Paterson | Fallen Stars



       فيلمان أميركيان مستقلان                                           
ميسر المسكي 

باترسون | Paterson              ★★★★
شُـهُـب   | Fallen Stars            ★★★


في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، كان أمراً مألوفاً، بل ومتوقعاً، أن يأتي مخرج شاب (أو مُـخضرم) بفيلم من خارج السياق. ففي تلك السنوات المُضطربة والمُفـعَـمَـة بروح التغيير، كان تحطيم السياق هو أحد أسباب إنتفاضة الشباب، من الجامعة إلى الشارع. لكن حين أستعادَت المؤسسة السلطوية، بكل أشكالها وتجلياتها، عادَ السياق العام ليحكم مفاهيم التذوق والتعبير والإنتاج. وهوليوود بأستوديوهاتها الكبرى عادت لتتحَكَم بالدور الثقافي للفيلم الأميركي وشكله الفني. ومع الوقت أصبَحَ مجرّد أن يأتي مُـخرج ما بفيلم "مختلف" جيد هو مدعاة للتحية وأمراً مُـنعشاً للعين والعقل.
في "باترسون" و "شُـهُـبْ" يصنع جيم جارموش وبرايان جيت فيلمين من خارج السياق العام للمُـنـتَجْ الهوليوودي السائد. طبعاً جارموش وجيت يختلفان في القيمة كمُـخرجين تماماً كأختلاف القيمة بين فيلميهما. لكن اللافت أن العملين يتناولان بلغة  تأملية هادئة حالة شخصياتهما في رتابة أيامها وتكرار أحداثها فيما السؤال الكبير المُعَلّق فوق رؤوسها (ورؤوسنا) عن معنى الأشياء وقيمتها في الحياة.


باترسون

يأخذ جارموش الشعر المُعاصر مَدخلاً إلى سيرة شخصيته الرئيسة في الفيلم، باترسون (يؤديه آدم داريفر ببراعة). ففي مقابلة مع مجلة تايم يقول جارموش أنه زار مدينة باترسون (نفس أسم الشخصية الأساسية في الفيلم) قبل خمس وعشرين عاماً ولفته بحدة ذلك التنوع العرقي الصارخ والواقع المتدهور لمدينة كانت يوماً عاصمة صناعة النسيج في أميركا وواعدة بأن تكون يوتوبيا المدن الصناعية في القرن التاسع عشر. كَـتَـبَ يومها جارموش معالجة سينمائية من صفحة واحدة عن رجل يرمز للمدينة، مُـستنداً إلى شعر أحد أشهر شعراء باترسون، الدكتور وليم كارلوس وليامز. بقيت المعالجة عقوداً في الدرج إلى أنعَادَ إليها جارموش أخيراً الأن ليحولها إلى فيلم جميل، ساحر.
يبدأ الفيلم بقصيدة تتحدث عن نوع من أعواد الكبريت. هذا الشعر الذي يلتقط أشياء الحياة اليومية المُطلقة في عاديتها وعدم أستثنائيتها ويصنع منها فناً، هو ما كان يدعو إليه بعض سورياليّ بداية القرن العشرين والذين طالما أكدوا أن هناك "سحراً" في كل أشياء الحياة العادية حولنا وما علينا إلا أن نفتح أعيننا لنرى ذلك السحر. وجارموش حقاً يفتح عينيه (وعيوننا) على دهشة عادية الأشياء. تلتقط كاميرا جارموش (التصوير لفريدريك إلمز الذي سبق وتعامل مع جارموش في "قهوة وسجائر" وكذلك مع المُخرج المُتفرد الأخر ديفيد لينش في "مخمل أزرق") زوايا من مدينة باترسون حين تتابع تكرار ذهاب وعودة باترسون إلى عمله في محطة الباصات الرئيسية في المدينة. في تلك الزوايا يفوح عبق النوستالجيا المُرهقة بالواقع التعس لحال الأبنية وقفر الشوارع: "لم أحاول أن أضفي لمسة رومانسية على الإنحطاط." يقول جارموش. لكن مع ذلك أنت لا تستطيع أن تفلت من ذلك الإحساس بالأسى الذي يسكنك حين ترى تلك الأبنية التي شهدت عزّاً في الماضي واليوم هي تكافح لكي لا تسقط. ربما هذه واحدة من سحر الأشياء "العادية" حولنا


يعالج جارموش اسبوعاً من حياة باترسون، سائق الباص، بأكثر قدر ممكن من الوفاء لفكرة تجريد المعالجة من أي خيال رومانسي أو فانتازيا. هذا الوفاء قد يبلغ حَـدّ التقشف أحياناً. فالغوص في "عادية" حياة باترسون يقود جارموش إلى تكرار المشاهد. فالرجل يصحو حوالي السادسة والنصف كل صباح ليسمع من زوجته التي لا تزال تتشبث بأهداب النعاس (تؤديها بجودة الإيرانية غولشيفيت فرحاني) نتفاً من أحلام غريبة راودتها. ثم يتناول إفطاره ويقطع نفس الطريق نحو محطة الباص ليقود باص النقل الداخلي في ورديّة من ثمان ساعات. ربما التنوع الوحيد في يومياته هي نتف الحديث الذي يسمعه من أحاديث الركاب التي يتبادلونها في الدقائق القليلة التي يمضونها على الباص. مساء باترسون له روتينه كما صباحه. هناك البار والإستماع لقصص الرواد المتراوحة بين حب مرفوض ومال مُختَلَس.
مساحة الخيال والفانتازيا الوحيدة التي يتيحها جارموش، هي في طموحات وأحلام زوجة باترسون الراغبة يوماً أن تُصبح مُـغنية كاونتري شهيرة، ويوماً فنانة تشكيلية وهي في النهاية تنجح فقط في بيع كل الحلوى التي صنعتها في سوق المزارعين فتطير فرحاً لحفنة من الدولارات.
"باترسون" هو عن الشعر المُستتر في أيامنا. عن حياة قد لا يحدث فيها شيء، لكنها بحدّ ذاتها هي كل الأشياء. عن خيال يصنع عالمه من أشياء يومه المرمية في كل مكان بلا جدوى إلا لو شئنا أن نستلهم منها إبداعاً نبقيه لذاتنا ربما وليس بهدف الشهرة والمال. باترسون المدينة هنا وفي هذه الحال يبدو معنى أختيارها عميقاً في رمزيته ودلالته


شُـهُـب

في "شُـهُـبْ" لبريان جيت أيضاً تعيش الشخصيتين الرئيستين في رتابة وروتين أيامهما لكن مع فارق هام، فهنا الشخصيات إما فقَدَت قدرتها على التواصل الاجتماعي، أو هي فشلت في العثور على معنى للحياة الرتيبة التي تعيشها. من هنا تبدو الشخصيتان وكأن فيهما، ومن بعيد، ملامح للشخصيات الـ "ساغانيّة" (نسبة للكاتبة الفرنسية الراحلة فرانسوا ساغان) التي غالباً ما كانت الكاتبة تضعها في محنة وجودية تتجلى بمواجهتها لعقم بحثها عن معنى العلاقات الإنسانية وشروطها.
"كوبر" (يلعبه رايان أونان بهدوء وإتزان لافتين) شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، يعمل بارمان في حَيّ تقطنه غالبية من الشرق أسيويين، في لوس أنجلس. لعشرة سنوات كوبر يعمل بارمان ولإنه توقف عن العَدّ من سنوات فهو يتفاجئ بقالب الحلوى الصغير الذي يحضره أحدّ الرواد المواظبين على البار إحتفالاً بالمناسبة الصغيرة هذه. المناسبة تضعه أمام سؤال كبير "ماذا أفعل بحياتي؟". السؤال يفزعه ويرميه على علاقات عابرة مع نساء لا يتذكرن أسمه صباح اليوم التالي ولا هو يعود يلتقيهنّ. الظروف تجعله ياتقي (ديزي كارز) شابة تبدو أقل من عادية لكنه يشعر بإنجذاب إليها. ما سيتبع هو حكاية شخصين تعذبهما دواخلهما بما فيها من خوف من الأتي والوحدة والتقدم في العمر وعبث الوجود فيستحيل التواصل بينهما.
برايان جيت أيضاً (كما جارموش في "باترسون") يحيل الرتابة إلى لغة تتكرر فيها أفعال الشخصيات يوم بعد آخر. كاميراه تقترب برهافة من وجوه شخصياته لتلتقط الدمعة المُحتبسة في العين كما الإضطراب الداخلي والقلق.
براين جيت يأخذ وقته في سرد الحكاية، كاميراه تتابع شخصياته بأناة وصبر تلتقط تفاصيل صغيرة بالـ "كلوس-أب" لتضيف على معنى الحالة وتعبيرها.


الشاب ريان أونان في الدور الرئيس يعرف كيف يُبقي أداؤه الهادئ تحت سقف مُحدد من الإنفعالات يتلائم مع حالة الإحباط والعَدَم التي تعيشها الشخصية. وحين تقترب الكاميرا من ملامحه يبدو مُدهشاً فيما تقوله عيناه
لا حَـدَثْ في "شُهُبْ" كما لا حَدَثْ في "باترسون". وأقصد هنا بالحَـدَثْ ذلك الإصرار الهوليوودي على حشو أو إفتعال الرواية لخلق التوتر وإستدراج المُتفرج للمتابعة. الحكايتان لدى جارموش وجيت هما حكاية عادية الأيام، تكرارها، والكمية الهائلة من الأفكار والهواجس التي تدور في رؤوسنا دون الحاجة لمؤثر خارجي بهدف جعل الحكاية أكثر "إثارة وتشويقاً".

من هنا ربما ومن باب المُقارنة العابرة بين أفلام السياق العام وتلك الغير مُـنتمية له. فقد حَـقَـقَ الممثل كريس إيفانز  فيلماً بعنوان "قبل أن نذهب" (إيفانز يُخرج، يُـمثلّ ويُنتج). هو أيضاً عن رجل وأمرأة يلتقيان لليلة واحدة في نيويورك ويبوحان لبعضهما بما يؤرقهما. الفيلم لطيف، سهل، مصنوع بأناقة لكن دون جرأة ولا خيال. فيلم يروي الحكاية ويثرثر دون أن يتأمل. لذلك يحشر إيفانز أحداثاً في ليلة واحدة لا تحدث عادةً مع المرء في عدّة أعوام. الهدف هو جعل الفيلم أكثر تشويقاً ...وإفتعالاً!
لكن لمن يبحث عن فيلم عواطف ناعم (لا يبقى منه ذكر فور إنتهائه) لسهرة مع صديقة، فـ "قبل أن نذهب" قد يحقق الغَرَض.


_______________________________________________________
©
كل الحقوق محفوظة للمؤلف بحكم قانون الملكية البريطانية
All rights are reserved by Mohammed Rouda
_______________________________________________________



0 comments: