نقد لكتاب إبراهيم العريس عن السينما اللبنانية

Year 3 / Issue 100                                                                                                                                                                                  

إبراهيم العريس في كتابه عن السينما اللبنانية
  لف ودوران يؤدّيان إلى نتائج محدودة في 400 صفحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب:  الصورة الملتبسة- السينما في لبنان: مبدعوها وأفلامها 
تأليف: إبراهيم العريس
 الناشر: دار النهضة العربية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدهشة، كلمة تتردد كثيراً في هذا الكتاب أسوة بكلمات أخرى مثل «بات يبدو» و«طبعاً لن نقول هنا» و«الحقيقة أن» وعشرات التعابير التي تتكرر ليس في الفصل الواحد، بل في الصفحة ذاتها أحياناً. لكن ما هو مدهش فعلاً كيف يستطيع ناقد ما وضع كتاب من 400 صفحة (بينها نحو 50 صفحة للصور) لا يتطلّب أكثر من 150  إلى 200 صفحة لسبر غور كل ما يتطرّق إليه٠
 إبراهيم العريس ناقد ثقافي معروف اعتاد الكتابة بغزارة وتطويل ليس لأنه لا ينجز الوصول إلى الفكرة سريعاً، بل لأنه يدور حولها أكثر من مرّة ثم يعود إليها مراراً بعد ذلك. هذا متوفّر في زاويته اليومية في جريدة «الحياة»  المسمّاة »ألف يوم وألف وجه« التي تنتقل بين أسماء وعناوين في الفن والثقافة عموماً، كما هو متوفّر في كتابه هذا ما ينتج عنه ذلك التطويل. فما يطرحه في المقدّمة يعاود طرحه في الفصل الأول، وما يطرحه في الفصل الأول ينتقل مجدداً إلى الفصل الثاني وهكذا. ودائماً بالتعابير الموحية بعدم ثقة الكاتب حين تُطلب وبثقته المعتدة بنفسها حين لا يكون لها داع. إلى ذلك، فإن هذا الإنتقال بنفس الحقائب المحمولة فوق الظهر من فصل إلى فصل يؤدي إلى تراكمات مبنية على أسئلة يطرحها. بعضها يجيب عليها سريعاً، والبعض الآخر يقصد حملها معه عوض التخلّص منها في حينه ما يفرض قراءة مبعثرة لطروحات هي في الأساس مهمّة٠

باديء ذي بدء، يعرّف الزميل نفسه على الغلاف الأخير من هذا الكتاب الضخم، بأنه باحث في التاريخ الثقافي وصحافي وناقد سينمائي وأنه درس الإخراج السينمائي في روما، ودرس السيناريو والنقد في لندن، وهذا جديد على مسامعنا كون هذا الناقد على يقين من أن الزميل لم يدرس السيناريو ولا النقد لا في لندن ولا في سواها. أما الإخراج فهو لا يستطيع أن يتأكد من أمره، لكنه يقبل ما قاله له العريس أكثر من مرّة بأنه اشتغل مع المخرج فاروق عجرمة في روما لأشهر طويلة. ربما حينها أخذ منهجاً ودرسه بالإيطالية الا إذا كانت المدرسة تؤمّن مترجماً يلقّن المادة بالفرنسية أيضاً٠
في المقدّمة يشكر بعض الزملاء بينهم محمد سويد وهوفيك حبشيان ونديم جرجورة ووليد شميط  الذين "كان لكتاباتهم، مجتمعة او متفرّقة، دور أساسي في صياغة هذا الكتاب في هذا الوقت القياسي الذي أنجز فيه".  علماً بأن الأخ وليد شميط كان أعلمني بعد أن قرأ الكتاب أن الكثير مما ورد في كتابه عن السينما اللبنانية  تم نقله هنا من دون الإشارة إلى المصدر. رغم ذلك، لا يتوانى العريس عن اتهام مبطّن لمحمد سويد، الذي وضع كتاباً آخر عن السينما اللبنانية، بالنهل من كتاب وليد شميط. ولا يفت القاريء أن العريس ينأى بنفسه عن ضرورة ذكر المصادر مجتمعة في نهاية الكتاب، رغم أنه يورد بعض النصوص (مقابلات وآراء) ويرجعها إلى بعض الكتّاب أمثال فريد جبر وفيكي حبيب، زميلته في صحيفة «الحياة»٠
لكن ماذا أخذ الباحث من كتب سواه وما لم يأخذه يصبح أمراً ثانوياً علماً بأن الصياغة لا يمكن الا أن تكون له.  تلك الصياغة التي تريد أن تضع الأمور في نصاب مفترض بناءاً على بعض المعطيات التي قد يجوز معها صحّة إفتراض ما لكن يجوز بالطبع عدمه. في كثير من شأنه يبحر الكتاب موضوعه مبنياً على  قدر لا يستهان به من الإفتراضات. يؤسس ثم لا يجد الدعم الموثق لكن ذلك لا يمنعه من الإستنتاج والمضي قُدماً٠
خلال ذلك قدر كبير من التناقض: في الصفحة 44 يقرر أن استخدام اللهجة البدوية «كوكب أميرة الصحراء«  كان صحيحاً بعدما سبق له أن ذكر أنه كان خطأ في صفحة سابقة٠
وقبلها بصفحة يقول «وهي حكاية لن نكررها هنا« لكنه يمضي فيكررها كاملة على أي حال. ويستخدم في طي أسلوبه تعبيرات لم أقرأها في مكان آخر مثل »ربما بالتحديد» فلا تدري إذا ما كانت المسألة تحتمل الشك او أنها محددة خالصة. وفي مطارح مختلفة يتساءل عما كانت عليه لغة فيلم "جورج نصر الروائي الثالث أشورية او سيريانية، لكنه ما أن يصل للحديث مرّة أخرى عنه في الصفحات 56 وما بعد، حتى يؤكد أنها "أشورية"٠
ويقرر أن المخرج سيف الدين شوكت لم يكن يتحدّث العربية، لكن هذا الناقد نشر له مقابلة في مجلة »بيروت المساء« في مطلع السبعينات جرت بالعربية٠
خلال ذلك أيضاً، هناك مغالطات تتضمّن تضخيماً للذات كما الحال في التعريف المذكور على الغلاف. هل قرأ وعاين وحلل ابراهيم العريس السيناريوهات في الخمسينات وهو من مواليد  النصف الثاني من الأربعينات؟ 
كان لابد من وضع كل هذه السلبيات في المقدّمة عمداً إلى تجاوزها، قدر المستطاع، كونها تؤثر على نصاعة النص وتقلل من أهمية  العمل ككل علماً بأن المسألة، في جانب كبير منها، مسألة منهج تفكير. ما يكتبه الزميل (عموماً وهنا تحديداً) يقوم على تداعيات تشتغل في مداراته انطلاقاً من قناعات محددة. هذه القناعات تُصيب وتخطيء ولو أن الكاتب لا يعتريه الشك في صحّة ما هو خطأ. وهي تمتزج بأسلوب عرض قائم على طرح نظريات وضحدها او البحث فيها لكن مع الرغبة في حمايتها كونها آراءاً حملها إلى القاريء بنفسه ما يعني، في معظم الأحوال، أنها صحيحة كونه هو حاملها.  فابراهيم العريس نوع من النقاد الذين كان منتشراً في الستينيات والسبعينات يؤمن بأن الفن للفن خطأ جسيم وأن العمل المهم في السينما هو ذلك الذي يمكن تحليله من خلال أبعاده السياسية وطروحاته الفكرية- وإن لم يكن له تلك الطروحات، فلا بأس من تحميله إياها٠
ما يختلف العريس به عن سواه الذين كانوا، او الذين لا يزالون يؤمنون بأن السينما هي سياسية وفكرية أوّلاً وقبل كل شيء، هو أنه أكثر دراية وسعة في التناول من معظم النقاد الآخرين- من ناحية  وأنه يعي المسألة الفنية ولو أنه قلّما يبحث فيها، وهو حين يفعل يطرحها على طريقة »لو أن الكاميرا اقتربت من عينا تلك الشخصية لطالعنا...» وهو طرح افتراضي آخر، ويبقى على السطح غير مبال (وهذا غريب بالنسبة لمن درس الإخراج والسيناريو والنقد) في تحليل الصورة  فنياً وتقنياً. لكن العريس ليس سطحياً حتى وإن لم يؤم، إلا نادراً، ألفبيّات الفيلم الواحد، بل يجد في عمله على السطح الكثير مما يقوله او يريد أن يقوله على نحو أو آخر٠

موضوع الكتاب شاسع وثري: نظرة شاملة وأكثر من وافية على السينما اللبنانية في مراحلها المختلفة وعن ذكاء ابتعد عن تقسيم فصوله تحت مسميّات مرحلية (الثلاثينات، الستينات الخ...) علماً بأنه يتّبع في عرضه تلك المراحل فعلاً. ويُصيب الزميل حين يذكّر كيف أن ذلك الكتاب الذي وضعه غي هنيبل ذات مرّة حول نشأة السينمات في العالم العربي، لم يذكر شيئاً عن والده المخرج الراحل علي العريس. ليست هفوة بل خطأ جسيم في كتاب يريد أن يؤرخ. الكاتبة لوسيان خوري التي تصدّت لتأريخ النشأة السينمائية في لبنان في ذلك الكتاب الصادر في الستينات، لم يكن لديها ريب أن الإيطاليين جوردانو بيدوتي وجوليو دي لوكا هما اللذان أسسا السينما اللبنانية لكن عبر فيلم لكل منهما (وليس فيلمان لبيدوتي)، قبل أن تنتقل مباشرة إلى الخمسينات من دون ذكر الإسهام الكبير لعلي العريس. هذا الخطأ قد يكون جهلاً، لكن هذا لا يقل بشاعة عن الإحتمال الآخر وهو أنه مقصود، كون رغبة بعض أبناء ذلك الجيل من مسيحيي لبنان الإنصهار كلّياً في الثقافة الأوروبية وإظهار لبنان على أنه تابع لتلك الثقافة وحيُّ بسببها ما يُحتمل معه أن شكّل رادعاً حال دون ذكر الحقيقة لأنها ستشوّه الأيديولوجيا المذكورة٠
لكن ابراهيم العريس يأخذ عدّة صفحات من الحديث حول هذا الموضوع في المقدّمة ثم صفحات أكثر للعودة إليه في الفصل الأول الذي يحيط بمرحلة الولادة. ويا ليت استطاع البحث أكثر في تلك الأفلام الثلاث الأولى، وهي »مغامرات إلياس مبروك» و«مغامرات أبو العبد» (1929 و1931 على التوالي) لجوردانو بيدوتي و»بين هياكل بعلبك» لجوليو دي لوكا (1934 وفي مصادر أخرى 1936) لاكتشف أن دي لوكا صوّر «بين هياكل بعلبك» ولم يخرجه بل أخرجه الكاتب اللبناني كريم بستاني. فحسب مراجع ايطالية، لم يحقق جوليو دي لوكا أفلاماً كمخرج بل اكتفى بكونه مدير تصوير (او مصوّر كما كان الحال في تلك الأزمنة). وفي أحد تلك المراجع ذكر على اشتراك واحد بإسم جوليو دي لوكّي (وليس دي لوكا)   بإخراج «بين هياكل بعلبك» ما يُثير سؤالاً حول صحّة أن نعتبر دي لوكّي او دي لوكّا (والمرجع يعتبرهما إثنان وليس واحداً) مخرج هذا الفيلم ونتوقّف عند ذلك. لكن إذا ما كان صحيحاً أن كريم بستاني أخرج الفيلم، منفرداً او مشاركة،  فإن هذا يجعل علي العريس ثاني مخرج لبناني وليس الأول، في حين بنى إبراهيم العريس بحثه في المرحلة الأولى كلّها على أن والده هو أول مخرج لبناني٠
يُحسب للكتاب أنه تحدّث عن فيلم مجهول عنوانه »جميلة تحت الأرز« (وليس "جميلة تحت ظلال الأرز») وهو فيلم يبدو أنه كان وحيد مخرجه شارل ديبيني (1939) على اعتباره فيلماً يود الباحث نسبه إلى السينما اللبنانية. الفيلم طُرح على أسطوانات منذ سنوات قليلة وكان حريّاً بالباحث أن يطلبه ليشاهده ويقدّمه لأن ما يذكره من أسباب تجعل الفيلم لبنانياً غير موثّق: هل صُوّر الفيلم فعلاً في لبنان؟ هل مجرّد قيام إنتاج أجنبي بتمويل فيلم يصوّر في بلد ما يجعل الفيلم منتمياً إلى ذلك البلد؟ إذا صحّ ذلك على هذا الفيلم فإنه سيجعل من  أي فيلم فرنسي من إنجاز شركات لوميير وباتيه وغومون التي تم تصويرها من الصين إلى مصر ومن روسيا القيصرية إلى جنوب أفريقيا أفلاماً غير فرنسية. الكاتب يعتبر أنه إذا ما اعتبرنا أفلام بيدوتي ودي لوكا لبنانيان فإنه من باب أولى اعتبار هذا الفيلم لبنانياً كونه يتعامل مع موضوع لبناني (حب تحت ظلال الطائفية عن رواية لهنري بوردو) وكونه صوّر في لبنان. لكن المسألة التي تقرر هوية الفيلم حتى في باقي حساباته هي هوية التمويل، بما في ذلك الأفلام التي حققها مصريون في لبنان والتي كانت لبنانية التمويل او لبنانية/ سورية التمويل٠
هذه الاسئلة هي أهم من كثير من تلك التي يطرحها الكتاب على نفسه. اذا ما تغاضينا عن اسئلة من
نوع "ولكن ما هو «بين هياكل بعلبك»" الذي لا داعي له لأن الجواب ليس اكتشافاً بل منقولاً عن مراجع أخرى، فإن بعض الاسئلة الواردة ليست في الحقيقة مطروحة كما يذكر الكاتب، وهي لا تستدعي الطرح في الصياغة الواردة بها، مثلاً في الصفحة 39 يقول: "إن السؤال الذي كثيراً ما حيّر نقّاد السينما- والحركة الفنية في لبنان في شكل عام- ومؤرخيها هو: إذا كان منطقياً للمسلم البيروتي رشيد علي شعبان، الواقف سنوات وسنوات بجرسه على أبواب الصالات داعياً الناس لمشاهدة الأفلام، أن يحلم ذات يوم بأن يمثل في فيلم حقيقي هو الآخر، ما الذي-حقاً- قاد البيروتي المسلم الآخر على العريس، الآتي من عائلة محافظة من سكان منطقة عائشة بكار التي كانت واحدة من أكثر مناطق بيروت انغلاقاً على التقاليد الرافضة- في ذلك الحين- لشتّى أنواع الفنون، إلى السينما؟"٠
إنه سؤال طويل (وهو لا ينتهي عند هذا الحد بل يمتد ليشمل اسئلة أخرى) لكن مشكلته هي عدم وجود داع له، لأنه لا تناقض مذكور في طيّه بين دخول رشيد علي شعبان السينما ودخول ابراهيم العريس إليها؟ كان يمكن- لو اعتمد الكاتب لغة خالية من التضخيم، أن يطرح السؤال مباشرة: "ما الذي دفع علي العريس، الآتي من منطقة محافظة (هي منطقتي أيضاً) لدخول السينما؟". هذا التضخيم ناتج عن الرغبة في البحث عن محاور حتى حين لا يوجد لها ضرورة. لا ننسى أن هذا السؤال كما طرحه العريس- الإبن لم يُطرح على هذا النحو مطلقاً من قبل. لم يشغل بال المثقّفين والفنانين ولا حيّر النقاد او المؤرخين كونه يخلو من القضية٠
يتحسّن وضع الكتابة في هذا الفيلم من الصفحة 141 وصاعداً من دون أن تزول تلك المنغصات القائمة على  ما سبق ذكره من سلبيات. ما يحسّن الوضع تخلّص الكاتب من هم البحث التاريخي والسياسي للحقبتين السابقتين ودخوله في حقبة قريبة لا تحتمل التأويلات الا بحدود.  وهو هم وضعه في مواجهة إصراره على فتح ملفّات بعضها فارغ قام بملئها بنفسه٠
الكتاب يتوقّف طويلاً عند مرحلة مهمّة هي الأفلام التي قام بإخراجها سينمائيون مصريون في لبنان تبعاً للظرف السياسي حينما طبّقت مصر قوانينها الإشتراكية، وهو صائب تماماً في هذه الوقفة ولديه ما يعرضه من معلومات، مستقاة او مؤلّفة، خصوصاً وأنها متزامنة تقريباً مع انطلاقة الفيلم اللبناني ، المسيحي (كما يؤكد الكاتب) وكل ما حمله ذلك من أسباب ونتائج٠
لكن في كل ما قرأت لم أجد أسباباً للعنوان »الصورة الملتبسة» خصوصاً وأن آخرين ذهبوا أحياناً إلى ما ذهب إليه ابراهيم العريس (هناك دراسة قصيرة لجورج الراسي تحتوي على معلومات أكثر). لعله عنوان لافت لكنه يفترض أن في تاريخ السينما غموضاً وأن إزالة هذا الغموض سيتم بين دفّتي الكتاب الكبير ذي الأربعمئة صفحة٠
   
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

All Rights Reserved ©  Mohammed Rouda 2007- 2011


2 comments:

Anonymous said...

كافي محمد شرشحته، مايسوى تتعب حالك عليه.
عبدالله العيبان - الكويت

Anonymous said...

عن ذات نفسي، كما يقولون في الأفلام المصرية القديمة، معك في حملتك هذه. وأرجو لك التوفيق. لقد أثلجت صدورنا بتصدّيك له ولا أدري لماذا لم نقرأ في الصحافة اللبنانية نقداص صارما كهذا النقد. ام هم مجموعة متعاونة تحمي بعضها البعض؟
جميل يموت