أفلام اليوم                                           

Okja 
إخراج: 
Bong Jon-Ho 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد رُضــا
★★★


 بالنسبة للبعض، فإن «أوكجا» (أو «أوكيا» في بعض أوروبا)، فيلم ترفيهي كبير جرى إنتاجه من قِـبل شركة نتفلكس التي وجهته للعرض في مهرجان «كان» الماضي ما أحدث ارتباكاً كبيراً لجميع المعنيين عندما انتقدت نقابة أصحاب الصالات المهرجان الشهير لقبوله فيلماً لم يحدد له موعد عرض في صالات السينما الفرنسية ولن يعرض فيها مستقبلاً.
هذا الإعتبار صحيح وكال ما يرد فيه كذلك. لأن الفيلم بالفعل أحدث ضجة كبيرة، كما سبق لهذا الناقد أن ذكر في إحدى رسائله من هناك، وعرف قدراً كبيراً من السمعة السيئة حتى من قبل أن يعرض على المشاهدين.
لكن الحال تغير بعدما عُـرض. أولئك الذين لا يحكمون على الأمور على نحو من أنتج ولماذا وكيف سُـمح به أو لم يسمح وجدوا فيه، عموماً، مادّة غير مشاعة لفيلم فانتازي حول فتاة صغيرة وخنزير ضخم (وضخم جداً). شركة «نتفلكس» المنتجة التي تتعامل والعروض غير المخصصة لصالات السينما والمنافسة الأولى لشركة «أمازون» الضخمة، انتجت هذا الفيلم بميزانية تقدر (كون أحد لم يفصح تحديداً عن الرقم الصحيح) بخمسين مليون دولار. وإليه جلبت المخرج الكوري جون-هو بونغ ليمارس  فيه طرح رؤيته للموضوع كونه كتب القصّـة الأساسية والسيناريو، قبل أن يقوم بإعادة الكتابة ضمن شروط المخرج جون رونسون لأمركة الفيلم. ورونسون هو كاتب سيناريوهات خمسة من قبل أشهرها «الرجل الذي حدّق بالماعز»، ذاك الذي انتجه وقام ببطولته سنة 2009 جورج كلوني.

جينيات
«أوكجا» فيلم فانتازي غير مُـشاع بمعنى أنه لو أسند لمخرج أميركي أمر تحقيقه لجاء مختلفاً وإن ليس بالضرورة أفضل أو أسوأ. المادة المثارة هنا مندمجة بثقافة المخرج وملاحظاته الخاصة وبثراء العناصر المكوّنة لكل مشهد. ستيفن سبيلبرغ كان سيصنع فيلماً مختلفاً من النص ذاته. كذلك جو جونستون جومانجي»)، غارث إدواردز غودزيللا») والآخرون.
هناك طرح مهم في «أوكجا» قد يفوت المشاهد وحتى المخرج الآخر فيما لو تصدّى له: كيف نمارس عاطفتنا على بعض الحيوانات ونأكل بعضها الآخر؟
الرجل ذاته الذي يربي كلباً أو المرأة التي تفضل القطّـة،  أو أي شخص آخر مشدوه لفكرة تربية حيوان أليف من أي نوع ومنحه البيت الآمن ليعيش فيه، هو ذاته- اللهم إذا كان لا يأكل اللحم مطلقاً- هو من يضع على طاولة العشاء دجاجاً أو لحماً بقرياً. معظمنا لا يفكر في ذلك، لكن جون- هو بونغ يفكر في ذلك (أقرأ المقابلة معه أدناه). الفكرة هنا هي أن الإنسان لا يستخدم كل مداركه حين يقوم بالشيء وعكسه تحت أي مبرر. هل البقرة أقل إثارة للعطف من الكلب أو ألا يعاني الحمل مصيراً أكثر بؤساً من الكلاب التي تعيش في كنف الإنسان؟


في مطلع الفيلم إثارة لموضوع آخر قريب ومنفصل معاً: تيلدا سوينتون تصعد منصّـة تحيط بها جماهير حافلة (تذكرك بمنصات المرشحين لرئاسة البيت الأبيض وقت الإنتخابات) وتخطب طويلاً ذاكرة أن العالم فيه من الجياع ما لا يحصى وسيكون هناك جياعاً أكثر مع فقدان مصادر الغذاء. لهذا السبب فإن مؤسستها ملتزمة بالبحث عن حلول مثل "صنع" حيوانات أليفة كبيرة الحجم لدرجة أن الواحد منها سيساوي عشرين أو أكثر من الخنازير الأخرى. وأن هناك مسابقة في هذا الصدد والرابح (أو الرابحة) بجوائز مالية عالية. 
نقفز من أميركا إلى كوريا الجنوبية (تم افتتاح الفيلم سينمائياً هذا الأسبوع). هناك في قرية جبلية عالية. هناك فتاة في الرابعة عشر من عمرها أسمها ميا (آن سيو هيون) تعيش مع جدها في مزرعته ولديها خنزير من تلك التي قامت المؤسسة الأميركية بتوفير الجينيات الخاصّـة بها لكي تكبر وتنتفخ ويثقل وزنها. أوكجا، وهو إسم هذا الحيوان، ليس خنزيراً فحسب بل يداخل جينياته عناصر حيوانية أخرى لذلك يبدو طيّـعاً مثل كلب أليف ويحمل مظهر جاموس أو فرس بحر. 
ما لم تحسبه المؤسسة هو الرابط العاطفي الكبير المتبادل بين هذا الحيوان وبين الفتاة التي تربيه. هو صديقها الوحيد وهي ملاذه اليتيم من عالم هو وحيد فيه. هذه العلاقة تقطعها المؤسسة النيويوركية أو هكذا يخيّـل لها عندما تختطف أوكجا لتنقله إلى نيويورك. ميا لا تستطيع قبول ذلك ولا الحيوان يبدو سعيداً بدونها. وما يلي مباشرة فصل مبهر من المطاردات يحتوي على مشهد يدخل أوكجا وميا فيه محلاً للعب الأولاد كما مطاردة في نفق للسيارات قبل أن  تدخل جمعية الرأفة بالحيوان لتساعد ميا (كما يتبدّى في البداية) استعادة حيوانها المحبوس في شاحنة كبيرة. 

مضامين مضادة
لكن الجمعية لها «أجندتها» الخاصة التي لا ترضى عنها ميا على أي حال وفي كل ما سبق من حالات، وهنا على وجه التحديد، يقوم المخرج برسم ملامح ساخرة على ازدواجية الحياة التي نعيشها: العلم مفيد ومضر، الإعلام يوحي بعكس ما هو واقع، الجمعيات المفترض بها أن تعمل لصالح العناية بالحيوانات لديها برنامجها الخاص. هذا كله لجانب ما يتبدّى منذ البداية حول ازدواجية السلوك الفردي حيال الحيوان بصفة عامّــة.
المؤسسات مدانة هنا لخلو مساعيها من الفائدة العامّـة واستثمار أعمالها لخدمة القائمين عليها ولجني الأرباح. لعدم اكتراثها لأي مبادئ أخلاقية تقف في مواجهة المنافع الذاتية. المخرج بونغ يفرّغ العالم الذي بين يديه من الأخلاقيات ويحصر ما تبقّـى منها في بطلته ميا التي لا هدف لها  سوى إنقاذه والإحتفاظ به.
الناحية الإنسانية ملحوظة ومشروطة. ميا هي الإنسان (داخلنا ربما) والعالم الخارجي هو الفعل المادي السائد. وبونغ يعالجه بنقد محسوس وإن ليس موجعاً خشية تحويل عمله إلى دراسة وعظية.
بونغ لا يمكن له أن يكون قاطعاً في مبادئه. لا أحد يستطيع. حتى شعراء السينما من أنطونيوني إلى كوروساوا وصولاً إلى تاركوڤسكي كان لابد لهم من التعامل مع الجوانب المرفوضة  للحياة النظامية التي ينتقدونها. تفجير مايكلأنجلو أنطونيوني للبيت الكبير الذي يرمز إلى الرأسمالية الأميركية في نهاية «زابريسكي بوينت» (1970) هو مثل مرثاة العالم المنتهي عند «درسو أوزالا» (1975) أو المآسي الواردة في ترجمته لرائعة شكسبير «الملك لير» (1985). كذلك تلتقي مع الحريق الذي يلتهم البيت الكبير في فيلم أندريه تاركوڤسكي «تضحية» (1986) تعبيراً عن مستقبل مخيف كنا سمعنا احتمالاته النووية خلال الفيلم.
بونغ، كهؤلاء وسواهم، يحتاجون إلى المؤسسات ذاتها التي ينتقدون وجودها ممثلة في شركات الإنتاج والتوزيع التي ستتعامل مع المشاريع، حتى الإنتقادية، على أساس أن توليفة تجارية في المقام الأول. 


لا بأس بذلك إذا كانت الغاية لدى المخرجين، في نهاية المطاف، هو شيوع العمل علماً بأن وسائط العروض اليوم تختلف عما كان سائداً في كل سنوات القرن الماضي أو معظمها. في البداية تم الإستثمار في أسطوانات أفلام تدار بالليزر وبأشرطة فيديو قابلة للعطب السريع. ثم دخلت الأسطوانات الصغيرة على الخط مباشرة قبل إنتشار الإنتاجات المتوجهة مباشرة عبر الأثير إلى أجهزة الإنترنت كما حال «أوكجا» وسواه.
ومن اللافت هنا المقارنة بين اختلاف وسائل الإستفادة من تقنيات اليوم تبعاً لمن يسعى فعلياً للحفاظ على الإرث السينمائي أكثر من سواه. ففي أيامنا هذه يتم إطلاق الفيلم على اسطوانات بعد 3 أشهر من إطلاقه في صالات السينما، أي قبل أن يبرد الإهتمام به ويتكلف الموزع ضعف ما سيتكلفه من ميزانية الدعاية لو تركه لمدة أطول. 
هذا في الولايات المتحدة، أما في فرنسا فإن القانون يفرض مرور 3 سنوات ما بين عرض الفيلم في الصالات وبين توفيره على الفيديو. خلالها يكون الفيلم قد شبع عروضاً وجسد التعامل مع السينما كفن وكثقافة وكترفيه منفصلة عن الغايات الأخرى وقبل أن يتحوّل إلى علبة تفتحها وتعرض ما فيها. 

رعاية
ضمن هذا، يجد مخرج اليوم نفسه مداناً إذا ما ساهم في إنجاح العروض البديلة ومداناً إذا لم يستثمرها في سبيل تحقيق فيلم مختلف يرضي به نزعته الإنتقادية. 
لكن «أوكجا» ليس مجرد معضلة أخلاقية. بل فيه من التحديات الفنية ما يمكن الكتابة عنه في صفحات. أخرج بونغ 14 فيلماً حتى الآن وتقدم من كل فيلم إلى آخر صعوداً خطوة خطوة. أحد أفضل أفلامه «أم» وأحد أكثر أفلامه رواجا «سنوبيرس». الأول حققه سنة 2009 والثاني 2013 وفي كليهما رسالات اجتماعية وقدر من المعالجة الفنية التي تحفظ للنص قيمته. «أوكجا» هو الفيلم الثاني له الذي يتعامل فيه مع شخصية أنثوية في المقام الأول. لا يعني ذلك أن المرأة في باقي أفلامه كانت غائبة أو ثانوية، بل يعني أنه وجد في ملامح الممثلة هاي-جا كيم في «أم» وفي ملامح الفتاة الشابة سيو-هيان آن، بطلة «أوكجا» ما يجعله يتعلق بقدرة كل من الممثلتين توفير  ترجمة تعبيرية على وجهيهما لما يتفاعل في داخلهما. 
هذا بالغ الضرورة في كلا الفيلمين لأنه من الصعب حث المشاهد على التفاعل تأييداً لهما (لكل منهما هدفاً لا يمكن التنازل عنه) من دون أن تخلق تعابير الوجه ما يستدعي التعاطف. لذلك، وعلى عكس معالجات بونغ لنساء أخريات في أفلامه) هناك تخصيص للقطات قريبة وقريبة متوسطة لكل من بطلتيه.
لجانب ذلك، يأتي هذا الفيلم مصحوباً برعاية فنية ملحوظة من مصدرين: مدير التصوير الفرنسي داروش كوندجي وفن تصميم وتحريك المؤثرات الخاصة التي أشرف عليها إريك-جان دي بووَر الذي اشتغل على أفلام لترنس مالك سفر في الزمن: رحلة حياة») ولأنغ لي حياة باي») وهو الذي بدأ العمل كمصمم كومبيوتر غرافيكس على فيلم أنطوني مانغيلا «المريض الإنكليزي».
يتعرض الفيلم لهزات مصدرها الإنتقال من نوع لآخر لفترة قصيرة. هو فانتازيا ثم تشويق ثم أكشن ومغامرة ثم فانتازيا مرّة أخرى. على ذلك، تنتصر، في نهاية الفيلم الرسالة كما الفن الذي يحويها. الفتاة تمضي مع أوكجا بعدما انقذته من مصير (شبيه نظرياً بمصير كينغ كونغ) لكن هناك مئات الخنازير المعدة للإعدام لإطعام آكليها. بونغ يعرف أنه لن يغيّـر العالم، وأن فيلمه مهما انتشر قد يؤثر في حزمة من البشر، لكن عليه توفير رسالته هذه لأن الرسالة وليس النتيجة هي ما يهم.



2000: Barking Dogs Never Bite         ---
2003: Memories of Murderer          ---
2006: The Host ★★★
2008: Tokyo ---
2009: Mother   ★★★
2013: Mother   ★★★


_______________________________________________________
©
كل الحقوق محفوظة للمؤلف بحكم قانون الملكية البريطانية
2008-2017
All rights are reserved by Mohammed Rouda
_______________________________________________________



0 comments: