فيلم الأسبوع                                          
THE GRAND HOTEL
إخراج: إدموند غولدينغ
Edmund Goulding
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقد: ميسر المسكي

 الفيلم الذي فاز بأوسكار سنة 1933 استكمل الولادة الجديدة للفيلم الناطق
★★★
"غراند أوتيل" لـ إدموند غولدينغ
 إنتاج أميركي ـ أستوديو م.جي.م
أدوار رئيسة: جون باريمور ـ غريتا غاربو ـ جون كروافورد ـ ليونيل باريمور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السينما صامتة.... السينما تتكلم!
ما بين الخَرَسْ والثرثرة لحظة مفصلية حاسمة، غيرت شكل الفيلم إلى الأبد.
السينما، السعيدة بكلماتها الأولى، بكل تأتأتها ولعثمتها، كانت تفرض على كل شيء أن يتغير. من أستوديو التصوير وأجهزته، إلى صالات العرض. الصوت له حضوره والكل عليه أن يصغي. الناس أحبت ثرثرة الممثلين، والناس فلوس في شباك التذاكر. إذاً الصوت حاضر ليبقى ويسود. أولئك اللذين نظروا بإزدراء إلى القادم التقني الجديد سيدفعون الثمن غالياً. هم ببساطة سيخرجون من لعبة السينما إلى غير رجعة. الشهير دوغلاس فيربانكس، الذي طالما صنع مجداً أيام السينما الصامتة، سيلاحظ وهو يراقب تصوير فيلماً ناطقاً، في إستوديو مجاور أن "الأيام الرومانسية للسينما قد إنتهت". فيربانكس لن تطول أيامه في هوليوود بعدها.
ممثلات كُنّ على قدر غير قليل من الشهرة، إضطررنَ لحزم حقائبهن والعودة من حيث أتين. هُنّ كُنّ من بولونيا أو ألمانيا أو السويد. والصوت فَضَحَ لهجتهنّ الغريبة. الجمهور الذي أعتادهن، و أحبهن، خُرساً، لن يقبلهن بعد اليوم إلا بإدوار الشخصيلت الأجنبية، وهذه قليلة. الصوت وضعهنّ على الباب مودعين مجداً وأيام عزّ لن تكون لهنّ بعد اليوم. قليلات من نجينَ من إرهاب الصوت. غريتا غاربو واحدة منهنَ (نجمة فيلمنا في الآتي من المقال).
حتى الممثلين والممثلات الأميركيين كان عليهم الخضوع لتجارب الصوت. بعضهم أكتشف فجأة، مُرتاعاً،أن لا صوت له. بمعنى أن صوته لا يصلح للسينما. عليه أن يجد مكاناً آخر وعملاًآخر غير هذا الذي تمرّغ في أضوائه لسنوات بدا وكأنها إلى آخر العمر.

وإذا كان الفيلم لاهياً بعذوبة نطق الكلمات الأولى، الآخرين كان عليهم الآن أن يلتزموا الصمت. الأستوديوهات التي كانت تضجّ بتعليمات المخرجين للممثلين، أثناء تصويرمَشاهد الفيلم الصامت، أصبح عليها أن تكون هادئة وصامتة الآن، فلا صوت يعلو على صوت الممثلين. هؤلاء الممثلون الذين أربكتهم صيحة الأمر الجديد "سكوت!" وجدوا أنفسهم وحيدين بلا تعليمات المخرج المتواصلة. بعد الـ "أكشن" المُعتادة،  وجدوا أنفسهم، فجأة، متروكين لموهبتهم وإدراكهم للدور.
بروجكتورات التصوير كانت صاخبة فَـوَجَـبَ إخراسها، ولو على حساب أن يتحول الأستوديو إلى شيئاً من فرن. فتقنية جعل البروجكتورات الضخمة صامتة رفعت من حرارتها إلى حدّ غيرمقبول أحياناً. كاميرا التصوير كان لها ضوضائها أيضاً، وأمام عدم وجود تقنية بعد، حينها، لجعلها خرساء، رأوا أن "يدفنوها" في غرف خشبية مُـبـطّنة من الداخل. المصور ومساعده كانا يغرقان في عرقهما بعد تصوير مشهد ولو قصير.

طبيعي أن الصوت فَرَضَ تغييراً أيضاً في أجهزة صالات العرض. الفرقة أو عازف البيانو الذي كان يرافق الفيلم لم يعد له داع. فالفيلم الجديد ذي الشريط الصوتي المُرافق أصبحت موسيقاه (وحواره بعد تحديث متواصل لعملية المؤامة سينكرونايزشن بين الصورة والصوت) منه وفيه. هذه الحقيقة والضرورة التقنية الجديدة جعلت مهندسي الصوت الآتين من شركات الهاتف وأستوديوهات تسجيل الأسطوانات، أسياداً جُدد لهوليوود، ولو إلى حين. هؤلاء أصبح لهم الأمر في تقرير ماذا ومن يصلح ومن يجب أن يرحل. هؤلاء أصبحوا يقررون بشكل ما طريقة الحركة في المشهد لإرتباط حركة الممثلين بضرورة بقائهم قريباً من ميكروفونات إلتقاط الصوت التي طالما خبأها مهندسوا الصوت الجُدد في مزهرية هنا أو تحت الطاولة هناك.

الصوت أذلّ نجوماً وأخرجهم من عالم صناعة الحلم، ووضع حفنة من الآخرين تحت إختبار مستمر لإثبات قدرتهم على الإستمرار. ولتحسين أدائهم الصوتي جاؤوا بمدربي الصوت والإلقاء من المسرح الشكسبيري والكلاسيكي. والنتيجة ستبدو في تلك المبالغات الأدائية واللفظية في السنوات الأولى للفيلم الناطق.

خلفية الفيلم التاريخية 

برلين 1929. حفنة سنوات، لا تزيد عن عشر، مَرّت على نهاية الحرب الكبرى التي أطاحت، من ضمن الكثير الذي أطاحت به، بالنظام الأمبرطوري في ألمانيا. جمهورية  "فايمار"، التي ورثت البلد بعد الهزيمة، ضائعة، مُشتتة. الشارع ساحة للصراع بين الميلشيات المدنية لليسار الشيوعي الداعي والحالم بتكرار الثورة البولشفية في روسيا قبل أثنا عشر عاماً فقط، وبين اليمين النازي الصاعد بدغدغة النوازع القومية الجرمانية والمدعوم من الصناعيين والمصرفيين المرعوبين من بلاشفة ألمان يسودون في برلين. 
التضخم المالي لا شيء يردعه.  هذيان الإنفلات الإقتصادي وضع الإقتصاد في بؤس غير مسبوق بحيث أصبح الدولار الواحد يساوي أربعة ملايين مارك ألماني. المجتمع في حالة إحبط شديد ويأس ضَاعَفَ من حالات الإنتحار.
لكن رغم كل هذا (البعض يقول بل بسببه) برلين شهدت أكثر سنواتها حرية وتمرد. في صالونات وحاناتها ومسارحها وكبارياتها، شَهَدَ الإبداع الثقافي والفني والفكري بعض أغزر سنواته إنتاجاً و...حريّةً!

فندق كبير بشخصيات كثيرة

في هذا المناخ اليائس والمضطرب والعابق بالشيء ونقيضه كتبت النمساوية فيكي باوم روايتها  "ناس في الفندق" عام 1929 والتي نقلتها سريعا "إلى نجاح واسع عَـبَـرَ بها المحيط إلى هوليوود التي حولتها إلى فيلم لا يقلّ شهرة في سيرة السينما:"غراند أوتيل" والذي حَـصَـدَ واحد من بواكير الأوسكارات عن أفضل فيلم لعام 1932.

في "غراند أوتيل" حيث: "ناس تأتي وناس تذهب، ولاشيء يحدث"، كما يُعلّق الدكتور أوترنشلاغ (لويس ستون)، لا تلبث الصورة أن تتكشف عن أمور كثيرة تحدث تحت السطح وتعكس حال القلق والفوضى التي تسود البلد والتي سبق وصفها قبل قليل.
فيليكس فون غايغرن (جون باريمور) بارون سابق من طبقة النبلاء التي تلاشت بعد الحرب، أضاع ثروته ومجده وتحول إلى مُـقامر ولصّ لمجوهرات الأثرياء من نُزلاء الفندق. فيليكس يتلطى وراء لقبه النبيل ليُضفي هالة على حضوره تُسهل عليه خديعة ضحاياه. البارون يصادق نزيل آخر يبدو خارج المكان: أوتو كرينغلين (ليونيل باريمور). مُـحاسب بسيط في شركة صناعية، يكتشف أنه يحتضر من مرض عُـضال، فيجمع كل مدخراته لينفقها في إقامة أخيرة في الفندق الباذخ والباهظ التكاليف. يتصادف هنا وجود الصناعي بريسلينغ (والاس بيري) الصناعي وربّ عمل أوتو. بريسلينغ يبدو في ضائقة مالية ويأمل بإتمام صفقة إندماج مع شركة بريطانية في مانتشستر. يستأجر بريسلينغ خدمات فتاة لتطبع المحاضر (جون كروافورد) التي لا تلبث أن تراوده عن نفسها مقابل أن يساعدها في تحقيق تقدم نحو حلمها أن تصبح ممثلة سينما.
أخيراً هناك راقصة البالية الروسية غروسينسكايا (غريتا غاربو) والتي تبدو سيرتها المهنية إلى أفول مما يجعلها دائمة التوتر وعلى حافة الإنهيار.

ما سيأتي بعد تقديم الشخصيات هذه هي جملة من العلاقات المتداخلة ترمي البعض في أحضان البعض (راقصة الباليه والبارون السابق) أو تجعلهم على طرفي مواجهة وإستفزاز متواصل (الصناعي والمحاسب السابق المُحتضر) لكن الكل يبدون تائهين يحاولون البحث عن الخلاص. هم يتخبطون (كما ألمانيا بعد الحرب) في سعيهم المحموم نحوإدراك توازن مادي (الصناعي) أو نفسي (راقصة الباليه) أو أخلاقي (البارون السابق) أو مهني (الفتاة الطابعة) هم يختزلون الأمة المأزومة بواقعها المتردي والمتشظي إلى مسارب لا يبدو أن أي منها يقود إلى أكثر من سراب.
"غراند أوتيل" كان جديداً في تقديم هذا المناخ حيث يتصادف وجود عدد من الشخصيات في مكان واحد فتتقاطع سبل وعلاقات بعضاًمنها وتبقى غافلة عن وجود البعض الآخر. في قاعات الأوتيل وغرفه وممراته تدور حكايات، وعود، آمال وخيبات. 
التصميم الفني للفيلم هوعنصر أساسي في ضبط مناخ العلاقات وتأطيرها. هو أيضاً واحد من (إن لم يكن الأهم) العوامل التي ساهمت في جعل الفيلم من الكلاسيكيات السينمائية. سيدريك غيبون المُصمم الفني الشهير (في جعبته إنجاز تصميم تمثال جائزة الأوسكار عام 1928 وثمان وثلاثون ترشيحاً لأوسكار أفضل مُـصمم فني فاز في أحد عشر منها) يصمم فراغات واسعة، باذخة  يسيطر عليها ستايل الـ"آرت ـ ديكو" الشديد الأناقة بخطوطه المستقيمة أو المنحنية المتكررة، والذي كان سائداٌ حين إنتاج الفيلم. (لمزيد عن الـ "آرت ـ ديكو" شاهد مبنى الـ "كرايسلر" البديع في نيويورك، ومبنى الـ "إمباير ستايت" في نفس المدينة). تصاميم غيبون السخية في مساحتها تسمح للكاميرا بالحركة بحرية صعوداً، هبوطاً، إنسحاباً أو دوراناً. كما أن الإضاءة تخلق ظلالاً تكوينية على الجدران الممتدة أو الأضيق فراغاً كغرف الفندق.

المخرج وممثليه
البريطاني إدموند غولدينغ، الآتي كما أغلب الفريق، من السينما الصامتة، أدار الجميع بسلاسة وتدفق بصري جعل متابعة الشخصيات وتداخل علاقاتها متعة لم تفقدها الخمس وثمانون عاماً، منذ تصوير الفيلم، أي من بريقها. غولدينغ لم يبخل بإدخال بعض اللقطات ذات الدلالة لكن دون قطع السياق. مثلاٌ عند نهاية الفيلم تُغادر أغلب الشخصيات الفندق فيما تبقى الكاميرا على الباب الرئيسي الدوّار الذي يبقى يدور دون توقف وكأنه تأكيد بصري على العبارة التي بدأ فيها الفيلم:"ناس تأتي،ناس تذهب، ولاشيء يحدث". كل تلك العلاقات وكل تلك الشخصيات هي مجرد تفصيل لا يستحق أن تقف عنده الحياة، حتى ولو كان الأمر يتضمن موت البعض أو إفلاس ودمار آخرين. الباب يدور بلا هوادة...وكذلك الحياة!
كذلك في مشهد قصير لثوان لكن لامع، نجد كيف يُهان كلب أحد الزبائن بعد موت صاحبه. فالحيوان الأليف، والذي كان للأمس فقط مُستلقياً على السرير الفاخر، في غرفة صاحبه، كأي نزيل آخر، هاهو عامل النظافة "يكنسهُ" بغلّ وقسوة حين لم يعد له صاحب.

ثلاث سنوات فقط كانت قد إنقضت على التكريس الرسمي لـ "الصور الناطقة". أقول الرسمي لإن محاولات إدخال الصوت على الشريط السينمائي كانت قد بدأت منذ السنوات الأولى للعشرينات، لكن الزخم الحقيقي بدأ حين تبنى الأخوة وورنر  الصوت (في خروج عن الحذر العام والإزدراء أحياناً من قبل الإستوديوهات الكبرى للتقنية الجديدة) ودفعوا به إلى محاولات جادة، تكرست عام 1929 بحضور الصوت لزوماً وضرورة في الفيلم السينمائي. لكن كما ذكرنا في البداية للصوت هيبته وسطوته وشروطه. وربما لم يشعر برهبة القادم الجديد أحد أكثر من غريتا غاربو.
غاربو كانت أسطورة في السينما الصامتة. جمال فريد لا يشبه إلا ذاته. إطلالة لا تشارف على الإيحاء الجنسي المُباشر، لكنها تحمل من الغموض ما يكفي ليثير عوالم خيال رجال عشرينات القرن الماضي. غاربو سويدية. لكنتها ثقيلة بالانكليزية. لكن لا يهمّ فالسينما صامتة، والصورة هي الأصل والأساس. أما مع الصوت فالحال تغير. منذ ثلاث سنوات وغاربو تحاول تحسين لهجتها وتعمل (كما كل الممثلين والممثلات أميركيين أم أجانب) على تعميق صوتها وترخيمه للتخلص من تسطيح النبرة وإغناء مساحة التعبير. هي تعرف أنه لم يعد سهلاٌ الحصول على أدوار شخصيات أميركية أصيلة. إذاً الإحتمال مفتوح لأدوار الشخصيات الأجنبية، وفي "غراند أوتيل" هناك دور راقصة الباليه الروسيه. لكن الأستوديو المُنتج قلق من لكنتها السويدية. المُخرج يُصرّ. غاربو تنال الدور. 
لا يمكن لك إلا أن تُلاحظ تلك العصبية والتوتر في أداء غاربو. صحيح أنها تلعب دور شخصية على حافة إنهيار مهنتها ونفسيتها، لكن إشارات اليدين الواسعة والكثيرة وتعابير الوجه المتقلصة بحدة، توحي بأداء لم يستطع التخلص من صمت الصورة وضرورة المُبالغة في الأداء الإيمائي.
على الجانب الأخر تبدو جوان كروافورد أكثر هدوئاً وتلاؤماً مع حضور الصوت مع صورتها. كروافورد لم تكن مغمورة. كانت نجمة حازت عقداً طويلاً مع م.جي.م. عام 1925 أيام عزّ السينما الصامتة. لكن أسطورتها لم تكن تجاوزت بعد غاربو. في "غراند أوتيل" مساحة لافتة وبراقة من أداء كروافورد.
الأخوة باريمور (جون وليونيل) والآتيان من قلب المسرح الكلاسيكي والشكسبيري، يلعبان دوران جيدان ذوتأثيرات مسرحية واضحة.
كل المَشَـاهد تم تصويرها في الأستوديو. الكاميرا لا تخرج إلى شوارع برلين. لكن على أي حال، سبع سنوات بعد إنجاز الفيلم، لن يبقى برلين ولا شوارع. ستكتسح الحرب العالمية الثانية المدينة وأهلها. برلين، ولسنوات، ستصبح خراباً مأسوياً أين منه حطام الشخصيات التي تخرج من الـ "غراند أوتيل" في المشهد الأخير.  


____________________________________________________________
©
كل الحقوق محفوظة للمؤلف بحكم قانون الملكية البريطانية
All rights are reserved by Mohammed Rouda
____________________________________________________________


0 comments: