من شاهد »أزمنة معاصرة» يعرف هذا المشهد جيّداً: تشارلي تشابلن وقد تعرّض لنوبة جنوبية في المصنع الذي يعمل فيه. عليه
اللحاق بتلك الأزرار لشدّها وهو بالكاد يستطيع والحركة الروتينية سريعاً ما تغلبها نراه ينقلب على رفاقه قبل أن يدخل الآلة التي تعصره، برموزها، في مشهد بات من كلاسيكيات السينما. هذا آخر فيلم حققه تشابلن صامتاً (رغم أنه يغني في النهاية أغنية ذات كلمات مبهمة لكي يبرهن أنك لست بحاجة لحوار لكي تستمتع بالصورة)٠
......................................................................................................
أنيماشن | فيلم تونسي تريد أن تفهمه لكنه مستعصي
......................................................................................................
أفلام جديدة | أفلام من كلوني وبراد بت ورضا الباهي
......................................................................................................
عرض خاص | تفاصيل رائعة رنيه كلير الكلاسيكية «الحرية لنا»٠
بحلول فيلم جديد من سلسلة «نشاط غير طبيعي 3« من إخراج هنري جوست وأيريال شولمان (وكلاهما جديد في المهنة) تكون السينما الزرقاء حققت إنتصاراً آخر. سأسمّيها الزرقاء لأنها إنجاز دجيتال يحاول بناء سرده على محاكاة كاميرات دجيتال من المفترض أن تكون موزّعة في أركان المشهد تلتقط الأحداث من دون دراية أحد، ولا حتى المخرج. شيء قريب من مشاهدة ما صوّرته كاميرا دجيتال حين دخول لصوص المصارف للسرقة وباللون الأزرق الباهت في تلك الأحيان التي تبحث فيها عن فيلم سرقة جيّد٠
لا تقل لي "حضارة" و"تمدّن" و"عصرنة"، لا يودي بنا إلى التهلكة الثقافية الا اندحارنا إلى مثل هذه الإعتقادات بأننا نتقدّم بينما كل شيء علي الأرض في رجوع من الفن والثقافة والأدب (وحتى قلة الأدب على اعتبار أننا صرنا في عصر زيرو أدب) والبيئة والناس والثروات الطبيعية تتأخر وتنتهي٠
طبعاً هو فيلم من دون نجوم ولا أعتقد أنه سيصنع نجوماً، فقط بضع ملايين من الدولارات التي ستقوم شركة الإنتاج بصرفها على الفيلم المقبل وستوالي الصرف إلى أن يسترد الجمهور الأميركي وحول العالم عقله الذي كان نسيه عند باب الصالة٠
لكن نجومية الممثلين ليست بالضرورة ضماناً للنجاح. ولدينا مثالان قد ينضم إليهما ثالث بعد أسبوع: جورج كلوني عن «منتصف أشهر مارس» وبراد بت عن »مونيبول» (أقرأ النقد عنهما أدناه). كلاهما نجم وكلاهما أم فيلمه بإقتناع كامل وكلا الفيلمين لم يحقق أرباحاً تذكر. وفي الأسبوع المقبل قد ينضم جوني
The Rum Diary دب إليهما فلديه فيلم ذي نواحي فنية وسقف من الطموحات عنوانه
لكن المرء لابد أن يحيي إيمان كل من هؤلاء الممثلين بمشروعه فالثلاثة أنتجوا هذه الأفلام (وكلوني أخرج كذلك) وخطّتهم هي بسيطة وفعّالة: كل واحد، من حين لآخر، يختار عملاً من الصعب لهوليوود أن تنتجه من دون اندفاع أحد النجوم فيه، وذلك إيماناً من هؤلاء بأن الطريقة الوحيدة لإنجاز أدوار جيّدة في أفلام جيّدة هي إنتاجها بأنفسهم٠
فيلم الأنيماشن التونسي «لاأمبوبا» فيلم أنيماشن تونسي من تسع دقائق يروي شيئا يشبه القصّة حول فتاة بدينة محاطة بالساعات التي تدور عقاربها أسرع مما يجب ما يجعلها عصبية ومتوتّرة ويتسبب في فوضاها فهي لديها موعداً مهماً بعد ظهر ذلك اليوم، لكنها الآن أصبحت غير مدركة ما هو الوقت تماماً.... وهذا كل ما فهمته من الفيلم الذي شاهدته مؤخراً.
المخرجة هي التونسية نادية ريّس وهي درست التصميم الفني والأنيماشن وعادت إلى تونس وساهمت في تأسيس "الجمعية التونسية للأنيماشن". ومع أن النتيجة فنيّاً لا غبار على تقنياتها وألوانها وأسلوب تحريكها، الا أن المخرجة بحاجة لأن تمنح المشاهد سبباً للمشاهدة، مثل أن يُتاح له متابعة الفيلم لمعرفة ما الذي يتحدّث عنه. هناك الكثير من الأفكار الجيّدة والإستخدامات النيّرة، لكنها لا تتبع قصّة بل فصولاً بلا عناوين وأكاد أقول بلا محتوى٠
أدوار أولى: براد بت، جونا هيل، فيليب سايمور مور، روبين رات، كريس برات
دراما [رياضي/ بايسبول]٠
الولايات المتحدة- 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review n. 274
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك أميركيون كثيرون لا يعرفون شروط وقواعد لعبة البايسبول، اللعبة الوطنية الأولى في الولايات المتحدة. ما البال إذاً بمن هم غير الأميركيين. طبعاً، في زمن غوغل وعصر الدجيتال تستطيع أن تتعلّم كل شيء وتعرف عنها ما تريد، لكن لمن ينظر إليها في نشرات الأخبار ويعد نفسه بأن يبحث في أمرها غداً ولا يفعل، لا زالت تبدو عبارة عن ضرب الكرة بالعصا الغليظة وقيام من التقطها بضربها بعيداً ثم الركض وراءها 180 درجة حول الملعب لتلقّفها من الناحية الثانية. في أحيان تبدو اللعبة سهلة، وفي أحيان أخرى تبدو مثل بناء كومبيوتر من لا شيء.
فيلم بَنت ميلر الجديد «مونيبول» لا يحاول شرح ما هي اللعبة. بل أن الفيلم ليس، رغم اهتمامه وموضوعه، فيلماً رياضياً، بل هو عن تلك الدوافع التي تتشبّث ببعضنا لفعل شيء يعتبره صحيحاً واعتباره ذاك هو كل ما يحتاجه لأجل المضي. براد بت في هذا الفيلم المبني على قصّة وشخصيات واقعية نُشرت في كتاب بنفس العنوان قبل بضع سنوات، يحاول التعويض عن خسارته ثلاثة لاعبين جيّدين، عبر البحث عن خريجي معاهد هواة يسعون للإنضمام إلى الفرق الرئيسية، لكن تلك لا تجدهم مؤهلين. الدافع الذي يحرّضه على إختيار بعض هؤلاء الخريجين، ليس مبنياً على قواعد رياضية او مهنية. كذلك فإنه عوض الإعتماد على
خبراء في مثل هذا البحث (مكتشفي مواهب) ينبري للمهمّة لا يساعده فيها إلا مدير لم يجرّب اللعبة يوما (جونا هيل).
النتيجة الماثلة ليست دراما عن لعب البايسبول كرياضة بل دراما عن الخيوط التي تحرّك فريقاً يحاول التأكيد على صلاحيّته لمناوأة الفرق الكبرى. الفريق الذي يكوّنه براد بت قبل رحيل لاعبيه الثلاثة كان صال وجال جيّداً، كما يخبرنا الفيلم عبر وثائقيات ينتقل إليها من حين لآخر، في العام 2001. بعد نحو سنة، ومع لاعبين جدد، خسر المركز الأول ولم يحصل حتى على المركز الثاني في المباريات الرئيسية، لكنه كان محط تشجيع هواة وجمهور البايسبول لدرجة تحقيقه بعض الأرباح رغم خسارته أرض الملعب.
في هذا المضمار، يذكّرنا الفيلم بنفسه. إنه في جانب أساسي منه يشبه ما يخوضه المنتجون (او المخرجون أحياناً) المستقلّون من مصاعب لتحقيق أفلامهم وإنجازها لكي تدخل سوق العروض في مواجهة الأفلام الهوليوودية الكبيرة. براد بت كرئيس فريق، هو إنعكاس لمنتج صغير في عالم كبير. هو شخصية مصمم السيارات برستون تاكر كما لعبه جف بردجز في فيلم فرنسيس فورد كوبولا سنة 1988 في «تاكر: الرجل وحلمه». ذاك حاول صنع سيارة غير مسبوقة لكن الشركات الكبرى قتلت طموحه. أكثر من ذلك، براد بت في دور بيلي بين، رئيس فريق البايسبول الآيل للفشل، هو فرنسيس فورد كوبولا الذي قبل وخلال وبعد تحقيقه »العراب» أنجز أفلاماً مستقلّة واجهت صعوبة في إقناع هوليوود في عرضها٠
إنها استعارات كثيرة مقترحة وليس بالضرورة من النوع الذي يخطر على البال حين مشاهدة الفيلم بالضرورة. المخرج ميلر سبق له وأن حقق فيلماً ذكيّ المعالجة كهذا، وصادق النبرة أيضاً، هو »كابوتي» الذي لعبه بطولته فيليب سايمور هوفمن الذي لا يضن بوجوده هنا. لكن الراية يحملها براد بت بلا ريب. إنه الممثل النموذجي للتعبير عن "الأميركانا" تلك التي لا نشاهدها في نشرات الأخبار. مثل بعض سواه من النجوم، يضع موهبته ونجوميّته في خدمة أفلام لا تستطيع أن تتصوّرها من دونه٠
إخراج: جورج كلوني
أدوار أولى: رايان غوزلينغ، جورج كلوني، فيليب سايمور
هوفمان، بول جياماتي، روبين رايت، ماريسا توماي
دراما [إنتخابات رئاسة] | الولايات المتحدة- 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review n. 275
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حديث سابق تم بين هذا الناقد وبين جورج كلوني فوق جزيرة قريبة من الليدو حيث يُقام مهرجان فنيسيا كل عام تحدّث الممثل والمخرج عن حبّه لسينما السبعينات وذكر أنه معجب جدّاً بالدراميات السياسية التي تم إطلاقها في ذلك الحين ومنها، حسب كلامه، «كل رجال الرئيس»، و«بارالاكس فيو» وكلاهما للمخرج المهم في تلك الحقبة ألان ج. باكولا.
«منتصف أشهر مارس» The Ides of March
إسم يبقى ماثلاً عند نهاية الفيلم لأن الأصل محفور في التاريخ الروماني، إذ يعتقد أنه اليوم الذي تم اغتيال جوليوس سيزار. في فيلم جورج كلوني الجديد، نهاية الفيلم توحي بإغتيال مماثل مع اختلاف الظروف. كلوني يؤدي دور حاكم الولاية مايك موريس الذي لديه حظ كبير في انتخابات الرئاسة ومجموعة رائعة من الأفكار والمباديء لا يساوم عليها. في مطلع الفيلم نستمع إلى بعض تلك المباديء: "أنا لست مسيحياً، ولست ملحداً. لست يهودياً ولست مسلماً. أنا أؤمن بالدستور الأميركي".
خلال الفيلم سنستمع إلى مباديء أخرى تعكس آراء الرجل ومواقفه من المشاكل التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية. يخطب ضد القلّة من الأثرياء التي تهيمن على المقدّرات الإقتصادية للبلاد، ومع حق الطلاب في تعليم مجاني كامل. ينتقد تراجع الولايات المتحدة عن مكانتها السابقة ويدعو إلى بداية عصر جديد من الثورة التكنولوجية تكون الرائدة فيه. الأهم: "علينا أن نجلس وأعداء أميركا على طاولة المفاوضات، عوض أن نلقي على العراق القنابل".
هذه الكلمات تضعه في شريحة الساعين لتغيير وجه الولايات المتحدة، ومن يعرف كلوني يدرك أنه يؤمن فعلاً بهذه الآراء فهو ليبرالي ويساري ولديه أجندة تثير نقمة اليمين، والأهم أنه شارك في كتابة الفيلم (مع غرانت هوسلوف الذي أخرج «الرجال الذي يحدّقون بالماعز» من بطولة كلوني وعرض هنا قبل عامين) وشارك كذلك في إنتاجه لجانب إخراجه وتمثيله. وإذا ما قرر كلوني بعد أربع سنوات أو أكثر ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة فإنه ليس من المثير للعجب مطلقاً أن نسمع منه خطباً شبيهة بهذه التي يرددها في الفيلم.
رغم ذلك، هو جوهر الدراما لكنه ليس جوهر المشاهد. البطولة الفعلية هي لمساعده في الحملة الإنتخابية ستيفن مايرز (رايان غوزلينغ) الذي يبدأ الفيلم بلقطة متوسّطة عليه وينتهي به أيضاً. في الأولى هو شاب مقبل على السياسة بعنفوان شاب وبمثاليات جادّة، وفي الثانية، يقف بوجه صامت يعبّر فيه عن اكتشافه فساداً اضطر لأن يمارسه. اللقطة الأخيرة هي له من بعد أن كشف عن أنيابه.
ستيفن يدير عمله بمهارة ويؤمن بأفكار المرشّح الديمقراطي ويدافع عنه. على الخط يبرز توم دافي (الرائع بول جياماتي) الذي يعمل لصالح مرشح ديمقراطي مناويء منافس. توم يتصل بستيفن طالباً منه لقاءاً وخطأ ستيفن الساذج هو أنه استجاب من دون إعلام رئيسه المباشر بول (فيليب سايمور هوفمان- الذي لا يقل روعة). كان اتصل به لإعلامه لكنه لم يجده ولم يعد الكرّة. يسأله أن يعمل له لكن ستيفن يرفض. في الوقت ذاته يبدأ علاقة بفتاة تعمل في فريق الحملة الإنتخابية أسمها مولي (إيفان راتشل وود). في ثاني لقاء بينهما يكتشف أنها حامل من المرشّح موريس. إنقاذاً لمرشّحه يعمد إلى صرفها من الخدمة وإجبارها على الإجهاض ولاحقاً ما يكتشف إنها انتحرت. لا يزال يحاول تغطية فضيحة انتخابية حينما تبادره الصحافية آيدا هوروفيتز (ماريسا توماي) بنيّتها نشر خبر لقائه بتوم الذي كان من المفترض أن يبقى سرّاً. نتيجة ذلك يقوم بول بفصل ستيفن ويقوم ستيفن بتهديد المرشّح الرئاسي بإفشاء سر العلاقة مع مولي المنتحرة ما سيؤثر سلباً بالتأكيد على حملته الإنتخابية.
ينتهي الفيلم عند نقطة سوداوية: تلك العلاقات الخاصّة التي قد تودي بالمضامين والطموحات الكبيرة. على الشاشة كل شيء من مطلع الفيلم إلى نهايته مُحاك بفاعلية. تشويق سياسي من الدرجة الأولى حول الفساد وكيف يقضي علي النوايا الصادقة وحول اللعبة السياسية في خلفية كل حملة انخابية.
كلوني المتأثر بسينما السبعينات يعمد إلى محاكاتها. الكاميرا الثابتة (غالباً) النبرة الهادئة (رغم كثرة الحوار) والمعالجة التي لا تريد أن تمنح المشاهد أكذوبة ما او حلاً سعيداً٠
كلوني ناضج هنا أكثر من أي وقت مضى، ومثل فيلمه «ليلة طيّبة، وحظ طيّب» قبل سنوات يقرر لنفسه دوراً مسانداً مانحاً رايان غوزلينغ الكرة ليلعب بها في ميدان مكتظ بممثلين جيّدين بأحجام مختلفة. بعض الخلل السردي في النصف الثاني (إثر معرفة ستيفن بانتحار مولي) يؤثر على النهاية (يجعلها مبهمة بعض الشيء. لكن الفيلم بأسره، وعلى الرغم من محدودية ميزانيّته، هو تحية للسينما الرصينة التي تركتها هوليوود وراءها طوال ثلاث عقود٠
أدوار أولى: أنيس الراشي، لطفي العبدلي.
دراما | تونس- 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N. 276
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الأصل، حَلُم المخرج رضا الباهي بفيلم ليس فقط عن مارلون براندو وبل معه أيضاً. التقى به في قصره في لوس أنجيليس على يومين لثلاث ساعات. ذهب إليه لأخذ رأيه إذا ما كان يرضى التمثيل معه في فيلم يقوم على فكرة أن شابّاً تونسياً يشبهه يتعرّف على مجموعة من السينمائيين الأميركيين كانوا وصلوا إحدي قرى تونس لتصوير فيلم فاكتشفوه. أخرج الباهي صورة ذلك الممثل، وأسمه أنيس الراشي، وأعطاها لبراندو الذي أدرك سريعاً مدى التشابه بينه وبين صاحب الصورة. الصورة، التي عرضها المخرج في فيلمه أيضاً، تشير إلى شبه كبير بين الممثل التونسي وبين الممثل الأميركي حين كان الثاني لا يزال شاباً.
إذ وافق براندو على التمثيل في الفيلم (وحدد خمسة ملايين دولار كأجر له) انطلق المخرج التونسي ليجمع المال اللازم ووجد في شركة بريطانية أذنا صاغية فانطلق ليكتب السيناريو الذي يقوم على انتقال الممثل التونسي داخل الفيلم ببيع حانته وهجران فتاته والإنتقال إلى هوليوود بناءاً على تشجيع أحد الممثلين ووعده إياه بمساعدته وذلك لمجرد شبهه ببراندو. في هوليوود يكتشف أن الأمر أصعب بكثير مما يتصوّر وأنه في قاع السلّم بينما الشهرة والإحتراف في أعلاه٠
لكن مارلون براندو مات وهو لا يزال ينتظر بدء المخرج بالتصوير (الذي كان بدوره لا يزال ينتظر أن تفي الشركة بوعدها) وبذلك تبعثر الجهد واندحرت الأحلام. أحلام لم يخسرها رضا الباهي لأن يكون المخرج العربي الوحيد الذي ضمّ إليه براندو العظيم ممثلاً، بل السينمائي العربي الوحيد الذي نجح في هذه المهمّة الصعبة٠
لكن الباهي، لم يستسلم وأحب تحقيق فيلم عن براندو ولو من دونه. وبينما كانت النسخة السابقة من السيناريو تتكوّن من عشر دقائق مصوّرة في تونس والباقي كله مصوّر في لوس أنجيليس، تمخّض السيناريو الجديد عن فيلم تقع كل أحداثه في تلك القرية التونسية. أنيس، بطل الفيلم، كان يعيش حياة هنيئة إلى أن وصل فريق التصوير ولوحظ مباشرة شبهه ببراندو فمنح دوراً في الفيلم الذي وجد نفسه يجول في عالم جديد عليه تماماً وذلك بتشجيع أحد ممثلي الفيلم المصابين بشهوة المثلية. في سبيل تحقيق حلم أنيس المفاجيء بالذهاب إلى هوليوود لكي يصبح نجماً، تنازل عن كثير. عن شرفه وعن قيمه ومبادئه وحبيبته دون أن يحقق شيئاً من هذا الحلم.
الباهي بدوره خسر كبطله. لقد ولّف فيلماً من نوع الذاكرة الممتزجة بالأحداث الروائية. نراه يكتب ويشاهد ونسمعه يتحدّث عما مرّ به، ثم نقطع إلى مشاهد طويلة من الفيلم، ثم نعود إليه أكثر من مرّة. تلك اللحظات التي يظهر فيها تبدو أكثر إثارة من معظم المشاهد الخيالية. خسارة الباهي هي أن فيلمه، بعدما خسر براندو، لم يعد يحتوي على الكثير. طبعاً هناك الحديث عن كيف يغزو الغرب العالمين الإسلامي والعربي ويضرب المواطنين غير المؤهلين لمواجهة هذا الغزو الثقافي او الفكري، لكن هذه الفكرة قديمة أمّها المخرج في أفلام له أولى («شمس الضباع»، «العتبات الممنوعة«) وهي قديمة هنا كموضوع يحتاج إلى تأسيس أحدث، وإلى تفاصيل درامية أثرى. من حين لآخر تطالعنا مشاهد قويّة التنفيذ، لكن تلك التي تعكس بهاتة الفكرة بعد زوال براندو عنها، وبسبب من التذكير دوماً بما لم يتح للباهي تنفيذه، يبقى أكثر تواصلاً للأسف٠
إخراج: رنيه كلير
تمثيل: هنري مارشا، رايمو كاردي، رولا
فرانس، بول أوليفييه
كوميديا اجتماعية | فرنسا- 1931
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review n. 277
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحرية لنا والتأثير لهم
...........................
عرفت السينما الفرنسية في الثلاثينات والأربعينات مجموعة من الأفلام الكوميدية الإجتماعية. تلك التي تتحدّث عن أوضاع إجتماعية على نحو ساخر او إنتقادي او كليهما معاً. «الحريّة لنا» كان، حسب أكثر الترجيحات، الأول بينها، لكنها احتوت أيضاً، وفيما بعد، على «نادي النساء» لجاك ديفال (1936) و«ليلة رائعة» لمارسل لإيربييه (1942)، لكن إذا ما كانت هذه الأفلام متأثّرة بفيلم رينيه كلير هذا أم لا، فإن هذا يتطلّب مشاهدتها- الأمر المتعذّر حالياً، فإن ذلك ليس مؤكّداً. الإحتمال، رغم ذلك وارد، لأن الكثير من الأفلام تأثّرت بمنحى كلير في هذا الفيلم ومنها «متاعب في الفردوس« لإرنست لوبيتش (1932) و»ولدت، ولكن» لياسوجيرو أوزو» (1933) و«أزمنة حديثة» لتشارلي تشابلن (1936)٠
لوبيتش من خلال سخريته من الرأسمالية على النحو الوارد في »الحريّة لنا»، أوزو من خلال «تشابه مفردات التصوير في مكاتب المؤسسات الكبيرة (ولو أن ذلك قد يكون توارد أفكار كون سفر الفيلم الواحد من فرنسا إلى اليابان كان يستغرق عادة أكثر من عام الإنتاج نفسه ومعلوماتي تفيد بأن عرضه الياباني الأول تم سنة 1933 أي في عام خروج فيلم أوزو وليس قبله)، وتشابلن من خلال التركيبة الساخرة من الحياة في المصانع وهيمنة رأسالمال، ومن خلال التركيبة القصصية والمشهدية ذاتيهما التي دفعت رنيه كلير إلى رفع دعوى قضائية خسرها٠
يبدأ الفيلم بالسجن الذي يقيم فيه كل من لويس (كوردي) وإميل (مارشا). الكاميرا تنقل سريعاً نماذج من الحياة لكنها توعز أيضاً بأن الرجلين خطّطا للهرب. حين التنفيذ ينفذ لويس بنفسه بينما يقع إميل في قبضة الحرس. يبدأ لويس مرحلة جديدة من الحياة الحرّة. يبيع أدوات الموسيقا وسريعاً ما يتسلّق سلّم النجاح والثراء فإذا به يصبح واحداً من أثرى رجال الصناعة في فرنسا (هذه كانت بداية شارل باتييه في بزنس السينما إذ بدأ ببيع أجهزة الفونوغراف- كما كان أسمها- وانتهى مؤسساً لإحدى أهم شركتي إنتاج وتوزيع سينمائيتين في فرنسا، بعد غومو). في الفيلم يتّبع لويس الإدارة المنظّمة والمحكمة التي تعرّف عليها حين كان سجيناً، تفصيلة يستخدمها المخرج لكي يربط بين الحياتين وتأثير الأولى على الثانية)٠
فالكيانان، السجن والمصنع، متشابه وكل مواز للآخر من حيث أنه مصنوع ومركّب ومُدار بتنظيم آلي. يدل على ذلك صفوف المساجين المنقادين بعيداً عن موائد الطعام في مقابل صفوف العمّال وهم يغادرون موائد وآلات العمل٠
ستبقى تصرّفات لويس مثيرة جدّاً للإهتمام طوال الفيلم لأنه عصب الموضوع بأسره. فهو يفاجأ بإميل الذي كان أفرج عنه بعد سنوات وانتقلت إليه الكاميرا في خط مواز من السرد حتى ينتهي عاملاً في المصنع ذاته. حين اللقاء يتصرّف لويس كما لو لم يكن يعرف إميل، لكن إميل يسطو علي إهتمامه بتحرره من التقاليد ومنحاه الحياتي المتحرر. في النهاية يؤثر إميل في لويس لدرجة أن هذا يقرر التخلّي عن المصنع وإهدائه إلى العمّال ثم يمضي مع إميل في حياة أقل قلقاً وأكثر حريّة٠
رنيه كلير، كسواه من مخرجي ذلك الحين، لم يكن سعيداً باستحداث الصوت في السينما، وفيلمه هذا يحتوي على الغناء وعلى أصوات طبيعية والقليل جدّاً من الحوار، لكن موقف كلير من النطق لم يمنعه من الإعتناء بالصوت. وفي كتاب المؤرخ آرثر نايت الفريد (رغم مرور عقود علي صدوره) وعنوانه
The Liveliest Art الفن الأكثر حياة
كتب المؤرخ ملاحظاً كيف أن المخرج ربما كان أوّل من تعامل مع الصوت بتقدير عال«. هذا لا ينفي أن كلير أحب الصمت وفضّله على النطق. ما يجعل من ملاحظة نايت او سواه مثار اهتمامنا هو أن الفيلم لم يسجل الصوت على طول الشريط ما يجعل مشاهدته اليوم على الأسطوانة غير منضبط صوتياً ما لا يعكس، بالتالي، مكمن الإهتمام الذي تحدّث عنه المؤرخ المذكور٠
الصورة وتصميم المناظر
.............................
والحال هكذا، البديل الجيّد الذي يوفّره الفيلم، والعنصر الأهم دائماً، هو الصورة. ماذا تقول؟ كيف تقول؟ ولماذا استخدامها على هذا النحو او ذاك.٠
في مشاهد البداية هناك انسياق طبيعي محبب لكل شيء. الفيلم بأسره مقسّم إلى اهتمام بالبيئات (من المساجين، إلى الإدارات المؤلّفة من رجال الأعمال، إلى العاملين والصانعين) والبيئة التي تدور في ذلك السجن ليست، على طريقة أفلام الثلاثينات الأميركية، مشبعة بالترهيب والقسوة. السجناء مرتاحون يلعبون ويأكلون ويتحدّثون فيما بينهم طبيعياً. هنا الكاميرا تسبر غور المكان معتمدة على اللقطات الطويلة وسوف تفعل ذلك حين تعريفنا بالمصنع (استخدام مماثل ورد في فيلمين صامتين من قبل: "متروبوليس» للألماني فريتز لانغ (1927) الذي يقترح عالماً مبنياً على الطبقية ورجل صناعي يستولى على مقاديره ويحكم
The Crowd على مصيره بكل ما أوتي من قوّة، وفيلم «الجموع» للأميركي هنري كينغ
الذي حققه سنة 1928، وهذا يسجّل له المشهد الطويل لمجموعة كبيرة من المكاتب التي ينكب العاملين فيها على العمل بحركة واحدة. المسألة بالنسبة لهذه الأفلام الثلاثة (بينها «الحريّة لنا») ليست الصورة وحدها بل تصميم المناظر. دائماً ما هو من أهم العناصر التي تؤسس لبصريات الفيلم وكيفية التعاون بين المصمم ومدير التصوير واختلاف عطاء كل منهما عن الآخر. في هذا الفيلم قام مصمم مناظر ترك أثراً كبيراً في السينما الفرنسية أسمه لازار ميرسون بهذه العملية وكان سبق له وإن اشتغل على أفلام كلير السابقة أيضاً. كذلك اشتغل على ثلاثة أفلام للمخرج الذائع الآخر جاك فيدير ومن يعرف ذلك المخرج يعرف صعوبة تصاميم أفلامه ومتطلّباتها كما تأثيرها على الفيلم٠
موسيقا وغناء
...............................
رسالة الفيلم واضحة وتدعو إلى نبذ المال وتحكّمه وتأثيره في تغييب العنصرين الإجتماعي والإنساني في عالمنا. المزاج كوميدي والنبرة ساخرة لكن الفيلم أيضاً هو ميوزيكال مبكر. هناك مشاهد للشخصيات الرئيسية وهي تغني وهذه المشاهد ليست دخيلة بل منضبطة ضمن المعالجة الكلّية للفيلم. وهناك استخدام جيّد للموسيقا التي وضعها جورج أوريك، وكان مشهوراً آنذاك بتعاونه مع جان كوكتو على فيلم «دم شاعر» وهو الفيلم الذي كان في الواقع صُوّر سنة 1930 لكنه تأخر عرضه حتى العام 1932
لكل هذه الأسباب، لا يزال »الحرية لنا» مثيراً للمشاهدة اليوم كما كان في عام إنتاجه من حيث قدرة المخرج على توظيف التقنية والمضمون في عمل كوميدي جيّد وترفيهي معاً. كذلك لا يزال من تلك الأفلام النقدية ذات الرسالة. في الثلاثينات كان كلير واضحاً في موقفه تجاه المواطن المثقل بتبعات الحياة الذي لا يجد منفذاً لأحلامه او وسيلة يصعد به السلم الإجتماعي٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © Mohammed Rouda 2007- 2011
هذا العدد
بين الأفلام | نجوم يحبّون السينما......................................................................................................
أنيماشن | فيلم تونسي تريد أن تفهمه لكنه مستعصي
......................................................................................................
أفلام جديدة | أفلام من كلوني وبراد بت ورضا الباهي
......................................................................................................
عرض خاص | تفاصيل رائعة رنيه كلير الكلاسيكية «الحرية لنا»٠
بين الأفلام
....................................................................................
نجوم يحبّون السينما
جورج كلوني |
بحلول فيلم جديد من سلسلة «نشاط غير طبيعي 3« من إخراج هنري جوست وأيريال شولمان (وكلاهما جديد في المهنة) تكون السينما الزرقاء حققت إنتصاراً آخر. سأسمّيها الزرقاء لأنها إنجاز دجيتال يحاول بناء سرده على محاكاة كاميرات دجيتال من المفترض أن تكون موزّعة في أركان المشهد تلتقط الأحداث من دون دراية أحد، ولا حتى المخرج. شيء قريب من مشاهدة ما صوّرته كاميرا دجيتال حين دخول لصوص المصارف للسرقة وباللون الأزرق الباهت في تلك الأحيان التي تبحث فيها عن فيلم سرقة جيّد٠
لا تقل لي "حضارة" و"تمدّن" و"عصرنة"، لا يودي بنا إلى التهلكة الثقافية الا اندحارنا إلى مثل هذه الإعتقادات بأننا نتقدّم بينما كل شيء علي الأرض في رجوع من الفن والثقافة والأدب (وحتى قلة الأدب على اعتبار أننا صرنا في عصر زيرو أدب) والبيئة والناس والثروات الطبيعية تتأخر وتنتهي٠
طبعاً هو فيلم من دون نجوم ولا أعتقد أنه سيصنع نجوماً، فقط بضع ملايين من الدولارات التي ستقوم شركة الإنتاج بصرفها على الفيلم المقبل وستوالي الصرف إلى أن يسترد الجمهور الأميركي وحول العالم عقله الذي كان نسيه عند باب الصالة٠
لكن نجومية الممثلين ليست بالضرورة ضماناً للنجاح. ولدينا مثالان قد ينضم إليهما ثالث بعد أسبوع: جورج كلوني عن «منتصف أشهر مارس» وبراد بت عن »مونيبول» (أقرأ النقد عنهما أدناه). كلاهما نجم وكلاهما أم فيلمه بإقتناع كامل وكلا الفيلمين لم يحقق أرباحاً تذكر. وفي الأسبوع المقبل قد ينضم جوني
The Rum Diary دب إليهما فلديه فيلم ذي نواحي فنية وسقف من الطموحات عنوانه
لكن المرء لابد أن يحيي إيمان كل من هؤلاء الممثلين بمشروعه فالثلاثة أنتجوا هذه الأفلام (وكلوني أخرج كذلك) وخطّتهم هي بسيطة وفعّالة: كل واحد، من حين لآخر، يختار عملاً من الصعب لهوليوود أن تنتجه من دون اندفاع أحد النجوم فيه، وذلك إيماناً من هؤلاء بأن الطريقة الوحيدة لإنجاز أدوار جيّدة في أفلام جيّدة هي إنتاجها بأنفسهم٠
أنيماشن
فيلم الأنيماشن التونسي «لاأمبوبا» فيلم أنيماشن تونسي من تسع دقائق يروي شيئا يشبه القصّة حول فتاة بدينة محاطة بالساعات التي تدور عقاربها أسرع مما يجب ما يجعلها عصبية ومتوتّرة ويتسبب في فوضاها فهي لديها موعداً مهماً بعد ظهر ذلك اليوم، لكنها الآن أصبحت غير مدركة ما هو الوقت تماماً.... وهذا كل ما فهمته من الفيلم الذي شاهدته مؤخراً.
المخرجة هي التونسية نادية ريّس وهي درست التصميم الفني والأنيماشن وعادت إلى تونس وساهمت في تأسيس "الجمعية التونسية للأنيماشن". ومع أن النتيجة فنيّاً لا غبار على تقنياتها وألوانها وأسلوب تحريكها، الا أن المخرجة بحاجة لأن تمنح المشاهد سبباً للمشاهدة، مثل أن يُتاح له متابعة الفيلم لمعرفة ما الذي يتحدّث عنه. هناك الكثير من الأفكار الجيّدة والإستخدامات النيّرة، لكنها لا تتبع قصّة بل فصولاً بلا عناوين وأكاد أقول بلا محتوى٠
أفلام جديدة
**** Moneyball
إخراج: بَنِت ميلرأدوار أولى: براد بت، جونا هيل، فيليب سايمور مور، روبين رات، كريس برات
دراما [رياضي/ بايسبول]٠
الولايات المتحدة- 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review n. 274
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم مخرج «كابوتي» سابقاً ينجز فيلمه عن الفرد مقابل الآلة التي تطحن الأحلام
هناك أميركيون كثيرون لا يعرفون شروط وقواعد لعبة البايسبول، اللعبة الوطنية الأولى في الولايات المتحدة. ما البال إذاً بمن هم غير الأميركيين. طبعاً، في زمن غوغل وعصر الدجيتال تستطيع أن تتعلّم كل شيء وتعرف عنها ما تريد، لكن لمن ينظر إليها في نشرات الأخبار ويعد نفسه بأن يبحث في أمرها غداً ولا يفعل، لا زالت تبدو عبارة عن ضرب الكرة بالعصا الغليظة وقيام من التقطها بضربها بعيداً ثم الركض وراءها 180 درجة حول الملعب لتلقّفها من الناحية الثانية. في أحيان تبدو اللعبة سهلة، وفي أحيان أخرى تبدو مثل بناء كومبيوتر من لا شيء.
فيلم بَنت ميلر الجديد «مونيبول» لا يحاول شرح ما هي اللعبة. بل أن الفيلم ليس، رغم اهتمامه وموضوعه، فيلماً رياضياً، بل هو عن تلك الدوافع التي تتشبّث ببعضنا لفعل شيء يعتبره صحيحاً واعتباره ذاك هو كل ما يحتاجه لأجل المضي. براد بت في هذا الفيلم المبني على قصّة وشخصيات واقعية نُشرت في كتاب بنفس العنوان قبل بضع سنوات، يحاول التعويض عن خسارته ثلاثة لاعبين جيّدين، عبر البحث عن خريجي معاهد هواة يسعون للإنضمام إلى الفرق الرئيسية، لكن تلك لا تجدهم مؤهلين. الدافع الذي يحرّضه على إختيار بعض هؤلاء الخريجين، ليس مبنياً على قواعد رياضية او مهنية. كذلك فإنه عوض الإعتماد على
خبراء في مثل هذا البحث (مكتشفي مواهب) ينبري للمهمّة لا يساعده فيها إلا مدير لم يجرّب اللعبة يوما (جونا هيل).
النتيجة الماثلة ليست دراما عن لعب البايسبول كرياضة بل دراما عن الخيوط التي تحرّك فريقاً يحاول التأكيد على صلاحيّته لمناوأة الفرق الكبرى. الفريق الذي يكوّنه براد بت قبل رحيل لاعبيه الثلاثة كان صال وجال جيّداً، كما يخبرنا الفيلم عبر وثائقيات ينتقل إليها من حين لآخر، في العام 2001. بعد نحو سنة، ومع لاعبين جدد، خسر المركز الأول ولم يحصل حتى على المركز الثاني في المباريات الرئيسية، لكنه كان محط تشجيع هواة وجمهور البايسبول لدرجة تحقيقه بعض الأرباح رغم خسارته أرض الملعب.
في هذا المضمار، يذكّرنا الفيلم بنفسه. إنه في جانب أساسي منه يشبه ما يخوضه المنتجون (او المخرجون أحياناً) المستقلّون من مصاعب لتحقيق أفلامهم وإنجازها لكي تدخل سوق العروض في مواجهة الأفلام الهوليوودية الكبيرة. براد بت كرئيس فريق، هو إنعكاس لمنتج صغير في عالم كبير. هو شخصية مصمم السيارات برستون تاكر كما لعبه جف بردجز في فيلم فرنسيس فورد كوبولا سنة 1988 في «تاكر: الرجل وحلمه». ذاك حاول صنع سيارة غير مسبوقة لكن الشركات الكبرى قتلت طموحه. أكثر من ذلك، براد بت في دور بيلي بين، رئيس فريق البايسبول الآيل للفشل، هو فرنسيس فورد كوبولا الذي قبل وخلال وبعد تحقيقه »العراب» أنجز أفلاماً مستقلّة واجهت صعوبة في إقناع هوليوود في عرضها٠
إنها استعارات كثيرة مقترحة وليس بالضرورة من النوع الذي يخطر على البال حين مشاهدة الفيلم بالضرورة. المخرج ميلر سبق له وأن حقق فيلماً ذكيّ المعالجة كهذا، وصادق النبرة أيضاً، هو »كابوتي» الذي لعبه بطولته فيليب سايمور هوفمن الذي لا يضن بوجوده هنا. لكن الراية يحملها براد بت بلا ريب. إنه الممثل النموذجي للتعبير عن "الأميركانا" تلك التي لا نشاهدها في نشرات الأخبار. مثل بعض سواه من النجوم، يضع موهبته ونجوميّته في خدمة أفلام لا تستطيع أن تتصوّرها من دونه٠
The Ides of March ****
إخراج: جورج كلوني
أدوار أولى: رايان غوزلينغ، جورج كلوني، فيليب سايمور
هوفمان، بول جياماتي، روبين رايت، ماريسا توماي
دراما [إنتخابات رئاسة] | الولايات المتحدة- 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review n. 275
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جورج كلوني يحب أفلام السبعينات وقد حقق فيلماً يماثله
في حديث سابق تم بين هذا الناقد وبين جورج كلوني فوق جزيرة قريبة من الليدو حيث يُقام مهرجان فنيسيا كل عام تحدّث الممثل والمخرج عن حبّه لسينما السبعينات وذكر أنه معجب جدّاً بالدراميات السياسية التي تم إطلاقها في ذلك الحين ومنها، حسب كلامه، «كل رجال الرئيس»، و«بارالاكس فيو» وكلاهما للمخرج المهم في تلك الحقبة ألان ج. باكولا.
«منتصف أشهر مارس» The Ides of March
إسم يبقى ماثلاً عند نهاية الفيلم لأن الأصل محفور في التاريخ الروماني، إذ يعتقد أنه اليوم الذي تم اغتيال جوليوس سيزار. في فيلم جورج كلوني الجديد، نهاية الفيلم توحي بإغتيال مماثل مع اختلاف الظروف. كلوني يؤدي دور حاكم الولاية مايك موريس الذي لديه حظ كبير في انتخابات الرئاسة ومجموعة رائعة من الأفكار والمباديء لا يساوم عليها. في مطلع الفيلم نستمع إلى بعض تلك المباديء: "أنا لست مسيحياً، ولست ملحداً. لست يهودياً ولست مسلماً. أنا أؤمن بالدستور الأميركي".
خلال الفيلم سنستمع إلى مباديء أخرى تعكس آراء الرجل ومواقفه من المشاكل التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية. يخطب ضد القلّة من الأثرياء التي تهيمن على المقدّرات الإقتصادية للبلاد، ومع حق الطلاب في تعليم مجاني كامل. ينتقد تراجع الولايات المتحدة عن مكانتها السابقة ويدعو إلى بداية عصر جديد من الثورة التكنولوجية تكون الرائدة فيه. الأهم: "علينا أن نجلس وأعداء أميركا على طاولة المفاوضات، عوض أن نلقي على العراق القنابل".
هذه الكلمات تضعه في شريحة الساعين لتغيير وجه الولايات المتحدة، ومن يعرف كلوني يدرك أنه يؤمن فعلاً بهذه الآراء فهو ليبرالي ويساري ولديه أجندة تثير نقمة اليمين، والأهم أنه شارك في كتابة الفيلم (مع غرانت هوسلوف الذي أخرج «الرجال الذي يحدّقون بالماعز» من بطولة كلوني وعرض هنا قبل عامين) وشارك كذلك في إنتاجه لجانب إخراجه وتمثيله. وإذا ما قرر كلوني بعد أربع سنوات أو أكثر ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة فإنه ليس من المثير للعجب مطلقاً أن نسمع منه خطباً شبيهة بهذه التي يرددها في الفيلم.
رغم ذلك، هو جوهر الدراما لكنه ليس جوهر المشاهد. البطولة الفعلية هي لمساعده في الحملة الإنتخابية ستيفن مايرز (رايان غوزلينغ) الذي يبدأ الفيلم بلقطة متوسّطة عليه وينتهي به أيضاً. في الأولى هو شاب مقبل على السياسة بعنفوان شاب وبمثاليات جادّة، وفي الثانية، يقف بوجه صامت يعبّر فيه عن اكتشافه فساداً اضطر لأن يمارسه. اللقطة الأخيرة هي له من بعد أن كشف عن أنيابه.
ستيفن يدير عمله بمهارة ويؤمن بأفكار المرشّح الديمقراطي ويدافع عنه. على الخط يبرز توم دافي (الرائع بول جياماتي) الذي يعمل لصالح مرشح ديمقراطي مناويء منافس. توم يتصل بستيفن طالباً منه لقاءاً وخطأ ستيفن الساذج هو أنه استجاب من دون إعلام رئيسه المباشر بول (فيليب سايمور هوفمان- الذي لا يقل روعة). كان اتصل به لإعلامه لكنه لم يجده ولم يعد الكرّة. يسأله أن يعمل له لكن ستيفن يرفض. في الوقت ذاته يبدأ علاقة بفتاة تعمل في فريق الحملة الإنتخابية أسمها مولي (إيفان راتشل وود). في ثاني لقاء بينهما يكتشف أنها حامل من المرشّح موريس. إنقاذاً لمرشّحه يعمد إلى صرفها من الخدمة وإجبارها على الإجهاض ولاحقاً ما يكتشف إنها انتحرت. لا يزال يحاول تغطية فضيحة انتخابية حينما تبادره الصحافية آيدا هوروفيتز (ماريسا توماي) بنيّتها نشر خبر لقائه بتوم الذي كان من المفترض أن يبقى سرّاً. نتيجة ذلك يقوم بول بفصل ستيفن ويقوم ستيفن بتهديد المرشّح الرئاسي بإفشاء سر العلاقة مع مولي المنتحرة ما سيؤثر سلباً بالتأكيد على حملته الإنتخابية.
ينتهي الفيلم عند نقطة سوداوية: تلك العلاقات الخاصّة التي قد تودي بالمضامين والطموحات الكبيرة. على الشاشة كل شيء من مطلع الفيلم إلى نهايته مُحاك بفاعلية. تشويق سياسي من الدرجة الأولى حول الفساد وكيف يقضي علي النوايا الصادقة وحول اللعبة السياسية في خلفية كل حملة انخابية.
كلوني المتأثر بسينما السبعينات يعمد إلى محاكاتها. الكاميرا الثابتة (غالباً) النبرة الهادئة (رغم كثرة الحوار) والمعالجة التي لا تريد أن تمنح المشاهد أكذوبة ما او حلاً سعيداً٠
كلوني ناضج هنا أكثر من أي وقت مضى، ومثل فيلمه «ليلة طيّبة، وحظ طيّب» قبل سنوات يقرر لنفسه دوراً مسانداً مانحاً رايان غوزلينغ الكرة ليلعب بها في ميدان مكتظ بممثلين جيّدين بأحجام مختلفة. بعض الخلل السردي في النصف الثاني (إثر معرفة ستيفن بانتحار مولي) يؤثر على النهاية (يجعلها مبهمة بعض الشيء. لكن الفيلم بأسره، وعلى الرغم من محدودية ميزانيّته، هو تحية للسينما الرصينة التي تركتها هوليوود وراءها طوال ثلاث عقود٠
ديما براندو٠
إخراج: رضا الباهيأدوار أولى: أنيس الراشي، لطفي العبدلي.
دراما | تونس- 2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review N. 276
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم مارلون براندو الذي بقي حلماً
في الأصل، حَلُم المخرج رضا الباهي بفيلم ليس فقط عن مارلون براندو وبل معه أيضاً. التقى به في قصره في لوس أنجيليس على يومين لثلاث ساعات. ذهب إليه لأخذ رأيه إذا ما كان يرضى التمثيل معه في فيلم يقوم على فكرة أن شابّاً تونسياً يشبهه يتعرّف على مجموعة من السينمائيين الأميركيين كانوا وصلوا إحدي قرى تونس لتصوير فيلم فاكتشفوه. أخرج الباهي صورة ذلك الممثل، وأسمه أنيس الراشي، وأعطاها لبراندو الذي أدرك سريعاً مدى التشابه بينه وبين صاحب الصورة. الصورة، التي عرضها المخرج في فيلمه أيضاً، تشير إلى شبه كبير بين الممثل التونسي وبين الممثل الأميركي حين كان الثاني لا يزال شاباً.
إذ وافق براندو على التمثيل في الفيلم (وحدد خمسة ملايين دولار كأجر له) انطلق المخرج التونسي ليجمع المال اللازم ووجد في شركة بريطانية أذنا صاغية فانطلق ليكتب السيناريو الذي يقوم على انتقال الممثل التونسي داخل الفيلم ببيع حانته وهجران فتاته والإنتقال إلى هوليوود بناءاً على تشجيع أحد الممثلين ووعده إياه بمساعدته وذلك لمجرد شبهه ببراندو. في هوليوود يكتشف أن الأمر أصعب بكثير مما يتصوّر وأنه في قاع السلّم بينما الشهرة والإحتراف في أعلاه٠
لكن مارلون براندو مات وهو لا يزال ينتظر بدء المخرج بالتصوير (الذي كان بدوره لا يزال ينتظر أن تفي الشركة بوعدها) وبذلك تبعثر الجهد واندحرت الأحلام. أحلام لم يخسرها رضا الباهي لأن يكون المخرج العربي الوحيد الذي ضمّ إليه براندو العظيم ممثلاً، بل السينمائي العربي الوحيد الذي نجح في هذه المهمّة الصعبة٠
لكن الباهي، لم يستسلم وأحب تحقيق فيلم عن براندو ولو من دونه. وبينما كانت النسخة السابقة من السيناريو تتكوّن من عشر دقائق مصوّرة في تونس والباقي كله مصوّر في لوس أنجيليس، تمخّض السيناريو الجديد عن فيلم تقع كل أحداثه في تلك القرية التونسية. أنيس، بطل الفيلم، كان يعيش حياة هنيئة إلى أن وصل فريق التصوير ولوحظ مباشرة شبهه ببراندو فمنح دوراً في الفيلم الذي وجد نفسه يجول في عالم جديد عليه تماماً وذلك بتشجيع أحد ممثلي الفيلم المصابين بشهوة المثلية. في سبيل تحقيق حلم أنيس المفاجيء بالذهاب إلى هوليوود لكي يصبح نجماً، تنازل عن كثير. عن شرفه وعن قيمه ومبادئه وحبيبته دون أن يحقق شيئاً من هذا الحلم.
الباهي بدوره خسر كبطله. لقد ولّف فيلماً من نوع الذاكرة الممتزجة بالأحداث الروائية. نراه يكتب ويشاهد ونسمعه يتحدّث عما مرّ به، ثم نقطع إلى مشاهد طويلة من الفيلم، ثم نعود إليه أكثر من مرّة. تلك اللحظات التي يظهر فيها تبدو أكثر إثارة من معظم المشاهد الخيالية. خسارة الباهي هي أن فيلمه، بعدما خسر براندو، لم يعد يحتوي على الكثير. طبعاً هناك الحديث عن كيف يغزو الغرب العالمين الإسلامي والعربي ويضرب المواطنين غير المؤهلين لمواجهة هذا الغزو الثقافي او الفكري، لكن هذه الفكرة قديمة أمّها المخرج في أفلام له أولى («شمس الضباع»، «العتبات الممنوعة«) وهي قديمة هنا كموضوع يحتاج إلى تأسيس أحدث، وإلى تفاصيل درامية أثرى. من حين لآخر تطالعنا مشاهد قويّة التنفيذ، لكن تلك التي تعكس بهاتة الفكرة بعد زوال براندو عنها، وبسبب من التذكير دوماً بما لم يتح للباهي تنفيذه، يبقى أكثر تواصلاً للأسف٠
وحيداً في الصالة
A Nous La Liberté
الحرية لنا
****
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــإخراج: رنيه كلير
تمثيل: هنري مارشا، رايمو كاردي، رولا
فرانس، بول أوليفييه
كوميديا اجتماعية | فرنسا- 1931
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Review n. 277
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحرية لنا والتأثير لهم
...........................
عرفت السينما الفرنسية في الثلاثينات والأربعينات مجموعة من الأفلام الكوميدية الإجتماعية. تلك التي تتحدّث عن أوضاع إجتماعية على نحو ساخر او إنتقادي او كليهما معاً. «الحريّة لنا» كان، حسب أكثر الترجيحات، الأول بينها، لكنها احتوت أيضاً، وفيما بعد، على «نادي النساء» لجاك ديفال (1936) و«ليلة رائعة» لمارسل لإيربييه (1942)، لكن إذا ما كانت هذه الأفلام متأثّرة بفيلم رينيه كلير هذا أم لا، فإن هذا يتطلّب مشاهدتها- الأمر المتعذّر حالياً، فإن ذلك ليس مؤكّداً. الإحتمال، رغم ذلك وارد، لأن الكثير من الأفلام تأثّرت بمنحى كلير في هذا الفيلم ومنها «متاعب في الفردوس« لإرنست لوبيتش (1932) و»ولدت، ولكن» لياسوجيرو أوزو» (1933) و«أزمنة حديثة» لتشارلي تشابلن (1936)٠
لوبيتش من خلال سخريته من الرأسمالية على النحو الوارد في »الحريّة لنا»، أوزو من خلال «تشابه مفردات التصوير في مكاتب المؤسسات الكبيرة (ولو أن ذلك قد يكون توارد أفكار كون سفر الفيلم الواحد من فرنسا إلى اليابان كان يستغرق عادة أكثر من عام الإنتاج نفسه ومعلوماتي تفيد بأن عرضه الياباني الأول تم سنة 1933 أي في عام خروج فيلم أوزو وليس قبله)، وتشابلن من خلال التركيبة الساخرة من الحياة في المصانع وهيمنة رأسالمال، ومن خلال التركيبة القصصية والمشهدية ذاتيهما التي دفعت رنيه كلير إلى رفع دعوى قضائية خسرها٠
حكاية رجلين
.............................يبدأ الفيلم بالسجن الذي يقيم فيه كل من لويس (كوردي) وإميل (مارشا). الكاميرا تنقل سريعاً نماذج من الحياة لكنها توعز أيضاً بأن الرجلين خطّطا للهرب. حين التنفيذ ينفذ لويس بنفسه بينما يقع إميل في قبضة الحرس. يبدأ لويس مرحلة جديدة من الحياة الحرّة. يبيع أدوات الموسيقا وسريعاً ما يتسلّق سلّم النجاح والثراء فإذا به يصبح واحداً من أثرى رجال الصناعة في فرنسا (هذه كانت بداية شارل باتييه في بزنس السينما إذ بدأ ببيع أجهزة الفونوغراف- كما كان أسمها- وانتهى مؤسساً لإحدى أهم شركتي إنتاج وتوزيع سينمائيتين في فرنسا، بعد غومو). في الفيلم يتّبع لويس الإدارة المنظّمة والمحكمة التي تعرّف عليها حين كان سجيناً، تفصيلة يستخدمها المخرج لكي يربط بين الحياتين وتأثير الأولى على الثانية)٠
فالكيانان، السجن والمصنع، متشابه وكل مواز للآخر من حيث أنه مصنوع ومركّب ومُدار بتنظيم آلي. يدل على ذلك صفوف المساجين المنقادين بعيداً عن موائد الطعام في مقابل صفوف العمّال وهم يغادرون موائد وآلات العمل٠
ستبقى تصرّفات لويس مثيرة جدّاً للإهتمام طوال الفيلم لأنه عصب الموضوع بأسره. فهو يفاجأ بإميل الذي كان أفرج عنه بعد سنوات وانتقلت إليه الكاميرا في خط مواز من السرد حتى ينتهي عاملاً في المصنع ذاته. حين اللقاء يتصرّف لويس كما لو لم يكن يعرف إميل، لكن إميل يسطو علي إهتمامه بتحرره من التقاليد ومنحاه الحياتي المتحرر. في النهاية يؤثر إميل في لويس لدرجة أن هذا يقرر التخلّي عن المصنع وإهدائه إلى العمّال ثم يمضي مع إميل في حياة أقل قلقاً وأكثر حريّة٠
الصمت الناطق
...........................رنيه كلير، كسواه من مخرجي ذلك الحين، لم يكن سعيداً باستحداث الصوت في السينما، وفيلمه هذا يحتوي على الغناء وعلى أصوات طبيعية والقليل جدّاً من الحوار، لكن موقف كلير من النطق لم يمنعه من الإعتناء بالصوت. وفي كتاب المؤرخ آرثر نايت الفريد (رغم مرور عقود علي صدوره) وعنوانه
The Liveliest Art الفن الأكثر حياة
كتب المؤرخ ملاحظاً كيف أن المخرج ربما كان أوّل من تعامل مع الصوت بتقدير عال«. هذا لا ينفي أن كلير أحب الصمت وفضّله على النطق. ما يجعل من ملاحظة نايت او سواه مثار اهتمامنا هو أن الفيلم لم يسجل الصوت على طول الشريط ما يجعل مشاهدته اليوم على الأسطوانة غير منضبط صوتياً ما لا يعكس، بالتالي، مكمن الإهتمام الذي تحدّث عنه المؤرخ المذكور٠
الصورة وتصميم المناظر
.............................
والحال هكذا، البديل الجيّد الذي يوفّره الفيلم، والعنصر الأهم دائماً، هو الصورة. ماذا تقول؟ كيف تقول؟ ولماذا استخدامها على هذا النحو او ذاك.٠
في مشاهد البداية هناك انسياق طبيعي محبب لكل شيء. الفيلم بأسره مقسّم إلى اهتمام بالبيئات (من المساجين، إلى الإدارات المؤلّفة من رجال الأعمال، إلى العاملين والصانعين) والبيئة التي تدور في ذلك السجن ليست، على طريقة أفلام الثلاثينات الأميركية، مشبعة بالترهيب والقسوة. السجناء مرتاحون يلعبون ويأكلون ويتحدّثون فيما بينهم طبيعياً. هنا الكاميرا تسبر غور المكان معتمدة على اللقطات الطويلة وسوف تفعل ذلك حين تعريفنا بالمصنع (استخدام مماثل ورد في فيلمين صامتين من قبل: "متروبوليس» للألماني فريتز لانغ (1927) الذي يقترح عالماً مبنياً على الطبقية ورجل صناعي يستولى على مقاديره ويحكم
The Crowd على مصيره بكل ما أوتي من قوّة، وفيلم «الجموع» للأميركي هنري كينغ
الذي حققه سنة 1928، وهذا يسجّل له المشهد الطويل لمجموعة كبيرة من المكاتب التي ينكب العاملين فيها على العمل بحركة واحدة. المسألة بالنسبة لهذه الأفلام الثلاثة (بينها «الحريّة لنا») ليست الصورة وحدها بل تصميم المناظر. دائماً ما هو من أهم العناصر التي تؤسس لبصريات الفيلم وكيفية التعاون بين المصمم ومدير التصوير واختلاف عطاء كل منهما عن الآخر. في هذا الفيلم قام مصمم مناظر ترك أثراً كبيراً في السينما الفرنسية أسمه لازار ميرسون بهذه العملية وكان سبق له وإن اشتغل على أفلام كلير السابقة أيضاً. كذلك اشتغل على ثلاثة أفلام للمخرج الذائع الآخر جاك فيدير ومن يعرف ذلك المخرج يعرف صعوبة تصاميم أفلامه ومتطلّباتها كما تأثيرها على الفيلم٠
موسيقا وغناء
...............................
رسالة الفيلم واضحة وتدعو إلى نبذ المال وتحكّمه وتأثيره في تغييب العنصرين الإجتماعي والإنساني في عالمنا. المزاج كوميدي والنبرة ساخرة لكن الفيلم أيضاً هو ميوزيكال مبكر. هناك مشاهد للشخصيات الرئيسية وهي تغني وهذه المشاهد ليست دخيلة بل منضبطة ضمن المعالجة الكلّية للفيلم. وهناك استخدام جيّد للموسيقا التي وضعها جورج أوريك، وكان مشهوراً آنذاك بتعاونه مع جان كوكتو على فيلم «دم شاعر» وهو الفيلم الذي كان في الواقع صُوّر سنة 1930 لكنه تأخر عرضه حتى العام 1932
لكل هذه الأسباب، لا يزال »الحرية لنا» مثيراً للمشاهدة اليوم كما كان في عام إنتاجه من حيث قدرة المخرج على توظيف التقنية والمضمون في عمل كوميدي جيّد وترفيهي معاً. كذلك لا يزال من تلك الأفلام النقدية ذات الرسالة. في الثلاثينات كان كلير واضحاً في موقفه تجاه المواطن المثقل بتبعات الحياة الذي لا يجد منفذاً لأحلامه او وسيلة يصعد به السلم الإجتماعي٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © Mohammed Rouda 2007- 2011
0 comments:
Post a Comment