ـ ــــ فيلم ريدر | السنة 8 | العدد 253 ـــــــــــ
ثلاثة مخرجين يطرحون قضايا إجتماعية شائكة
تونسي وإيراني وروسي ينتقدون عدالة غائبة
كان - محمد رُضـا
"ما يهمك أمن تونس؟. تونس الخضرا؟ غادي الإرهابيين يقتلونك إنت وأهلك… فين تصير البلاد من دون أمن؟"
هذا بعض ما يقوله المحقق للفتاة (مستخدماً باللهجة التونسية المحددة صيغة المذكر كما العادة هناك) التي تشتكي من أن رجلين قاما باغتصابها قبل ساعات. هو يحاول إثارة شعورها الوطني وهي تسأل عن العدل والقانون.
يريدها أن تتراجع عن دعواها وتتجاهل ما حدث لها وتوقع على ذلك لكي تُـريح وترتاح. لكن فيلم كوثر بن هنية «على كف عفريت» (أو «الجميلة والكلاب» كما عنوانه الفرنسي) الذي مثل تونس في قسم «نظرة ما» كما كان «إشتباك» لمحمد ديب مثل مصر في المسابقة ذاتها في العام الماضي، لا يرتاح.
اقتبست المخرجة حكاية عملها الثالث (والأفضل بعد «شلاط تونس» و«زينب تكره الثلج») من واقعة حقيقية تعرضت لها فتاة في الحادية والعشرين من عمرها عندما كانت تسير ليلاً مع صديق لها على شاطئ البحر عندما استوقفهما ثلاثة رجال شرطة. إثنان منهما تناوبا على إغتصابها في سيارة البوليس والثالث منع صديقها من الحركة.
على كف عفريت • |
الطرف الآخر من الحكاية
هذا لا نراه في الفيلم الذي رقّـمته المخرجة فصولاً من 1 إلى 9. ففي الفصل الأول، نشاهد مريم (تقوم بها مريم الفرجاني) وهو في حفلة بعدما تسللت إليها من المدرسة الخاصّـة. ترتدي فستاناً أزرق مفتوح الصدر وترقص ثم تتحدث مع شاب أسمه يوسف (غانم زريللي). عند حديثهما غير المسموع ينتهي هذا الفصل وننتقل إلى الفصل الثاني: يسيران في أحد الشوارع (والأحداث كلها تدور في رحى ليلة واحدة وتنتهي عند الفجر) وهي مهزوزة من وقع ما حدث لها وخائفة. يقنعها يوسف بأن تلجأ للشرطة وتتقدم ببلاغ، لكن عليهما أولاً الحصول على شهادة طبية تثبت فعل الإغتصاب. المستشفى الذي يدخلانه يرفض منح الشهادة من دون طلب من الشرطة.
التداول طويل نوعاً في هذا الفصل والذي يريه حول متى وكيف ستذهب مريم إلى الشرطة وإثنان من أفرادها اعتيدا عليها. في البداية تذهب ويوسف (الذي تدعي الآن أنه خطيبها) إلى أحد الأقسام والضابط هناك ينبؤنا بما سيكون حال سواه: إنه شخص مهين يسخر من الفتاة وشكواها ويتشاجر مع يوسف ولا يجدان بدا من التوجه إلى مبنى آخر للشرطة حيث ستكمن معظم مشاهد الفيلم التالية.
توفر المخرجة هنا عدة نماذج: هناك الشرطي «البلايبوي» والضابطة الحامل التي تهتم بالشكليات فقط والشرطي الخمسيناتي الذي يحاول المساعدة محشوراً بين أترابه من رجال البوليس الذين يضنون على الضحية حقها ويحاولون ابتزازها وتوجيه التهم لها كما لو أن هي التي جنت على نفسها.
عندما تجد حقيبة يدها وهاتفها في إحدي سيارات البوليس وتتعرّف على الشرطيين اللذين اغتصباها تصبح المسألة أكثر تراجيدية كون هذا سيورطها أكثر وأكثر في محاولة البوليس الدفاع عن رجاله بتخويفها من مغبة الإصرار على حقها في تقديم الشكوى.
يهم المخرجة كوثر بن هنية أن تعكس في الفيلم نظرات القسوة الموجهة إلى الضحية لما حدث لها. على عكس فيلم جوناثان كابلان «المتهمة» (1988) عندما واجهت جودي فوستر حالة مماثلة، تعمد المخرجة للوقوف تماماً لجانب مريم (في حين أن فيلم كابلان طرح أسئلة حول ما إذا كانت جنت على نفسها بسبب انفلاتها). على ذلك، هناك ما يتسرب، ربما ليس بقصد الفيلم، من موقف مماثل: فستان مريم الكاشف والقصير (قبل أن تجد ما تغطي نفسها به) وهروبها من المدرسة لتحضر الحفل مسألتان لا يمكن مبرر اخلاقي لهما. إنه كالقول أنها جلبت على نفسها ذلك. لكن «على كف عفريت» لا يترك بطلته محصورة في هذه الزاوية بل يتعاطف معها كما يوسف الذي لا حول له ولا قوّة.
والمشهد الأخير في الفيلم يعكس هذا التأييد إذ ستغادر الفتاة مركز الشرطة بعدما تدخل الشرطي الخمسيني ضد زميليه المحققين وساندها. الكاميرا في لقطة بعيدة متوسطة عليها وهي تخرج من المركز وكلها تصميم على فضح المجتمع.
ليس فيلماً بلا مشاكل. تغييب مشهد الإغتصاب كان فعلاً جيداً لأنه جعل الحقيقة تتكشف ببطء، لكن تقسيم الفيلم إلى فصول يغطي على غياب التسلسل الدرامي الطبيعي واستبداله بالقفز من فصل لآخر من دون رابط حدثي سليم.
لكن المشكلة تكمن على الطرف الآخر. تقديم الحكاية بالإصرار على المكان (تونس) يحصر الحادثة في إطار ضيق كما لو أن حوادث مشابهة لا تقع في كل مكان حول العالم. بذلك فإن الضعف كامن في قوّة المضمون والفيلم ذاته وهو إشعار المشاهد الأجنبي بـ "تونسية" الحدث ما يجعله ينسى أحداثاً (وأفلاماً غربية عديدة) دارت حول الموضوع نفسه.
تفرقة طائفية
قبل «على كف عفريت» بساعات، وفي مسابقة «نظرة ما»، تم عرض فيلم إيراني للمخرج محمد رسولوف عنوانه «رجل كبرياء» (أو «ليرد» كما عنوان آخر له) وهو يحمل الهوية الإيرانية لكن هناك ما يوحي بأن لمسات ما بعد الإنتاج جميعاً خضعت لمعالجات تقنية فرنسية.
• Man of Integrity |
محمد رسولوف حذر من أن ينتقد مباشرة ويكتفي بالإيحاء. ربما لأنه أمضى في السجن الإيراني عقوبة لأربع سنوات (تفصل بين فيلمه هذا وفيلم السابق «المخطوطات لا يمكن حرقها) ولا يود العودة إلى السجن مرّة ثانية. على ذلك فإن هذا الإيحاء متواصل التواجد وكاف ليوصم المجتمع الإيراني بالتفكك والإنهيار تحت وقع المتطلبات الإنسانية غير المحقة والعدالة التي يقف القانون غير قادر على فرضه.
بطل الفيلم رضا (رضا أخلاغيراد) مزارع سمك. يملك بيتاً خارج طهران ويعيش مع زوجه (صدابة بيزائي). ربّـى في برك واسعة أسماكه ليعيش على تجارتها بينما تعمل زوجته مدرسة في البلدة القريبة. يبدأ رضا بالعثور على سمك ميّـت بين أسماكه. في أحد المشاهد المبكرة في الفيلم ذي الساعتين تقريباً) يستيقظ صباحاً على صياح زوجته المريع. يركض خارجاً ليجدها تقرع على طنجرة نحاسية لطرد عشرات العقبان السود التي كانت أخذت تقتات على الأسماك. يشارك القرع ثم يلتفت إلى بركته ليجد أن كل أسماكه (بالمئات) تطفو ميتة.
السبب هو قطع الماء عن مجري النهر الذي يملأ منه رضا بركه. ينطلق إلى أعلى المجرد ليجد أن جاره عباس قد أنشأ سداً ومنع الماء. حال يبدأ بفتح الماء من جديد يُـلقى القبض عليه.
هناك تغييب مماثل لما حدث لرضا في السجن (كتغييب كوثر هنية لما حدث لبطلته في مطلع تلك الليلة) لكن الأمور تتضح فيما بعد. كان عبّـاس رفع قضية على رضا يدعي فيها أنه كسر يده وتزوّد بشهادة طبية مزوّرة. في الوقت ذاته لم يعد رضا قادراً على تلبية إحتياجاته المادية. لقد فقد سمكه وباع سيارة زوجته ولديه قرض من البنك لا يستطيع ردّه.
هنا يركّـز المخرج على تداعي المجتمع في صورته الكبيرة: الطبيب فاسد، البوليس لا يكترث، جاره قوي يدمن الحشيش ويتاجر بها. والجميع يقبل الرشوة بلا تردد.
خلال هذا المضمون هناك مشدين لافتين يزج بهما المخرج مخاطراً بأن يُـزج به في السجن من جديد. أولهما توسل أم لفتاة صغيرة ستطرد من المدرسة لأنها ليست شيعية والثاني لمشهد موت إمرأة جاء الإسعاف لأخذها وسط حشد قليل من الكثالى. لكن المراسم وطريقة الندب غير شيعية، فهل المقصود هي التفرقة الطائفية التي يُـعامل بها غير الشيعة؟ هل الفتاة الصغيرة وأمها ومشهد ما قبل الدفن من السُـنة؟ لا يحدد المخرج (ولا يستطيع التحديد) تماماً، لكنه يزوّد المشهد الثاني بعبارة تفي بأنه ممنوع على الشخص المتوفي الدفن في مقابر الشيعة ما يؤكد بعض ما يذهب إليه الفيلم.
إنه فيلم جريء بطله الإنسان الرافض لعبث مستديم في الأخلاق والمبادئ. رجل يلحظ ما يدور معه وما يدور حوله ويواجه زوجته بأنها «قضية كفاح»، كما يقول. هذا قبل أن ينتصر الشر الكامن في شخص عباس والمعنيين الآخرين ويتم حرق المنزل الذي رفض رضا بيعه.
عدالة غائبة
ضمن هذا التيار المتجدد على شاشة المهرجان الحالي، ينضم فيلم «بلا حب» (Loveless) للمخرج الروسي أندريه زفيغنتسف. الأول له منذ أن حقق، قبل ثلاث سنوات، «لفياثان»، والذي هو أول ما عرض من أفلام المسابقة مباشرة بعد فيلم الإفتتاح الباهت «أشباح إسماعيل».
• Loveless |
يبدأ الفيلم، بعد مشاهد للطبيعة المحيطة بالحكاية التي سنتابعها، بالصبي أليكسي (ماتفي نوفيكوف) الذي يخرج مع اترابه من المدرسة وقت الإنصراف وينطلق مشياً للعودة إلى البيت. طريقه تمر بغابة وبحيرة قبل أن تنتهي عند المبنى حيث يعيش ووالديه. الأب (أليكسي روزين) موظف في مؤسسة والزوجة (ماريانا سبيفاك) تملك صالون تجميل. وهما على بعد يسير من فض الزيجة والطلاق رسمياً بعد أشهر من الإنفصال، لكن هذا لا يمنع قيام خناقة عاصفة بينهما يسمعها الصبي باكياً ثم يهب هارباً من البيت.
كل من الأب والأم يعيش الآن مع حبيب جديد: هو مع ماشا (مارينا فاسيليفا) الحبلى منه، وهي مع رجل ثري أسمه أنطون (أندريس كايش). وبعد هذا التقديم الذكي للشخصيات ومكامن المشاكل التي ستعصف بهما قريباً، تكتشف الأم اختفاء إبنهما ويهب الأب ليكون حاضراً في هذه المعضلة. لكن على عكس أفلام كثيرة سابقة (غالبها أميركي) لا يوظف الفيلم مشاهده لكي يؤدي هذا الحدث بالزوجين إلى مصالحة مدركين خطأهما تحت وقع المأساة، بل سيستمر في تصوير النزاع القائم بينهما وينتقل، لاحقاً، إلى فصل كامل يضطر فيه كل منهما للعيش مع شريك حياته الجديد بعد سنوات من إختفاء إبنهما من دون أن يعثرا عليه.
زفيغنتسف لا يخفي، عادة، نظرته المدينة للمرأة. هي هناك في فيلمه الأول «العودة» (2003) وفي أفلامه بعد ذلك: «المنفى» (2007) و«إلينا» (2011 ولو على نطاق محدود) و«ليفياثان» (2013). هنا يصوّر المخرج الزوجة لاهية ويوصم تصرفاتها بالأنانية ويطلق، حتى من خلال كلماتها، ما يجعلنا ندرك أنها ليست على صواب في معظم ما تذهب إليه.
يستطيع المرء منا أن يلحظ أن المخرج في نهاية المطاف إنما يتحدث، مرّة أخرى، عن زواج متصدّع ينهار أمامنا. هناك بفعل خيانة ما، في فيلم ثان بفعل ضعف قرار وهنا في صورة إمرأة أنانية لا تقبل أن تستمع إلى المنطق.
لكن هذا ما يبنى لزفيغنتسف العالم الذي يزداد منه. بعد إدانة الوضع القائم في زيجات أفلامه يومي إلى إشراك القانون في التقاعس منتقداً عدم رغبته توفير الوقت والدعم الكامل للبحث عن الطفل الذي ربما يكون سقط في الماء أو تم خطفه. هذا البحث في العلاقات الزوجية وغير العاطفية قريب من بحث برغمن وأنطونيوني وسواهما، لكن أسلوب زفيغنتسف قائم على رقة في النواحي البصرية ترفع من جماليات الفيلم بمقدار كبير.
ما يجمع بين هذا الفيلم وسابقيه هو الإشارة إلى عدالة غائبة، بدرجات، في هياكل إجتماعية متباعدة. لكن في حين أنه من المتاح تونسياً وروسياً هذا القدر من حرية التعبير، فإن الأمر أصعب منالاً بالنسبة لفيلم إيراني. لكن رسولوف فعل ذلك بنبرة أعلى من زميله أصغر فرهادي مع أن الفيلم يتبع هذا النسق من الطروحات الإجتماعية.