Year 3. N. 89 | The Adjustment Bureau | The Turin Horse


__________________ FLASH BACK __________________

The Kid | Charles Chaplin ***

أكثر أفلام تشارلي تشابلن عاطفية وجزء من تلك العاطفة مردّها الى أن الكوميدي المعروف عاش في الميتم وشقيقه سيدني بضع سنوات، وموضوع هذا الفيلم يدور حول محاولة جمعية رعاية حرمانه من أبوّته لصبي وجده متسعلكاً في الشارع فآواه وأخذا يعملان معاً (الصبي يضرب زجاج المحال بالحجارة ويهرب فيتظاهر شارلو بأنه يمر بالصدفة مع عدّته وألواحه الزجاجية ما يضمن له عملاً سريعاً). ككثير من أفلامه هناك وجود السُلطة (ممثلاً بالبوليس) لكن بالإضافة الى أصبع إتهام للمجتمع ولو أن الأمور تبقى من وجهة نظره  وحدها. جاك كوغن كان دون العاشرة حين مثّل ذلك الدور وهو بقي ممثلاً حتى وفاته سنة 1984 عن 69 سنة٠


__________________ مقهى فيلم ريدر __________________


كيف قيّم النقاد الغربيون الأفلام الجديدة التي هبطت الأسواق العالمية هذا الأسبوع؟
تلقّف نقاد العرب والغرب عموماً، فيلم "العم بونمي الذي يستطيع تذكّر حياته السابقة" بلهفة شديدة. ليس فقط أنه التقط جائزة أولى من مهرجان "كان" السينمائي الدولي في السنة الفارطة (على قول المغاربة) بل أن النقاد هاموا به حبّاً كما لو أنه بالفعل عمل يستحق هذا القدر من الحب. الى جانب أنه فارغ من قيمة فعلية، على صعيدي الفن والمضمون (ولن أكون مؤدّباً او دبلوماسياً هنا، مع احترامي لمن يختلف عني رأياً)  فإن التقشّف الشكلي الذي يعتمده الفيلم، ومرجوعه في الحقيقة يعود الى أن ميزانية الفيلم لم تكن تسمح لأكثر من تلك الذبذات من المشاهد، لحس العقول. كيف أفسّر كلام  الناقد سكوت توبياس في "ذ أونيون": "حكاية مؤثّرة عاطفياً، تؤكد بلطف ينعّم الحدود بين الإنسانية والطبيعة، الحياة وما بعد الحياة".  هل طافت روح توبياس بفعل التأثير والعاطفة ام بفعل الحدود الناعمة بين الحياة وما بعدها؟.
كيث أوليتش يقول في نسخة نيويورك من مجلة "تايم آوت": "ما تراه وما تسمعه يبدو دائماً طبيعياً بإحكام، حتى ولو أنك لا تعرف لماذا؟"- تكلّم عن نفسك يا كيث، الفيلم ليس محكماً، بل هلوسة مملّة من تلك اللقطات الطويلة التي هي طويلة لأن الموضة بين الأفلام الفنية أن تكون كذلك.
او ناقدة مجلة "إنترتاينمنت ويكلي" ليزا شوارتزبوم التي كتبت: "عوالم الروح والحيوانات والبشر تتعايش في تناغم حالم في هذه الدراما المميّزة". هل هناك دليل على أن كل هؤلاء متعايشون فعلاً في هذا الفيلم؟ أم أننا شاهدنا تفسير الحياة على طريقة بوذا في فيلم يتحرّك على عكاز؟
لن أزيد لأني كتبت عنه ما يكفي وزيادة في العدد  82 وفي الفحوى أنه فيلم لديه ما يقوله، لكن ما يقوله ليس مهمّاً بالطريقة التي قيل فيها.

فيلم آخر بوشر بعرضه في الولايات المتحدة بعد مروره في "كان" هو "نسخة مصدّقة"، وبالطبع هو "ساحر" و"قيّم" و"رائع" و"بديع" لأن كل ناقد يحتذي بالآخر في الغرب. الجميع يرددون الكلام نفسه. تريد إثباتاً؟ المخرج كاري فوكوناغا صرّح حين إطلاق فيلمه الجديد "جين آير" بأنه لاحظ أن السينما تنتج فيلماً عن هذه الرواية المعروفة لشارلوت برونتي بمعدل كل خمس او ست سنوات. منذ أن قال ذلك، قبل أسبوعين، وخمسة من أصل سبعة نقاد أجانب، كتبوا مقالاتهم ذاكرين هذه الحقيقة؟ الا يكون ذلك نقلاً؟


_____________ New Releases معروضة حاليا _____________


Rango | Gore Verbinski
**
أنيماشن من صاحب سلسلة "قراصنة الكاريبي" محكم  التنفيذ وخالي من العمق
العروض: الخليج/ الولايات المتحدة/ مدن أوروبية

The Adjustment Bureau  | George Nolfi
***
النقد أدناه
العروض: الولايات المتحدة/ أوروبا

Battle: Los Angeles |  Jonathan Liebesman
**
خيال علمي | القصّة ليست جديدة والمواقف معلوكة من قبل حول أولئك الغزاة القادمين من الفضاء ليمتثلوا تحت إدارة المخرج الميكانيكية.
العروض: الولايات المتحدة

Mars Needs Moms | Simon Wells
**
أنيماشن | الغزاة هذه المرّة من المريخ وهم يخطفون أمّاً وعلى إبنها ذي التاسعة استرجاعها.
العروض: الولايات المتحدة

Red Riding Hood

Red Riding Hood | Catherine Hardwicke
*
عاطفي | بطلة الفيلم (أماندا سيفرايد) ممزّقة العواطف بين حبّين في فيلم  ممزّق بين يدي المخرجة هاردويك
العروض: الولايات المتحدة

Hall pass | Bobby Farrelly
**
كوميديا| زوجان وزوجتان في معمعة هزلية في فيلم يبقى على السطح حيناً ثم يخترقه نزولاً بعد ذلك.
العروض: الولايات المتحدة/ الخليج

Fair Game | Doug Liman
***
دراما عن أحداث حقيقية | شون بن وناوومي ووتس جيّدان في هذه الدراما حول تبعات رفض الأول الحرب في العراق ومعاناة زوجته حين انتقمت الإدارة الأميركية منهما بفضح عملها ضمن وكالة المخابرات.
العروض: لندن

Norwegian Wood | Anh Hung Tran
***
دراما | ياباني من صنع السينمائي الفييتنامي آنه هانغ تران يتعامل ومواقف عاطفية لشاب لا يعرف قراره. مثير للتأمل وثري في تفاصيله المختلفة مع مشاهد بديعة تكويناً، لكنه أيضاً يدخل أنفاقاً من الملل


_____________ Film Reviews نقد الأفلام _____________


Adjustment Bureau
مكتب الضبط
***

Review # 223
إخراج: جورج نولفي
 George Nolfi
تمثيل:  مات دايمون، إميلي بْلَنت، ترنس ستامب، مايكل
 كَلي، أنطوني ماكي.
النوع: تشويق | الولايات المتحدة - 2011

نعم، هناك قضاء وقدر والفيلم يعتبر أن منفّذيهما هم مجموعة من القوى الخارجية التي تُسيّر العالم وتوزّع على الناس (او معظمهم على الأقل) خطوط حياتهم. بطل الفيلم مثلاً مكتوب عليه أن يفشل في ترشيحاته للكونغرس في المرّة الأولى لينجح في الثانية، وليس مقدّراً له أن يقع في الحب. بطلة الفيلم مكتوب عليها أن تشق طريقها بنجاح في عالم فن الباليه، وليس مكتوباً عليها أن تقع في حب البطل. لكن إذا لم تكن تعلم شيئاً عن مصيرها، فإن بطل الفيلم يعرف. لقد ظهر له هؤلاء الرجال المعبّرين عن تلك "القوى" القدرية وفهموه الوضع تحذيراً، في باديء الأمر، ثم بملعقة الدواء لاحقاً: لا تستطيع أن تقع في حبّ هذه المرأة لأن لقاءك بها لم يكن مفترضاً، ولأن قدرها هو أن تصبح راقصة كبيرة- إذا لازمتها فسوف تتدخّل في قدرها.
في عالم الروائي فيليب ك. دِك لا شيء كما يبدو. هناك دائماً عالماً اخر حولنا يقرر لنا ما نقوم به. فيليب كان مدمن مخدّرات، والهلوسة الناتجة عن ذلك سكنت عقله، لكن المنتوج بقي ثميناً. السينما أخذت من أعماله
Blade Runner, The Minority Report, Total Recall, Next
وثمة أفلام أخرى على الطريق. هذا الفيلم للمخرج الجديد جورج نولفي ليس سوى حلقة لكنها حلقة مُهمّة رغم أنه ليس فيلماً على درجة عالية من التميّز الفني، شأن فيلم ريدلي سكوت
Blade Runner
كما ليس فيلماً على درجة عالية من التشويق مثل فيلم ستيفن سبيلبرغ
The Minority Report
يتعامل "مكتب الضبط" مع هذا الموضوع الشاسع حول العالم الخفي الذي يعيش بيننا (او فوقنا) مقتبساً حكايته من قصّة قصيرة وضعها المؤلّف سنة 1954. إنه اقتباس حر وليس أميناً وفيه نتعرّف على الشاب ديفيد نوريس (مات دايمون) وسط حملته الإنتخابية كمرشّح للكونغرس الأميركي. يخفق في تلك الإنتخابات لكنه يفوز بقلب إمرأة أسمها إليس (إميلي بْلنت) تعرّف عليها صدفة  في الحمّام ويؤخذ بجمالها وبإسلوبها،  لكنه يفقد الإتصال بها. بعد ثلاث سنوات، ومع مطلع حملته الإنتخابية التالية يراها مجدّداً فيحرص هذه المرّة على الإلتقاء بها معتذراً لغيابه الطويل عنها. الواضح أنهما يحبّان بعضهما البعض، وأنه يقدّرها أكثر وأكثر كلّما رآها في التدريب على رقص الباليه، وكلّما تحدّث إليها طويلاً معترفاً أنه خلال خمس وعشرين سنة من حياته الراشدة لم يشعر حيال إمرأة ما يشعر به اليوم. لكن هناك سبباً مهماً  وراء غياب ديفيد عن إليس لثلاث سنوات، وهو السبب ذاته الذي يقف وراء اضطراره الغياب عنها مجدداً: لم يكن من المقدّر له أن يلتقي بها أساساً، وها هو الآن يحمل مسؤولية مهمّة: إذا ما حافظ على العلاقة معها سوف يتدخّل في قدرها، فهو من دون قرار او قصد سيحوّلها عن عشقها الرقص وسيقضي على موهبتها. والذي يكشف له ذلك حرّاس المصير، او تلك المجموعة الغريبة من الرجال الذين يسيطرون على مقادير الناس، أحدهم أسمه هاري (أنطوني ماكّي) يقول لديفيد: "ليس لدينا القوّة البشرية لنسيّر مصير كل الناس" لكن ذلك لا يمنعهم من التدخّل في حياة عدد كبير منهم.
لب المسألة هي أن هؤلاء الرجال، او الحرّاس ليسوا بشراً، ولو كانوا يبدون كذلك، بل قوى خارجية آتية من العالم الموازي. بعض النقاد الغربيين وصفهم بالملائكة، لكن الفيلم لا يتعامل معهم كما تعامل أفلام أخرى، هم ليسوا ناصعي البياض يظهرون كأرواح هائمة، وليسوا شخصيات هلامية تطوف من دون أن تلمس أقدامها الأرض. بل هم رجال يرتدون ما نرتديه ولديهم ذات الملامح والفارق الوحيد بينهم وبيننا إعتمارهم قبّعات من لون واحد من تلك التي كانت رائجة في الستينات. طبعاً لديهم قدرات خارقة، في أكثر من مطاردة بينهم وبين ديفيد، الذي يحاول التخلّص من ملاحقته لهم، يفتحون أبواباً تؤدي الى قاعات او مطاعم او مكاتب، وحين يخرجون من الباب الآخر فإن المكان الذي يخرجون إليه ليس بالضرورة المكان الذي دخلوه. الشارع بأسره اختفى، بل المنطقة كلها تغيّرت. وهناك مثل واضح حين يدخل إثنان منهم محلاً ويتوجّهان الى باب آخر. حين فتحه هناك شارع. حين تهرع العاملة في المكان وتفتح الباب ذاته نكتشف أنه يؤدي الى غرفة ملابس داخل المحل.
إنهم أقرب الى عصبة لديها أوامر من رئيس أسمه تومسون (ترنس ستامب) بتنفيذ المتّفق عليه بشأن تسيير حياة كل فرد تضع له الرئاسة قدره المحتوم. في جانبه، هذا فيلم يفتح النقاش على ذلك السؤال السرمدي حول ما إذا كان الإنسان مُسيّراً او مخيّراً وهاري يقول لديفيد في لقائهما: "طبعاً لك حرية أن تختار أي معجون أسنان، لكن كل قراراتك المهمّة هي من صنعنا". بما في ذلك، كما يتّضح قرار القلب.
"الحرس" هم المسؤولون عن قيام الإمبراطورية الرومانية والفترات التاريخية البارزة فيما بعد. لكن، وهذا ما يكشفه الرئيس تومسون لديفيد، قرروا منح الحرية الكاملة للإنسان، لولا أن الإنسان أساء لها وعاث فساداً وحروباً ما توجّب معه العودة الى توجيهه٠
إختلاف الرواية

تختلف الرواية القصيرة التي استمد عنها هذا الفيلم حكايته فالإقتباس حر وساده تأليف مواز، لكن بداية الرواية من الصدم بحيث تبقى في بال هذا القاريء: رجل يصل الى مكتبه صباح أحد الأيام ليجد أن العالم تحوّل الى رماد. طبعاً لا يقدم الكاتب على توفير الكيفية سريعاً، لكن لاحقاً ما يدرك أن حياته لها من يُديرها وقد "ضبطها" على أساس جديد. في الفيلم هناك مشاهد عديدة يتم فيها استبدال الرماد والدمار الكامل برمز اخر: حين يصل ديفيد الى مكتبه في أحد الأيام (والمشهد لا يقع في مطلع الفيلم، بل بعد نحو ثلث ساعة او أكثر منه)، يرى جميع الناس في المبنى، ثم في الطابق، ثم في المكاتب وقد تم تجميدهم. المتحرّكون الوحيدون هم "الحرس" الذين يطاردونه ويقبضون عليه بعدما اضطروا للإفصاح عن وجودهم له.
إنه فيلم مثير للمتابعة. سهل اللجوء إليه والخروج منه والإنتقال بين واقعه وخياله ولو أنه يذكّر أيضاً بفيلم
Inception 
لكرستوفر نولان، الأكثر عمقاً وتحريكاً لخلايا المخ وتطلّباً للإمعان. المقارنة بينهما ربما غير منصفة، لكنها تلقائية، فكلاهما يدوران حول عالم مواز، لكن "استهلال" يدخل فيه، والثاني يعرض من فيه.
لكن من حسنات هذا الفيلم أنه يتنفس طبيعياً بالمقارنة مع افلام الأكشن الهوليوودية هذه الأيام، حيث الفبركة المصوّرة تسود. هنا مشاهد مبنية على استعارات سينمائية قديمة الطراز بعض الشيء او بالقدر المناسب.
Ocean's Twelve و The Bourne Ultimatum هذا هو الفيلم الروائي الأول للمخرج نولفي الذي سبق
الذي إذا سمح له "حرسه" ولم يتدخّلوا في قدره (او لم يقع في الحب) سيعود إلينا بأفلام أخرى جيّدة على ما يبدو٠



حصان تورينو | The Turino Horse
*****


Review # 224

Bela Tarrإخراج : بيلا تار 
تمثيل:  مات دايمون، إميلي بْلَنت، ترنس ستامب، مايكل
 كَلي، أنطوني ماكي.
النوع: تشويق | الولايات المتحدة - 2011

على الرغم من المادة الطويلة التي كتبتها عنه في عداد متابعات "ظلال وأشباح" لمهرجان
برلين السينمائي الأخير (العدد 629)، الا أن أكثر من موضوع لا يزال بحاجة للحديث
في هذا الفيلم الذي يستحق نجومه الخمسة- محمد رُضا


أحد شروط تحقيق تُحفة سينمائية هي أن يقوم المخرج بإلغاء كل الروابط التي من الممكن لها أن تلزم فيلمه بإتباع التقاليد. وشرط ثان أن يفعل تحديداً ما يُريد بالطريقة التي يُريد وهذا بعد تمكّنه من رؤيته وأسلوبه. فيلم بيلا تار يملك، على الأقل، هذين الشرطين.
فيلم بيلا تار، أي فيلم لبيلا تار، يصفع الناظر بمشاهد من الصعب أن تُمحى من البال. في الحقيقة، فيلمه  الطويل جدّاً "تانغو الشيطان" كلّه يبقى في البال كما لو شوهد بالأمس بمشاهده الطويلة، معايشاته المتمددة التي لا يمكن معرفة متى ستنتهي صوب معايشة أخرى. بلقطاته التي تحرص على تأطير البيئة المنتقلة الى الشاشة. بذلك يبقيها تحت الضوء وفي المدّمة. الساحة الكبيرة التي تتحرك عليها الأشياء والشخصيات معا. إنه كما لو أن المخرج يخشى (او ربما يدرك) انه لو اقترب كثيراً من الشخصيات التي لديه اضطر المشاهد لإهمال ذلك المحيط. علي ذلك يسمح لنفسه بلقطات قريبة عند الضرورة خصوصاً في الحالات التي تعكس البؤس كاملاً٠
الفيلم الجديد يبدأ بذكر حادثة تردد أنها وقعت مع  نيتشه في تورينو سنة 1889 حينما شاهد حصاناً يتلقّى الضرب المبرح من صاحبه، فما كان منه الا أن هرع الى الحصان وحضن رأسه وأخذ يبكي. وحسب ما يرد في مقدّمة مطبوعة قبل المشهد الأول في الفيلم، سقط الفيلسوف مريضاً من بعد ذلك وحتى وفاته. لكن الفيلم لا يريد أن يبحث في تصرّف نيتشه او دوافعه او حتى ما حدث له من مرض، بل يسأل ".... لكن ما الذي حدث للحصان؟"
ما حدث للحصان كثير.... وقليل. بعد ذلك، يقول الفيلم، رفض الحصان أن يمتثل لرغبة صاحبه الا مرّة واحدة، عندما قرر صاحبه الهجرة وإبنته من البيت الذين يعيشان فيه بعيداً عن كل شيء الى مكان آخر لا يدريان أين.... لكن لحظة. هل هو الحصان ذاته الذي تسبب في موت نيتشه؟ بيلا تار لا يقول.
المشهد الأول: الكاميرا تصوّر حصاناً يجر عربة ثقيلة وفوقها رجل يحثّه بالسوط على المضي. المكان ريفي والكاميرا تتراجع الى الوراء وتمسح جانب الحصان والعربة ومن فوقها ببطء لتعود بعد ذلك الى الجزء الأمامي من الحصان كل ذلك بلقطة طويلة واحدة لا تريد أن تنتهي وتستمر طوال المشهد (نحو أربع دقائق). في نهاية تلك اللقطة من الممكن مشاهد الحصان وقد أخذت خطواته تقصر وعنقه يميل الى تحت دلالة تعبه. هذه اللقطة الأولى هي موازية للقطات بيلا تار (قدّمت سينماه في بحث على عدّة حلقات في العام الماضي في "ظلال وأشباح") في "رجل لندن" (2008) عندما تمسح الكاميرا ببطء شديد مقدّمة باخرة راسية في مرفأ. كذلك في "تانغو الشيطان" (1994) حيث الكاميرا تتحرّك بموازاة قطيع من البقر في شوارع قرية مهجورة.
هنا تتحرّك أكثر كونها منصبّة على ذلك الحصان. لكنها لن تتحرّك كثيراً بعد ذلك. ستقف في مكانها لتلتقط حياة الرتيبة أمامها. مع وصول الحصان الى مزرعة صحراوية جافّة في منطقة مهجورة، تهرع إبنة صاحب العربة الى أبيها وحصانه. أولاً تعتني بالحصان فتساعد أبيها في تفريغ الحمولة وتقود الحصان الى الإصطبل وتغلق الباب وتلحق بوالدها الى داخل البيت المؤلّف من حجرة كبيرة واحدة هي مكان للنوم ومكان للأكل وللطبخ (لا نرى الحمّام مطلقاً) وللجلوس والنظر من النافذة الى العراء في الخارج.
مع هذا المكان سنقضي الأيام الستّة المقبلة، لأن الحصان في اليوم التالي يرفض أن يخطو بعيداً عن اصطبله، وفي اليوم التالي يرفض أن يأكل وفي الرابع يرفض أن يشرب، في الخامس تعتقد أنه لابد مات. في السادس صباحاً سيجرّه صاحبيه بعدما حمّلا العربة بأمتعتهما الضرورية. يتحرك الجميع بعيداً عن البيت وبعيداً عن الكاميرا فوق الأرض الخالية الا من بئر كان جف ماءه فجأة. تبتعد العربة والكاميرا تراقبها. تصل العربة الى هضبة بعيدة فوقها شجرة يتيمة تمر بها وتغيب في الأفق. الكاميرا لا تزال في مكانها وحس المشاهد ويقظته منصبّان على الحركة التالية لها او للمخرج. فجأة تعود العربة كنقطة غابرة من الأفق التي غابت فيه. وبنفس المدّة الزمنية التي تطلّبها غيابها تعود الى مكانها الأول. الأب وإبنته ينقلان الأمتعة الى البيت (الكاميرا تحرّكت من مكانها السابق للقطات متوسّطة لكنها لا تزال خارجية) والحصان الى الإصطبل: لا مكان يستطيعان اللجوء إليه.
بطاطا مسلوقة
هناك غرابة في التكوين لا تفلت من الملاحظة، لكنها جزء من منهج عمل يقع ما بين بدايات الفيلم (المقدّمة ثم ما يقع في اليوم الأول) ونهاياته (هذا اليوم). وما يقع ليس كثير العدد، ولا متعدد الشؤون لكنه أثرى مما لو كان كذلك. خلال هذه الأيام التي يمضيها الرجل العجوز وإبنته الناضجة (لن تشاهد من أنوثتها ما يُذكر) تمر الأيام ذاتها. هنا لا فرق بين إثنين وثلاثاء وخميس وجمعة (لذلك يطلق عليها المخرج أرقاماً). كل شيء يبدأ باستيقاظ الأب وقد نام على سريره مستلقياً ببعض ثيابه نفسها على ظهره. يجلس وينح. إنها إشارة الى إبنته (الكلام شبه معدوم بينهما خصوصاً منه) لكي تساعده على ارتداء ما خلع من ثيابه وحذائه فيده اليمنى معطوبة. تذهب الى البئر  حاملة الدلو وقاطعة المسافة ذاتها وتستخرج الماء ثم تسلق قطعتين من البطاطا. هذا في اليومين الأوّلين، حين كان ذلك الأب (كلاهما بلا إسم) يأكل البطاطا بشراهة. الآن لنلاحظ شكل "مأدبة" الغذاء:
طاولة خشبية كبيرة يجلسان عليها متواجهين. كل منهما بصحنه وفي الصحن قطعة بطاطا مسلوقة. حين يبدآن الأكل يسرع الرجل بتقشير البطاطا التي لا زالت تغلي من السخونة (تستطيع أن ترى الدخان يتصاعد منها). لكنه لا يكترث. يقشّرها بأصابع يده مجتمعة ثم يضع فتاتها في فمه وهي ساخنة. يأكل سريعاً ثم ينهض بينما لا تزال إبنته تأكل متمهّلة.
هذا في اليومين الأوّلين. الإيقاع يصبح بطيئاً بعدما رفض الحصان العمل فتدخّل في حياة صاحبيه. البئر يجف بعد زيارة سريعة لمجموعة من الغجر (لعنة غجرية). الحياة تتحوّل من رمادية الى داكنة. ليس أن تلك الحياة كانت سعيدة قبل ذلك، لكننا نرى الآن موتها. في اليومين الأخيرين تبدو تلك الوجبة باردة والبطاطا ليست مسلوقة تماماً. الأب في اليوم الخامس يحث إبنته على أن تأكل. في اليوم السادس يتوقّف هو أيضاً عن الأكل.
كما يُلاحظ فإن البؤس الذي تطرّق إليه المجري بيلا تار في "تانغو الشيطان" وأعماله السابقة واللاحقة، مجسّد هنا من جديد لكن ما نراه ليس ساخراً بقدر ما هو مؤلم وهو أكثر ألماً مما في أفلامه السابقة. في الوقت ذاته الألم ليس نتيجة محاولة تحسيس المشاهد بمشاعر إنسانية. هذه الشخصيات تم كيّها من قبل الأقدار وظروف الحياة بحيث لم يعد لديها أي دواع لكي تتحدّث ناهيك عن أن تشعر. وكما في أفلام بيلا تار الأخرى، فإن التصوير بالأبيض والأسود جزء من العالم الذي يصوّره كون الألوان ستوحي ببعض الأمل وهو ضد الأمل الكاذب.
طوال ساعتي الفيلم يحرض المخرج تار على إعادة  تصوير الحركة ذاتها (البطاطا، جلب الماء، الإستيقاظ، الخ...) لكن المشهد ليس هو ذاته دائماً. رغم ما يبدو رتيباً ومتكرراً فإن الفيلم فيه من الثراء في المعاني وفي الصورة ومن ثنايا الشكل القشيب، كالحياة، ما يجعله متخماً بالمضمون الذي يكبر لكنه لا يتكرر.
هذا ليس فيلماً لكل المشاهدين. أفلام المخرج عادة لا تجذب حتى النقاد المدللين فما البال بالجمهور الذي يريد أن يستشف شيئاً يتواصل وإياه حين يراه ماثلاً على الشاشة، لكن حين لا يكون في نيّة المخرج التعامل شعورياً مع شخصياته وإتاحة الفرصة أمامهم لتكوين ذلك الشعور، فإنه لن يكون مستعداً لمعاملة مماثلة مع مشاهديه. لذلك تحب أفلامه -إذا أردت- كما هي.
إنها قطع أقرب الى التحف تصويراً وشعراً وتأمّلاً، ما يمنعها أن تجتاز النطاق الضيق بالفعل وتصبح تحفاً هو فقدانها الأمل. لا الأمل الكاذب الواصل الى نهاية سعيدة حتى وإن لم تنتم، بل أمل ناتج عن حب الحياة ذاتها.... هذا لا يزال من مزايا المخرج الراحل أندريه تاركوفسكي وحده.



 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved ©  Mohammed Rouda 2006- 2211٠

2 comments:

Anonymous said...

ما شاء الله عليك أستاذي
شكرا جزيلا لهذه المراجعات
لم أشاهد منها الا فيلم
Star Wars: Episode III: Revenge of Sith
صحيح فيه تمثيل سيء وحوارات يبدو ان صاحبها لم يعرف كيف يكتبها فحاول التحذلق
لكن بالمقارنة مع الفيلمين اللذان سبقاه فهذا الفيلم أعجبني وفيه تطور ملحوظ من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون ايضا
فالمختلف في هذا الجزء ان له طابع سوداوي ونحن نشاهد كيف تسقط الديموقراطية وينال الشر تأييد الجميع والمعروف ان الفيلم جاء في فترة الحرب العراقية وشاهدنا فيه كيف الحكومة (الاميركية) تدعي احيانا محاربة الشر بينما هي تحولت الى مصدر هذا الشر.. الحكومة قامت بتزييف دور الجداي وجعل الآخر عدو جاهز لأسباب مصلحية لا غير او ربما لأسباب الفرد الحاكم (وهذه الأسباب قد تكون دينية او فكرية او مرضية ..الله اعلم
هي اصبحت العدو التي تبحث عنه وتريده. اصبحت عدو نفسها
لوكاس ربما لم يقصد لكن الفيلم بدا لي كادانة للتأييد الذي ناله بوش حينها وحربه على العراق من مدعي الديموقراطية قبل أن يدركوا حقيقة ما حدث وكيف اخطئوا واهدروا حياتهم وحياة الاخرين
هذا ما وصلني من الفيلم في سياسته ومن وجهة نظري الشيء أفضل من اللاشيء
المعارك المتقنة في مؤثراتها صورها لوكاس باختصار وهذا ما اعجبني ما عدا معركة التلميذ والأستاذ في المشاهد الاخيرة حيث جعل لوكاس الاثنان يتقاتلا في كل مكان وكل موقع وحتى فوق شلالات البراكين التي احتوت على مؤثرات مفضوحة وتطويل لا داعي لها

مراد عبد الله

Waha Hamdan said...

I read your web page today for the first time. And Ijust can't believe you exist in the field of film criticism. While others write about the film, you write the film. Good for you. No. Good for all of us, film lovers. I'm so sad that I found you just today. But please consider me your pupil.