Scott Pilgrim vs the World | The Kids Are All Right | Letters to Father Jacob | Keaton's The General | Hitchcock's Torn Curtain | Kurowsa's Ran| بين الأفلام: مزيد من الدواسيس

YEAR 2 | ISSUE  73
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


FLASHBACK



AAN (1952) ***
مغامرات وموسيقى وحب من كلاسيكيات السينما الهندية يروي حكاية شاب وشقيقته من عائلة ملكية يخسران أملاكهما ويتحوّلان الى شحاذين في المدينة. أخرجه محبوب خان المتوفي سنة 1964 وكان واحداً من مخرجي الكلاسيكيات الهندية حتى العام 1962. العناية بالملابس والزخرفة والتصميم  الفني العام  مع رسالة اجتماعية لم تفت من شاهد الفيلم حينها ولا من سيشاهده اليوم
بين الأفلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للمجهول  والغريب والمنسي من الأفلام

الحديث عن وجود جواسيس وعملاء خونة في صفوف اللبنانيين مستعدّين لبيع الإنسان والوطن لقاء دولارات العدو ومصلحته يخوض به الآن غير جهة في الدولة وفي الإعلام ولا يحتاج مني أي تعليق. لكن لبنان، بسبب من ظروفه وطريقة حياة أبنائه المنفتحة وكيانه القائم على التجارة الحرّة وعلى الطوائف واتجاهاتها، اعتبر موطأ مثالياً للجواسيس منذ الستينات٠
تحدّثت في الأسبوع الماضي عن "24 ساعة في بيروت" وهو ليس فيلماً جاسوسياً بالمعنى الكامل للكلمة، بل يدور عن عصابة للتخريب. وكما يلاحظ الصديق عبد الله العيبان، ميكي رورك بحجم إبن خالتي عبد الرحمن  وبدانته ولا يصلح لأن يكون جاسوساً في السينما على الأقل- لكن ذلك الفيلم في مطلعه يقرر، عن حق، أن لبنان هو "البلد الوحيد الذي تستطيع أن تدخل إليه او تخرج منه أي كمية من الذهب". لم أكن أعلم ذلك حينها ولا زلت أجهل إذا ما كان البلد الوحيد المفتوحة أبوابه على الذهب والفضّة وحين أملك بعضاً من ذلك سأجرّب بنفسي. لكني تذكّرت بضعة أفلام تم تصويرها في لبنان، حيث تدور أحداثها وكلّها مجهولة اليوم. كلّها أيضاً عن بيروت كبلد نموذجي للجواسيس٠
«بيروت فخ الموت» يقول لك فيلم من بطولة العميل 505 أخرجه واحد مجهول أسمه مانفرد كولر سنة 1965 وحمل إسماً آخر هو «الشيخ لديه أربع أصابع» أيامها كانت السينما تعج بأنواع الجواسيس  (كما -نظرياً- بيروت) الذين حمّلتهم السينما أرقاماً وذلك بعد نجاح العميل 007 جيمس بوند. من باب السخرية التي اشتهر الإيطاليون بها كان هناك العميل جيمس تونت، والعميل المرح 707 ونص والعميل 777 والعميل 003 كما كان هناك هذا العميل رقم 505 في فيلم من إنتاج الماني/ ايطالي/ فرنسي وضع موسيقاه إينو موريكوني٠
فيلم آخر من الفترة ذاتها أسمه «لقاء الجواسيس في بيروت»  او
Le Spie Uccidono a Beirut 
الذي يُقال أنه سيطرح في سوق الأسطوانات قريباً تحت عنوان آخر هو
Our Man in Beirut او بالألمانية Var Man I Beirut
هل هناك أكثر من هذا؟ الفيلم يعتبر أن بيروت مكاناً طبيعياً لمؤتمر جواسيس او لحرب جواسيس. هذا الفيلم من ايطاليا أيضاً ومن إخراج ماريو دونان الذي هو إسم حركي لمخرج أسمه الأصلي لوكيانو مارتينو وسمّى نفسه أيضاً، لكي يساعد في بيع أفلام ذات طبيعة هوليوودية بمارتن هاردي ودان لوبرت- لكنه كان منتجاً ومخرجاً ناجحاً أنجز 164 فيلماً آخرها السنة الماضية بعنوان «ليندا ف«٠
هذا الفيلم، «لقاء الجواسيس في بيروت» كان من بطولة واحد أسمه رتشارد هاريسون ظهر في نحو مئة فيلم او أكثر قليلاً اشتهر في تلك الآونة قبل أن يتحوّل الى ممثل مغمور حتى مطلع القرن الحالي.
فيلم ثالث تم تصويره هناك أيضاً هو : حيثما وٌجد الجواسيس
Where the Spies Are
Casino Royale هذا من إخراج بريطاني معروف في الوسط  وليس كثيراً خارجه أسمه ڤال غَست
في العام نفسه، وقد أتيحت له فرصة التبلور الى مخرج أهم، لكنه عامل الفرص جميعاً بأسلوب عمل رديء او في أفضل حالاته مقبول٠
في العديد من هذه الأفلام وجوه لبنانية وهذا الفيلم فيه رياض غلمية ومحسن سمرائي من بين آخرين لم أعد أذكر.
ليس أن الشغل الشاغل للسينما أصبحت بيروت دون سواها. الإهتمام الغربي بالبلاد العربية وعواصمها حمل لنا في الستينات أفلام أخرى مثل «أرابيسك» لستانلي دونن، و«خرطوم» لباسيل ديردن و«بو غيست« لدوغلاس هايز. كما كان هناك فيلم بعنوان »القاهرة« أخرجه وولف ريللا، وهو مخرج بريطاني إبن ممثل مسرحي ألماني كان هاجر الى بريطانيا في منتصف الثلاثينات. لم يصب وولف شهرة عريضة لكنه كان مخلصاً في محاولة تقديم أفلام معتنى بها ومن بينها هذا الفيلم٠
إنه مستوحى من فيلم بوليسي رائع حققه جون هيوستون سنة 1950  اي ثلاثة عشر سنة قبل هذا الفيلم هو
The Asphalt Jungle. ريللا نقل الأحداث الى القاهرة حيث هناك خطّة دقيقة لسرقة جوهرة ثمينة من المتحف المصري. تتم السرقة بنجاح لكن الأمور تتعقّد حينما يحاول اللصوصالهرب بما سطوا عليه فيجدوا أن ذلك صعباً لعدة أسباب من بينها إصرار البوليس المصري على ملاحقة اللصوص المدفوعين بمحاولة الخروج من مآزقهم الخاصّة. كان فيلماً مسليّا وغير مسيء وفيه ظهور لفاتن حمامة وأحمد مظهر وشويكار وصلاح نظمي والممثل الرائع حتى ولو أطل دون أن ينطق بكلمة: صلاح منصور٠
وإذا كنت ستبحث عن هذا الفيلم على الإنترنت، انتبه الى أن هناك فيلما أجنبياً آخر عنوانه »القاهرة« أو
Cairo أنجزه الأميركي  و. س. فان دايك سنة 1942 عن مسرحية  غنائية موسيقية بنفس العنوان تتعاطى والفترة النازية. هذا الفيلم لم أره لكني لا أعتقد أن تصويره تم في القاهرة او في بيروت او في أي بلد آخر....
ثم هناك، وفي الستينات أيضاً، «معركة الجزائر» المختلف تماماً عن كل ما سبق٠
برميير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Scott Pilgrim vs. the World   | Edgar Wright  *
سكوت بيلغريم ضد العالم | إدغار رايت
الولايات المتحدة- 2010
Review n. 149
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كوميكس | الحب في القرن الواحد والعشرين يعاني من فيلم يدور حوله ولا يعرف عنه شيئاً... لكنه يكتب كلمتي "دينغ دونغ" جيّداً

أول ما تدركه وأنت تشاهد هذا الفيلم الذي يشبه من الخارج حلوى غزل البنات شكلاً، أنه مثل حلوي غزل البنات مضموناً أيضاً. إنه منفوخ ومزركش وإذا ما نظرت الى داخله وجدته فارغاً. أن تدرك ذلك وأنت تشاهد الفيلم أمر أسوأ من أن تدركه بعد مشاهدته، لأن معنى ذلك أن الزخفة والزركشة لم يمنعانك من إدراك أن الفيلم بلا صلب حقيقي وأحداثه خاوية والسيناريو يمكن تلخيصه بكلمة ونصف٠
 هذا هو ملخص ما يدور: سكوت (مايكل سيرا) شاب في الثانية والعشرين يمارس الغناء (او ما يشابهه) لده صديقة في الكلية أسمها تشو (إيلين وونغ) لكن عينه تزوغ على رومانا (ماري إليزابث ونستد). لكن الفتاة مثل حقل ألغام وحتى يكسب ودّها عليه أن يحارب وينتصر على سبعة  أشرار ما يستدعي إنتقال بطل الفيلم من مبارزة الى أخرى حتى نهاية الفيلم٠
القصّة مأخوذة عن كوميكس تحتوي على تفاصيل أكثر وأعتقد (كوني لم أقرأها) على أحداث ومفارقات أكثر فهي منشورة في سبع فصول. لكن ما يلتزم به المخرج وكاتبه (مايكل باكول) هو تلك المواطن حيث يمكن استعراض معارك بين الطرفين، الخيّر والشرير، في قالب من المؤثرات الخاصّة لزوم الدهشة هذه الأيام
كالعادة في مثل هذه الأعمال، لا يكترث الفيلم لأي شيء حقيقي، بما في ذلك الرومانسية التي قد تبرر ما الذي وجده بطل الفيلم سكوت بيلغريم خاصّاً برومانا، ولا ما تجده تشو خاصّاً بسكوت بحيث تسعى لإبقائه في حظيرتها. ولا هناك ذلك السعي لمتابعة انتقال الشخصيات من مرحلة الى أخرى لأن لا شيء في الفيلم 
Hot Fuzz يستدعي مثل هذه النقلا. المخرج الذي لديه فيلم رديء سابقا هو
Shaun of the Dead  وفيلم آخر مقبول قبله هو
يعتقد أنه يكسب رهان الجودة حين يزين الشاشة بالكلمات التي تترجم صوت اللكمات او الخبطات على اختلافها .... بانغ ... ثونغ ... وحين يرن الجرس نقرأ دينغ دونغ ....   من يدري ربما كنت تتساءل كيف يكتبون الأصوات. طبعاً اللجوء الى هذا الحل البصري ناتج عن الرغبة في جعلك تشعر بأن الفيلم مصنوع من الكوميكس. كيف ستعرف بالله عليك؟ الرداءة وحدها ليست كافية. كل هذا وأنت وسكوت لستما أصدقاءاً على خط واحد. لا تجد أنك تكترث لتأييد معاركه  ضد الآخرين. تبحث عن سبب للإهتمام إذا ما فاز برومانا او عاد الى صديقته الأولى فلا تجد.  هل هو مسل على أي حال؟ شخصياً كنت سأتسلّى أكثر لو شاهدت حلقة
باتمان التلفزيونية القديمة (من الستينات). صحيح أنها استخدمت الغرافيكس (البدائي آنذاك) لكتابة أصوات مختلفة، لكنها كانت سخيفة بالقصد. هذا سخيف من حيث أن لا حول ولا موهبة له الا أن يكون٠

CAST & CREDITS

DIRECTOR: Edgar Wright

CAST: Scott Pilgrim, Mary Elizabeth Winstead, Kieran Culkin, Chris Evans,  Anna Kendrick, Jason Schwartzman, Alison Pill
SCREENPLAY:  Michael Bacall,  Edgar Wright.
CAMERA: Bill Pope (Color).
EDITOR: Jonathan Amos (112 min).
MUSIC: Nigel Godrich.
PRODUCERS: Marc Platt, Nira Park, Edgar Wright.
PROD. COMPANY: Universal release of a Marc Platt/ Big Talk Films [USA- 2010].

  

The Kids Are All Right   | Lisa Chlolodenko  **
الفتيان بخير | ليزا شولودنكو
الولايات المتحدة- 2010
Review n. 150
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كوميديا | جوليان مور انتقلت من ليلة غرام مثلية في «كليو« الى ليالي بكاملها ... لكنها في النهاية ستعود. هكذا يوحي هذا الفيلم اللطيف حيال كل الناس!٠

قبل أيام قليلة صفّق الليبراليون حول العالم للحكومة الأرجنتينية قرارها بالسماح بزواج أبناء الجنس الواحد. النساء من النساء والرجال من الرجال. ليس هذا فقط، بل سيُتاح للمتزوّجين ببعضهم البعض تبنّي الأطفال. يا لسوء طالع طفل يتربّى بين أبوين مشوّهين يرشدانه لطريق مشوّه آخر ينتظره. ويا لسوء طالع عالم يتقدّم حثيثاً للسقوط في حفرة كبيرة بحجم متاهاته. ألم يعد هناك من يفكّر في عواقب هذه الأمور؟
الأخبار لابد حلّت بتقدير شديد على صانعي فيلم "الأولاد بخير" فهو يتحدّث عن إمرأتين تعيشان معاً ولديهما ولد وفتاة. كيف؟ ليس بالتبنّي بل بالتلقيح٠
الأم الأولى، في "الأولاد بخير"،  أسمها  نك وتقوم بها الممثلة آن بانينغ. الأم الثانية هي جولز، وتؤديها جوليان مور. في الحياة الخيالية (تلك التي نعيش)  كلاهما ممثلتان مستقيمتان واحدة تعيش مع وورن بيتي منذ أن كانا لا زالا في سن يسمح لكل منهما الإعجاب بالآخر، والثانية متزوّجة من مخرج  أسمه بارت فروندليش حقق خمسة أفلام لا أعتقد أن أحداً شاهدها رغم أن آخرها كان من بطولة كاثرين زيتا-جونز.  لذلك أرجّح أن قلّة العروض في مثل سنيهما له دور في اختياراتهما هذه الأيام. محظوظة من تستلم عرضاً تعود به الى الشاشة. هذا يمعزل عن أن كليهما من بين المواهب الممتازة في الأداء. جوليان مور، على الأخص، لديها قدرة على رفع الدور لمصافها كما لاحظنا في أفلام مثّلتها مؤخراً من بينها "عمي" و"كليو"٠
إذاً لدينا إمرأتين سحاقيّتين تعيشان معاً ولديهما فتاة وصبي مراهقين. كل شيء يبدو سعيداً وسعيداً سيبقى. تذكّر في أفلام تريد أن تحمل رسالة من النوع المؤيد لمثل هذه الحالات،  هناك ثلاث لاءات ضرورية: لا يمكن تخطئة الشاذ، لا يمكن الضحك عليه ولا يمكن أن يدفع من سعادته ثمناً لما هو عليه. لذلك السعادة ترفرف بجناحين ورديين فوق العائلة ولو أنه لا يبدو على الفتاة جوني تيمّنا بالمغنية جوني ميتشل  ربما (ميا واجيكوڤسكا التي شاهدناها في "أليس في أرض العجائب") وشقيقها وأسمه لايزر، تيمّنا بالجهاز على الأرجح  (جوش هتشرسن) أنهما يعبآن او أن مستقبلهما سيتأثر بحياة والدتيهما العاطفية. لذلك يبدو غريباً أن يبدآ البحث عن الرجل الذي تطوّع بلقاحه المنوي للتعرّف عليه٠
لابد من تفسير أنني من شدّة إعجابي بالفيلم وحماسي له (إقرأ العكس) سمحت لنفسي باستعادة  مشهد يضحكني كلما تذكّرته من فيلم للكوميدي الفرنسي جاك تاتي يدخل فيه الى دكّان ليشتري مضرب تنس لأول مرّة. وحين يبدأ اللعب ضد منافسيه يُضيف حركة يد من عنده لا لزوم لها، فلا يضرب الكرة الا من بعد تلك الحركة (حتى وأنا أكتب ما أكتبه أضحك الآن) التي تشبه تحريك  "ڤيتاس" سيّارة سيتراوان قديمة. الى هذا الحد كنت مشدوداً مع أحداث هذا الفيلم لدرجة أني جلت في هذا الفيلم وكنت مستعداً لسواه حتى استوقفني أن »الفتيان بخير« ينقصه بعض الإيضاح: علمياً كيف أن رجلاً واحداً يمكن له أن يكون متبرّع بلقاح واحد صالح للإستخدام مرّتين. مرّة مع  نك ومرّة مع جولز، او ربما هو لقاح واحد لجيل بكامله لا يزال يستفيد منه بينما الحكاية جارية.  لكن من يدري ربما الفيلم نفسه لا يعرف. وهو بالتأكيد لم يذكر شيئاً عن الدافع الذي يجعل الولدين يقرران أنهما يريدان البحث عن والدهما فجأة٠
هكذا أراد السيناريو. كذلك أراد أن يصلا إليه بسهولة. إنه رجل بسيط ولطيف أسمه بول (مارك روفالو) يعمل في مجال المطاعم  وهو، مثل المشاهدين، يتساءل عن ذلك الدافع لكنه يستغني عن الجواب غير المذكور في السيناريو٠ 
سيصحب المراهقين والدهما للقاء كل من الماما نك والماما جولز. وقد تعتقد أذا ما شاهدت ما يكفي من أفلام، أن شيئاً مهمّاً سيقع في اللقاء الأول. ربما توتّر ما. موقف مستمد من موقف فيه شيء من الندم، او من الرفض. لكن كل شيء يمر وسط حفلة من الإبتسامات الموزعة على وجوه الجميع. ماذا حدث لبعض التشويق النفسي او العاطفي او الدرامي او أي سواه؟ لماذا على الفيلم وقد مر منه نصف ساعة عقيمة أن يحافظ على برودته؟ الجواب هو أن المخرجة شولودنكو أرادت تفعيل بعض التوتّر لاحقاً حينما تبدأ جولي بالإعجاب ببول. هذا طبعاً سيتم على حساب نك (الذكر بينهما) ما ينجم عنه زعل بين المرأتين لكن ليس الزعل الذي سيفسد للود قضيّة٠
اذ ينزلق التمثيل لما تحت مستوى أي من شخصياته الراشدة (الوحيد الذي يتعامل جيّداً من دوره هو الممثلة الشابّة ميا واجيكوڤسكا) لا يبقى للفيلم الا تلك النظرات المتبادلة كما لو أن أحد الممثلين نسي ما يود قوله فانتظر أن ينقذه الاخر، الذي نسى ما يود قوله. كيف لا تتوقّع ذلك مع جمل حوار مركّبة  مثل "لم أرتفع الى نقطة الوعي لك"؟ او ساذجة مثل "لا أثق بقدرتها على قطف وردة"؟  والعبارة التي تضحك لسخفها هي التي تقول : "أعلم أنك ستحتاجين لوقت قبل أن تبدأي دفع عواطفك صوب ذلك"٠
Get Out of here: لكل ذلك وجدت نفسي أصرخ 

CAST & CREDITS

DIRECTOR: Lisa Cholodenko

CAST: Annette Benning, Julianne Moore, Mark Rufallo, Mia Wasikowska, Josh Hutcherson.
SCREENPLAY:  Lisa Cholodenko, Stuart Blumberg.
CAMERA: Igor Jadue-Lillo (35 mm- Color).
EDITOR: Jeffrey M. Werner (106 min).
MUSIC: Carter Burwell, Nathan Larson, Craig Wedren.
PRODUCERS: Gary Gilbert, Jordan Horowitz, Jeffrey Levy-Hinte, Celine Ratray, Daniela Taplin Lundberg.
PROD. COMPANY: Mandaly Vision/ Saint Aire Prods./ 10th Hole Prod. [USA- 2010].


أفلام حديثة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Letters to Father Jacob   |  Klaus Haro   ***1/2
رسائل الى الأب جاكوب | كلاوس هارو
Postia Pappi Jaakobille
فنلندا - 2009
Review n. 151
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دراما | سعادة الأب جاكوب في استلام رسائل من معوزّين يطلبون منه النصيحة (وأحياناً أكثر) في مآزق الحياة... هذا الى أن تدخل في حياته إمرأة٠

هذا أول فيلم أراه للمخرج الفنلندي كلاوس هارو ، لذا لا امكانية للمقارنة بين هذا الفيلم وأعماله السابقة
Elina و Mother of Mine  و The New Man
لكن أوّل ما يداهم المشاهد هنا هو حضور شخص المخرج متمثّلاً بلقطاته المختارة في البداية: وجه لآمر السجن يقول بلا عاطفة او تعاطف لإمرأة (لا نراها في اللقطة الأولى) أن إدارة السجن قررت الإفراج عنها بعدما أمضت في ضيافتها 12 سنة. من يتحدّث إليها أسمها ليلى (كارينا هازارد). إمرأة ليست جميلة. ذات وجه مصنوع من لحم مكتنز وأعصاب مشدودة تحت قناع من البرود، وجسد يميل الى البدانة. هذه المرأة، نفهم لاحقاً، قتلت زوج شقيقتها بسبب ضربه المبرح لشقيقتها. شقيقتها هي كل من كان لديها في هذا العالم بعد وفاة والدتهما التي، بدورها، كانت تهوى ضربها وكانت شقيقتها تذود عنها. الآن، وبناءاً على رسالة من الأب يعقوب الذي يعيش خارج المدن، منقطع في بيت كبير مثقوب السقف تحيط به أرض بلا سياج يذكر، قررت الإدارة الإفراج عنها. على ليلى أن تأخذ الحافلة وتقصد الأب جاكوب في دارته تلك لتضع نفسها تحت تصرّفه٠
الأب يعقوب (هايكي ناوسيانن) رجل عجوز وليلى التي تدخل بنصف رجل، تكتشف أنه أعمى. وظيفتها يقول لها هي أن تقرأ له ما يستلمه من رسائل (وهو يستلم أكثر مما استلم أنا)  وترد عليها. ليلى لا تطيق مثل هذا العمل ولا تجد فيه فائدة. تجلس لتأكل قطعة خبز وعينيها مسمّرتين على وجه رجل تتساءل فيما بينها إذا ما كان سخرية القدر بحد ذاته٠
لكن يعقوب جاد في طلبه. كل صباح يمر ساعي البريد ويصرخ »بريد ... بريد« وعلى الأب و»سكرتيرته« هذه أن يجلسا عند طاولة تحت الشجرة القريبة من مدخل البيت لقراءة الرسالة تلو الأخرى. والكاميرا على وجه الأب يعقوب وهو يستمع لمن يطلب منه دعاءاً الى الله تعالى كما لو كان يستمع الى خبر مفرح او السيمفونية الخامسة لبيتهوفن. أما ليلى فهي تحاول أن تفهم ما لا يتّضح لها الا في النصف الثاني من الفيلم. الآن ما عليها الا أن ترمي نصف الرسائل في الزبالة وتوهم الأب الطيّب والوثوق بأن هذا هو كل ما لديها من رسائل. في يوم لاحق سوف ترهب ساعي البريد فيتوقّف عن المجيء. يقلق الأب من انقطاع الرسائل... الباقي لا يقل درامية عما سبق لكن - فقط في حال أنك وصلت الى هذا الفيلم، لا أريد أن أحرقه أمامك٠
رغم وجود شخصية ثالثة غير مكتوبة جيّداً في بعض المشاهد، هي شخصية ساعي البريد، الا  أن معظم الفيلم قائم على هاتين الشخصيتين ليلى والراهب وكيف أن الأولى تجد نفسها -في واحد من مراحل الفيلم- أنها هي التي كانت عمياء عن الحب، وهو المبصر بقلبه وعاطفته وحبّه للآخر. يا لها من رسالة لا أستطيع معها سوى ملاقاتها بالحب من طرفي، ولولا أن هناك عدداً، ولو محدوداً، من المواقف التي لجأ إليها المخرج (كتب السينايو بنفسه عن فكرة لجانا ماكونن) وكان يستطيع اللجوء الى سواها لمنحته تقديراً أعلى٠
هذا الفيلم الفنلندي لم يستوقف أيا من المهرجانات الدولية الثلاث الأولى (برلين، كان، فنيسيا) ما يوضح مجدداً غيابها عن الأعمال الفنية في كل مرّة تبحث عن اللمعة الإعلامية فيها ولا تجدها. لكنه كان يستحق مثل هذه العروض الأولى. على أي حال هذا التجاهل لم ينتشر ليشمل مهرجانات من الصف الثاني: بوسان الكوري، مار دل بلاتا الأرجنتيني، بالم سبرينغز وسانتا مونيكا الأميركيين وهونغ كونغ الصيني- وهو حاز في نهايات العام الماضي على الجائزة الأولى من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي٠


CAST & CREDITS

DIRECTOR: Klaus Haro

CAST:  Kaarina Hazard, Heikki Nousiainen, Jukka Keninen
SCREENPLAY: Klaus Haro.
CAMERA: Tuomo Hutri  (Color-35mm).
EDITOR: Samu Heikkila (77 min).
PRODUCERS: Marc Platt, Nira Park, Edgar Wright.
PROD. COMPANY: Kinotar  [Finland- 2010].





 مبدعون
..............................................................
زاوية جديدة تحتوي في كل مرّة على ثلاثة أفلام
لثلاثة من كبار مخرجي السينما في أي مكـــان
ومن أي زمن٠
     ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Buster Keaton  بَستر كيتون
The General (1926) *****
الجنرال
Rev. n. 152


من لم يشاهد «ذهب مع الريح» لابد أنه سمع عنه: أكبر فيلم ملحمي عن الحرب الأهلية الأميركية. الفيلم الذي تعاقب على إخراجه خمس مخرجين قبل أن ينتهي ليدي ڤكتور فلمنغ. الفيلم الذي تأخّر إنتاجه بحثاً عن ممثلة  فترشّحت عشرات وفازت بالدور  ڤيڤيان لي. الفيلم الذي صوّر بشاعة الحرب الأهلية. الفيلم الذي كُتب له عشرات النسخ من السيناريو والذي يُقال أن منتجه ديفيد أو سلزنيك عاد من برمودا (حيث أشرف على كتابة السيناريو) بأربع حقائب تحتوي سيناريوهات ... ألخ .... ليس أن هذه القصص كلها حقيقية، لكن الفيلم فعلاً كان، بقياس زمنه، 1938 وزمن سواه، إنتاجاً ضخماً والفيلم ليس سيئاً بسبب حجم إنتاجه على الإطلاق. على العكس فيه حسنات إنتاجية تتعدى حسنات 2012 لرونالد إيميريك ... لكن على ذلك، إذا كنت تريد مشاهدة فيلم عن الحرب الأهلية فإن »ذهب مع الريح« ليس الفيلم المثالي. جرّب »الجنرال« للمخرج والممثل بَستر كيتون، الذي تم تحقيقه صامتاً سنة 1926. حين سئل كيتون عن السبب في أن فيلمه موثوق أكثر من فيلم  ڤكتور فلَمنغ قال: "ذهبوا الى قصّة. ذهبنا الى تاريخ"٠
مصدر «الجنرال» يكمن في كتاب مأخوذ عن حادثة واقعية وضعها وليام بيتنجر تحت عنوان
The Great Locomotive Chase  مطاردة القطار العظيمة
بيتنجر كان في القوات الفدرالية (الشمالية) وشارك في عملية اختطاف جريئة  لقطار للقوات العسكرية الكونفدرالية (الجنوبية) انتهت بنجاح القوّات الشمالية بالإحتفاظ بالقطار رغم محاولة الجنوبيين استعادته ما نتج عنه مطاردة سكّة حديد وصفها بيتنجر في مذكّراته. ربما تكون المطاردة هي ما جذبت الممثل- المخرج الذي قاد بعض أفضل المطاردات الكوميدية في حياته، لكنه ارتأى أن يقلب المواقع: الجنوبيون هم الذين يخطفون قطاراً شمالياً وهؤلاء في أعقابهم. وهؤلاء الجنوبيون ليسوا سوى رجل واحد: بَستر كيتون في الدور٠
عدا هذا التغيير الذي عزاه كيتون الى أنه من السهل جعل الجنوبيين (وقد خسروا الحرب في النهاية) هم الأشرار والشماليون هم الأبطال. بذلك يكون كيتون سعى للوقوف مع الخاسرين وربما تكون هناك مسببات أخرى غير معلومة
لكن أوّل ما يجب أن ننتبه إليه هنا هو أن الأحداث ليست مناسبة للفكاهة، لكن الفكاهة موجودة. الفيلم مغامرة مشوّقة وبقدر ما هو مغامرة، بقدر ما هو كوميدي أيضاً من أي من الفرص التهريجية التي عمد إليها معظم الكوميديين منذ ذلك الحين (وقبله) الى اليوم. بعض الفضل في ذلك يعود الى أن كيتون ومساعده في الإخراج كلايد بروكمان، حرص على تصوير الفيلم كما حدث بالفعل، بما في ذلك سقوط أحد القطارين المستخدمين في الفيلم من فوق جسر عال الى النهر. مشهد تكلّف كثيراً ولم يكن بالإمكان إعادة تصويره إذا ما فشل. لكنه لم يفشل. المشهد كان أغلى مشهد منفرد في تاريخ السينما الى ذلك الحين: 42 ألف دولار او ما يوازي ثماني بالمئة من ميزانية الفيلم كما كتب المؤرخ جورج ويد في مجلة »أميركان فيلم" قبل أكثر من خمس وعشرين سنة٠
المؤرخون، وبينهم الناقد ديفيد روبنسون، يذكرون أن ما تم تغييره هو مكان الأحداث التي وقعت قبل 65 سنة من تاريخ صنع الفيلم. الموقع الذي تم اختياره يكمن في غابة في ولاية أوريغون. مع أن الفيلم بالأبيض والأسود وليس لديه متّسع من الوقت ليصوّ الطبيعة، الا أنها حاضرة جمالياً ودرامياً٠
هذا كله بعض الخلفيات الضرورية (وهناك عشرات التفاصيل الأخرى) لما سنجد أنفسنا منجذبين إليه بعفوية. بعض أهم ملامح كيتون السينمائية أنه كان قادراً على جذب المشاهد الى عملية معقّدة بسهولة محسوبة. لم يعمد الي مونتاج كثيف ولم يكن يشتغل كثيراً على التعاطي مع المشاهد على نحو: "أنا أمثّل لك". هذا النحو موجود عند تشارلي تشابلن (على أهميّة أفلامه) ما يفصح عن شيء مهم آخر: حين تخرج وتمثّل على النحو المذكور ("أنا أمثّل لك") تضع نفسك داخل الصورة وتغلق عليك باب الخروج. أصبحت ماضياً. أسلوب كيتون، في كل أفلامه، وفي هذا الفيلم تحديداً، كان استبعاد اللقطات المتوسّطة والقريبة معظم الوقت، بذلك يترك لنفسه حريّة زمنية مفتوحة، ويترك للفيلم وضعاً لا يرتبط بشخصه.  وبأسلوبه القائم على عدم التعاطي مع الكاميرا/ المشاهد مباشرة، مكّن الفيلم من أن يعيش الى اليوم. حين تشاهد فيلما لكيتون من العشرينات، كما حال هذا الفيلم، أنت زائر للفترة التي تم صنع الفيلم فيها. حين تشاهد فيلماً لتشارلي تشابلن من الحقبة ذاتها، أنت تتابع الممثل الذي في الفيلم. والمنوال الأول هو أكثر سرمدية. »الجنرال« هو أحد البراهين
     هو مهندس قطارات يعتبر نفسه مسؤولاً عن القطار الذي يعمل عليه. بل هو يحبّه بقدر ما يحب الفتاة  أنابيللا (ماريون ماك). حين تندلع الحرب الأهلية يتقدّم لتجنيد نفسه تؤاثر القيادة تركه في وظيفته لأن لديهم متطوعون كثر وليس لديهم من هم بكفاءته في مضماره. لكن أنابيللا لن تتفهم أنه حاول الإنضمام وتعتبره جباناً وتتركه. القطار سيتدخل لكي يحل معضلة عاطفية. وطوال الفيلم سنجد أن استخدام كيتون للمغامرة بأسرها هو ضمن هذا المفهوم: القدرة على إثبات شجاعته لأنابيللا والإقدام على إنقاذ الجنوبيين من كارثة محقّة. وحده ومن دون مساعدة أحد. هذا الدمج بين حبّه لأنابيللا والقطار (وأسمه الجنرال) يتأكد حين يخطف الشماليون حبّيه هذين معاً. لا ينقذهما فقط في مطاردة في إتجاهين (أفسر ذلك بعد قليل)،  بل ينطلق عائداً الى موقعه الجنوبي ليحذّر الجنوبيين من خطّة قدّر له أن يسمعها بعدما اختبأ تحت طاولة الإجتماعات. المطاردة الطويلة مليئة بالمشاهد التي تنضح بالكوميديا من دون أن تسعى لأن تكون كوميدية. من ناحية، هناك الموقف العام (قطار وراء قطار) ومن ناحية هناك المشاهد والمفارقات التفصيلية٠

الى ذلك، هو فيلم تشويقي. لا تكترث للبرهنة على أن توقّاتك تصيب او تخطيء، لأن ما يقع على الشاشة دائماً أكبر من التوقع نفسه. المخاطر التي يؤديها كيتون بنفسه (وهو دائماً ما فعل ذلك) تدهش أكثر من معظم ما بتنا نراه اليوم مفبركاً من دون قناعة او إقناع وبالتأكيد من دون روح فنيّة او على تلك الدرجة من التفاني. إنها قدرة كيتون المدهشة على معاملة نفسه وشخصيّته جدّياً (لا يَضحَك ولا يفعل شيئاً يؤدي الى ضحك الآخرين داخل الفيلم- الكوميدي الوحيد الذي فعل ذلك أيضاً هو الفرنسي جاك تاتي، وقد جاء بعد كيتون، واستمد منه).  وهي قدرة لا تأخذ من الكوميديا شيئاً على الإطلاق، بل تضيف إليها الجديد والمفاجيء. قطار يطارد قطاراً والسؤال هو: كيف سيكون الفيلم مثيراً. الجواب في كل لقطة ومشهد من هذا الفيلم.  وإذ أؤكد على كل لقطة وكل مشهد، لن ينفع هنا أن أسرد التفاصيل لأني بصراحة لا أعرف كيف أبدأ: من اللقطة الأولى حيث تتحرّك عجلة القطار وهو جالس عليها فيطلع وينزل معها، الى مشهد النهاية حين يحاول تقبيل حبيبته لكنه كلّما بدأ مر به جندي وسلّم عليه. ثم إذا برطل من العسكر يمرّون به. ما بين البداية والنهاية  كل الفيلم قائم على أفكار غير متداولة قبله ولم يتم تداولها من بعده لا لخطورة تنفيذ بعضها فقط، بل لأن من أبدعها كان يعيشها كما يعايش الكاتب كلماته. ولن ينفع أن آتي بأمثلة لأنه من أصعب ما يكون أن يوصل الناقد فيلماً ثري الصورة وثري الحركة ومعطياتها الى القاريء بالكلمات (رغم أني سأذكر مشهداً آخر بعد قليل)  ٠
لا ننسى أن الفكرة تقوم على أن المطاردة مزدوجة. الأولى بَستر كيتون يطارد فيه الجيش الشمالي. الثانية الجيش الشمالي هو الذي يطارد بَستر كيتون. هناك مشهد من تلك التي لا تُنسى يرمي فيها الجيش الشمالي قطع خشبية كبيرة وثقيلة على خط السكّة بهدف عرقلة مطاردة كيتون لهم. ينزل من القطار، الذي كان في تلك اللحظة بطيء الحركة ويلتقط قطعة كبيرة يحملها بين ذراعيه في اللحظة التي يصل فيها القطار اليه من الخلف فنجده وقد أصبح على مقدّمة القطار والقطعة (او اللوح السميك) ما زال بين يديه. حين يرمي الأعداء قطعة أخرى بنفس الحجم والثقل يختار الوقت المناسب لرمي الخشبة التي يحملها على الخشبة الملقاة ما يمكنه من الإستمرار.  السر في نجاحها هو التوقيت والإصابة الصحيحة والفكرة من حيث ماهيّتها في الأساس.  ماذا عن جهله إطلاق قذيفة مدفعية خلال المعركة بين الطرفين فتطير القنبلة عمودياً في الهواء او تصيب الأعداء بفعل الصدفة وحدها؟ ثم ماذا عن مشهد مدفعي آخر حين يوجه المدفع ويطلق القذيفة ليفاجأ أنها ارتدت إليه؟ او حين ينحني فوق المدفع ليسمع إذا ما كان الفتيل مشتعلاً؟ ماذا عن مشهد اختبائه تحت الطاولة  وما يحدث من مفارقات؟ هذه وعشرات الأمثلة غيرها نتيجة أفكار مبدعة. خيال عبقريلا أحد في التاريخ عمد الى مفارقات من هذا النوع. في الحقيقة، كل أفلامه مؤلّفة من أبداعات مشابهة٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Alfred Hitchcock  ألفرد هيتشكوك
 Torn Curtain (1966) ***1/2
ستارة ممزّقة
Rev. n. 153
..............................................................
هيتشكوك في "مود" مختلف عن أفلامه السابقة في
هذا الفيلم الذي لم يأخذ حقّه من الإهتمام٠


هذا الفيلم هو الرقم خمسين بين أعمال المخرج التشويقي الأول ألفرد هيتشكوك. وكان يمكن أن آخذ أي من أفلامه السابقة او اللاحقة متحاشياً عملاً انقسم النقاد حوله مع غالبية رأت أنه لا يتساوى مع أفلامه السابقة، وذهب البعض منهم ليقول إنه من أسوأ ما أنجزه لجانب »مارني« (1964) و"توباز" (1969). طبعاً هناك أداء مختلف لهيتشكوك في هذه الأفلام الثلاثة التي تلت فيلمه المشهود »الطيور« (1963) وذلك الفيلم الأكثر إفزاعاً «سايكو« (1960- راجع العدد  69) لكن ذلك الإختلاف طبيعي بين أعمال معظم الفنانين يعود الى حالات وظروف متداخلة وليس الى قرارات خاطئة بالضرورة. لذلك كلّه رأيت أن أبدأ مجدداً بهذا الفيلم وليس بأحد نماذج هيتشكوك الأكثر شهرة وأحياناً جودة٠
حتى أرتاح من عبء القصّة أوجزها في مطلع هذا النقد: البروفسور أرمسترونغ (بول نيومان) عالم فيزياء أميركي معروف يقرر اللجوء الى ألمانيا الشرقية (الفيلم وأحداثه في رحى الحرب الباردة بين الروس والأميركان) . المرأة التي يحب (وتحبّه) سارا (جولي أندروز) تتبعه الى برلين الشرقية وكلّها تساؤلات حول قراره هذا، لتكتشف أنه في الحقيقة يدّعي إنه لجأ ورضى بخيانة وطنه، لكنه في مأمورية خاصّة من قِبل المخابرات الأميركية تطلّبت تلك الخديعة.  فالغاية هي الحصول على معلومات تنقصه لإتمام العمل على صاروخ نووي (كلمة صاروخ كانت دارجة في تلك الآونة أكثر مما هي اليوم) وهو يكتشف، وقد أصبحت خطيبته معه، أن الألمان لم يصدّقوا خديعته ما يزيد المهمّة خطورة. بعض الحصول على المعلومات المطلوبة، في مشهد هش وضعيف كتابة، على أرمسترونغ وسارا الهرب وهذا يتطلّب دهاءاً واستغلال مناسبة وجودهما في عرض باليه وإثارة الهلع بين الحضور للتمكن من الفرار من ملاحقة عناصر الأمن٠
هناك أكثر من خديعة في معالجة هيتشكوك التي تبتسم وهي تتحدّث جد.  أرمسترونغ يخدع خطيبته. يحاول أن يخدع الألمان والألمان يخدعونه. ولو أنه ينفذ بجلده من العواقب، كما يحب الجمهور المتآلف دوماً مع البطل أن يرى٠    
مرّ معنا، حين تحدّثنا عن «سايكو» أن بطلة الفيلم جانيت لي كانت ارتكبت أخطاءاً حتى من قبل بداية الفيلم: تعاشر رجلاً لا زال يحل مسألة طلاقه (وفي الستينات كانت العلاقة غير الشرعية بين من مفترض بهم أن يكونوا أبطال الأفلام لا زال يحظى بالمعارضة الإجتماعية والأخلاقية في الغرب) وتسرق مال الشركة التي تعمل بها (رغم أن المخرج ينثر أمامها بعض المبررات). الغاية من ذلك كانت محاولتها البداية من جديد. تأسيس نفسهاعلى درب مستقرّة. في «ستارة ممزّقة» يبدأ هيتشكوك الفيلم بمشاهد من مؤتمر علمي تسوده الفوضى. بطل الفيلم أرمسترونغ يحاول أن ينأى بنفسه قليلاً ثم إذ ينطلق للقيام بالمهمّة التي يراها جديرة، فإنه، كما حال جانيت لي، إنما يبحث عن بداية جديدة. ليس بالنسبة للعالم بل بالنسبة إليه أوّلاً.  على ذلك، بطله هذا يختلف عن أبطاله الآخرين: معظم من مر على شاشات المخرج من أبطال رجال كانوا دخلوا الخطر بالغلط. إما تهمة باطلة وجدوا أنفسهم غير قادرين على ردئها، وأما مجرد خطأ في الهوية ما جعلهم موضع شبهة من دون أن يفهموا السبب. في الحالتين هم أبرياء متّهمون دلفوا الى المغامرة من دون قرار من جانبهم. أرمسترونغ، كما يؤديه بول نيومان المؤسس تمثيلياً على نحو مختلف عن غاري غرانت او جيمس ستيوارت، هو رجل ينتقل بخياره الى منطقة الخطر وبذلك هو بطل جديد لم يسبق لهيتشكوك أن تعامل معه سابقاً٠
ما يبقى من رسم الشخصيات حاجته للمرأة. بإستثناء بضعة أفلام خارج السرب الذي ينتمي إليه هذا الفيلم الجاسوسي،  أبطال هيتشكوك الرجال يحتاجون المرأة للسكينة والإستقرار وأرمسترونغ هنا لا يختلف عن جيمس ستيوارت في »نافذة خلفية« وغاري غرانت في «شمال- شمالي غرب»٠
 مع أن هيتشكوك لم يقم في حياته كلّها بإخراج فيلم له نبرة سياسية، الا أنه اقترب في هذا الفيلم أكثر من سواه من تلك النبرة. في حديثه مع فرنسوا تروفو  قرر ذلك وقال: "الجمهور ليس معنياً بالسياسية في السينما والا كيف توضّح أن معظم الأفلام التي لها علاقة بالوضع السياسي للستار الحديدي فشلت؟"٠
هنا ليس من دورنا موافقته على ذلك او معارضته. هو كان يتحدّث عن قناعة له موجبها: الأفلام السياسية المحضة لا تثير اهتمام الجمهور العريض وتلك الأوروبية تفشل -كالأميركية- حتى داخل بلادها. لكن هذا لا يعني أن أفلامه بلا موقف سياسي. إذا ما أمعن المرء بكل فيلم يتضمّن جواسيس وعصابات تخريبية [»العتبة الـ 39» (1935) و«السيدة المختفية« (1938) و»المراسل الأجنبي« (1940)] وجد فيها هذا الموقف  بمجرّد أنه مع فريق ضد آخر. لكن ما يحدث في هذا الفيلم الذي لم ينل حقّه من الإهتمام، هو أن الموقف هنا ليس لصالح الغرب ولا لصالح الشرق، ولا لصالح أي طرف. حين خرج هذا الفيلم في منتصف الستينات، كانت الحرب الباردة في أوجّها والمجابهات  الناتجة عن التنافس على الفضاء واتخاذ مواقف سياسية دولية  مناوئة وما عُرف بأزمة برلين  ثم أزمة الصواريخ الكوبية قد وصلت بالعالم الى خطر الحرب الفعلية. وفي حين أخرج ستانلي كوبريك رائعته الكوميدية »دكتور سترانجلَڤ« وسيدني لوميت فيلمه الجيد »أمن زائف« (كلاهما قبل عامين من فيلم هيتشكوك) كانا يعكسان أيضاً ذات القدر من الحذر٠
لكن حكاية هيتشكوك مختلفة بقدر زاوية رؤيته الى الأمور. سوف لن يتحدّث عن الفترة ومتاعبها معبّراً عن وجهة نظر سياسية، بل ليطرح ما يعانيه العالم. وسنرى في الفيلم أن لا أحد على صواب والجميع على خطأ. حتى نوايا بطل الفيلم مشكوك بأمرها: وظيفته مهددة ويسعى الى تحقيق نصر فردي (بكشف السر الذي يحتاجه لصنع صاروخ مضاد للصواريخ) لكي يحافظ على عمله ويبيعه الى الولايات المتحدة ولو تحت راية الإخلاص الوطني٠

يحتوي  «ستارة ممزقة» على أكثر من مشهد رمزي القراءة. استعارة مجازية. خذ مثلاً المشهد التالي: حينما زار أرمسترونغ منزلاً يقع في الريف ليقابل بعض المتعاطفين مع الغرب يكتشف أن الشخص الذي كان تم تعيينه من قبل الحكومة قد تبعه الى المكان مع سائقه. هذا الشخص، وأسمه هنريخ (هانزيورغ فلمي) هو في ذات الوقت عين السُلطة عليه لأن الألمان لم يشتروا روايته باللجوء إليهم. أرمسترونغ عليه أن يتخلّص من هنريخ ويتدارس وزوجة المزارع الذي صاحب البيت (كارولين كونوَل) طريقة التخلّص منه. ضع هذا في البال وأنت ترقب ما يحدث بعد ذلك: المسدس لن  ينفع (لأن سائق هنريخ سيسمع طلقته) ولا يبقى سوى الرصاصة. البديل هو السكّين (كون الثلاثة موجودون في المطبخ). هنريخ يقاوم. أرمسترونغ يغرز السكين في صدر هنريخ لكن المقبض ينكسر. هنريخ لا يزال يقاوم. أرمسترونغ وهنريخ يتعاركان بصعوبة وفي تصميم العراك تكمن رسالة. إنه ليس عراكاً من نوع لكمة منّك لكمة منّي، بل صراع متشابك يحاول هنريخ فيه البقاء على قيد الحياة، وهو بالفعل يدافع عنها بشراسة في حين أن أرمسترونغ يحاول قتله بشراسة أيضاً. يضع، بمساعدة المرأة، رأس الرجل في الفرن ويديران الغاز. هنريخ يموت، لكن ليس بسهولة. لا يطب من طوله كما في الأفلام الأخرى. المقاومة مفزعة لنا ومفزعة للمرأة. وبيت القصيد لقطة لها وهي تفتح فمها على آخر لإطلاق صرخة. لكن الصرخة لا تصدر من فمها .... في هذه اللحظة كل العالم (الذي يصوّره المخرج) يريد أن يصرخ من هول ما يعيشه والصرخة لا تصدر٠

جزء من كتاب قيد التأليف عن سينما ألفرد هيتشكوك٠

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 Akira Kurosawa  أكيرا كوروساوا
Ran (1985) *****
ران
Rev. n. 154
..............................................................
اقتبس أكيرا كوروســاوا هذا الفيلــــم عن "الملك
لير" لوليام شكسبير. محققاً فيلماً نادراً تنتصر
فيها جماليات الفيلم على جماليات الأصل٠

في «ران»، فيلم أكيرا كوروساوا الملحمي الفذ اللورد هيديتورا (تاتسويا ناكاداي)  يقرر، بعد حفلة صيد في البراري، التنازل عن العرش لابنه الأكبر تارو (أكيرا تراو) مع الإبقاء على اللقب والرموز القيادية الأخرى وعلى ثلاثين جندي من خيرة رجاله. على أن يزور قلاع أولاده الثلاث بالتناوب. القرار يغضب ابنه الأصغر سابورو (دايزوكي رايو)  فيطرده والده من مملكته ليستضيفه أمير مقاطعة مجاورة اسمه فيوجيماكي. يرفض تارو منح أبيه الرموز والألقاب التي نص عليها الإتفاق، حالما آلت السلطة إليه وذلك  بتشجيع من زوجته كايدي (مييكو هارادا)  التي تنتمي لعائلة من الأسياد كان هيديتورا قد تغلب عليها وشتّتها. أما الإبن الأوسط جيرو (جينباشي نيزو)  فيرفض استقبال والده في قلعته مع رجاله.  يسير هيديتورا بهم إلى حصن لإبنه الأصغر سابورو ليستقر فيه، لكن جيشاً  ولديه تارو وجيرو يتبعانه ويقضيان على مقاومة رجاله. يخرج هيديتورا من الحطام والنيران وقد لبسه فزع شديد فاقداً  الوعي والإدراك. لكن المعركة ذاتها تتبلور كصراع سُلطة بين ولديه إذ يرمي قناص من رجال جيرو سهمه فيردي تارو قتيلاً ليتربع جيرو على عرش المملكة. كايدي، زوجة أخيه، تتسلط عليه وتسيره رغم معارضة أقوى رجاله كوروغان (هيساشي أغاوا).  يتوه هيديتورا ومعه المهرج الأبله (كايوامي) ومساعده الأمين تانغو (مسايوكي يوي). لكن هيديتورا فقد رجاحة عقله. سابورو ـ الابن المبعد ـ يعود لنجدة أبيه في حين يشتبك رجاله برجال جيرو ويربحون معركة طاحنة. قناص من رجال جيرو يقتل سابورو أمام والده الذي يموت على الفور بأزمة قلبية متأثراً بفجيعته. كوروغان يعود من رحى المعركة الخاسرة ويقطع رقبة كايدي التي عززت الحقد وتسببت في نهاية جيش جيرو
معظم التصميمات الفنية التي وضعت لمسرحيات «الملك لير» في بريطانيا وفي الخارج، استوحت ديكوراً تقليدياً و«منطقياً» يتماشى مع الخلفية التراجيدية للموضوع. إنه من المريح للمخرج المسرحي اعتماد مثل ذلك الديكور ليماشي أحداثاً تخطو صوب اتجاه شبه معاكس على الرغم من التناقض الذي ينتج عن هذا الفعل، فهو أولاً يستخدم غرابة الأحداث والجزء المحدود من «سورياليتها» ليربطها، عبر الديكور الواقعي، بالواقع مما يجعلها أحياناً أكثر مصداقية سواء أكانت المصداقية رغبة شكسبيرية أو لم تكن. وهو ثانياً يوفر دون ريب الكثير من الجهد الذي كان سيبذل فيما لو روعي في التصميمات أن تكون على ذات  متجدد او غريب عن الأصل٠
السينما أكثر تحرراً. نسخة بيتر بروك «الملك لير» عام 1971 ونسخة السوفياتي غريغوري كوزنتسيف ( بنفس العنوان) عام 1971 أيضاً، تمتعاً بتغييرات عدة في هذا المجال ولو أن الهاجس المسرحي بقي مسيطراً بوضوح خاصة في نسخة بروك البريطانية في حين عمد كوزنتسيف إلى خلفية مختلفة لا تناسب المفرزات التراجيدية فقط، بل لون الاقتباس الروسي وما يحتويه من محاولات تعمق إنسانية قد يراها البعض مختلفة عن تلك التي كتبها ويليام شكسبير٠
في «ران»، نحن  أمام نسخة سينمائية أخرى. نسخة تستخدم الديكور استخداماً حراً تماماً من التقليد والتفسير الكلاسيكي للمنطق. أكيرا كوروساوا يجعل من السهوب والجبال ومن المعارك والجنود والقلاع كما الخراب المهجورة ديكورات لا تخدم النص بطريقة تلقائية وتوظيفية فقط، بل سريعاً ما تلعب دورها الأول جنباً إلى جنب الحدث الذي يدور٠
الفيلم يفتح على منظر خارجي: 4 فرسان على جيادهم ومن ورائهم قمم شاهقة لجبال خضراء كثيفة. الصورة ثاتبة لثوان. هذه الثواني مكثفة، إنها تبدو اختصاراً لتاريخ ما قبل وصولهم إلى تلك اللحظة في ذلك المكان والزمان. حين تتحرك الصورة (نلاحظ هزة رأس أحد الجياد لا أكثر) تبدو تلك الشخصيات وقد ولدت من صمت التاريخ وقطعت تلك المسافة بين أبعاد الماضي والوقت الذي بدأت فيه الأحداث. ما يعكس هذه الملاحظات ليس حركة (أو عدم حركة) الممثل، بل الطبيعة التي وضع فيها. منذ هذه اللحظة هذه الطبيعة جزء متلاحم من الفيلم كلما انتقلت الكاميرا إلى تصوير خارجي. أما التصوير الداخلي (موجود بنسبة الثلث تقريباً) فيعتمد البساطة المطلقة في الديكور على عكس الاقتباسات البريطانية. هذه البساطة نراها تفيد المعنى الكامن في هذه التراجيديا إلى غير حدود. فالصراع على السلطة والقوة في نسخة كوروساوا هنا غير مزخرف بالثراء ذاته. إننا نفهم أن هذا الثراء المادي موجود دون ريب وإن كنا لا نلاحظه أو نراه (لا وجود لغرف تحوي تماثيل ولوحات أو نفائس أخرى) ولأننا لا نراه فإن الربط بين قيام أبناء هيديتورا (بنات الملك لير في الأصل) بالصراع على خلافة والدهم وبين طلب السلطة والقوة يصير أغنى وأكثر علاقة بالنفس البشرية وفسادها التي لا تتورّع عن القتال الشرس: الإبن ضد أبيه ثم الإبن ضد شقيقه. بذلك يصير هذا الديكور الداخلي البسيط الفارق بين مجانية وسهولة الإيحاء بأسباب الصراع وبين فحواه وأبعاده٠
لقد رأيت أن أبدأ بهذه الناحية تحديداً لأنها تضعنا مباشرة وسط أسلوب كوروساوا في العمل من حيث اعتماده على التعابير غير المباشرة وعلى ملكيته الفريدة في الدمج بين المؤثرات الغربية وبين البيئة التاريخية والتراثية اليابانية حتى ليصير من الضرورات الملحة، فنياً على الأقل، أن تتحول ملحمة «الملك لير» إلى اليابانية لما يضيفه هذا التحول على يدي كوروساوا. من قيمة للعمل الأصلي بالمقدار الذي يتيح فيه ذلك العمل الأصلي الإسهام في إثراء صورة وهوية ذلك الاقتباس إذا ما تم بالإجادة المفترضة عند كوروساوا وعند كوزنتسيف. وحقيقة أن شكسبير قد كتب تراجيديا يمكن أن تقتبس إلى أي تراث أو  تاريخ تعكس القيمة الإنسانية الكبيرة التي في المسرحية والتي استأثرت باهتمام  كوروساوا منذ سنوات بعيدة حين كان هذا المشروع ما يزال حلماً في باله (قبل هذا الفيلم بنحو 30 سنة أخرج كوروساوا «شوكة الدم» عن مسرحية ماكبث)٠
في تفسيره وترجمته لـ «الملك لير» لم يحاول كوروساوا كسر القوالب المسرحية ذاتها. في الأساس هو ليس من المخرجين الذين يؤمنون بكاميرا متحركة على الدوام وبإيقاع سريع. الثراء والمتعة الفنية الرفيعة تجدهما في الصورة ذاتها، في الحركة أمام الكاميرا وليس معها، كما في الحدث الذي يحتل الزمن وليس في الزمن ذاته. وإن كان تجسيد هذه الشروط والمزايا يصير إبداعاً يقل مثيله في سينما اليوم مفصحاً عن صعوبة تنفيذ مثل هذه الاختيارات، فإن ما يوازي هذا الإبداع وتلك الصعوبة حقيقة أن عدم كسر كوروساوا للقوالب المسرحية لم يعن (هنا على الأخص) التقيد بالمكان واللون الأدائي للممثل، بل التمسك بالثقل الدرامي الكبير الذي جسدته مسرحية شكسبير ونقله ليناسب الأداء الياباني والتقليد الآتي من تاريخها وثقافتها العامة٠
الحسد والضغينة وحب السلطة، الجنون والتيه كما الإخلاص والتفاني بقيت ذاتها (ولو بتعبير صوري أبلغ من ذلك الكلامي لشاعر الآداب) لأنها عناصر إنسانية عالمية، أما إضافات كوروساوا فهي إخراج هذه العناصر إلى العلن ممهورة بطابعه الملحمي والشعري البعيد. بذلك أتاح المخرج لفيلمه جمالاً من الصعب وصفه، وبعداً وعمقاً ودلالات تساعد غير المنظور من الأفكار وغير المسموع من التفاعلات النفسية على البروز٠
أحد النماذج المهمّة في هذا الشأن هو الفصل الذي تدور فيه رحى المعركة الأولى. اللورد هيديتورا الذي تخلى عن قيادته (وليس عن مكانته) لابنه الأكبر تارو، يفيق صبيحة يوم على أصوات المعركة ـ لقد هاجم جنود ولديه تارو وجيرو القلعة التي آوى إليها والدهما مع جنوده قليلي العدد (30 جندياً هم النخبة التي اختارها هيديتورا لنفسه). يقف هيديتورا إلى جانب النافذة المطلة على ساحة القلعة ومن النافذة نرى مئات الأسهم تطير من الاتجاهين المعاكسين. هنا يقطع كوروساوا الصوت (الصوت موجود في كل المشاهد الأخرى) لنرى عدة مشاهد من المعركة الضخمة بصمت. الكاميرا تزيد من ثراها. الدخان والغبار، النيران المشتعلة، الجموع المتقدمة، القتلى والجرحى، الجياد الواقعة، الحياة كلها وقت التلاحم مجسدة بصمت كامل دون أن تفقد شيئاً من تأثيرها. لكن هذا الاختيار الذكي يستمر لنصف هذا الفصل من المشاهد فقط، إذ حين يصير من الضروري سحب المفادات وتجميع الخلاصات أو القبض على كل المعاني السابقة يعيد كوروساوا للفيلم صوته. هنا تسمع أصوات كل تلك العناصر الحية ويضيف المخرج ثراء جديداً فوق ثراء المشاهد السابقة خاصة وأن تسجيل الصوت في فيلمه متقن ليس فقط في هذا الفصل بل في كل مشهد نراه (تسمع ـ مثلاً ـ الأصوات المختلفة للرايات الخفاقة في الهواء أو صليل أسلحة الجنود حين يركضون، فإذا انتبهت وأنصت كاملاً عجبت للدقة المتناهية وانتهبت ـ بالتالي ـ للدور المهم الذي يمارسه الصوت في الفيلم). في هذا الجزء أيضاً نرى جنود السيد هيديتورا وهم يبذلون دفاعاً عن سيدهم. إنهم القلة المنتخبة والشجاعة في مواجهة أعداد أكبر بكثير، ولا يخفي كوروساوا إعجابه بهم حين يتساقطون أمام نيران أعدائهم. وإذ يخرج السيد هيديتورا لاحقاً من بين النيران التي كانت تآكل القلعة كلها يضع الفيلم فاصلاً مهمّاً بين ما سبق وما تبع يلائم في أهميته الروع الذي أصاب هيديتورا وهو يكتشف فداحة خطأه أو لنقل إثم ولديه٠

كوروساوا شاعر العنف الكبير ولأنه شاعراً وليس ناقلاً فإن هذا العنف ليس دماً وإمعاءاً ومتشوهات، بل لوحات عن قسوة الإنسان، حين تنشأ عن ضعفه، وفداحة الحرب وقوة الموت. مشاهده تجسيد مرعب للحظات الفاصلة بين الحياة والموت، تلك اللحظات التي تبدأ وتنتهي سريعاً لكنها تدوم، داخل الحي ـ الميت، زمناً يكفي لضم العالم في صور وذكريات. إدراك الموت لحظة وقوعه هو بعض مما تبعثه شاشة كوروساوا حين تصور تلك المعارك مهما كان دور القتيل ثانوياً (من الجموع)٠
إنه من المهم كذلك ملاحظة الرواتب الاجتماعية المتعددة في المجتمع الياباني التقليدي. ماذا يلبس أيناء كل طبقة، من يجلس وكيف وأين.  ثم كيف لا يقف أحد المستشارين في الغرفة حتى ولو أراد المشي، بل يتقدم على ركبتيه (إلا إذا كان خارجاً). كل هذه البنيات الطبقية التي هي جزء من الحياة التراثية اليابانية القديمة يلم بها كوروساوا في معظم أفلامه إلماماً صحيحاً ودقيقاً. كذلك هو ملم بالألوان، ومثل  رائعته الأخرى «كاغاموشا« (1980) يصرف هذا المخرج الكثير من الوقت في الاعتناء بملابس الجنود والألوان البراقة والمختلفة لهم ثم يصنع من الألوان كلّها موزاييكا فاعلاً وبالغ الجمال.  يبهرك منظر تلك الألوان المختلفة وجمال انعكاسها على الشاشة. ولا تعوز كوروساوا أية مقدرة على إدارة ممثليه (وإن كان النجاح ليس كاملاً بالنسبة لأداء الأبله) ومن هؤلاء تبرع ميكاو هارادا لاعبة دور الزوجة التي ترى في الصراع القائم بين أفراد العائلة الواحدة فرصتها للانتقام٠
٠«ران» في نهاية المطاف عمل لا يمكن تكراره. في نقله لتراجيديا شكسبير استفاد كوروساوا من تغيير البنات إلى أبناء رافعاً من حدة الصراع وعبثه، كذلك جسد كل ما ذهب المسرحي من تصوير تراجيدي لقصة الملك الذي وقع فريسة ضغن أفراد عائلته، بل وأضاف على ذلك متعة النقل السينمائي وسعته ليعطينا عملاً بديعاً وجديراً بكل تلك السنوات التي أمضاها المخرج العجوز في التحضير والعمل. «ران» هو مجال إبداعي فريد لمخرج يعكس نظرته للتراث الياباني في كافة أعماله، وهذا الإبداع لا يوجد متشابهاً بين المبدعين، ففلليني ليس انطونيوني (على الرغم من قدومهما من تراث واحد) وانطونيوني ليس كوبريك وكوبريك ليس كوبولا وكوبولا ليس رينيه ورينيه ليس كوروساوا. في الحقيقة ليس هناك من هو كوروساوا، أسلوباً وتنفيذاً وتعبيراً، الا كوروساوا. حتى شكسبير ليس كوروساوا٠



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2010٠


0 comments: