_________________________________________________________________
كنوز السينما
L'Armée des Ombres
جيش الظلال
★★★★✩
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نقد: ميسر المسكي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• إخراج: جان- بيير ملڤيل Jean-Pierre Melville
• تشويق سياسي | فرنسا - 1969
|*| منذ أن أقتَرَحَ الصديق محمد رُضا أن اُشارك في مقال أسبوعي على صفحات هذه المجلة، وأنا أحاول، بين وقت وآخر أن أعثر على فيلم لم ينل حقه من التقدير، على مسار الإنتاج السينمائي الممتد لأكثر من مئة عام، لإعادة تقديمه أو التذكير به وبصانعيه.
عديدة هي الأفلام التي أعَـرَضَ عنها الجمهور حين ظهرت على الشاشة، لكنها ومع الوقت ومع تكرار عرضها على شاشة التلفزيون وفي نوادي السينما، كوّنَت لنفسها حيزاً من الوجود اللافت والذي تستحقه. ونحن نكاد نتفق بالكامل على حقيقة أنه لوكتب كل نقاد الأرض ضدّ فيلم أحتشد له الجمهور فهم لن يستطيعوا التأثير على إيراداته في شباك التذاكر، ولن يثنوا المشاهدين عن إستعادة الحضور مرتين وثلاث. الأمثلة عن هذه الأفلام عديدة لكنها ليست قضيتنا هنا.
نريد التحدث هنا عن تلك الأفلام الجيدة التي ظلمها النقد وليس الجمهور. أفلام ظهرت في زمن أو ظرف معين فأشهرَ النقاد أقلامهم وكتاباتهم في وجهها ليجرّحوها وينالوا من صانعيها. هم غالباً لم يهاجموا صنعة الفيلم لإنه لا يمكن نكران ما هو جليّ على الشاشة. لكنهم هاجموها فكرياً أو إيديولوجياً. وذلك حدث في الشرق كما حصل في الغرب. فما أُسمّـيه "ديكتاتورية النقد" لم يكن حكراً على مجتعات الأنظمة الشمولية بل كان له نفوذه الثقافي في المجتمعات التي وصفت نفسها يوماً بالـ "حُرّة".
اليوم لا يمكن القول أن تحفة جان-بيير ملفيل "جيش الظلال" لم ينل حقه. لكن السؤال بعد كم من السنين؟ ثلاثون عاماً؟ أربعون؟ حين إحتفت صفحات النقد بعمل ملفيل هذا، كان الرجل قد مات ودُفن قبل عقود. لم يسمع بنجاح فيلمه، لم يسعد بلذة النجاح في تحقيق عمل كان يستحق التصفيق من المرّة الأولى.
كُنتُ شاباً حين شاهدت الفيلم للمرة الأولى في بداية سبعينيات القرن الماضي. أحببته وأدهشتني مناخاته. لكن بإستثناء بعض المطبوعات المحدودة التي كانت تُوزع في النادي السينمائي في دمشق لم أقرأ أن أحداً إحتفى بالفيلم. وزادت دهشتي لاحقاً حين قرأت أن نقاد باريس شرّعوا رايات العداء لفيلم إتهموه بالرجعية (ليس بمفهومنا العربي اليساري الأعرج) وتملق نظام المؤسسات الذي كان يترنح حينها.
ربيع عام 1968 إنتفضَ طلاب باريس (ومن ثمّ العالم) ضد مفاهيم المجتمع وسلطاته بكل أشكالها المؤسساتية: رئيس جمهورية، حكومة، بوليس، كنيسة، مدرسة....ومنظومة القيم والمفاهيم التي كانت تتحكم بالمجتمع الفرنسي. نزلوا الشارع، إقتلعوا طوب الأرصفة ورشقوا به عناصر الشرطة التي بادلتهم بالغاز والهراوات. أهتزَ النظام الفرنسي أمام شباب كانوا (ضمن أشياء كثيرة) يحاولون تقصير القامة التاريخية المهيبة للرئيس الرمز الجنرال شارل دوغول الفارع الطول.
عام 1969 كانت الأزمة لا تزال تتفاعل في الشارع كما في أروقة الحكم والسلطة حين أنجَزَ جان بيير-ملفيل فيلمه "جيش الظلال" عن فترة الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية والمقاومة الفرنسية السرّية. في الفيلم مشهد واحد وحيد نرى فيه شخصية تُمثل الجنرال دوغول وهو يُقلّـد أحد المقاومة وسام البطولة. قامت قيامة نقاد مجلّة "دفاتر السينما" الشباب ولم تقعد. هاجموا الفيلم بقسوة لاذعة على أنه إصطفاف إلى جانب الرئيس والسلطة التي نزلوا الشارع ليزيحوها ويزيحوه. هَشّموا الفيلم بلا رحمة. وبين من كان يكتب أسماء شابة بارزة لعبت دوراً بارزاً في الموجة الفرنسية الجديدة التي أكتسبت زخمها من إنتفاضة الطلاب. "دكتاتورية النقد" الشاب قمعت فيلم ملفيل الجميل. أهانته. هَمّشتهُ بعد أن هَشّمتهُ. لم يعد للفيلم وجود في قوائم أفضل أفلام العام ولا في تلك التي تلته. لم يحظ الفيلم بتوزيع في الولايات المُتحدة الأميركية مثلاً إلا بعد أربعين عاماً من إنتاجه. وحينها إنفجرت صفحات النقد تُرحّب بتحفة "منسية". فجأة الفيلم على لوائح أهم نقاد السينما في أميركا كأفضل فيلم لذلك العام. وكان ذلك في العام 2006. وللتذكير فقط، توفي المُخرج جان بيير-ملفيل عام 1973.
بعد ثلاث وثلاثون عاماً من رحيله، وجدَ ملفيل من يعيد إعتباره بعد أن كان ضحية ديكتاتورية نقد سينمائي جامح، مُندفع، مُسيّس. وربما يفيد هنا أن نُذكّر أن بعض أولئك النقاد الشباب (فرانسوا تروفو مثلاً) أسَهَبَ وفَصّلَ وشَرَحَ وفَسّرَ كل لقطة وحركة كاميرا أنجزها "ألفريد هيتشكوك" الذي أفتخرَ نقاد "دفاتر السينما" أنهم أكتشفوه من جديد و أعادوا إعتباره...على حياته. من حظ "هيتشكوك" أنه لم يكن للجنرال دوغول أي دور أو لقطة في أفلامه!
الفيلم
تفتح الكاميرا في المشهد على لقطة، من زاوية مُـنخفضة، لقوس النصر في باريس. زاوية الكاميرا تجعل القوس مُسيطراً بطغيان شديد على المشهد بحيث يبدو طابور العرض للقوات الألمانية، التي تدخل من يسار الكادر، تافهاً أمام سطوة قوس النصر الفرنسي، وكأن ملفيل يوحي بحتمية النصر القادم رغم واقع الاحتلال الحالي.
من هنا يذهب ملفيل لينجز فيلماً لا أراه عن المقاومة الفرنسية فقط، بل هو في الأساس، برأيي، عن حالة الشرط البشري حين يُوضع الإنسان أمام تجربة شديدة القسوة في مناخ تتكون عناصره من السرّية، الخوف، القلق، الموت المتربص عند المُنعطف، الخيانة، الوشاية، عدم الثقة....
نظرة ملفيل إلى المقاومة الفرنسية ليست رؤوفة ولا مُناصرة: "البريطانيون لا يثقوا بالمقاومة الفرنسية السرّية، لذلك لن يسلحوكم. ربما يساعدونكم في تحسن الإتصال والمراقبة." يقول ضابط الإتصال البريطاني لقائد المقاومة السرّية الذي يزور لندن للحصول على الدعم.
أصلاً قضية المقاومة وسنوات الاحتلال الألماني الأربع لا تزال قضية شائكة وموجعة إلى اليوم رغم محاولات حثيثة بُذلت في السابق لـ "تلميع" ونفخ دور المقاومة لما هو أكبر من حجمها الحقيقي للمواراة على حقيقة أن جزء غير قليل من المجتمع الفرنسي لم يكن مُعارضاً، بل ومتعاوناً، مع الألمان.
لكن إذا تركنا التاريخ والسياسة على حدة، فأن "جيش الظلال" يُطلّ على شخصياته من فردانيتها وليس على أنها جزء من جسم واسع مقاوم، كما درجت عليه العادة في السينما الروسية واليوغسلافية حين تناولتا قضية المقاومة في بلديهما.
شخصيات ملفيل المُقاومة ليست أساطير ولا رجال أكبر من الحياة ولا أبواق لكليشيهات فارغة عن الوطن والبطولة. هم أشخاص يخافون ويتألمون ويندمون ويخونون ويقتلون ببرودة لا إنسانية (مشهد إعدام الشاب في الشقة يحمل في طياته قسوة لا تُطاق رغم هدوء وبطء إيقاعه ودون قطرة دم واحدة)
مقاومو ملفيل يدفعهم حسّ وطني أكيد (وإلا لأنتفى مُبرر المقاومة) لكنهم لا يتقمصون دورهم كرموز بحيث تذهب البروباغندا السياسية والأيديولوجية فيما بعد إلى إستثمارهم كتماثيل مُقدسّة خارج المسائلة والإستفسار.....والحقيقةّ!
ماتيلدا مثلاً (تلعبها سيمون سينوريه بمقدرة عالية ليست غريبة عنها) أمرأة صلبة، قاسية، ذات مراس لا ينكسر. تقوم بدورها المُقاوم بتفاني وكفاءة ينحني لها زملاؤها الرجال. لكن حين يلقي الألمان القبض عليها ويضعوها أمام خيار قاسي دون تعذيب ودون إذلال فإن خيارها يُصبح إنسانياً، ضعيفاً ولو حَملَ في نتائجه كارثة على زملاؤها المقاومين.
يُغلّف ملفيل فيلمه بمناخ من القنوط. فنادراً ما نرى الشمس تسطع، ويسود الألوان طيف من الرمادي الأزرق الذي يُضفي برودة وحيادية تُمعن في تحديد فردية الشخصيات. كما أن العديد من مشاهد الفيلم يحصرها ملفيل في فراغات داخلية ضيقة ليزيد من شحنة الضيق والخوف الذي يحيط بشخصياته التي لا تجد مجالاً رحباً للمناورة أو الإنفكاك من قدرها المحكوم بالخوف والموت.
التشويق عند جان-بيير ملفيل ليس أمطار من الرصاص ومطاردات وموسيقى رخيصة تصرخ فجأة في لحظة لتثير فزع المشاهدين. ملفيل يقدّم في "جيش الظلال" درساً في بناء التشويق المُضمَر في بنية المشهد. هنا التشويق لا يأتي من ما تقوم به الشخصيات بل مما لا تقوم به. سلبية الحدث يستغلها ملفيل ببراعة للوصول إلى تأثير إيجابي عالي التشويق. مثلاً في مشهد: فيليب (لينو فنتورا ممتاز) مُـعتقل لدى الألمان. يجلس في غرفة مع شخص آخر لا يعرفه بإنتظار التحقيق. جندي واحد يحرس الباب. يتبادل الرجلان النظرات. صمت. الكاميرا تدور وتقترب من الُعتقلين الإثنين. صمت. الرجلان ممنوعان من الكلام. مرّة ثانية يتبادلان نظرات ذات مغزى لكنها أيضاً تحمل الشك بالآخر. صمت. شيء ما يدور في عقل كل منهما. صمت. يترك ملفيل لخيالنا وتوقعاتنا أن تركض مجنونة لتملأ هذا الصمت بصخب التوقع مما يدور في عقلهما في لحظة كثيفة الخوف، هل هما على موجة واحدة، وماذا سيفعلان وما هي حظوظهما في الخلاص؟ الكاميرا تدور ببطء مرّة جديدة لتنقل حوار العيون القلقة والمرعوبة من إحتمالات اللآتي بعد لحظات. صمت. ثمّ.... لن أكمل المشهد فعليك أن تشاهده لتعرف نهايته وقيمة تركيب التوتر الداخلي الذي يصنعه ملفيل ببراعة كما قلت.
اليوم، كل المُشاركين في الفيلم رحلوا وكذلك أولئك النقاد الذين أخضعوه لديكتاتورية أقلامهم.فقط بقي الفيلم. بقي وثيقة على مقدرة مُخرج يحصد التحية والتقدير والمجد بعد ثلاثين سنة على وفاته.
اليوم، يقولون أنه وبأسلوبه كان سباقاً في تحضير المناخ لقدوم "الموجة الجديدة". هي ذات الموجة التي عـَلَت وتعالت وغمرته بالنسيان، لكن إلى حين. إذا كان من الممكن التبسيط السنوات ووصف الثلاث والثلاثين سنة بإنها "إلى حين"!