جون ساڤاج في
The Thin Red Line |
Terence Malick (1998)
أفلام العددـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المهنة: ناقدوصلت الى المطار وكانت في استقبالي سيارة ليموزين، ومستقبلين
والى فندق خمس نجوم والسويت جاهز وكل شيء على ما يرام بإسثتناء أن المهرجان
غلط بالنمرة .......................................................................................................فيلم الأسبوعنقد للفيلم الجديد »الحرس« حيث حل الحرب الباردة ومشاكل العالم لا يكونبحرب محدودة .... بل بالقنبلة النووية مرّة واحدة. مرحباً بكم على شاشة زاك سنايدر.......................................................................................................بحر من الأفلامنقد لـ »كليفتي« لمحمد خان (مصر) »تحت السقف« لنضال الدبس (سوريا)
»إختفاء السيدة« لألفرد لألفرد هيتشكوك (بريطانيا)، »تحقيق حول مواطن فوق
الشبهات« لإليو بتري (ايطاليا)، »النصل الخفي« ليوجي يامادا (اليابان)، جيمس
ج. باروت (الولايات المتحدة)٠.......................................................................................................
سينما جان-لوك غودارأعيد نشر هذا المقال من الأرشيف حول سينما وأفلام المخرج الفرنس
ي غودار الذي عرّف السينما على أنها ليست خيالاً، بل حياة٠ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المهنة: ناقد |
كلام وذكريات في الأفلام ومهرجانات السينماحَدَثَ ذات مرّتين
مرّتان ارتكب آخرون خطأ في شخصيّتي. يسمّونها في الإنكليزية
Mistaken Identity
وعادة ما تستخدم في الأفلام حين يكون رجلاً عادياً مثلي في الوقت الخطأ في المكان الخطأ فيعتقد أنه هو القاتل فتتم مطاردته على هذا الإفتراض وإذا ما ألقي القبض عليه انتهى الى السجن وهو يكرر »والله العظيم بريء يا بيه«. لكن في أفلام العبقري هيتشكوك فإن نجاته من مطاردة القانون هو أن يبحث بنفسه عن القاتل. خلاصه في المر الذي يشربه٠
لكن أنا لم أتهم بجريمة بعد والحمد لله لأني لم أرتكب واحدة وإذا ما سارت حياتي على هذا النحو فلن أتهم بارتكاب واحدة ما حييت٠ لكن ذلك لا يعني أن تصل ذات مرّة الى المطار لتجد أنك محتفى به فوق العادة او أن تجد في انتظارك مبلغاً من المال٠
في منتصف الثمانينات دعيت لحضور مهرجان فالانسيا الأسباني. لم تكن المرّة الأولى لكن الإدارة كانت جديدة. كانت انتقلت -كالمدينة- من حكم اليسار الى حكم اليمين. وصلت الى المطار وتم ايصالي الى الفندق على نفقة الداعي، كالعادة. كل شيء بدا هو ذاته كما في السنوات السابقة. لكن في اليوم التالي او الذي بعده، وصلتني رسالة تقول أن موعد اجتماع فدرالية نوادي السينما الدولية قد عيّن على بعد ثلاثة أيام. في المغلّف ذاته مبلغاً من المال٠
حاولت أن أربط الخيوط الفالتة فلم أفلح وقصدت فعلاً أن أراجع إدارة المهرجان في اليوم التالي. في اليوم التالي لم أجد من يعلم شيئاً عن الموضوع. ولا أحد يعلم لمن أعطي المبلغ. كانت هناك شكوكاً حول مسؤولة الضيافة لكنها كانت مشغولة ولم ترد على محاولات الإتصال بها
في اليوم الثالث ذهبت الى الإجتماع. وجدت إسمى على رأس المائدة. ألقيت التحية وقوبلت بأحسن منها لكني لم أعرف ما الذي سأتحدّث فيه. مال إلي رجل الى يساري وقال هامساً: "انا في الجمعية منذ عدة سنوات (ذكر كم سنة لكني نسيت) ولم ألتق بك من قبل. من تكون؟"٠ ملت الى الرجل وقلت له هامساً بدوري: لجانب أن أسمي محمد رضا فأنا لا علاقة لي مطلقاً بهذه الجمعية. هناك خطأ٠
الى أن تم كشف الخطأ كان المهرجان انتهى وخرجت منه أثرى مما دخلته٠
في أواخر الثمانينات، ها أنا أصل الى مهرجان نانت في فرنسا، فاستقبل بحفاوة خاصّة. قلت في نفسي أن الأمر غريب لأن إدارة هذا المهرجان لم تتغيّر. قام موظّف من المهرجان بأخذ جواز سفري البريطاني مني وحمل آخر حقيبتي وفي لحظات كنت في الليموزين السوداء الى قلب المدينة وصولاً الى أفخم فندق فيها. نانت ليست بالمدينة الزاهية وأفخم فندق فيها هو مسألة نسبية. المهم وصلت وتم وضعي في غرفة سويت وكل شيء على ما يرام لنصف ساعة قبل أن يدق الهاتف وإذا بالموظّف (وهو شاب فرنسي) يتحدّث ملسوعاً قائلاً: أنت لست رئيس لجنة التحكيم؟
لا -
لكنك لم تخبرني٠
لم تسألني حتى أخبرك٠ -
لكن قدّمت نفسك لي ...
قاطعته هذه المرّة بحدة
لم تُتَح لي فرصة تقديم نفسي إليك. شاهدت إسمي على اليافطة ولم يكن هناك خطأ فيه وأنا عادة -
لا أتكلّم كثيراً ولو سألتني لقلت لك ولست مسؤولا عن
عن أخطائك٠
رد وقد تراجع عن حدّته: أعتذر لكن عليك أن تترك السويت٠
أنا مستعد، لكن عليك أن تتأكد أن حجزي الآخر لا يزال متوفّراً -
حسناً، سأعود إليك٠
عاد إليّ بعد نصف ساعة أخرى وأخبرني سريعاً أنني أستطيع أن أبقى حيث أنا. شيء لم أمانعه بالطبع٠ في اليوم التالي عرفت أن رئيس لجنة التحكيم هو مخرج هندي شاب أسمه ليس بعيداً -عند الفرنسيين على الأقل- عن إسمي، فكلانا أسمه الأول محمد، وكان مفترضاً وصوله قبل وصولي بنحو ساعة الى مطار نانت (أنا من لندن هو من نيودلهي) لكن الطيران الهندي تأخر. وحين ظهرت رفعوا يافطة عليها إسمي. من كتب إسمي؟ لا أحد يعرف٠
الموظّف تحمّل نتيجة الخطأ. الهندي وصل بعد وصولي بأكثر من ساعة وانتظر واتصل واعتقد أن المهرجان مهمل لم يعره اهتماماً ثم ضحك حين أخبروه بالخطأ، وبل سعى خلال إحدى حفلات المهرجان للتعرّف عليّ وضحكنا معاً على ما حدث٠
في بعض الأحيان، تذهب كل الأفلام الى غياب لا رجعة منه وتبقى مثل هذه الحكايات٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم الأسبوعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Watchmen
*Zack Snyder إخراج: زاك سنايدر
الولايات المتحدة [2009]. أكشن (كوميكس)٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقد: محمد رُضا
......................................................................................................
القنبلة النووية قد تحل المشاكل كلها وتجلب السلام الى الأرض، لكنها لن تقضي على فيلم رديء
معظم الأفلام التي يتم نقلها من صفحات الكوميكس الى شاشات السينما تكمن على يمين الخط السياسي على نحو آلي٠ هذا مع أن مفهوم البطل الخارق الذي يؤول على نفسه تحقيق العدالة الغائبة وإحلال القانون في حال هوانه والدفاع عن الحريّات والمظلومين، هو مفهوم يبدو مقبولاً في الوهلة الأولى على أساس أن المرء بحاجة الى بطل يحميه من الشر والأشرار الذين يرتعون في غياب الرادع الرسمي. البوليس هنا أما عاجز عن الحركة او أنه فاسد تم شراءه او ليس مجهّزاً بالأدوات التي تجعله قادراً على إحراز النصر في معركته ضد الجريمة المنظّمة التي عادة ما يقودها شخص يتمتّع بقوى مماثلة لتلك التي يتمتّع بها البطل الخارق او »السوبر هيرو« كما يُصطلح على تسميته٠
لكن في نظرة أعمق، فإن هذا المفهوم يحصر الشرور في أشخاص وليس في مجتمعات ويجد في استخدام القوّة الفردية كل التبرير لإلغاء دور القانون الذي يريد الدفاع عنه وحصر المهام بالحل العسكري وحده٠
فيلم زاك سنايدر (»يوم الموتى«، »300«) الجديد يتجاوز »باتمان« و»سوبرمان« و»سبايدرمان« في هذا الشأن ويصب مباشرة في تبرير ما هو أفدح: استخدام القوّة النووية لخلق سلام شامل على الأرض. ترتيباً في لائحة تضم الأفلام التي تدعو للحل العنفي فإن سلسلة تشارلز برونسون »أمنية موت« التي خرجت في السبعينات والثمانينات ومنحت بطلها (غير المتمتّع بأي قوّة خارقة) كل الحق في اقتناص القتلة بنفسه، باشرت سلسلة واسعة من الأفلام المماثلة التي تنتهي هنا مانحة البطل الخارق (المصنوع على ذات النموذج) الحق في تدمير الأرض لأجل خلق حياة أفضل٠
هذا هو مبدأ فاشي معروف وهذا ما يتبنّاه زاك سنايدر هنا من دون جدال٠
قصّة مجموعة من الشخصيات القويّة، سنة 1984 التي لها تاريخ عمل مشترك والتي وصلت الى باب موصد حين منعتها الحكومة من ممارسة عملها فتفرّقت٠ يبدأ الفيلم (الذي تبلغ مدّة عرضه نحو ساعتين ونصف) باغتيال أحدها وحين النهاية نعلم هوية المغتال (الذي لا يجوز الإفصاح عنه حفاظاً على مفاجآت الفيلم ووقعها على المشاهدين) لكن ما بين البداية والنهاية رحلة حول حياة تلك الشخصيات الأربعة الباقية وتمزّقها بين رغبتها في العودة الى ما كانت عليه وبين بحثها عن الإستمرار في حياة مدنية. في الإطار المحيط، فإن الإتحاد السوڤييتي، والأحداث تقع في الثمانينات، يهدد الأمن القومي الأميركي وأمن دول أخرى والرئيس نيكسون (في ولايته الثالثة حسب الفيلم). وهناك جهة تشكّل طرفاً ثالثاً تخطط لهولوكوست نووي وعلى الرغم مما تجده من معارضة، الا أن مفهومها هو الذي ينتصر وهو المفهوم الذي ينتهي اليه الفيلم ذاته مكرراً أنه في بعض الأحيان يكون من الضروري التضحية بالبعض لأجل الغالبية٠ ولتأكيد ذلك، فإن أحد الصور الأخيرة التي يوردها الفيلم، لقاء حب ومودّة بين الإدارتين الأميركية والروسية التي كانت، حسبما يقول الفيلم، على شفير حرب عالمية قبل أيام قليلة لكن المأساة وحدّتهما٠
الكوميدي
من قبل دوران العقرب على دقيقة الفيلم الأولى قد تلحظ أن المنهج هو تركيب الفيلم كما لو كان إنجازاً فنيّاً في الأساس. المقدّمة تستمر لنحو أربع دقائق متمهّلة مع نهايتها شعرت بالملل والفيلم لم يبدأ بعد. في تلك المقدّمة نشاهد شخصيات مقنّعة تصافح الرئيس جون ف. كندي والفنان آندي وورهول من بين آخرين. هذا لكي تؤكد لك أن الرجال المقنّعين- أبطال الفيلم كانوا موجودين أحياءاً يرزقون بالفعل. أين كنت أنت؟ لكن الفيلم ليس بكامله مملاً ولو أنه دائماً ما يمشي على شفير الضجر. إنه فيلم يتعرّج ويتقدّم، في حكايته، خطوة ويعود ثلاث خطوات وينتقل بين الأزمنة من دون ضرورة . المبرر الوحيد لأن تنتقل بين الأزمنة في فلاشباك وفلاشفوروود يجب أن يكون هذا الإنتقال جزءاً من بنية الفيلم الروائية ينضح خلال ذلك بمفاجآت ويقنعنا بأن السبيل الأفضل لكشف هذا الجانب او ذاك من الشخصية او من الحدث لم يكن ليتم على نحو أفضل لولا الإنتقال الى الزمن الآخر قبل العودة الى الزمن الحالي٠
هذا التبرير ليس موجوداً. الموجود هو القناعة بأن مثل هذا السرد السعداني هو تكوين فني ما. والمخرج يبدو أنه يعمل هنا على أساس "أنس فيلمي السابقين. كانا تجاريين تماماً. أما هذا فهو فني في الأساس وتجاري في اعتبار ثان متأخر"٠
لم أقرأ الرواية التي نشرت في إثنا عشر حلقة، لكني قرأت عنها وما فهمته هو أن سمحت لنفسها بانتقالات أفضل لشخصياتها في تطوّر فعلي وذي منهج. فقط السيناريست والمخرج اللذان لا يملكان حيلة او موهبة هما غير القادرين على عدم الحفاظ على عناصر قوّة الأصل حين محاولة نقل ذلك الأصل الى الشاشة. المسألة ليست أن مدّة عرض الفيلم قد لا تستوعب، بل أن الفيلم لو امتد لعشر ساعات من منوال هذا الإخراج لما استوعب٠
شخصيات الفيلم تبدأ بالرجل المسمّى بـ »الكوميدي« ولابد أن الفيلم ذكر السبب لكني لم أعره اهتمامي لأني كنت مشغولاً بمتابعة موقع هذا ا»الكوميدي« (وهو ليس مهرّجاً باختيار الفيلم) من العمل بأسره. يقوم به جفري دين مورغن٠ في مطلع الفيلم نراه يتابع الرئيس نيكسون على شاشة التلفزيون ويشرب من زجاجة ويهز رأساً غير موافق. فجأة يلاحظ أن هناك ظلالاً عند الباب فيبهب واقفاً للدفاع عن نفسه في الوقت الذي يغزوه رجل أسرع منه وأقوى. المعركة تدور بين الإثنين تحوّل الغرفة الي دمار قبل أن يرمي الرجل الغامض الكوميدي من النافذة فيسقط من علو شاهق ويموت٠ في إثره زر أصفر سيلتقطه بعد أصدقائه في محاولة معرفة ما الذي حدث لرفيقه وهي المحاولة التي سيشترك فيها ثلاثة تحديداً هم وولتر (جاكي إيرل هايلي) ودان (باتريك ولسون) ولوري (مالِن أكرمان). والأخيرة إمرأة جميلة لديها شعر طويل مغسول جيّداً لم يكن ينقص الفيلم الا استخدامه في اعلانات شامبو٠
هناك أيضاً رجل كان أصيب بعارض نووي فتحوّل الى »شيء« أزرق طويل القامة، بلا عينين ودائماً عار بالكامل. إنه أشبه بنجم بورنو قُبض عليه خلال التصوير ووضع في الثلاجة لفترة. هذه الشخصية يلعبها ممثل موهوب لن تتعرّف عليه أسمه بيلي كرودوب. وهي، في عرفان الفيلم، شخصية عبقرية لأنها دائماً ما تفكّر في أن الغلبة عليها أن تكون للأقوى فأهل الأرض لا يستحقّون الرحمة٠
عشرة على عشرة
الأجواء الداكنة في هذا الفيلم ليست كتلك التي في سلسلة »باتمان« القديمة او الحالية. هناك هي داكنة لأن الشر سطا لحين ظهور باتمان، ولأن باتمان لا يستطيع الظهور الا في أجواء ليلية كشأن الوطاويط التي ينتمي إليها. أما هنا فإن الأجواء داكنة لأن معظم الشخصيات، تلك التي يتم تقديمها كأبطال، سادية، وجميعاً عنيفة قاسية. والفيلم يعمل على منوال تشجيع انتقالها من بعض العنف الى كل العنف كشرط لمواجهة الشر والأشرار٠
مثالان بارزان، من بين أمثلة أخرى، على ذلك. شخصية وولتر كوفاكس (جاكي إيرل هايلي) شخصية يعذّبها ضميرها تعرّفنا على تاريخها فتقول أنها كانت عادة متهاونة مع الأشرار الى أن داهمت رجلاً كان اختطف فتاة صغيرة قتلها وترك بعض بقاياها لكلابه. وولتر يتناول فأساً ويحل محل القانون بأسره فيضرب رأس المجرم لا مرّة او مرّتين بل مرّات عديدة. نقلته الى العنف خلّصته من تبعات الحيرة عن هويّته وموضعه في المجتمع٠
المثال الثاني كامن في شخصية دان (باتريك ولسون) الذي كان واحداً من المجموعة قبل أن يعيش على أنقاض ماضيه وحيداً. حين تلجأ إليه زميلة الأمس لوري (مالِن أكرمان) يُعاملها كمجرد صديقة وحين تجرّه الى بدء ممارسة الحب معها يتوقّف بعد قليل شاعراً بعجزه. دان، الذي يستخدم نظارة طبّية طوال الوقت، يكتشف بعد ظهور عجزه، أن عليه أن يعود الى دور البطولة الذي يفتقده في داخله فيرمي النظّارة لأن عينيه الآن عشرة على عشرة بعد هذا القرار ويرتدي البذلة المطّاطية ويركب في تلك المركبة التي تشبه البيضة الحديدية والمزوّدة بالعتاد والعدّة ويقرر -ومعه لوري- العودة الى سابق عهده. نتيجة ذلك أن المرّة الثانية التي تُتاح له فرصة ممارسة الحب مع لوري يتجاوز عجزه مستعيداً كامل قوّته . المفاد هنا هو أن الضعف صاحب وولتر حين كان لا يزال غير قادر على أن يحل محل القانون ويقاضي المجرمين بنفس أسلحتهم، وصاحب دان حين اقتنع بالحياة الإجتماعية او المدنية٠
إذ يحكم الفيلم على الشخصيات بين مسالم = عاجز، ضعيف، لا قيمة له وبين محارب = قوي، مُهاب، ذو فاعلية فإنه يترك الشخصية الخامسة أدريان (ماثيو غود) الى ظهور لاحق ويعامله كمستوى أعلى يعكس إعجاب الفيلم (والمخرج طبعاً) به: إنه واحد من هؤلاء المحاربين الذي لم يهن ولم يستسلم وتوصّل لمعرفة أين خير البشرية٠
في غمار ذلك، وفي مشاهد بعضها فلاشباك، نجد تصنيف المخرج للآخرين. »الحرس« ليس عن الأميركيين والروس كطرفي نزاع (ولا فيه ما يكفي لبحث هذا الشأن) بل هو عن الصراع بين القوّة والضعف. وإذا كانت بعض الشخصيات الرئيسية انتصرت -ولو متأخرة- على ضعفها فإن هناك حالات أخرى من الضعف من الممكن سحقها: خلال حرب ڤييتنام تتقدّم القمرة الطائرة التي صنعها دان فوق رؤوس المحاربين الڤييتناميين وتبيدهم. هي لا تطلق الرصاص عليهم تصويباً، بل تفتح عليهم ذخيرة حارقة تنسفهم٠
في مشهد يقع داخل سجن يدخله وولتر مذنباً يضايقه سجين بأسئلته وتحرّشه. يكسر وولتر الزجاج الفاصل بينه وبين المطبخ ويلتقط الزيت المغلي ويصبّه على السجين. السجين رجل أسود٠ لاحقاً، أحد النافذين بين السجناء قزم صغير أضعف من أن يجابه القوّة بمثيلها لذلك لديه رجلين يقومان عنه بهذه المهمّة. هذا القزم ينتهي مقتولاً بعنف. لا نرى من جثّته الى بركة دماء٠
ماذا بعد؟ الكوميدي كانت له علاقة بإمرأة فييتنامية. تتقدّم منه وتخبره بأنها حامل منه. يسحب مسدّسه ويقتلها. دان يستنكر. الكوميدي يرد عليه. دان يتراجع عن استنكاره٠
الشعوب الثالثة والصغار حجماً والنساء الضعيفات في هذا المنوال، هي إما حشود حرب تنتهي الى الإبادة وإما حالات في الظاهر إنسانية لكنها لا تستحق الحياة وفي الحالتين فإن قتلها مبارك٠ وهناك حالة أخرى حين ينقذ دان وصاحبة الشعر الطويل سكّان بناية محترقة. السكّان يولولون خائفين من الهيب الذي يكاد يقتحم الغرفة التي لجأووا إليها. دان ولوري ينقذانهما. النوع الثالث من هذه الشعوب هي ضحية مذلولة. وقبل نحو ثلث ساعة من نهاية الفيلم فإن علماءاً من أهل الأرض ذوي بشرات داكنة (في مقدّمتهم هندي) لا قيمة لهم فتتم إبادتهم باختيار ناصع من السيناريو٠
وكل هذا ليس من مبدأ نحن وهم. بل من مبدأ نحن فقط. فهم ليسوا في ذات الركب من التقدّم او من حق الظهور أساساً٠
هناك الكثير مما يشغل العين على الشاشة، إذا ما قررتْ البقاء يقظة. ما يمنع ذلك بالطبع أن هذا الكثير ليس سوى شغل فبارك من العمليات الكومبيو-تقنية المبرمجة لكي تحل محل الشغل البصري الناتج عن موهبة حسّاسة ذات مدارك لما الفرق بين عنف يأتي مصحوباً بالقدر اللازم من السخرية لكي يعكس بالنتيجة او بالضرورة موقعاً مناوئاً او منتقداً وبين عنف يتم تقديمه كحركة عنيفة فقط. بخلو مشاهده من أي تعليق، فإن المخرج يبرهن -مرّة أخري- عن حبّه الشديد للعنف وتعاطفه مع من يقتل ويقطع أطرافاً ويفجّر دماءاً وهذا كان شأنه في فيلميه السابقين أيضاً٠
DIRECTOR: Zack Snyder.
CAST: Malin Akerman, Billy Crudup, Matthew Goode, Jackie
Earle Haley, Jeffrey Dean Morgan, Patrick Wilson, Carla Gugino.
SCREENPLAY: David Hayter, Alex Tse. CINEMATOGRAPHY: Larry Fong (Color). EDITOR: William Fox (162 min) . MUSIC: Tyler Bates. PRODUCERS: Lawrence Gordon, Lloyd Levin, Deborah Snyder. PROD. COMPANY: Warner/ Paramount/ Legendry Pictures/ Lawrence Gordon.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحر من الأفلام |
محمد رُضاـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هيتشكوكــــــــــــــــــــ
The Lady Vanishes
****السيدة تختفي [بريطانيا- 1938]٠
......................................................................................................
بين النوم واليقظة.... ظهرت مس فروي ثم اختفت
Flightplan لم تكن حبكة فيلم
الذي أخرجه الألماني روبرت شيونتكي سنة 2005 بعيدة كثيراً عن حبكة فيلم ألفرد هيتشكوك »السيدة تختفي« سنة 1938
في كلا الفيلمين حكاية شخص معيّن يختفي خلال رحلة غير متوقّفة٠ في فيلم شيونتكي، بطولة جودي فوستر، يختفي ولد صغير خلال رحلة طائرة. في فيلم هيتشكوك تختفي سيدة عجوز في قطار منطلق. في الأول والثاني إمرأتان تحققان في الموضوع واثقتان من أن الطائرة/ القطار انطلقا وذلك الشخص المفقود على متنهما. في الأول والثاني، الركّاب لا يصدّقون وهناك من يعلم ويخفي. وفي كلا الفيلمين تأوى المرأة التي ستبحث عن الشخص الى النوم وحين تستيقظ لا تجد ذلك الشخص. وفي الفيلمين أيضاً وأيضاً، هناك مؤامرة تنتهي بالإخفاق وبإيجاد الشخص المختفي بخير٠
على كثرة هذه التشابهات فإن المنطقة الأكثر اختلافاً هو المستوى. صحيح أن فيلم »تصميم رحلة« مثير للإهتمام. مركّب ليبدو جيّداً لكنه فراسخ بحرية بعيداً عن قيمة ومستوى فيلم هيتشكوك، وهو مات بعيد وصوله الى الشاشات في حين أن فيلم هيتشكوك لا يزال حيّاً الى اليوم٠
ليس مهمّاً أن »السيدة تختفي« فيه مساحات تطفو فوق الواقع ولا تلتحق بموضوعيّته، لكن قليلون جدّاً من المخرجين الذين يستطيعون تطويع ذلك عوض محاولة معالجته. في الحقيقة، محاولة خلق تبريرات منطقية لبعض الأفلام لا تأتي في المرتبة الأولى من الأهمية. فيلم هيتشكوك واحد منها وطريقة المخرج الفذ في تطويعه هو الإلتصاق بالتشويق الذي تفرضه القصّة وابراز المواقف الناتجة عن غرابة الفكرة (سيدة تختفي في قطار بين محطّتين والجميع يدّعي أنه لم تكن هناك سيّدة عجوز أصلاً) وطرح الاسئلة التي تدور حول لماذا ينفي الركّاب أن هناك سيّدة مختفية، وهل ستنجح المرأة التي تبحث عنها في إيجادها وهل ستجدها حيّة او ميّتة٠
The Trouble With Harry مثل فيلم هيتشكوك اللاحق
الذي أنجزه المخرج على بعد سبع سنوات من هذا الفيلم، التشويق والغموض ملوّن بلمسات ساخرة خفيفة تساهم أيضاً في قبول الغرابة من دون التوقّف عند تفاصيلها. قبل ركوب القطار، وفي تمهيد لابد منه، نتعرّف على الشخصيات التي سنمضي معها الرحلة والمضطرة لقضاء الليلة السابقة لرحلة القطار في فندق في بلدة صغيرة٠
الأحداث تقع في الفترة المعاصرة لإنتاج الفيلم أي قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. هناك رجلين (هما باسيل رادفورد وناونتون واين) يهويان رياضة الكريكيت ولا يتوقّفان في الحديث فيها الا حين اضطرارهما قبول غرفة الخادمة لعدم وجود غرف شاغرة ثم حين تبدأ هذه بخلع ملابسها أمامهما لاستبدالها ما يجبرهما على مغادرة الغرفة كما تقتضي تقاليدهم العريقة. في غرفة أخرى هناك إيريس (مرغرغرت لوكوود) التي ينتظرها خطيبها في لندن للزواج منها. إيريس تسر لنا أنها لا تحب ذلك العريس المرتقب، لكنها تعتقد أن الأوان آن لكي تتزوّج. هناك أيضاً إريك (سيسيل باركر) ومرغريت (ليندن ترافرز) اللذان يدّعيان أنهما متزوّجين لكنهما في الحقيقة عاشقين. إريك محام متزوّج وهو كان أوهم الفتاة أنه سيطلّق للإقتران بها، لكنه أعاد حساباته ووجد أنه إذا ما فعل فسيطيح بمستقبله لذلك يحاول جهده تجنّب فضيحة ممكنة. ثم هناك سيدّة عجوز لطيفة أسمها مس فروي (السيدة ماي ويتي) التي تصادقها إيريس في صبيحة اليوم التالي. لكن في تلك الليلة تطلب ايريس مساعدة مدير الفندق ليضع حدّاً لقيام نزيل الغرفة التي تعلو غرفتها بالتوقّف عن الرقص. إنه غيلبرت (مايكل ردغراف) الذي يقتحم لاحقاً غرفتها ويرفض مغادرتها الا إذا تدخّلت لكي تطلب من مدير الفندق إرجاعه الى غرفته التي تم طرده منها٠
هذه الأجواء المرحة مليئة بالملاحظات الأوّلية ولا يوجد شيء يوحي بما سيقع لاحقاً. حتى حين تقف مس فروي عند النافذة تستمع الى غناء عازف على الطريق. من شغفها بالأغنية لا تلحظ أن مجهولاً قتل المغني وتستمر في ترديد الأغنية. في صباح اليوم التالي تتجهّز مس فروي لصعود القطار مع إيريس. حجر بناء يسقط من عل موجّه ليصيب رأس السيدة العجوز لكنه يقع على رأس إيزيس التي تتحامل. الجميع الآن في القطار. القطار ينطلق٠
إيريس تنام وحين تستيقظ تلحظ اختفاء مس فروي فتبدأ البحث عنها ووصفها للمسافرين في المقطورة. المسافرون معها ينفون أن إمرأة بتلك المواصفات كانت موجودة في القطار بمن فيهم الرجل الذي شاركهما المقصورة. بعض النافين لديهم تلك الأسباب التي لا علاقة لها بالخاطفين فأريك لا يود أن يتدخّل حتى لا ينكشف وجوده مع تلك الفتاة، والبريطانيين هاويا الرياضة لا يريدان تأييد ايريس حتى لا ينتج عن ذلك توقّف القطار وتأخيرهما عن الوصول حيث يريدان اللحاق بمباراة قادمة. لكن بعض الآخرين ينفون لأنهم أرادوا التخلّص من السيدة. أحدهم تشيكي أسمه دكتور هارتز (بول لوكاس) يوحي بأنه يصدّق إيريس لكنه يحاول سريعاً من بعد إيهامها بأنها فقدت رجاحة عقلها ربما بسبب الطوب الذي سقط على رأسها وأنه بالفعل لم يكن هناك سيّدة أخرى معها. الوحيد الذي يصدّق إيريس هو غيلبرت ومعاً سيسعيان لكشف خيوط مؤامرة تحاك خيوطها بعناية من قِبل طابور خامس يقوده دكتور هارتز نفسه٠
هيتشكوك سيّد الفورميلا الخاصّة به. لا أحد يستطيع رصف الأحداث والإنتقال بين المفارقات والشخصيات والتفاصيل على نحو يؤدي الى تفاعل كل مفارقة وكل شخصية وكل تفصيلة مع الأخرى لبناء التشويق القائم على سؤال حول ما حدث للسيدة المختفية ولماذا يكذب هؤلاء ثم متى سيجد المتآمرون أن إيريس نفسها أصبحت خطراً يجب إزالته٠
القصّة أعلاه يجب أن لا تؤخذ كما لو كانت مؤكدة. ذلك لأن الفيلم يجب أن لا يؤخذ كما لو كان ما يعرضه هو أيضاً أمر مؤكد. هيتشكوك رائع في دفع الأمور الى مستوى الريبة المثلى.... فلربما بالفعل لم يكن هناك مس فروي وإيريس فعلاً تتخيّل كل ذلك. لا تتخيّل فقط وجود مس فروي، بل تتخيّل الحكاية- الفيلم بكاملها٠ طوال الوقت هي تدخل وتخرج من »منامات«٠ تغفو هنا وتغفو هناك. ماذا لو أنه لم يكن هناك مس فروي أساساً؟ لإبراز هذا الإحتمال أنظر كيف ينهي هيتشكوك وجود/ لا وجود مس فروي. لقد تم إنقاذها من المكان الذي وُضعت فيه داخل عربة الأمتعة، لكنها في النهاية تمضي الى الغابة حين يتوقّف القطار... هل كانت مس فروي إمرأة حقيقية؟
DIRCTOR: Alfred Hitchcock.
CAST: Margaret Lockwood, Michael Redgrave, Paul Lukas, Dame May Whitty, Cecil Parker.
SCREENPLAY: Sidney Gilliat and Frank Launder. (from the novel" The Wheel Spins" by Ethel Lina White. CINEMATOGRAPHY: Jack Cox (Black & White) EDITING: R.E. Dearing (97 min). MUSIC: Louis Levy. PRODUCER: Edward Black.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليو بتريــــــــــــــــــــــــــــ
Indagine su un Cittadino al di Sopra di Ogni Sospetto (Investigation of a Citizen Above Suspicion)
****تحقيق حول مواطن فوق الشبهات [إيطاليا- 1970]٠
......................................................................................................
المحقق ذي الشخصية المركّبة: فرويد قاتلاً وكافكا متّهماً٠
نال فيلم إليو بتري هذا جائزة لجنة التحكيم في كان، ثم حصد أوسكار أفضل فيلم أجنبي بعد ذلك. رسالته السياسية لم تكن وحدها التي أثارت إهتماماً وإعجاباً، بل كذلك اخراج بتري الراقي في مجال السينما ذات الخط النقدي لمؤسسات السُلطة في دول أوروبية٠
الفيلم يساري بشكل واضح، وفي تلك الحقبة (من أواخر الستينات الى منتصف السبعينات) كانت الأفلام اليسارية منتشرة في بريطانيا وفرنسا وايطاليا على نحو ظاهر. أفلام بتري، أنطونيوني، أندرسن، كوستا-غافراس، روزي وسواهم كانت تهاجم المؤسسة السياسية المنهج الإجتماعي لتلك المؤسسة مع اختلافات في الأسلوب والصياغة٠
إليو بتري كان ينجز ما يريد بمزيج من السخرية والمواقف الواصلة الى حد السوريالية. يده الخبيرة في الكتابة (وضع السيناريو مع أوغو بيرو) وإدارته الجيّدة للشخصيات وممثليها، ثم لقطاته المختارة بعناية كانت دائماً ما ترفع من شأن العمل وتثير الإحترام من حوله حتى من قِبل اولئك الذين قد لا يؤيدون وجهة نظره٠
المفتش في بوليس روما (جيان ماريا ڤولونتي) يرتكب جريمة قتل في آخر يوم له في ادارة المباحث بعدما تمّت ترقيته لكي يستلم إدارة فرغ المخابرات في البوليس السياسي. ذلك الفرع الذي سيتيح له التجسس على من يريد. في ذلك اليوم الأخير يستجيب لدعوة فتاة تتصل به ويذهب الى شقّتها ويقتلها. حين فعلت ذلك لم تكن تعلم شيئاً كثيراً عن الشخصية التي تريد التعرّف عليها. لم تكن تعلم أنه وحشي الصفات، قاس، سادي ويرفع شعاراً مؤلّفاً من الوهم الكبير بأنه السُلطة التي لا يمكن أن تُعاقب٠ معتز بنفسه لدرجة أنه بعد ارتكاب الجريمة يعود الى مسرحها مدّعياً رغبته في المساعدة في التحقيق مدركاً أنه ترك ما يكفي من البصمات وبعض الأدلّة لكي تربطه بالضحية واثقاً من أن أحداً سوف يجرؤ على النيل منه لأن أحداً لن يصدّق أن رجل بوليس مثله يمكن أن يكون قاتلاً٠
لكن الداعي لارتكابه الجريمة لا يقل أهمية عن الرسم العام لشخصيته ولجانبها السياسي. في الحياة هو يميني فاشي التطبيق شعاره، كما يقول في الفيلم، »القمع هو حضارة«٠ والعشيقة ارتابت في رجولته. جرحته حيث كان يخفي ما يريد إخفاءه من عجز جنسي تحت مظهر القوّة والبطش. كان عليها أن تموت لأنه كان ربط تلك الرجولة المجروحة بالسُلطة التي يمتّع بها وتلك التي يصبو لأن يمارسها مستقبلاً٠ بتري رأي أن هذا العجز الرمزي إنما هو عجز الحكومة الفاشية التي لا تستطيع أن تظهر مطلقاً مظهر الضعيف أمام أحد. بذلك سحب المخرج ببراعة الصورة الفردية وطبع منها نسخاً تكفي لوصم النظام كله٠
بتري يرسم عوالم محددّة وثرية تؤدي الى ذات المفاهيم: في مكتبه يبدو المحقق حبيس عالمه. عناية الديكوريست والمدير الفني فائقة بحيث أن هذا الديكور والتصميم العام يخلقان الجو ذاته لمن يقبع في سجن غير قادر على الفكاك منه. والباقي متروك على المخرج لكي يؤكد هذا الدور حين يتم جلب المتّهمين أمامه فيبدو كما لو كان سجينا أكثر منه سجّاناً٠
التصميم الخاص بشقّة عشيقته اوغوستا (فلوريندا بولكان) متناقض للصورة الأولى . الديكور المستخدم هنا غريب عليه، لذلك يلهو به. يسخر منه ويستخدمه، حسّيا ونفسياً، لكي يزيد من شعوره برفعته هو عليه٠ وهناك أيضاً الموسيقى (لإينو موريكوني) التي يمكن ترجمتها لصور قلقة داكنة واللون غير الفاقع المستخدم في التصوير لكي يتماشى ذلك مع شخصيّته الحيّة رغم موتها في الداخل٠
الى هذا فإن تصوير لويجي كوفيلر يحاكي بدكانته تلك التي في داخل بطل الفيلم لجانب أن قبضة الممثل ماريا فولونتي على الشخصية وتأديته لها بحدّة وتوتّر كلها تسير في إتجاه واحد لا لإدانة هذا الرجل فقط، بل لإدانة العالم الذي يتحرّك فيه أيضاً٠
شاهدت الفيلم منذ سنوات بعيدة أوّل مرة (حين خرج وعرض في بيروت) ثم قبل بضعة أشهر وفي المرّتين لاحظت الألوان المستخدمة في مشاهده التي على طبيعتها ذات دلالة. مثلاً غرفة النوم التي ترتكب فيه الجريمة ذات ستائر حمراء سميكة تزيد من حدّة الموقف٠
حين ارتكاب الجريمة (يستخدم المخرج الفلاشباك حين العودة الى التفاصيل) نلحظ أن المحقق يرتدي روباً أبيض اللون (وكان يرتدي قبل ذلك قميصه الأبيض). في ذلك يتيح الفيلم لمشاهده فتح باب من التحليل النفسي: إذا كانت ممارسة الحب هي -ولو افتراضاً- الخلاص من الذات وسلبياتها- لدخول حالة تحمل المتعة المؤقّتة، فما هو اللون الذي يمكن له أن يعبّر عن الإنتقال من السلب (والمحقق سلبي تماماً) الى الحالة العاطفية أكثر من اللون الأبيض؟ خصوصاً وأن هذه المرحلة المفترض بها تحييد الرجل عما هو عليه قبل وبعد الممارسة قد تفشل خلال الممارسة ما يجعل اللون الأبيض لا تعبير عن حالة مفترضة لا يتم بلوغها فقط، بل عن الصورة الملائكية التي لن يستطيع هذا الرجل الوصول إليها. الأسود كحملان (حسب عنوان فيلم روبرت ردفورد الأخير) هو المنجلي من تلك الملاحظة حول وظيفة اللون في تلك المشاهد لجانب أن أوغوستا إنما تعبّر عن الواقعين تحت الكبت والقمع بينما يعبّر هو عن اولئك القامعين
لكن المحقق ليس وحده في بؤرة الإتهام. اولئك الذين يحققون في الجريمة غير عابئين بالبصمات التي تركها التي كانت ستدينه باكراً، ومن هم أعلى منه الذين لا يرتابون به (الا في مشهد حلمه) هم حلقة فاسدة لا تنجى من نقد المخرج. شيء من كافكا، في سوريالية تحليله للوضع الإجتماعي ودهاليز القانون والنظام واضح في الفيلم خصوصاً مع وصوله الى مشاهده الأخيرة حيث لم يعد المحقق قادراً على كتمان مسؤوليّته٠
الخط يساري والرسم الشخصي فرويدي والرسم الإجتماعي كافكاوي وكل ذلك في معالجة ساخرة سوداوية جعلت المزيج أكثر قبولاً لفيلم سرعان ما اعتبره كثيرون من نقاد الأمس أفضل أفلام المخرج. هو بالتأكيد فيلمه الأكبر من حيث شمولية الموقف والرسالة السياسية التي يحملها٠
DIRECTOR: Elio Petri
CAST: Gian Maria Volonte, Florinda Bolkan, Salvo Randone, Gianni Samtuccio, Arturo Dominici, Orazio Orlando.
SCREENPLAY: Ugo Pirro, Elio Petri. CINEMATOGRAPHER: Luigi Kubeiller (Color). EDITOR: Mario Bramonti (114 min). MUSIC: Ennio Morricone. PRODUCER: Daniele Senatore.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد خانـــــــــــــــــــــــــــــ
كليفتي
***[مصر- 2004]
......................................................................................................
المدينة ذاتها.... الشخصية قريبة.... والقصّة مختلفة
في نهاية »أحلام هند وكاميليا«، أحد أفضل أفلام محمد خان الى اليوم جنباً الى جنب »زوجة رجل مهم« و»عودة مواطن«، تكاد تفتقد كل من هند وكاميليا الفتاة الصغيرة أحلام. كلا الإمرأتين تهرعان على طول الشاطيء الهادر بحثاً. ثم يجدانها. وترتاح هند وترتاح كاميليا وتلعب أحلام بينهما. هند وكامليليا هما بمثابة والدتين للفتاة. ولاحظ اللعب على عنوان الفيلم »أحلام هند وكاميليا«. الفتاة إسمها أحلام وهي تنتمي الى هند وكاميليا، والفيلم عن أحلام (بمعنى تمنيات) هند وكاميليا.
مثل معظم أفلام محمد خان، لا يود المخرج تكبير الصورة. إنه يكتفي بالدلالات الصغيرة. يصيغها في أسلوب سينمائي خالص. أهمية الفيلم، من عدمه، هي في تلك الدلالات. هي التي تمنح الفيلم الذي يخرجه الحجم الحقيقي له في نطاق أهميته والجزء الباطن من جودته. أما أسلوب العمل فهو لا يختلف. لم يختلف في الحقيقة الا عندما أخرج خان فيلمه ما قبل الأخير »أيام السادات«. يبقى »كليفتي« إبن المدينة. سهل. متحرك. إيقاعي. راقص ولو على جروح الواقع الذي يجسده. »أحلام هند وكاميليا« قد يكون النموذج الأفضل لفيلم »خاني« كمادة وكأسلوب وإن ليس بالضرورة بمعنى الأجود٠
»كلفتي« لا يذكر كثيرا بـ »أحلام هند وكاميليا« الا من حيث إمعان المخرج في أسلوبه الواقعي الشفّاف مع نهاية مفتوحة كتلك التي في الفيلم السابق. لكن »كلفتي« هو أكثر قرباً من »فارس المدينة«، وهو فيلم رائع آخر أخرجه خان. رغم ذلك هناك فارقاً كبيراَ بالطبع: »فارس المدينة« عن رجل ذي ظلالات (لعبه بإداء لا يُجارى محمود حميدة) يتصدى لما يراه خطأ منطلقاً من ذات أخلاقية شهمة تميّزه عن الشخصيات المحيطة به. بطل »كلفتي« آت من حضيض المدينة ولا يمتلك، على عكس شخصيات أخرى جاءت من القاع في أفلام خان او في أفلام آخرين سواه، نزعات الشهامة والذات الأخلاقية. لديه السائد والمتفق عليه من الطبيعة العامة لأمثاله: »فهلوي«، »محنك«، »خفيف«، »لعبي« و»كلفتي«. خلال مرتين شاهدت الفيلم فيهما حاولت أن أقع في حب هذه الشخصية على عيوبها مسترجعاً أن أحمد زكي ومحمود حميدة ويحيى الفخراني وسواهم من رجال أفلام خان أوقعوني في حب شخصياتهم على الرغم من البقع الرمادية الكثيرة في تلك الشخصيات. بطل »كلفتي« عجز عن جذبي على هذا النحو وهذا ليس خطأ في حد ذاته، لا من المخرج ولا من الممثل باسم السمرا، بل الصيغة التي كان على الفيلم تناول الشخصية بها٠
حكاية »كلفتي« التي شارك في كتابة السيناريو لها كل من محمد خان ومحمد ناصر علي، تدور حول هذا العاطل عن العمل بإستثناء ما يقوم به من سرقات صغيرة. سترة جلدية فيها هاتف نقّال. استيلاء على محفظة مليئة بالمال من نشّالين أقل مستوى منه، وعمولة إذا ما جلب ديوناً مستحقة من رجلين تعسّرت بهما الحال بعدما اشتريا بضاعة من عند بائع الثلاجات الذي يعمل عنده أحياناً. وسط كل ذلك يغازل أكثر من فتاة، لكنه يشعر بعاطفة خاصة صوب فتاة معيّنة تعتقد ذات يوم إنه جاء يطلب يدها من والدها، لكن الحقيقة إنه جاء يسأله عنوان أحد الرجلين المُدانين. إنه هارب من الإرتباط بقدر ما هي تريد الإرتباط به ولاحقاً ما يعلم إن معنى حياته إنما متصل باستقبال حبّها من دون شروط. إنه شخص أناني في النتيجة وغائب عن وعي الحياة والقيمة المتأتية من العاطفة لكن هذا هو ما يفهمه. والفيلم يحيط به وبشخصيته جيّداً وسريعاً. لا حاجة لدى محمد خان تمرير المضامين ذاتها عدة مرّات. منذ البداية تعرف من هو هذا الشخص وتأخذ موقفاً منه. المأخذ هنا هو أن هذا الموقف ليس هو الموقف ذاته الذي يتبناه الفيلم. بكلمات أخرى، بينما يسعى الفيلم الى قدر من إشباع الشاشة بشخص بطله على نحو لا يخلو من الإعجاب به، فإن ما توفره الشخصية لا يعمل على نفس المنهج ويشعر المشاهد بأن لا شيء يمكن لهذا الرجل المصاب بعاهات أخلاقية منها النشل والكذب وأخذ الحياة »أونطة« أن يقوم به يستطيع أن يكتسب إعجابه. وبما أن الفيلم ليس قائما على قصة ذات منعطفات درامية حادة، بل هو بانوراما على طول الشريحة المقدّمة، فإن لا شيء يحدث في الفيلم يغيّر موقف المشاهد من اللحظة التي يبني فيها هذا الموقف.
لجانب أن المخرج يمارس هنا فهمه الكامل لحياة المدينة من دون أن يتخذ من ذلك الفهم مطرقة ينهال فيها على رؤوس مشاهديه فيطيل في الوصف او يؤكد عليه أكثر من اللازم، يتعامل مع ممثليه بتلك الحرفية التي سادت تعامله مع كبارهم. الممثل يصبح طيّعاً بين يدي المخرج وشفافاً الى حد بعيد. كل ظلمات أحمد زكي في »زوجة رجل مهم« تتبدى شفّافة من دون أن يؤثر ذلك عليها او يزيل عنها وحشتها. الحال هنا هو ذاته، إنما مع عدم وجود تركيبة صعبة او معقدة. ما لا يستطيع الممثل باسم سمرة أن يصبح عليه هو أن يتجاوز التنفيذ الطيّع الى التجسيد المعمّق. يبقى على السطح. مظهراً مناسباً وجهداً مبذولاً إنما من دون أن يلبّي حاجة المشاهد الى التواصل مع بطله او تبنيه.
يبقى أن السيناريو ليس فيه معضلة إجتماعية مهمة كما الحال في سيناريوهات »زوجة رجل مهم« او »الحرّيف« (حيث حال ذلك الهامشي أكثر عمقاً من حاله هنا) او »عودة مواطن«، وهذا يبقى المأزق الذي يجد المخرج نفسه فيه. إنه يملك كل المقوّمات الضرورية لفيلم آخر من نوعيته المميّزة باستثناء سيناريو أصعب منالا، أكثر تحدياً وأهم طرحاً. لكنه من الخطأ أيضا الخلط بين هذا الوضع وبين مكانة المخرج نفسه. بعض النقاد ألغى الفيلم بأسره على أساس إنه »فيلم آخر من أفلام محمد خان يحمل ذات مواصفاته«. الخطأ هو أن هذه المواصفات هي أفضل بكثير من مواصفات معظم من في الساحة العربية اليوم. المفردات التي تشكلها، تقنيا ولغوياً وقواعدياً ومن ثم أسلوبياً، لا مثيل لها في السينما العربية بصرف النظر عن إخفاق المخرج في إيجاد سيناريو أقوى يتحدث به.
إخراج: محمد خان
تمثيل: بسام سمرا، رولا محمود، سناء يونس، أحمد كمال، محمد عبد العظيم.
سيناريو: محمد خان ومحمد ناصر علي. تصوير: طارق تلمساني (ألوان). توليف: ناديا شكري. موسيقى: الخانكة غروب.
المنتج: محمد خان. إنتاج: خان فيلم [مصر- ٤٠٠٢] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نضال الدبســــــــــــــــــــ
تحت الشمس
***[سوريا- 2005 ]
......................................................................................................
الرجل المحبط وسط نسائه وتلك الخرق التي تضرب السقف ثم تقع٠
الفيلم الروائي الطويل الأول لنضال الدبس حالة فنية سائدة ذات أسلوب متأثر بالمكان الذي درس فيه السينما (موسكو) من حيث تكويناته المشهدية والسمة شبه الرمزية- شبه السايكولوجية للمشهد. يبدأ من نقطة عالية ويبقى عليها معظم الوقت، لكن في أحيان (مطلع الساعة الثانية من الفيلم) يبدو واضحاً أن هناك إفتقار للتطوّر ما في السيناريو مغطّى عليه امتلاك المخرج لناصيته الفنية جيداً. نتيجة ذلك لا يسود الفتور او يشوب الضعف أي مرحلة من العمل ولو أنه ينشد أحياناً التقدم أكثر للخروج من حالة تعبير متكررة قليلاً أكثر من اللازم.
العنوان مزدوج المعنى كما له بعد رمزي يتركه الفيلم لمن يشاء. المعنى المحدد الأول سقف يخر ماءاً طوال الوقت ويحاول من هم تحته معالجته برمي الفوط لكي تلتقط تلك النقاط الكبيرة وتجففه ما أمكن. المعني الثاني هو ما يقع تحت ذلك السقف من أحداث مع ساكن تلك الغرفة البسيطة الفقيرة (رامي حنا) والشخصيات التي تزوره فيها. بعد لاحق هو ربط هذا كله بصورة وضع سياسي مخروم وفيضاني يعيشه الناس أجمعين. المخرج لا يوجّه فيلمه صوب هذا المعنى، لكنه لا يمنع المشاهدين من الاستجابة له أيضاً. حالة طبيعية بين الإثنين.
مروان (رامي حنّا) مصوّر أعراس شاب مات صديقه أحمد (فارس الحلو) الذي كان تزوّج من المرأة التي يحبّها لينا (سلافة معمار). هناك ما يفيد أن الحب تم قسراً عن رغبة عائلتها. ربما -كما نفهم عابراً من مشهد جنازة إسلامية ولقطة لإحتفال كنسي- كانا من طائفتين مختلفتين ما جعل لينا تقرر الإنعتاق من العائلة لعشر سنوات لم تستلم خلالها مكالمة منها ولا هي حاولت الإتصال بها. حين يموت أحمد، متعباً -على الأرجح- من وطنيّته وشعره وعالمه المحبط، تبوح لينا لمروان بحبها له من دون كلمة أحبك. أكثر من أن تعرض نفسها لحبّه، تفتح شخصيّتها الخاصة له. لعله يجد ما يجذبه في تلك الشخصية. شيء من الرفض والكثير من البذل والرغبة في تكوين جديد يوفّر لها نقلة أخرى الى عالم تجد نفسها فيه، »كل ما أريده ولد«، تقول في مشهدين مختلفين ثم »كل ما أريده هو نفسي« تقول في مشهد ثالث متأخر بعدما علمت أن مروان يحبّها من دون رغبة ممارسة هذا الحب في أي لون من شعائره.
يلتقط الفيلم شخصيات أخرى. معارف وأقارب وجيران وقصص تقع بالعلاقة مع مروان او بعيداً عنه، لكنها تتمحور في المكبوت من العواطف ذاته. المشاهد التي تجمع بين لينا وصديقتها مها (أمل عمران) أكثر من موحية. الفيلم بأسره فيه لمحات من جنس محبوس وحس عاطفي ثري ومثير. نساء الفيلم كلهن مثيرات وجذّابات من دون أن يكن جميعاً جميلات. هذا يحدد أكثر عالم الرجل الذي تتمحور حوله الأحداث (مروان)، فهو إزاء كل هذه الإغراءات منطو على نفسه جنسياً، محبط في هزيمة نفسية لا يخلص منها سوى بمعاشرة (متأخرة في الفيلم) مع الفتاة رنا (رغدة شعراني) التي يحبّها قريب له. إنها القبلة الوحيدة التي يسجّلها الفيلم على نفسه والممارسة اليتيمة (خارج الكاميرا) ومنطلقها حركتي عصيان ورغبة عنيفة يستجيب لها مروان حين وجد نفسه مُداهماً منها. أي أنه حتى في تلك اللحظات الطافحة كان بحاجة الى الطرف الآخر لكي يساعده على الخروج من دواخله التي كانت تمنعه من الإستجابة.بعض الشخصيات القليلة بدت كما لو كانت تبحث عن شيء أكثر إفادة تقوم به في الفيلم وفي مقدّمتها شخصية الخيّاط الفلسطيني أبو خالد (عبد السلام الطيّب الذي توفي بعد أسابيع قليلة من تصوير الفيلم) الذي يعيش في الجوار. لحد بدا غير ملتحم مع الدراما التي يصوغها الفيلم لأكثر من مجرّد اطلالات عليه وعلى بعض قصص الماضي التي يتلوها.
يستخدم المخرج لقطات متنوّعة في إنسياب جيّد. هناك إهتمام بتشكيل كل من حركة الكاميرا وحركة الموضوع الذي تصوّره والمخرج، ومدير تصويره يوسف بن يوسف ينجزان ما يسترعي الإنتباه على هذا الصعيد. إنما بعض اللقطات القريبة (كلوز أبس) تبدو كما لو أن الغاية منها مبهمة. إنها ليست حلولاً وحيدة في المنهج الشامل للمشهد او للفيلم بأكمله. على ذلك، هي مثيرة للإهتمام من حيث أن قلة من الأفلام، عربية وغير عربية تستخدمها هذه الأيام.
ليس لديّ، في النهاية، سوى كل المديح للممثلة سلافة معمار. هي المرة الأولى التي تقف فيها أمام الكاميرا لفيلم سينمائي وأتمنى أن لا تكون الأخيرة. معظم مشاهدها تعكس قدرتها على أخذ الموقف والحوار الى الأعماق وخلطه بشخصيتها الجديدة. ربما تساعدها خلفيتها المسرحية لكن بالتأكيد هناك أيضاً استيعابها للحركة السينمائية وطواعية وتوقيت إلقائها كما يشهد بذلك المشهد الذي تقرأ فيه حواراً إنكليزياً وهي تقفز من الأرض الى السرير. رامي حنا بدوره جيّد لكن عليه تحمّل حالة من عدم اللمعان مرجعها أن الشخصية التي يؤديها داخلية أكثر منها خارجية.
إخراج نضال الدبس
تمثيل: رامي حنا، سلافة معمار، فارس الحلو، رغدة شعراني، أمل عمران، حلا عمران، أدهم مرشد، غسان سلمان، عبد السلام الطيّب٠
سيناريو: نضال الدبس. مدير التصوير: يوسف بن يوسف. توليف: علي ليلان (97 د). موسيقى: ديما قرشو. المنتج: المؤسسة العامة للسينما (سوريا)٠
يوجي ياماداـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Kakushi- Ken: Oni No Tsumi (Hidden Blade: Devil's Claws)
****النصل الخفي: مخلب الشيطان (اليابان- 2005)٠
......................................................................................................
يختلف »النصل الخفي« عن أفلام ساموراي كثيرة في إنه مصنوع للدراما وليس كفيلم أكشن
هذا الفيلم الساموراي ليس متميّزاً عن أفلام الساموراي الأخرى على أي صعيد ويزيد من مشاكله في هذا الخصوص إنه رتيب أكثر قليلاً مما يجب. إنه ثاني أفلام يوجي مامادا الساموراي علماً بأنه الفيلم السادس والسبعين بين أعمال هذا المخرج الذي يبلغ من العمر أربعة وسبعون سنة.
كاتاغيري (ماساتوشي ناغازي) ينتمي الى عصبة من محاربي الساموراي ويشهد بعين غير راضية محاولة العصبة استبدال السلاح الياباني التقليدي بالسلاح الناري الآتي من الغرب. تبعاً لذلك، يقرر العزوف عن القتال وخط حياة جديدة يشجعه على ذلك حبّه لخادمته كاي (تاكاكو ماتسو). لكن الفارق الطبقي بينهما يمنعه من الزواج بها. وعدم زواجه الى الآن أمر يعارضه رؤساء العصبة على أساس أن التقاليد تستدعي أن يمارس حياة زوجية كاملة. ناغازي يكاد لا يُبالي بذلك الى أن يأتيه أمر من العصبة بقتل صديقه المقرّب هازاما (يوكيوشي أوزاوا) المتهم بالخيانة ومحاولة قلب رئاسة العصبة التي كانت ألقت القبض عليه وسجنته في القرية. هذا يستدعي كاتاغيري لمعاينة وضعه من جديد، فهو يؤيد يابان قديمة ولا يمانع لو أن العصبة تغيّرت (حتى على يدي هازاما) لكنه من ناحية ثانية يجد لزاماً عليه الإنصياع للعصبة كونه لا زال ينتمي إليها. الأمور تتطوّر بحيث على كاتاغيري وهازاما المواجهة في النهاية. إنها مواجهة لا تأتي بجديد كلي على صعيد أفلام الساموراي، من حيث تنفيذ المعارك او من حيث تأجيج الصراع الى لحظاته الأخيرة، لكنها تبقى مثيرة للإهتمام.
يثير الفيلم عدة مسائل تمر على نطاق ساعتين وعشر دقائق من العرض. أحدها الحداثة التي تجعل الساموراي القديم، كل من كاتاغيري وهازاما على حد سواء، كاره لما تؤول اليه مهنتهما. لكن في حين أن كاتاغيري ينهل من وحدته وانفراده موقفاً يعزز به مناوءته للحداثة، يدفع كرهها بهازاما للإنتقال من الخير الى الشر. ومن دون أن يحمل الفيلم حكماً مباشراً عليه، فإن وضع هذا الصديق- العدو يشبه أوضاع كثيرين غيره شوهدوا في أفلام ساموراي أخرى كما في أفلام رعاة بقر، بما في ذلك حكاية الصديقين اللذين يواجهان بعضهما البعض في النهاية لأنهما لن يستطيعا المضي من دون كلمة فاصلة تحدد من يبقى حياً ومن يمت نتيجة خلافهما المستشري. المسألة الثانية هي الطبقية وكيف تتدخل للحد من السعادة. حتى حين تعود كاي لزوجها مريضة ويتناهى لبطل الفيلم أنها على وشك الموت من قلة العناية بها (تسخرها أم زوجها للأعمال الشاقة حتى الهلاك) يقتحم البيت ويحملها عائداً بها الى منزله. لكنه يبقى ممتنعاً عنها جنسياً. المسألة الثالثة هي أن الحداثة الآتية هي غربية، وككل حداثة غربية حطّت في في بلد ذي عادات عريقة، فإن قدراً كبيراً من خسارة الهوية الخاصة بذلك البلد يصبح عنواناً خلفياً لما يدور.
على الرغم من رتابته، الا أن »النصل الخفي« مبني على سلاسة في السرد لا تجدها في العديد من الأفلام الأكثر سرعة. عناية كبيرة في التصوير توعز بالرويّة خلال التصوير والعناية بتقديم عمل يفضّل الدراما على الأكشن. وفي حين أن النصف الأول يعتمد على جهود الممثل ماساتوشي ناغازي (نجم في اليابان) في إحتلال الشاغر من مساحة الفيلم الدرامية بحضوره المقنع، الا أن إدخال الممثل الذي يلعب دور هازاما (أوزاوا) الى صلب أحداث النصف الثاني من الفيلم يرفع الوتيرة قليلاً ويمنح الفيلم تجديداً في الإيقاع. الموسيقى جيّدة والتصوير يأخذ بعين الإعتبار المساحات الفنية المطلوبة لفيلم يؤرخ ليابان ولّت.
DIRECTOR: Yuji Yamada
CAST: Masatoshi Nagase, Takako Matsu, MinTanaka, Hidetaka Yoshioka, Yukiyoshi Osawa, Tmoako Obata, ken Ooata, Reiko Takashima, Nenji Kobayashi.
SCREENPLAY: Yoji Yamada. CINEMATOGRAPHER: Mutuo Naganuma. EDITOR: Iwao Ishii (131 min). MUSIC: Isao Tomita. PRODUCERS: Takeo Hisamatsu, Hiroshi Fukusawa, Ichiro Yamamoto. PRODCUTION COMPANY: Shociku Prods.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جيمس ج. باروتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
The Fraidy Cat
***قطّة فرايدي [الولايات المتحدة- 1924]٠
......................................................................................................
واحد من أفلام الكوميدي تشارلي تشايس حول رجل أسمه جيمي يخاف من كل شيء بما في الأولاد الصغار، لكن حين يعلم أن لديه سبعة أيام فقط لكي يعيش تتملّكه شجاعة غير منظورة خصوصاً وأن الفتاة التي يحبّها دوروثي (بث دارلينغتون) قد تفلت من يده لرجل آخر (إيرل موهان)٠ إنه فيلم من بكرة واحدة خفيفة لممثل لم يبلغ شأن تشارلي تشابلن او باستر كيتون لكنه يستحق الإكتشاف٠ استخدم إسم تشارلي تشايس ككوميدي وإسم جيمس ج. باروت (وهو أسمه الأصلي) كمخرج وهو كان انطلق أساساً كمخرج أفلام كوميدية وسبق له وأن أخرج عدداً من أفلام تشارلي تشابلن ذاته٠ في هذا الفيلم لحظات خاصّة مثل تجسيد أزمة البطل مع نفسه حين يأخذ بضرب دمية لأنه لا يمكن أن تبادله الضرب ، ثم ننتقل الى مواجهة بينه وبين رجل فنراه غير قادر على فعل الشيء نفسه٠ يبقى القول أن شرير الفيلم (أيرل موهان) يحمل في الفيلم إسماً أميركياً هو لِم تاكر، لكنه وصفه هو "شيخ القرية" ما دفعني، قبل مشاهدة الفيلم، توقّع أن أرى ممثلاً بعباءة عربية. لكن هذا لم يحدث٠
أمر واحد لم استطع فهمه هو العنوان. ليس هناك خطأ طباعة وليست الكلمة هي
Friday
لكني لم أجد معنى لها خصوصاً وإن إسم الشخصية هي جيمي جمب٠
DIRECTOR: James G. Parrott.
CAST: Charley Chase, Beth Darlington, Earl Mohan
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سينما جان- لوك غودار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Jean- Luc Godard
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المخرج الفرنسي المرموق لديه طريقـته الخاصة في العمل. إنه لا يؤلف ويخرج كما يفعل ألوف الآخرين، بل يؤلف في السينمـــا وليس لها فقط. بكلمات أخرى، وبعد نحو نصف قرن على عمله في السينما، لا يزال غودار السينمائي الأكثر تأثيراً بين جميـع أترابه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يتوقع أحد، حين ينجز جان- لوك غودار فيلما جديدا، عملاً مختلفاً عما كان أنجزه المخرج من قبل. الجميع بات يعرف أن فيلماً جديداً لجان- لوك غودار هو استمرار للفيلم الذي قبله الذي كان، بدوره، إستمراراً للفيلم الذي قبله وصولاً الى المرحلة الأولى من حياته السينمائية عندما انتقل من فعل الكتابة عن السينما ناقداً ومنطراً الى فعل السينما ذاتها، مخرجاً كما ناقداً ومنظراً أيضاً بالإضافة الى إيجاد منحاه الخاص في توظيف السينما لممارسة أفكاره.
ما هو متوقع من غودار ينحصر في حتمية قيامه بتوفير عمل آخر ذا قيمة خاصة فنياً وموضوعاً، ويشمل الإعتقاد بأن غودار سيقدّم مرة أخرى تلك التوليفة من الآراء والإتجاهات في السينما كما في التاريخ والثقافات وأن غودار لن يكتب او يُوَلف او يصور او يستخدم الصوت كما يفعل أي سينمائي آخر. هذا هو المتوقع الوحيد، وهو لا علاقة له بالمستوى، فهذا لا خلاف عليه.
في فيلمه الأخير »موسيقانا« نجد إنه في الوقت الذي يحافظ فيه على كل عناصره »الغودارية« التقليدية، يوفر ما هو جديد ومختلف في تفاصيل كثيرة عن أفلام غودار السابقة. إذا ما كانت أفلام أندريه تاركوفسكي، حسبما سمّاها المخرج الروسي الراحل بنفسه »نحت في الزمن«، فإن أفلام غودار هي نحت في السينما. لا هي تسجيلية ولا هي روائية بل هي تسجيلية وروائية معاً إنما من دون خطوط فارقة. إنها، بكلمة واحدة، غودارية.
-1 سمات الأمس
ولد جان- لوك غودار في ٣/٢١/ ٠٣٩١ في باريس من عائلة بروستانتية ميسورة. والده كان طبيباً ووالدته كانت منحدرة من عائلة عملت في المصارف السويسرية. خلال الحرب العالمية الثانية ترعرع غودار في مدينة ليون في سويسرا حيث اكتسب هويّته الرسمية. في أواخر الأربعينات أقدم والداه على الطلاق وعاد هو إلى باريس ليدرس علم الأجناس في السوربون سنة ٩٤٩١. خلال فترة دراسته تلك واظب على حضور الأفلام في »نادي سينما الكارتييه لاتان« (الذي لا يزال مفعما بصالات الفن والتجربة الى اليوم). هناك تعرّف غودار على الناقد والمنظر أندريه بازان وعلى هاوين للسينما مثله هما جاك ريفيت وإريد رومير. كانت لقاءات لطرح الأفكار وتبادل الآراء حول الأفلام التي يشاهدونها والحديث عن السينما الفرنسية والأميركية وسواهما. هذه الأحاديث قادت الى التفكير بتأسيس مجلة سينما. والمجلة فعلاً تأسست في العام ٠٥٩١ بإسم »كاييه دو سينما« التي لا تزال تصدر الى اليوم.
يمكن للمرء تأليف كتاب حول تلك المجلة، سياستها الفنية، منهجها الأكاديمي، كتاباتها وآراء مخرجيها كما تأثيرهم وتأثيرها على السينما الفرنسية وخارجها. »كاييه دو سينما« غيّرت الكثير من مفاهيم الثقافة السينمائية التي كانت سائدة قبلها لا في فرنسا فحسب بل في غيرها من العالم. كتب غودار أول كلماته في النقد السينمائي. وامتدت كتاباته لتشمل مقالات نظرية تبحث في شكل ووجه جديد للسينما تنقلها من سينما الترفيه الى سينما التوجيه.
هؤلاء السينمائيين، الذين كانوا الى ذلك الحين عشّاق سينما ونقاداً، أسسوا سنة ٠٥٩١ »كاييه دو سينما« التي أسست لما عُرف لاحقاً بـ
»الموجة الجديدة« حينما انتقل غالب كتّابها، غودار، شابرول، تروفو، ريفيت ورورمير، الى العمل في السينما مخرجين. قبل ذلك بأشهر كان
ورومير وريفيت أسسوا »مجلة السينما« Gazette du Cinema حيث كتب غودار فيها خمسة مقالات قبل الإنتقال الى كاييه دو سينما.
في العام ٢٥٩١ انطلق عائدا الى سويسرا حيث اشتغل عامل بناء (من بين أشغال أخرى) لبضع سنوات. الغاية كان جمع ما يكفي من مال لإخراج فيلمه الأول »عملية بيتون« الذي تألف من ٠٢ دقيقة.
في العام ٦٥٩١ عاد الى الكتابة من جديد ثم توقف مرة أخرى عنها لكي يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول »نفس لاهث« الذي صوّره سنة ٩٥٩١ وعرض العام ٠٦٩١ عن سيناريو كتبه رفيقه الآخر فرانسوا تروفو. وهو منذ ذلك الحين لم يتوقف عن العمل باستثناء فترة منعزلة من حياته امتدت من العام ٢٧٩١ الى العام ٨٧٩١ (الفترة الثالثة- أدناه) أخرج فيها أفلاماً قلما شوهدت نسبة الى شروط حياة وتقاليد عمل وضعها لنفسه.
باستثناء تلك الفترة، فإن أعمال غودار تعكس روح سينمائي مفكر وذي موقف ومتطوّر. بدأت باتخاذ موقف من الشكل والسرد التقليديين في السينما، وتطوّرت الى رفض نظم بأسرها، لكنها عادت الى أصولها الباحثة عن الجديد والمختلف لتبلور ما تمثّله أفلام غودار الى اليوم من
مواقف من العالم ومن الحياة ومن السينما أساساً.
A Bout de Souffle فيلم غودار الأول -2 الفصول
تنقسم مراحل سينما غودار الى أربعة أقسام.
- المرحلة الأولى:
تمتد من فيلمه الأول »نفس لاهث« سنة ٠٦٩١ الى »واحد زائد واحد« سنة ٨٦٩١. في تلك الفترة جرّب غودار عدة حلول لرغبته كسر التقليد السردي المتّبع. شغله على أسلوبه كان قائماً على »الشكل المختلف ضد الشكل التقليدي« واتسع لتأسيس كل ما قامت عليه سينماه لاحقاً: هي سينما مؤلف، وسينما المضادة للتقليد، التحوّل بعيداً عن الحكاية وتحويل الفيلم الى مقالة مصوّرة. وذلك لم يكن ليكتمل من دون أن يعمد غودار، منذ ذلك الحين، الى عناصر الفيلم الرئيسية (الكتابة، التصوير، المونتاج والصوت) وتغيير وظائفها المعتادة لأخرى مستوحاة من فلسفة برتولت برشت. أعمال غودار في تلك المرحلة تناولت موضوع التواصل بين شخصياته المنقطعة وما يقع حولها من أحداث إجتماعية وسياسية. النبرة المستخدمة نقدية.
في هذه الفترة أخرج، فيما حققه من أفلام، »الجندي الصغير« وموضوعه الحرب في الجزائر من وجهة نظر تدين الإحتلال وتنتقد الوجود الفرنسي من دون استثناءات او تراجعات. هذا ما جلب عليه نقمة فرنسية كبيرة تجاهلها وحقق في العام التالي فيلمه الثالث »المرأة هي المرأة«. مع جان-بول بلموندو وآنا كارينا (التي تزوّج غودار بها في ذلك العام). وكان لقاء غودار ببلموندو تم في فيلمه الروائي الأول »نفس لاهث« وبنتائج فنية جيدة.
القصة التي يستند عليها فيلم غودار الأول بسيطة في الجوهر: جان بول بلماندو شقي هارب من البوليس. لديه صديقة (جين سيبرغ) هي الوحيدة التي تستطيع الإيقاع به وهو تفعل ذلك في نهاية الفيلم بعدما وثق ووطد علاقتها بها. السبب الذي من أجله تميّز هذا الفيلم عن أي فيلم بوليسي حينها (وربما الى اليوم) هو أن غودار وجد طريقه الخاص لتقديم ما هو عادي وشكلي بصورة مختلفة و- فنياً- جدلية. مزايا تلك الطريقة لا زالت تتردد في أفلام غودار الى اليوم وأبرزها طريقة سرده الحكاية حيث يحوّلها الى مقالة. يقطع فيها على أكثر من نحو بمونتاج يختار توقيته من دون تلقائية السرد التقليدي. بذلك يبقي المشاهد متحفّزاً في سياق عدم قدرته على التحكم في مجرى الحكاية بأي نوع من التوقعات. هذا وحده يحوّل ما يبدو تقليدياً الى ما هو مختلف عن كل ما هو تقليدي.
- المرحلة الثانية:
غودار كان وجودياً في مرحلته الأولى، في الثانية اعتنق الماوية. كذلك بدت تأثيرات سينما الروسي دزيغا فرتوف ومنهجه المسمى بـ »سينما الحقيقة« واضحة على أعماله. إنها الفترة التي بدأت بفيلم »حكمة مرحة« (٨٦٩١) وامتدت لبضع سنوات رفض فيها العمل ضمن »النظم البرجوازية« كما وصفها فرتوف في أبحاثه التي حلّل فيها التركيبات الإجتماعية وبيّن أوجه الصراع الذي يعايشه المخرج الملتزم إذا ما سمح لنفسه بالتعامل مع النظام الرأسمالي الموجود. إعجاب غودار بدزيغا فرتوف دفعه، وجان بيير كورين، لتأسيس »دزيغا فرتوف غروب« والى إعلان غودار أن منهجه بات »صنع أفلام ثورية بأسلوب ثوري«. خلال هذه الفترة انقطع غودار عن التعامل مع أبناء الصناعة السينمائية في فرنسا ملتزماً بتحقيق أفلامه عن الطبقة البروليتارية وحدها.
الفترة ذاتها كانت شهدت الثورة الطالبية التي شارك فيها غودار وآخرين من موقع التأييد للتغيير المطلوب في هيكلة البنية الطالبية ومناهج التعليم في المدارس. كما غذتها محاولة الحكومة إقتلاع المنظّر والمؤرخ الفرنسي هنري لانلغوا من منصبه كمدير للسينماتيك فرنسيس وتعيين مدير يتبع سياستها. المظاهرات التي اندلعت تأييداً للانغلوا دفعت الحكومة لإلغاء قراره
- المرحلة الثالثة:
تقع أيضا في السبعينات وفيها بلغ تطرّف غودار السياسي حداً انقلب فيه حتى على أعماله السابقة. انتقل للعيش في بلدة غرينوبل مع زوجته الثالثة آن ماري ميافيل وأسس شركة أسمها دال على منحاه الجديد في هذه المرحلة وهو SonImage (»بلا صورة«). أعماله القليلة في تلك الفترة كانت أقرب الى »أفلام البيت« Home movies وأنجزها بعيداً عن أدوات السينما وبكاميرا فيديو مبكرة. الملاحظ أن هذه الفترة وقعت مباشرة بعد أن تعرّض غودار لحادثة حين كان ينطلق بدراجته النارية كاد أن يُقتل فيها. تأثير ذلك النفسي عليه ليس معروفاً لنا على نحو معمّق لكنه أدى، بوضوح، الى عزلته واختيار الطريق الذي انعزل فيه وسينماه عن التواصل مع الآخرين حتى ولو كانوا من المؤيدين لطروحاته، فنية او سياسية، السابقة.
هذه العزلة وردت في سينماه حتى حين كانت لا تزال تتواصل مع عالمه وتدخل سوقي العرض والطلب. فهي شبيهة بحال بطله في »بييرو الغبي« (٥٦٩١) الذي قرر العزلة عن »النظام الرأسمالي« بأسره. مفهوم كلا من الفيلم وما أقدم عليه غودار نفسه فيما بعد يعود الى نظرية أسستها جماعة سمّت نفسها Situationists Internationale »التأسيسيون الدوليون« ومفادها أن الممارسة النموذجية لليساري في أقصى مواقفه، الذي هو الموقف المثالي بالنسبة للمجموعة، هو الإنقطاع عن كل يتصل بالنظام البرجوازي او الرأسمالي. الفيلم ذاته، مقارنة مع ما سبقه ومع ما تلاه، هو بداية وعي غودار المتزايد بأهمية الطرح السياسي او-بنفس المعيار- استخدام السينما كوسيلة طرح الموقف السياسي.
- المرحلة الرابعة:
غودار لابد وعى أنه لن يستطيع دفع ثمن غير منطقي لقاء مبادئه المكتسبة فقرر العام ٩٧٩١ قطع عزلته والعودة الى السينما مسمياً فيلمه الأول في هذا النطاق، وهو فيلم »كل رجل لنفسه« بـ »البداية الثانية«.
إنها فترة النضج فنياً حتى ضمن أسلوبه الخاص. عوض التبعثر صار أكثر تنظيماً ولو أن البعض لا زال يعتقد إنه فوضوي- لكن الحقيقة هي أنه يتبع منهجاً يفهمه ومن الممكن لغيره أن يفهمه حالما ينفذ الى ذلك المنهج (وأعترف أن ذلك صعباً). عوض الحدة الشديدة أصبحت قطعاته من والى المشهد أكثر سلاسة وأحياناً أكثر شعرية، ولو أنها شعرية سوداء داكنة.
جهده هذا منحه تقديرا جديداً فنال »الأسد الذهبي« (جائزة مهرجان »فانيسيا« الأولى) عن فيلمه »الإسم كارمن« (٣٨٩١) وفيلمه اللاحق »مرحى يا مريم« نال تقديرا نقدياً واسعاً على الرغم من أنه أثار اليمين المتدين في فرنسا. كذلك فعل فيلمه الآخر في الفترة ذاتها »شهوة« الذي اعتبره بعض النقاد أفضل هذه الأفلام الثلاثة.
-3 سينما
»السينما ليست حلما او فانتازيا. إنها حياة««
- جان -لوك غودار.
تظهر الفترات التي أوردتها أعلاه عن جانب آخر في أعمال غودار. الفترة الأولى (٩٥٩١- ٨٦٩١) هي فترة التعاطي مع السينما عاشقاً (ولو بشروطه). الفترة الثانية (٨٦٩١-٢٧٩١) هي التي سبر فيها غور »تسييس السينما«، والثالثة هي (٢٧٩١-٨٧٩١) هي الفترة التي وصل فيها التسييس لنفي السينما، والرابعة (٩٧٩١ والى اليوم) هي الفترة التي تلت بلوغ نفي السينما مداه وشهدت عودته الى السينما.
إنه من السهل بمكان كبير البحث في السياسة (والمقالات الباحثة في هذا الشأن وحده بالمئات). لكن من الصعب الكتابة عن الفن في سينما غودار. فالفن عنده هو ممارسة حياة في الفيلم وتطبيعها بالموقف السياسي العام. مكمن الصعوبة هو ترجمته الصُورية لما يريد قوله وأسلوبه في القول.
مفتاح كل شيء غوداري في الواقع هو تبني وممارسة مفهوم »سينما المؤلف« الى الحد الأقصى. التعريف العاري من التكلّف لما هو »سينما مؤلف« وما هو سينما، يكمن في أن المفهوم يشمل أولئك المخرجين الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن عملية إبداع الفيلم كتابة وتنفيذاً وما بعد. إنه ليس المخرج الذي ينفّذ رؤية آخرين بل رؤيته الخاصة وبنفسه. لذلك، بينما كانت هوليوود وسواها تنظر الى ألفرد هيتشكوك وهوارد هوكس وأورسن ويلز على أساس إنهم مخرجون جيدون يمكن الإتكال عليهم لإنجاز أفلام جيدة حسب المطلوب، كان نقاد »كاييه دو سينما« ينظرون إليهم كمؤلفين لأعمالهم حتى ولو كانت سيناريوهات أفلامهم مكتوبة من قبل آخرين. التواصل في توفير الرؤيا الخاصة للشخصيات، للعالم، للتكنيك، كافية لمنحهم هذه الصفة الاستثنائية.
غودار ذهب الى ما هو أعمق من ذلك وأبعد إذ ترجم أفكاره على نحو بعيد جداً عما يسهل قبوله لدى الطرف المنتج، ويسهل قبوله عند المشاهد (حتى العاشق للسينما والراغب في فصلها عن مجرد الغاية في الترفيه).
السينما التي كانت في بال غودار، من »نفس لاهث« مروراً بـ »حياتي لكي أعيش«، »ويك- إند«، »حييت يا مريم« ،»شهوة«، »تحري« وحتى فيلمه الأخير »موسيقانا«، هي السينما التي يعتقد فعلاً إنها الأجدر بالإقدام بصرف النظر عن الوجهة السياسية التي تعتنقها. الوجهة السياسية هي موقف ووجهة نظر، لكن العمل السينمائي هو الإقتناع بأي سينما على المخرج توفيرها ولماذا. بالنسبة لغودار وجد أن السرد الحكواتي لا ينتمي الى السينما الا عبر كونه مصوّراً. الفن السينمائي، بكلمات أخرى، من الأهمية بحيث إنها تستحق شروطا مختلفة تجعلها بعيدة عن أن تكون امتداداً للقصة وامتداداً لأي فن آخر.
إنتقال غودار في أي فيلم من أفلامه من مشهد يتحدث فيها إثنان، الى مشهد لساحل البحر، ثم العودة إليه أكثر من مرة، لا يهدف فقط الى تمييز سينماه بلقطات تتداخل من دون أن يكون لها معنى في العقل المعتاد على الربط تقليدياً بين فصول الحكاية، بل الى خلق العمل المجسد لتلك الغاية في إبتكار سينما مختلفة لسينما مختلفة. وغودار في كل هذا لا ينسى سكب قدر من الرهافة الشعرية فيما يقوم به (خصوصاً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة). كل أفلام غودار في السنوات التي تلت »ولادته الثانية« تعبّر عن الرغبة في خلق سينما غير السينما. لكن فيلمه المجزأ الى فصول بعنوان »تاريخ السينما« هو الذي يحتوي على الكثير المركز من آرائه في السينما وأي سينما هي التي يتبنّاها. واحداً من نقاط بحثه في ذلك الفيلم السخرية من القول أن ولادة السينما بدأت عام ٥٨٨١ عندما أقدم الأخوان لوميير على إقامة أول عرض بيعت فيه التذاكر للجمهور. عنده التاريخ بدأ قبل الحركة الصناعية ذاتها إذ تم التمهيد له بالحاجة الى التعبير عبر قنوات الإيصال المختلفة ومنها التصوير والتمثيل والكتابة.
غودار في ذات الوقت لا ينسى الخصائص التي تميّز السينما. إنها الفن المصاحب الوحيد لما يحدث في العالم. المسجل لروحه والامه وأفراحه وكل أحداثه. إنها الروح الموازي لأرواحنا من حيث أن الفيلم الذي تم إنتاجه في ٥٠٩١ لا يزال يستطيع سرد حالات وعادات وأفكار صُوّرت في حينها، بينما عليك -في فعل الكتابة الروائية او في فعل العمل المسرحي- العودة الى هناك في زيارة تنتهي ولا يمكن تكرارها الا بإنتاج جديد. المسرحية لا يمكن لها أن تتكرر على المشاهدين بعد سنوات بنفس الطريقة وبنفس الممثلين وبنفس الوقت الذي حدثت فيه الا إذا ما تم تصويرها وعرض الفيلم لاحقاً.
التاريخ كان دائما مهماً عند غودار لكنه منذ »تاريخ السينما« (وكلمة HISTOIRE الفرنسية تعني »تاريخ« وتعني »قصة والمرء عليه توخي القراءة التي يعتقد إنها الأكثر تناسباً فكلاهما ملائم في فيلم غودار) وهو يركّز أكثر على أهمية التاريخ وتوغله في حياتنا الى اليوم. [يقول: »إنتاج أفلام اليوم لا يعني سوى دراسة المتغيرات التي حققتها السينما من لومير وأيزنستاين الى الزمن الراهن، ودراستها فعليا بصنع أفلام حول العالم اليوم«]. لذلك فإن فيلمه »للأبد، موتزار« (٦٩٩١) ليس رأيا في موتزار (ولو أنه رأي وارد) بل في الحرب في ساراييفو. ومرة أخرى، ليس عن طريق الإكتفاء بقصة تقع أحداثها هناك، بل عن طريق بحث كل الظروف المؤدية الى ما حدث هناك وكل الظروف الناتجة من هناك.
في »موسيقانا« يطرح القضية الفلسطينية موجزة وناصعة من دون أن يتخلى عن التاريخ جنباً الى جنب الموقف السياسي.
إنه من المهم ملاحظة أن قراءة غودار من أفلامه تتطلب إلماماً به قبل الإقدام على مشاهدتها. الكثير من حسنات فيلم ينجزه لن تبدو كذلك الا بمثل ذلك الإلمام، وهو إلمام يتجاوز ما يرصفه هواة الكتابة السياسية التي يجدون من السهل بمكان كبير التشريح وإلقاء النظريات من دون البحث في التفاصيل الفنية التي لولاها لما عنت تلك النظريات شيئا حتى من غودار نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2009٠