين بلاك) التي اختفت من المجموعة قبل عدة سنات رجلاً مخنثاً وعادت إليها بعد أن أجرت عملية تحولت بها إلى أنثى ـ هي أيضاً خيوط ما بين الماضي والحاضر وبين الوهم والحقيقة، لكن الفيلم غير مصنوع لأدانة تلك العلاقة ولبحث نتائجها ولو أنه في النهاية يعتم الصورة التي رسمها حول تلك النسوة وهن يكتشفن وهم السنوات العشرون الماضية. جوان ذاتها تكون مفتاح النوافذ التي كانت موصدة. ونفهم أن الليلة التي تدعي مونا إنها قد قضتها مع جيمس دين قبل انطلاقه في سيارة سريعة واختفائه (موته بحادثة) لم تكن سوى معها هي عندما كانت شاباً ذكراً٠
لكن المسألة ليست بالمرة وقفاً على حكاية معجبات يتبادلن الحديث عن أنفسهن وعواطفهن. ما يجعل الفيلم أكثر قيمة أن المادة التي يتداولنها وينطلقن منها هي جيمس دين ـ هوليوود ـ السينما. ونحن بعد أن نغوص قليلاً في استعراض ألتمَن ندرك أنه قد اختار ميدان السينما مكاناً لنقده هذه المرة (الوسط الموسيقي في «ناشفيل» العسكرية في «ماش» و »مظليون» ثم عالم الأزياء وعالم التمثيل الخ...). ألتمَن يتحدث هنا عن الأسطورة وراء الممثل. عن كيف تصنع المجلات الكبيرة الهالات الكبيرة، وكيف تغذيها السينما ـ الجماهيرية التي ـ في الواقع ـ لا تستهوي ألتمَن ولا هو يستهويها٠
ألتمَن يفتح جرحاً صغيراً في تلك الأسطورة لكنه جرح كاف لأن ينزف طويلاً. وإحدى عبارات الفيلم ذات الأبعاد تقول: "الإيمان شيء غريب ـ أليس كذلك؟ عندما لا يدري من تؤمن به إنك موجود"٠
بالنسبة إلى مونا كان جيمس بوند وبقي الشكل الذي آمنت به طويلاً، لكن ذلك الكل ـ الإنسان لم يعرفها. إنه أبداً لم يلتق بها، كما لم يلتق يوماً بملايين المعجبين به والمؤمنين بأسطورته، وهذه عند ألتمَن كافية لكي تشير إلا أن خللاً رئيسياً يحدث في كل مرة تستولي فيها قوة الخيال على الناس٠
الفيلم يحمل، من خلال هذا، رمزياته المتعددة واحداً إنه إذا كان جيمس دين هو السحر والأسطورة والهالة. فإنه وعلى أصعدة أخرى لا علاقة لها بالسينما ـ هناك أكثر من جيمس دين وكل له سحره وأسطورته وهالته، وكل استولى على معجبيه وربما نقلهم من الواقع إلى الخيال٠
التمثيل هنا تجربة لكل من الممثلات والمشاهدين، كل واحدة أعطت أفضل أداء ممكن لها، وهو أداء عال ومتوتر خاصة وأن الفيلم بقي على علاقة ـ هنا ـ بتقنية المسرح وطبيعته السردية. ألتمَن يرعى ممثلاته بكثير من التفهم ويديرهن جيداً. في الحقيقة أنه يدير كل هذا الفيلم جيداً ويصنع عملاً يثير الإعجاب والاحترام لتكامله ـ من جهة ـ ولخروجه عن مسار السينما التي ينتقدها ولو أنه لم يكن لديه مجال في الأصل لينتمي إليها بعدما كرّس معظم أعماله في منهج بحثي وعرضي لا علاقة له بالطريقة المألوفة لسرد قصة. هذا العمل هو قمة نجاحه في هذا المنهج٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2010٠