Classics: Solaris- Tarkovsky |New Film: The Losers

Year 2 | Issue 63


The Losers (2010) *1/2
الخاسرون
Film # 67 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رجال بعقول أولاد في لعبة خاسرة

 يكتشف رجال الفيلم الخمسة الذين يشكّلون فريقاً يقوم بالمهام الصعبة التي يطلبها منه رئيس ما في الإستخبارات الأميركية أسمه ماكس (جاسون باتريك)، أن العملية التي يقومون بتنفيذها، وجزء منها رصد وجزء آخر قتل، ستؤدي الى مقتل عشرات الأطفال الذين وصلوا فجأة (!) الى معقل رئيس عصابة مخدرات يعمل في بعض جبال بوليفيا. لا أدري إذا ما كانت المدرسة القريبة نظّمت رحلة تعليمية لهؤلاء من باب معرفة كيف يمكن أن تنمو لتصبح تاجر مخدّرات، ولا السيناريو يعرف أيضاً. لكن رئيس المجموعة، وأسمه كلاي (جفري دين مورغن) يطلب من القيادة عدم قصف المكان بالطائرة الحربية التي انطلقت لهذه الغاية: "هناك  أطفال"، يقول كلاي فيجيبه مستر ماكس "هل تعتقد أنني لم أكن أعلم؟"٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Cast & Credits
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكشن | مغامرات [الولايات المتحدة-  2010]٠
Sylvain White  إخراج: سيلفين وايت
 ..........................................................
Jeffrey Dean Morgan, Zoe Saldana, Chris Evans, Idris Elba, :  أدوار أولى
 Columbus Short, Oscar Jaenada, Jason Patric, Holt McCallany.
..........................................................
Peter Berg, James Vanderbilt: كتابة
Scott Kevan: تصوير (ألوان- 35 مم)٠
David Checel:  توليف (98 د)٠
John Ottman:  موسيقا
..........................................................
Kerry Foster, Akiva Goldsman, Joel Silver:  منتجون
Dark Castle/ DC Entertainment/ Weed Road Pictures. : إنتاج
Warner Bros:  توزيع 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حسناً الآن كلاي يعلم أن ماكس يعلم وماكس يعلم أن كلاي يعلم، ما الخطوة التالية؟ لدى الفريق نحو دقيقتين لاقتحام المعقل. قتل المسلّحين. البحث عن رئيس العصابة. إخراج الأولاد من المكان والإبتعاد عنه بعدما رفض ماكس تأجيل موعد قصف المقر. ماذا لو أن هناك مشكلة تعيق العملية البسيطة المذكورة؟ عليها أن تُحل خلال هاتين الدقيقتين. والمشكلة فجأة تطل: واحد من هؤلاء الأطفال مقبوض عليه من قبل ذلك الرئيس. كل ما على كلاي أن يفعله هو أن يطلق النار على الرئيس ويأخذ الولد ويضمّه الى باقي الأولاد الهارعين الى الحافلة القريبة. لا زلنا ضمن الدقيقتين. والقذيفة دمّرت البيت بعد ثوان من خروج الأولاد والفريق الخماسي من المكان وصولاً الى المنطقة الآمنة... او هذا ما اعتقده الفريق. ها هم كل الأولاد يصعدون الطائرة المروحية التي ستطير بهم الى الأمان. ها هي الطائرة تبتعد ثم .... بوم... تصاب بقذيفة. تفسير ذلك، أن ماكس اعتقد أن رجاله الخمسة هم الذين اعتلوا الطائرة وهو أراد التخلّص منهم٠
كل ذلك ونحن في مطلع الفيلم. ما سيلي هو قصّة كنت أستطيع أن أكتبها في أسبوع وأخرجها في شهر وأقبض عليها ما أصرفه في عام. وهذا ما قام به بيتر بيرغ الذي كان أخرج من قبل "المملكة" الشهير حول المخابرات الأميركية التي تصل الى المملكة السعودية بدافع مساعدة مخابراتها القضاء على خلية إرهابية. وخلفية الفيلم هنا هي أن بيرغ أراد إخراج هذا الفيلم، لكن ربما حين أدرك أن الميزانية سوف لن تسمح الا بنسخة كربون مما كان في باله، عزف عن الإخراج فتم إسناد المهمّة الى سيلفين وايت الذي أنجز من قبل بضعة أفلام صغيرة لم أشاهد أياً منها من بينها فيلم رومانسي- موسيقي (يا سلام) هو
Stomp The Yard
وهناك بعض الأثر الموسيقي والرومانسي. الأول من خلال أغاني بوب موزّعة حسب الحاجة، والرومانسية موجودة بشروط حين تدخل حياة الفريق الناجي عائشة (زو سالدانا) التي تخبر كلاي، وباقي فريقه، أنها على استعداد لمساعدتهم الوصول الى ماكس للإنتقام منهم. لماذا؟ لأنها تريدهم قتل ماكس. بعد تأسيس شروط العلاقة المهنية لا مانع من أن تستلم زمام المبادرة وتدفع بكلاي الى الفراش وتمارس معه الحب. هذا قبل أن تستغل علاقاتها التي لا نراها فإذا بها توزّع باسبورات جديدة على أعضاء الفريق وتنقلهم عائدين الى الولايات المتحدة حيث معرفة حركات ماكس وأين يتحرك وماذا يفعل ليس صعباً على الإطلاق، رغم أنها قالت أنه يحيط تحرّكاته بسريّة كبيرة٠
ونحن نراه في مشهد مفترض به أن يقع في دبي حيث يأمر مساعده فيرمي عالماً عربياً بديناً من فوق ناطحة سحاب. لاحقاً يلوم مساعده على ذلك قائلاً أنه أراد منه أن يخيفه وليس أن يقتله. لكن ماكس هذا ماكر ولا يؤتمن على أي حال. ذات مرّة، يصوّر لنا الفيلم، كان يمشي تحت مظلة شمس تحملها موظّفة شابّة لتقيه النور الساطع. تهب نسمة هواء (ربما حين شخر جاري) فتنحسر المظلّة عن رأسه لثانية. يطلب من مساعده مسدّسه و... طاخ... يقتل الموظّفة من دون أن ينظر إليها ٠
كل ذلك وسواه يمر سريعاً وخفيفاً. هذا فيلم لا يدّعي أنه يريد أن يكون أي شيء آخر سوى فيلم عابر وسخيف، لكن الصدق او عدم الإدعاء ليس حسنة مطلقة والفيلم ينتقل من موقع سخيف في البداية الى موقف أكثر سخفاً بعد قليل ويبقى هناك حتى نهايته. إسم حماس والمخابرات العسكرية الإسرائيلية يردان خلال حديث حول سعي كليهما للنيل من ماكس هذا (تصوّر حماس لديها ذات قدرات المخابرات الإسرائيلية). وهناك خلافاً كبيراً بين كلاي الذي لا يغيّر بذلته مطلقاً ولا يحلق (وربما لا يتحمم) وبين مساعده روغ (إدريس ألبا) وبعض المشاهد المبنية تباعاً على أساس هذا الخلاف. لا مفاجآت لكن بالنسبة لكثيرين لا إحباطات أيضاً٠ 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


Solaris (1972) ****
سولاريس
Film # 68
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن الإنسان والذاكرة والخيال العلمي في رائعة أندريه تاركوڤسكي

 أول ما تخرج به من "سولاريس" ، وتفعل ذلك والفيلم لا يزال في مطلعه، هو حقيقة أن الخيال العلمي في الشرق الروسي غيره في الغرب الأميركي. ومع وجود أفضل مخرج  عاش على الأرض، أندريه تاركوفسكي، فإن الإلتباس مستحيل. هذا الفيلم لا يريد زجّك الى حركة سريعة وإيقاع متلهّف وتشويق ناتج عن صدام بين أهل الأرض ومخلوقات الفضاء، بل يريدك أن تمعن فيما يعرضه وتشارك في الإنتماء الى عالم مختلف لأنه يجوز، قد يجوز، أن الصراع في الفضاء، إذا ما حدث يوماً، سوف يحدث على الطريقة التي يصف بها تاركوفسكي ذلك الصدام بكل إمعانه وتمعّنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
Cast & Credits
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 خيال علمي | فضاء  [الإتحاد السوڤييتي]٠
Andrei Tarkovsky    إخراج : أندريه تاركوڤسكي
 ..........................................................
Donagtas Banionis, Natalya Bondarchuk, Jur Jarvet:  أدوار أولى
Nikolai Grinko, Anatoli Solonitsyn
..........................................................
 Andrei Tarkovsky, Frederikh Gorenshtein  : كتابة
Stanislav Lem  المصدر
Vadim Yusov : تصوير (ألوان- 35 مم)٠
Mikhail Romadin:  تصميم مناظر
Lyudmila Feiginova, Nina Marcus:  توليف (260 د)٠
Eduard Artemyev:  موسيقا
..........................................................
Viacheslav Tarasov :  منتج
Mosfilm : إنتاج
Sovexport Film:  توزيع 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 أول ما تخرج به من "سولاريس" ، وتفعل ذلك والفيلم لا يزال في مطلعه، هو حقيقة أن الخيال العلمي في الشرق الروسي غيره في الغرب الأميركي. ومع وجود أفضل مخرج  عاش على الأرض، أندريه تاركوفسكي، فإن الإلتباس مستحيل. هذا الفيلم لا يريد زجّك الى حركة سريعة وإيقاع متلهّف وتشويق ناتج عن صدام بين أهل الأرض ومخلوقات الفضاء، بل يريدك أن تمعن فيما يعرضه وتشارك في الإنتماء الى عالم مختلف لأنه يجوز، قد يجوز، أن الصراع في الفضاء، إذا ما حدث يوماً، سوف يحدث على الطريقة التي يصف بها تاركوفسكي ذلك الصدام بكل إمعانه وتمعّنه٠
رواية  البولندي ستانيسلاف لَم (مات سنة 2006 عن 84 سنة) تمزج الخيال العلمي بالفلسفة وتمنحهما صوتاً ساخراً. "سولاريس" شكّلت قمّة نجاح الكاتب في هذا الشأن. وضعها سنة 1961 بعدما كان حقق شهرته الأدبية بعدد كبير من الأعمال ونقلتها السينما مرّتين. مرّة أولى حين اختارها أندريه تاركوڤسكي لتكون ثالث أفلامه الروائية، ومرّة أخرى حين قام ستيفن سودربيرغ، سنة 2002 بإقتباسها في فيلم أميركي (او هل اقتبسَ فيلم تاركوڤسكي؟)٠
 على الأرض، نتعرّف على العالم النفسي كريس (دوناتاس بانيونيس)  وسط حديقة منزل والده (نيكولاي غرينغو)  يقف ويتأمّل وينتقل الى حيث كان صغيراً يلعب. وتلتقط الكاميرا في خلال ذلك لمحات من تلك الطبيعة الوادعة. كلّما فعل تاركوڤسكي ذلك في أفلامه، كلّما تكلّمت الطبيعة كما لو كانت شخصاً. الأشجار. الهواء. المطر. النهر. كل شيء تراه يشترك على نحو لا تجده عند أي مخرج آخر ومن دون الذهاب الى مشاهد فوتوجينيكية للتعبير عن ذلك. يلتقطها لا لجمالها، ولو أنها جميلة، بل للشعور الروحي بها. يضع هنا بطله وسطها ويسكب عليه سكينة مبعثها الأرض والسماء والمخلوقات.  تاركوڤسكي لم يكن روحانياً فقط، بل كان مؤمنا (وهو درس القرآن الكريم قبيل امتهانه السينما) ولو أني أذكر ذلك من باب المعلومات ولتأكيد مداركه الروحانية)٠


كريس على أهبّة الإنطلاق صوب الفضاء بعد أيام قليلة الى كوكب أسمه "سولاريس" . الكوكب كان موضع اهتمام العلماء منذ عقود، لكنه لا يزال غريباً وخاصّاً وغير مفهوم. الذين تم إرسالهم سابقاً على متنه، انهاروا نفسياً. مهمّة كريس هي معاينة الوضع بأشمله ووضع تقرير بذلك للإجابة على سؤال حول ما إذا كان على أهل الأرض الإستمرار في التعامل مع هذه القضية او إغلاق ملّفها الى الأبد٠
يصل عالم صديق أسمه هنري (فلاديسلاف  فورجتزكي) ومعه فيلم عن تقرير أعدّه بنفسه قبل سنوات وعرضه على لجنة عليا لم تؤمن باستنتاجاته وهي أن هناك طفل كبير الحجم موجود في ذلك المحيط من السحاب حول الكوكب. وكان طفل لعالم آخر اختفى ويعتقد أنه هو ذاك الذي شاهده في محيط سولاريس٠
كريس بدوره لا يصدّق التقرير (ما يُغضب صديقه) والمشهد بكامله هو وحيد المخرج الذي يعتمد فيه على عرض لفيلم داخل فيلم. أهمية ذلك هي أسلوبية. مهما كانت الدوافع او المبررات، ينتقل المشاهد من أسلوب المخرج في الفييلم الأول (تاركوفسكي هنا) الى فيلم من المفترض أن لا يحمل أسلوباً لأنه مجرد ريبورتاج إخباري (او ربما في فيلم آخر "فيلم بيتي" لهاو الخ٠٠٠) ما يشكّل فصلاً بين الفيلمين. تاركوفسكي هنا مضطر لعرض جزء من ذلك الفيلم لغايتين او ثلاثة: ترسيخ الأحداث موثّقة بصور وتجنّب استعادة موقف او تاريخ او جزء من قصّة حوارياً (لأنه لا يفعل ذلك) وتصوير جلسة علمية متشنّجة تشابه جلسات رسمية عديدة. لنسمي ذلك بنقد المخرج للفكر المتحجّر للسُلطة - أي سُلطة٠

ذاكرة الأحياء
آخر ما على الأرض موقف الوداع بين كريس ووالده. يدركان أنهما لن يلتقيا لأن رحلة كريس الى الفضاء ستستغرق سنوات٠
بعد نحو ثلث ساعة أرضية، نحن الآن على متن المحطّة الفضائية سولاريس. كريس يكتشف إهمالاً وفوضى ووفيّات مفاجئة. يتابع الفيلم معه تلك الحالات بصمت وعينا الممثل بانيونيس المستديرتين تعكسان الموقف الذي يجد كريس نفسه فيه. قلق. خشية. تساؤل. غموض. وهذا الغموض ما يقصد المخرج بعثه في أوصال المشاهدين من دون قطع سكّر تحلّي الموقف وتجعل المشاهد قادراً على التدخّل بتوقّعاته وتفسيراته صحّت او أخطأت٠
نتاليا بوندارتشوك

واحد من أكثر المشاهد إثارة للغموض هو ظهور زوجة كريس وأسمها هاري (نتاليا بوندارتشوك- لا أدري إذا ما كانت قريبة المخرج الروسي سيرغي بوندارتشوك لكن رحلتها في السينما لا زالت مستمرّة بإنقطاع وانتقلت الى الإخراج سنة  2006 بفيلم عن الكاتب بوشكين). هذا الغموض ناتج عن أن المشاهد الى ذلك المشهد استقبل من دون أن يشارك بضعة أحداث هي بدورها لم تُحل بعد. لكن جزءاً من غرابة الفيلم وجودته هو أن المخرج -الى هذه اللحظة- يريدك أن تعيش الفضاء الغامض وليس أن تتعامل معه كحكاية. هذا الوضع متوفّر في كل فيلم من أفلامه مع مشاهد مستقاة من الأفكار والخصائص النفسية لكل شخصية على حدة. هل ظهور المرأة هنا (يستيقظ كريس من نومه في قمرته الواسعة ويجدها الى جنبه) مردّه أنها لحقته؟ لا. أولاً لأنها هي متعجّبة كونها هنا وثانياً لأنها كانت قد ماتت سابقاً. مرّر خطّاً بين هذه النقاط تحصل على الجواب في كنه أن الموتى على الأرض يظهرون فوق كوكب سولاريس وقد يغزون المحطّة ذاتها. هنا تدرك الأهمية الدرامية لرفض كريس تصديق رواية صديقه هنري من أنه شاهد طفل إبن عالم آخر في ذلك الفضاء، لو قَبِل بها لما شكّل الأمر الصدمة الدرامية والذهنية التي يحويها ذلك المشهد٠


والآتي أعظم: سولاريس قادر على أن يحيي الموتى عبر التعامل مع ذاكرة الأحياء. هذا يرد خلال جلسة بين كريس والعالم فوق المركبة الفضائية د. سارتوريوس (وجه متكرر في أفلام تاركوڤسكي وممثل بالغ الموهبة أناتولي سولونتزين) يكشف عن قناعة الإثنين أن هذا هو التفسير الوحيد لعودة الموتى أحياءاً فوق سولاريس. بذلك يفتح المخرج صفحة جديدة في موضوعه أحداثها مستمدّة من الرواية لكن مفاداتها تاركوفيسكية- روحانية خاصّة به٠
لكن د. سارتوريوس يستنتج: بما أن هذه الشخصيات العائدة من الموت غير آدمية. بل من معدّلات نيوترونية ذات كميّة نووية، فإنها تشكّل خطراً على البشر في المركبة. هذا الإكتشاف وقيام كريس بإخبار هاري ماضيها (أي انتحارها فهي ليست ملمّة به) يدفعان هاري للخلاص بنفسها عن طريق الإنتحار مجدداً٠
بعد رحيلها على كريس أن يؤسس لقرار نهائي: البقاء فوق سولاريس  او العودة الى الأرض. مصلحته في البقاء تكشف عن أنه طوال الوقت ما زال بشراً أكثر منه عالماً. بكلمات أخرى: كريس لديه مشاكل حب مع محيطه . لم يقو على وفاة والدته، ولا فراق والده ولا زوجته. يدرك أن لديه فرصة للقاء الجميع إذا ما بقي فوق سولاريس. لكن ... لقطة لما يوحي بأنه عاد الى الأرض. الكلب (كنا رأيناه في مطلع الفيلم) يركض صوبه وقد عرفه. المنزل ذاته. الحديقة الغنّاء الخ٠٠٠ ووالده هناك. ثم المطر. لكن كريس يدرك أنه ليس على الأرض، بل أن كل هؤلاء موجودون معه فوق سولاريس٠
إذا ما كنت شاهدت هذا الفيلم (أيامه او لاحقاً) ولم تستطيع سبر غموضه ورموزه ولا ساعدتك نسخة ستيفن سودربيرغ على ذلك (سأتناولها في مقالة منفصلة) فإن ذلك ليس مدعاة للتعجّب. أولاً لأن من يريد أن يقرأ فيلما لتاركوڤسكي عليه أن يشاهد كل أفلامه بسبب منوالها الفكري المتواصل والمتناسق. ثانياً لأن عليه مشاهدة الفيلم الواحد أكثر من مرّة. المرّة الأولى التي شاهدت فيها هذا الفيلم (وعُرض حينها في بيروت التي كانت لغرابة الأيام تعرض ما لا تعرضه اليوم من شتّى الأفلام) كتبت مقالة مفقودة الان لكني متأكد إنها لم تقرأ الفيلم كاملاً. المشاهدتان اللاحقتان خلال السنوات الثلاث الماضية دعمتا ظنوناً وغيّرتا مداركاً كما أعادت الحياة الى فيلم لم تكن بقيت في البال سوى صور متفرّقة٠

حياة مهدورة
لم يكن هيّناً على تاركوڤسكي كتابة سيناريو هذا الفيلم حتى بمعية المؤلّف الذي رفض، ولجنة القراءات في الحزب الشيوعي، النسخة الأولى منه  التي كانت فيها نسبة الأحداث التي تقع على الأرض ثلثي فترة الفيلم (نحو ساعتين ونصف). ويُقال أن المسؤولين كانوا يبغون فيلماً يكون الجواب السينمائي على رائعة ستانلي كوبريك "أوديسا الفضاء: 2001". هذا ما حدا بالمخرج لإعادة كتابة السيناريو الذي نشاهده على الشاشة٠


رواية لَم كلها تقع في الفضاء، لكن تاركوڤسكي أقنعه والمسؤولين أن حيّزاً من الفيلم لابد أن يقع على الأرض أيضاً. كذلك فإن نيّة المخرج غلبت حين صمّم على أن يجعل محور الفيلم علاقة الإنسان بنفسه وحياته وذكرياته، في حين أن معظم رواية لَم تدور حول إخفاق الإنسان في حل الحياة فوق الكوكب البعيد والتعامل مع الحياة فوق ذلك الكوكب لقصور الإنسان ومحدودية معلوماته. هذا لا يزال موجود في الفيلم إنما بحدود ٠
تاركوڤسكي حاول ونجح هنا (ولو أنه اعتبر أن هذا الفيلم أقل أفلامه أهمية إلى ذاته) في صنع فيلم خيالي- علمي خارج الخيال- العلمي المتوقّع. وذلك عبر تحويل اهتمامه من القصّة والحدث (وهو لم يكن مخرج قصص وأحداث يوماً) الى التأمّل والمعاينة. هذه الأخيرة تفترض شروطاً لغوية أمّها المخرج من أول أفلامه ("طفولة إيفان") حتى آخرها ("التضحية"). منواله ذاك يحوّل الى فيلم الى ذات النتيجة: أي يخرجه من نطاق النوع المعيّن ("طفولة إيڤان" تقع أحداثه في الحرب لكنه ليس فيلماً حربياً. "أندريه روبلوڤ" تقع أحداثه في التاريخ لكنه ليس تاريخياً الخ....). وكما يفصح في كتابه الرائع "النحت في الزمن" فإن معالجته المُثلى للرواية، من وجهة نظره، كانت في تجاهل كل عناصر الخيال العلمي بما في ذلك المحطّة والديكور (لافتان) والإمعان في البحث الفقهي والروحاني حول الحياة والموت والذاكرة والإنسان كمحور وذلك على نحو ما حققه لاحقاً حين أقدم على إخراج خامس أفلامه "ستوكر" (المتابع) عن رواية لبوريس ستروغاتسكي وذلك سنة 1979
الى جانب تلك العناصر الوجدانية يتعامل هذا الفيلم مع الضمير على أساس أنه المرجع الأخير للحقيقة. لكن هذا الضمير مصدر عذاب إذا ما خالف الواحد مبادئه وأخلاقياته٠ شخصيات الفيلم عموماً واقعة تحت مغبّة تلك الإخفاقات في ملاقاة ضمائرها على أرض سوية٠
الى ذلك، يُضيف الفيلم الى مداركنا احتمالات لقاءاتنا (بعد الموت؟) بمن نحب في العالم الخارجي. ظهور زوجة كريس على غرابته  منعش للفكرة بأسرها. تضحيتها بنفسها (بعدما أدركت أن وجودها قد يكون خطراً على زوجها) هي قمّة في العطاء. ومع أن تاركوڤسكي لديه تحفّظات يكشف عنها في كتابه حول أفلامه، الا أن الناقد والمشاهد المدرك يستطيعان تأييد اتجاهاته المنبثّة في الفيلم. تلك الإهتمامات الإنسانية والروحية والذهنية التي لا تتوقّف. تلك المشاهد التي تكشف عن خيال يوظّفه المخرج لكي يبقى في إطار إنساني على الرغم من أن الأحداث، في ثلثي الفيلم، تقع في الفضاء٠
حين يبدأ كريس رحلته  من دون رغبة منه يعاملها كحالة علمية محضة. لكن كلما غاص فيها تعامل معها حسيّاً وذهنياً وولّدت فيه المخاوف من لقاءات غير متوقّعة بينه وبين حياته هو. كل ما لدينا فعله إذا ما شاهدنا هذا الفيلم (لأول مرّة او مرّة أخرى) هو أن نتخيّل أنفسنا في مكان كريس حتى من دون الحاجة لفانتازيا الفضاء: نحن ننتقل الى حالة من المدارك الوجدانية التي تتيح لنا النظر الى الخلف. مراجعة الذات والشعور بتراجيديا الحياة. تلك التي تتألّف من لحظات فاتتنا رغم علمنا بأن كل لحظة هي نقطة ماء في نهر مستمر. كيف يمكن لن أن ندرك أهمية اللحظة الواحدة ونهدرها الى هذا الحد؟


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2010٠

0 comments: