Cannes Films-3
Paterson
إخراج: جيم جارموش
Jim Jarmusch
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقد: محمد رُضـا
كل شيء هو باترسون في فيلم عنوانه «باترسون»
★★★★★
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسمه باترسون، يعيش في بلدة أسمها باترسون ويقود حافلة (باص) عليها من الأمام إسم باترسون في فيلم عنوانه «باترسون». علاوة على ذلك، باترسون الشخص يحب أشعاراً كتبها وليام كارلوس وليامز ونشرها في فصول ما بين 1946 و1958) في كتاب عنوانه «باترسون»!
إنه فيلم جيم جارموش الجديد الذي بوشر بعرضه في عواصم أوروبية وأميركية منذ أيام لكنه لن يعرض في البلاد العربية لغياب الموزع الذي يكترث ما إذا كانت كل هذه الأسماء لها دلالات واحدة طالما أن الفيلم لا يحتوي على مطاردة سيارات ولا ينطوي أيضاً على مركبة فضائية إسمها باترسون.
ليس أنه أفضل أفلام المخرج الذي صنع سابقاً أعمالاً خلبت هواة الفن السابع ونقاده مثل «قطار لغزي» (1989) و«رجل ميت» (1995) و«كلب شبح: طريقة الساموراي» (1999).
حتى فيلمه السابق، مباشرة قبل هذا الفيلم، وهو «العشاق فقط بقوا أحياءاً» (2016) نال على كآبته مكانة طيبة بين هواة أعمال هذا المخرج الذي أخرج تدرج سريعاً من مهندس صوت إلى مؤلف موسيقي ومصور إلى مخرج من العام 1980.
روتين حياة
الذين يعرفون سينما جارموش عادة لا يخفون إعجابهم. محطة هذه الأفلام الأولى كانت «كان» و«برلين» غالباً وأعماله دائماً ما عرضت في صالات مليئة بالمشاهدين التواقين لفهم وقبول ما سيعرضه المخرج عليهم هذه المرة، مدركين أنه في كل مرّة يحافظ على نبرة صوت خفيفة وإيقاع يكاد لا يتغير وحكايات تبدأ وتنتهي فجأة كما لو أنها ابتسرت من الحياة ذاتها.
في «باترسون» هناك المزيد من هذا الهدوء وربما إلى درجة تسمح للمرء بالتساؤل عن الحكمة وراءه. هل له سبب؟ هل البقاء، كتابة وتمثيلا وإخراجاً، تحت مستوى الإثارة ولو الشكلية أمر يفضي دائماً إلى الحسنات أو أن الحسنات هي في سرد فيلم يتحدّى النمط ويختلف عن السائد؟
باترسون الشخص هو (الممثل) أدام درايفر. باترسون البلدة هي (حقيقية) تقع في ولاية أوهايو. و«باترسون» الحافلة تحمل رقم 23 وتسير على خط واحد ينطلق من الكاراج صباحاً إلى بعض أنحاء المدينة. أما باترسون الفيلم فهو إنتاج من شركة «أمازون ستديوز» مع مشاركة فرنسية وأخرى ألمانية.
بطلنا يستيقظ صباحاً. يقبّـل زوجته (غولشفته فرحاني). يتناول الإفطار. يمشي إلى كاراج الحافلات القريب. يعتلي مقعد القيادة ثم يكتب شعراً بينما ينتظر لحظة الإنطلاق. في فترة الظهر يتناول غذاءه المعلّـب في حديقة ويكتب (أو يقرأ علينا) المزيد من الأشعار. بعد إنتهاء الدوام يعود إلى البيت سيراً على قدميه. يحيي زوجته. يتناول العشاء. يخرج ومعه الكلب. حين يصل إلى حانة تقع على مفترق طريق، يربط الكلب جانباً ويدخل ليشرب البيرة. كل يوم على هذا الحال ولنحو ساعة ونصف.
ذات مرّة تتعطل الحافلة التي يقودها. ينزل الركاب منها صامتين وهادئين. لا أحد منهم، مزعوجاً وبل لا أحد منهم يتأفأف. هم المخرج ليس هم، لكن المشهد يبدو كما لو أنه يدور على سطح كوكب غير أرضي انتزع من سكانه أي مشاعر.
هناك حوار ينتهي دائماً بالقبول بين الزوجين. هي لا تعمل لكنها ترتب البيت باللونين الأبيض والأسود وهو راض. ربما يسألها لكنه لا يعارض. تؤم الرسم. يؤم الشعر وكل شيء يمشي على هذه الوتيرة.
الوتيرة المرتفعة تقع فقط في الحانة التي يؤمها باترسون إذ تشهد قصّـة حب بين رجل وإمرأة هي تريد إنهاء العلاقة وهو يستميت في استمرارها. في أحد المشاهد يسحب العاشق مسدساً للتهديد. لا شيء يحدث بعد ذلك فهو لا ينوي استخدامه. كل شيء يعود إلى سباته.
جزيرة الأرواح
رغم ذلك هناك قدر من الألغاز المدفونة في هذا الفيلم تجعله أكثر مما يتبدّى.
الزوجة تزين البيت بمربّـعات بيضاء وسوداء. تضع ستارة بيضاء عليها دوائر سوداء وترتدي فستاناً أسود على دوائر بيضاء. «الفوطة» التي تستخدمها وزوجها على مائدة العشاء بيضاء بدوائر سوداء.
كل من يلتقي باترسون بهم يعيشون خارج منازلهم. لا مكاتب في الفيلم. هناك حانة لكنها تحوي أشخاصاً مختلفين يدخلون ويخرجون وبينهم باترسون نفسه. رئيسه في العمل يمشي إليه قبل الإقلاع. لا نرى باترسون يطرق باب مكتب ما في عمله. الشوارع. الناس. الحدائق كلها خارجية. المشاهد المحصورة الوحيدة هي التي تقع في ذلك البيت. الزوجة لا تعمل في الخارج. لابد أنها تخرج لتشتري حاجيات البيت لكننا لا نراها تفعل ذلك. هي مرتاحة في منزلها وتعيش فيه كما لو أنه كل العالم.
هل هي بدورها حقيقة؟
يكاد ما سبق أن يؤكد ذلك، لولا وجود مشهد واحد لها خارج البيت. إنها بصحبة زوجها يحضران فيلم «جزيرة الأرواح الضائعة» Island of Lost Souls، فيلم عن عالم تحوّل إلى مجنون يشوّه البشر ويخلق منهم وحوشاً قام بتحقيقه سنة 1932 مخرج غير معروف البتة أسمه إريك س. كنتون. على ذلك تعود إلى تاريخ ذلك المخرج تجده مليئاً بنحو 150 فيلم. تسأل نفسك: لماذا هذا الفيلم بالتحديد الذي اختاره جيم جارموش في ذلك المشهد؟ ربما الجواب في أنه حكاية فانتازية أخرى من أعمال المؤلف هـ. ج. وَلز (عنوانها «جزيرة دكتور مورنو»). هل الزوجة جزء من التاريخ على نحو ما؟ ما الذي يبعدها وزوجها عن فيلم حديث بإستثناء أن الفيلم الحديث قد يعني أنهما (أو على الأقل هي وحدها) حقيقية حاضرة؟
وهناك المزيد: باترسون يكتب الشعر. فتاة صغيرة تكتب الشعر. في نهاية الفيلم يلتقي باترسون برجل ياباني يكتب الشعر. هناك مشهد لرجلين توأمين وآخر لسيدتين توأمين. فتاتان ترتديان فستانين بلون واحد. ويكفي أن كلمة باترسون لها ثلاث صفات: إسم البطل وإسم الحافلة وإسم البلدة.
ليس من بين كل هذا ما هو صدفة. لكن ما هو هذا المضمون الذي يمكن لنا استنتاجه من هذا الوضع؟
أبيض وأسود
هل الأبيض والأسود في منزله دليل تناقض أم دليل إنسجام؟ هل المشاهد التي تقدّم لنا شخصيات مزدوجة من باب التأكيد على شيء معين؟ هل للإيحاء بأن الحقيقة هي الخيال والخيال هو الحقيقة في الوقت ذاته؟ هل باترسون- الشخص حقيقي بدوره؟ وحين يقرأ شعراً لسواه هل هو نتيجة هذا الشعر وتجسيده؟ وهناك الملح (أبيض) والفلفل (أسود) على الطاولة جنباً إلى جنب، إشارة أخرى إلى حياة غير ملوّنة.
في فيلمه السابق، «العشاق فقط بقوا أحياءاً» نلتقي برجل أسمه آدام (توم هدلستون) وإمرأة أسمها إيف، حواء، (تيلدا سوينتون) يعيشان في منزل مليء بالتاريخ. هما نفسيهما تاريخ كونها من مصاصي الدماء. عاشا مئات السنين وما زالا لكن الحياة ليست مبهجة بل هي مقلب لهما. فخ محكم لا يستطيعان الفكاك منه لا بالموت و…لا بالحياة. ولا الفيلم من النوع المرعب ولا حتى المشوّق. إنه كما لو أن المخرج يرصد استمرار الحياة وهي جافة من كل أسباب بهجتها أو حتى كآبتها.
هذا يتكرر هنا بمعطيات أخرى. إنه فيلم حول أسبوع واحد من حياة بطله لكن كل ما يحدث ليس حدثاً وحتى ما يقع في الحانة غير مرتبط عضوياً بما يعيشه باترسون في حياته لا الزوجية ولا المهنية. ذلك المشهد حيث تتعطل الحافلة ويهبط منها الجميع بلا تردد أو غضب (إمرأة متقدّمة في السن تسأل باترسون عن موعد الحافلة البديلة وترضى بجواب مختصر). ما يحدث هو شيء من نتوءات الرتابة. مثل شاشة ترصد دقات القلب فيبدو ساكناً بإستثناء شارات بسيطة.
لكن المفاد في النهاية، ومع كل هذه الظواهر، هي واحدة: الحياة هي بمثل هذه الرتابة لولا الشعر والفن. صحيح أن الفيلم ينتقل من البيت إلى خارجه نهاراً وليلاً ما يخلق تنويعاً لم يعهده «العشاق فقط بقوا أحياءاً» إلا أن المعني المتسرب من بين أصابع يدي المخرج هو أن العالم، أينما كان، هو فخ لمن يعيش فيه إلا إذا خرج من منواله بكيانه الداخلي. وهذا الكيان هو الفن (لدى الزوجة إذ تؤم الرسم) والشعر لدى الزوج الذي لا يتركه وحيداً.
شعر وشاعرية
باترسون نفسه يحب شعر وليام كارلوس وليامز وشعر فرانك أو هارا وهما من زمن سابق. لكن الأهم هو أن النهاية تحمل أملاً في استمرارية منعشة إذا ما استطاع باترسون أن يواصل روتينه اليومي طالما أن هذه الحياة (التي تبدو كفخ نعيشه ولا نستطيع مغادرته) مصحوبة بما يرفع من حبور الوجود: الطبيعة الغناء في مشهد النهاية حيث يلتقي باترسون بذلك السائح الصيني (ماساتوشي ناغاسي الذي كان ظهر في فيلم جارموش السابق «قطار لغزي» حين كان لا يزال شاباً) الذي بدوره يكتب ويحب الشعر. يحمل الياباني ما يبدو هواءاً نقياً يبثه بأناقة وحبور. يتلقف باترسون هذا الهواء في الحديقة ويبدو منتعشاً متجدداً للمرّة الأولى. هناك إبتسامة ووداعة في هذه الألفة. زيارة الياباني تبدو بدورها مثل حلم عبر حياة باترسون.
حب جارموش للسينما اليابانية مشهود. ليس فقط أنه حقق فيلم ساموراي بطله الأفرو-أميركي فورست ويتيكر يجيد الساموراي بل هي هناك، كما لاحظ الناقد جوناثان رومني منفرداً، طيفاً من أفلام كوري-إيدا هيروكازو التي صوّرها في بلدات يابانية صغيرة (وأضيف «لا أحد يعلم» و«جزر جميلة» كمثالين).
بذلك فإن الشعر، في هذا الفيلم، والشاعرية، في رسمه وصياغته، هما الحياة الأرقى ويمكن النظر إلى الفيلم على أنه جزء مترجم من أشعار كتاب وليامز المعنون «باترسون»، الذي دار حول شخصيات بنبرات هادئة ويوميات غير مثيرة في مدينة أسمها باترسون في الوقت الذي هو فيه معالجة شعرية تدخل وتخرج من الحياة والواقع في زيارات لرتابتها وخيالاتها.
Elle
إخراج: بول ڤرهوڤن
Paul Verhauven
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقد: محمد رُضـا
حكاية إمرأة تعرف كيف لا تنتقم
★★★★★
• من بين ما تتميز به أفلام المخرج الهولندي بول فرهوفن الأناقة الشكلية خصصاً تلك التي حققها، في مسيرته الطويلة، في أوروبا قبل ثم بعد مرحلته الهوليوودية. العناية بالتصماميم العامّـة وبالألوان والتصوير الخالي من الشوائب تمنح أعماله،وآخرها هذا الفيلم، ما يشابه الثياب التي ترتديها بطلة الفيلم إيزابيل أوبيرت أناقة ونظافة.
ميشيل (إزابَـل أوبير) تدير مؤسسة لصنع ألعاب الفيديو الإلكترونية وتعيش وحيدة في بيت كبير في ضواحي باريس. يبدأ الفيلم بمشهد صراخ ثم لقطة لقطّـة تتابع ما يدور ثم وميض مما يقع: حادث إغتصاب يقوم به ملثم وضحيته ميشيل. هذه تلملم نفسها سريعاً بعد ذلك وتنطلق لمتابعة يوميات حياتها. لا تولول ولا تنهار ولا تتصل بالبوليس، بل تقرر مواصلة حياتها كما هي علماً بأنها ترتاب في أن أحد موظفيها قد يكون الفاعل. في الوقت نفسه هي محور وقائع عائلية مختلفة محاطةبظروف من صنع الذات البشرية والقرارات غير الصائبة. فهي مرتبطة بعلاقة تريد إنهاءها مع روبير (كرستيان بركل)، زوج صديقتها آنا (آن كونزيني). وإبنها الشاب (جوناس بلوكيه) تزوّج من فتاة حبلى تلد طفلاً أسود البشرة (من علاقة سابقة مع صديقه الأفريقي عمر). أما والدتها (جوديث ماغري) تختار شاباً جديداً لكي تعيش حياتها الجنسية كما ما زالت تشتهي. وصديقها السابق ريشار (شارل برلينغ) يحاول أن يستعيد مجداً مضى ككاتب.
في غمار كل ذلك وأحداثه (المكتظة) تبقى حادثة الإغتصاب ماثلة أمامها ثم تتعرض لها مجدداً بعدما اكتشفت أن جارها باتريك (لوران لافيت)، الذي بدأت تهواه، هو الفاعل. وقبل نهاية الفيلم (الذي يمتد رافضاً الإيجاز) يقدم باتريك على محاولة جديدة كونه لا يستطيع المعاشرة الجنسية إلا إذا اغتصب.
بقدر ما الفيلم مبني على حبكة لغزية، بقدر ما هو دراما ترفيهية ساخرة فيها ما يكفي من عناصر جذب الإعجاب لكل ما يدور فيها، بما في ذلك تناول المخرج المخفف لموضوع الإغتصاب وردات الفعل عليه. يستند لحسنات أكيدة في الكتابة والتصوير والتوليف كما في أداء أوبير لدورها بدراية وتلقائية مثيرة للتقدير. على ذلك، يبقى الفيلم نطناطاً من دون عمق. مثرثر بلا توقف من دون فسحات تأمل مطلوبة.
هذا هو فيلم بول فرهوفن الأبرز له في عشر سنوات، والأول له في إطار سينما وأحداث فرنسية كاملة كما أول تعاون بينه وبين المنتج الناجح سعيد بن سعيد. إيزابيل أوبير هي ذاتها من فيلم لآخر هذه الأيام لكنها مجتهدة هنا في دور صعب في شتّى مراحله. غاية فرهوفن تبدو مزدوجة: من ناحية يريد تقديم فيلم جاد وفني حول موضوع بطلته كجزء من حياة غير مستقرة، ومن ناحية أخرى لا يريد أن يدير ظهره للجمهور السائد. وهو يحقق هاتين الغايتين على نحو مرض.
____________________________________________________________
©
كل الحقوق محفوظة للمؤلف بحكم قانون الملكية البريطانية
All rights are reserved by Mohammed Rouda
____________________________________________________________
0 comments:
Post a Comment