Issue 15| الدائرة| برسونا برغمَن| بعد الدوام سكورسيزي| واحد صفر| اللؤلؤة| المصارع

FlashBack

The Searchers | John Ford (1956) ****
واحد من أساسيّات الوسترن ومن أهم أفلام جون فورد/ جون
واين: رجلان (واين وجفري هانتر- الصورة) في بحث عن الفتاة
البيضاء التي اختطفها الهنود صغيرة. التصوير لونتون س. هوتش٠


ـــــــــــــــــــــــــــ
معروض حالياً
ـــــــــــــــــــــــــــ
بين الأفلام | محمد رُضا
من »المطر« الى »بعد الدوام«... الكلام يجر بعضه بعضاً
................................................................................................
أفلام عربية | هبة الله يوسف عن »واحد صفر« المصري. نديم جرجورة
عن »اللؤلؤة« اللبناني. محمد رُضا عن »الدائرة« الإماراتي
................................................................................................
قراءة فيلم | محمد رٌضا
برسونا لإنغمار برغمَن من أكثر أفلامه إجادة في رسم شخصيات تعيش الحاضر
والماضي. الحقيقي والخيالي. القصّة كلها قد تكون في البال
................................................................................................
نظرة أخرى | هوڤيك حبشيان و نديم جرجورة يتناولان »المصارع« لدارن
أرونوڤسكي. حكاية المصارع الذي وُلد خاسراً


ـــــــــــــــــــــــــــ
بين الأفلام
ـــــــــــــــــــــــــــ
عبد الله آل عيّاف <> مارتن سكورسيزي <> مارون بغدادي <> كورنل وايلد٠
...........................................................................................
فيلم المخرج السعودي عبد الله آل عيّاف »مطر« كان عٌرض في الدورة الأولى من مهرجان الخليج السينمائي لكن حدث هناك أمران غريبان: الأول هو أنه فاتني، رغم حبي واحترامي لأفلامه، والثاني أنه فات لجنة التحكيم منحه الجائزة التي استحق٠
وكما كتبت عنه في الشقيقة »شادوز أند فانتومز« فإن »مطر« يحتوي على حكايتين متعارضتين تقعان تحت يوم ماطر. المطر الذي لا ترى السماء الهابط منه لأنه رمز لشيء آخر غير الطبيعة وغير الماء وهو قدرية بطلي هاتين الحكايتين. في فيلم عبد الله ذلك الحزن الذي تراه مرتسماً عند سوخوروف وبيلا تار والمغربي جيلالي فرحاتي. حزن لا جمالاً للحياة من دونه٠
...........................................................................................
After Hours يخطر على بالي هذه الأيام العودة لمشاهدة فيلم مارتن سكورسيزي »بعد الدوام« او
الرغبة هي معرفة هل شاخ الفيلم وأصبح عتيقاً بعد مرور 24 سنة عليه ام لا يزال صامداً. ذلك لأن الذي يحدث -من دون أن يدريه المخرج او الناقد او المشاهد- أن ينجز المخرج فيلماً ما اليوم وبعد نحو عشر سنوات يجد المرء إذا ما عاد إليه وقد بدت على ملامحه الفترة الزمنية التي انتج فيها٠
طبعاً، هذا يحدث حالياً مع سيل الأفلام الأكروباتية التي توفّرها السينمات المصرية والأميركية معتمدة على التقنيات وحدها. لقد التهم الجشع الصناعي السينما التجارية فأصبحت الأفلام عبارة عن سلسلة من المؤثرات والتكنيكات التي لا تنتهي. والتقدم مستمر بحيث أنه إذا ما قُدّر لفيلم من »كينغ كونغ« أن يُنتج للمرّة الرابعة هذه الأيام فسيكون مختلفاً لا عن نسخة الثلاثينات (وهذا الإختلاف عادي جدا) ولا عن نسخة الثمانينات (ماشي) بل عن نسخة العقد الأول من القرن التي وفّرها بيتر جاكسون بعدما انتهى من ثلاثيّته
Lord of the Ring الرائعة
...........................................................................................
فيلم سكورسيزي »بعد الدوام« خاص بين أفلامه لسبب مهم. إنه مختلف عن معظم الأفلام التي سبقته ولحقته والأرجح عنها جميعاً: قصّة موظّف ترك عمله في المبنى التجاري الذي يمضي فيه ساعات الدوام. يتّجه الى مقهى. يتعرّف على إمرأة جميلة. تطلب منه ملاقاته ليلاً. تعطيه العنوان. يمتثل. يبدأ الكابوس الذي يستمر لصباح اليوم التالي والذي يتضمّن جريمة قتل ومطاردة ومقابلات مع شخصيات لا تشعر بالراحة تجاهها إذا ما شاهدتها وسط عشرات الناس فما البال في شقق تسكنها الغرابة؟
الحقيقة أن »بعد الدوام« ليس غريباً كثيراً عن رؤية المخرج لليل٠
دعوني أخبركم قصّة حدثت لي في مطلع الثمانينات زيارة لسان فرانسيسكو٠
علمت أن المخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي موجود في ضيافة المخرج فرنسيس فورد كوبولا الذي كان يملك فيللا كبيرة عند شارع في أحد جبال المدينة (أحيلكم الي فيلم »بوليت« لبيتر ياتس لأجل التعرّف على تضاريسها). اتصلت بالصديق واتفقنا على زيارته في بيت كوبولا. كان الفندق الجميل الذي أنزل فيه قريباً من البحر وعليّ أن أصعد الطريق الجبلي لنحو ثلث ساعة قبل أن أصل الى العنوان. شيء ربما فعلته في عشر دقائق او نحوها٠
حين فتح لي المخرج الراحل الباب وبعد المصافحة والتحيات، جلسنا ولاحظ علو صوتي فطلب مني أن أخفض صوتي حتى لا يستيقظ كوبولا. كانت الساعة بالفعل لا تزال في التاسعة او ربما قبل ذلك، ففعلت ذلك معتذراً. لكن الحديث جر الى حديث: مارون كان قابل مارتن سكورسيزي في نيويورك قبل وصوله الي سان فرانسيسكو ولاحظ، كما قال لي، أن المخرج ينام معظم النهار ويعيش الليل٠
هذا ليس غريباً على كثيرين، لكنه أضاف أن سكورسيزي رغم ذلك لديه كوابيس ليلية هي السبب، على ما يبدو، في خوفه من العتمة وأنه إذا ما نام ليلاً فمساعدته الحبوب والمهدئات٠
هل لهذا علاقة بين سكورسيزي وكوابيس »بعد الدوام«؟ أعتقد. مثل كل الأشياء الصحيحة في الدنيا لا يوجد برهان ملموس ومثلما نعلم حيال عالم سكورسيزي فإنه من الممكن فعلاً أن يكون الرجل يخاف الليل والنساء ومخلوقاته ذلك لأنه، بعيداً عن إذا ما كان الفيلم جيّداً أم لا (وهو فيه من الصفتين) هو فيلم ضد كل من يعيش الليل٠

هذا المشروع لم يكن وارداً في أوانه. كان مارتن سكورسيزي يعد لمشروعه اللاحق »العشاء الأخير«، لكن التمويل تأخر عليه (وكاد الفيلم أن لا يُنجز أصلاً) فدبّر حاله بفيلم مختلف تماماً من حيث الحجم والإهتمام هو »بعد الدوام«. قام خبير نيويورك مايكل بولهاوس بتصويره بما يناسب من عتمة وواقعية وغرائبية في الوقت الواحد. بطل الفيلم غريفين دان (أيضاً شارك في إنتاج هذا الفيلم بميزانية أربعة ملايين وخمسمئة الف دولار) هو من يأخذ التاكسي الى حي ينتمي الى نيويورك لكنه لم يعرف عنه شيئاً وبالتالي الى عالم اكتشف أنه لن يستطيع مغادرته وربما لن يستطيع مغادرته للأبد.
بالعودة الى سؤال حول إذا ما شاخ الفيلم او لا. شاهدت الفيلم ثلاث مرّات حتى الآن. مرة حين عرض تجارياً سنة 1985 ومرّتين تلفزيونيّتين. لا أذكر متى الأولى تحديداً (في مطلع التسعينات) لكن الثانية قبل أربع سنوات. طبعاً المشاهدة التلفزيونية لا تعطيك سوى قبس بسيط من التفاصيل والمعلومات الفنيّة. إحساسي بأنه لم يشخ بعد وبل ربما ازداد غرابة اليوم من حيث لم يكن يعلم مخرجه كم من العمر سيعيش هذا الفيلم٠
...........................................................................................
لكن هناك أفلاماً كثيرة شاهدتها مرّة واحدة في حياتي وحسناً فعلت أني كتبت واحتفظت بما كتبته عنها لأنها لم تعد متوفّرة. هي إما لم يُتح لها الإنتقال بعد الى أسطوانات، او أنها ضاعت في ركب الحياة او لعلها لم تكن موجودة أصلاً بل هي -ربما- في الخيال وحده٠
أحد هذه الأفلام هو لكورنل وايلد . مجري المولد بدأ ممثلاً في أفلام أميركية في الأربعينات ولعب ذات مرّة دور علاء الدين في نسخة متوسّطة القيمة انتجتها كولمبيا من إخراج ألفرد إ. غرين من »ألف ليلة وليلة« في سنة 1945
بعد عشر سنوات كان ينطلق في ركب الإخراج (دون ترك التمثيل) وعدد أفلامه في هذا الإتجاه ثمانية أولها سنة 1955 وآخرها سنة 1975
لم يكن دامغاً وحثيثاً في مهنته تلك لكنه ترك علامات صغيرة أبرزها فيلمين هما
Beach Red و The Naked Prey
لكن الفيلم الذي أقصده ليس أحد هذين الفيلمين بل عملاً لاحقاً عنوانه »أعشاب بلا نصال« او
No Blade of Grass
أول فيلم عن التغيير المناخي حتى من قبل أن نسمع بالأوزون والتلوّث الحاصل في السماء وعلى الأرض وفي البحر. هناك أغنية تحمل العنوان نفسه ينشدها روجر ويتيكر وتشمل الحديث عن عالم صار بلا لون وبلا هواء نقي وبلا حب. الفيلم ليس لمن يأمل خيراً من هذه الفانية، وتقع أحداثه في المستقبل القريب (او في ماضينا على اعتبار أن الفيلم أنتج سنة 1970 وكان يقصد العشر او العشرين سنة المقبلة) وهو مأخوذ عن رواية لجون كرستوفر الذي يبلغ من العمر الآن نحو 86 سنة والذي لم تقتبس السينما من بين أعماله سوى هذا الفيلم٠
الأرض إذاً مسرحاً لصراع مرير بعدما أصاب الڤيروس كل المحاصيل الغذائية وترك الزرع يابساً وبائراً وكيف أن مجموعة من الناس تتألّف من الممثلين نايجل دافنبورت وجين والاس وجون هاميل وآخرين ينزحون في عالم تسوده الآن عمليات السلب والنهب وأكل البشر . الحكومات تطلق القنابل على مواطنيها لكي تحد من شيوع الجريمة وفي ذات الوقت للتخلّص من أكبر كم من البشر. نايجل دافنبورت، وهو ممثل بحضور قوي وبشهرة ضعيفة يحاول حماية عائلته (التي تضم زوجته وإبنته وإبنه وصديق) في رحلة على الأقدام صوب الشمال حيث يسكن شقيقه المعتزل بعيداً عن الدنيا. الوحوش البشرية سلفاً ما اعتدت على إبنته وزوجته وتركاهما أشلاءاً مهدّمة من الداخل ومزيداً من الأخطار تتوعّد المجموعة وتحوّل المسالم الى شرس في الدفاع عن نفسه. أنه فيلم عنيف النبرة والصورة٠
إنه كابوس أيضاً ولو كان من نوع مختلف عن كابوس مارتن سكورسيزي. يترك طعماً مخيفاً في البال، لكن العين -كما أذكر- ملّت من تكرار مواقفه خصوصاً أن المخرج عمد الى »فلاش فوروورد« أكثر من مرّة ليرينا ما الذي سيحدث بعد قليل قبل العودة الى الحاضر قاضياً بذلك على بعض التشويق الذي كان من المفترض أن يسود العمل٠


ـــــــــــــــــــــــــــ
أفلام عربية
ـــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*** الدائرة
إخراج: نواف الجناحي
تمثيل: عبد المحسن النمر، علاء النعيمي، علي الجابري، إبراهيم جابر٠
تشويق | الكويت/ الإمارات 2009
نقد: محمد رُضا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


نوّاف الجناحي يقدّم أكثر من مجرّد فيلم بوليسي- تشويقي في هذا العمل الروائي الأول له. إنه يدمج الموقف التشويقي النابع من حكاية تدور حول جريمة محتملة مع درس خاص لبعض الشخصيات التي تقود الفيلم. وهو لهذه الغاية أحسن اختيار حكاية تساعده على بلوغ الهدف: عصابة سرقة ستدخل بيت رجل يعاني من أزمات: لقد سرقه شريكه، وأخبره طبيبه أنه سيموت بالسرطان قريباً ولا يستطيع إخبار زوجته بذلك. حين يتعرّف على أحد أفراد العصابة يتّفق معه على أن يسرق ذلك الشريك لكي يعطي المال لزوجته قبل رحيله عن الدنيا٠
يبدأ الفيلم بتعريفنا بالرجل (عبد المحسن النمر) وزوجته (شهد مسك) هاهو يترك المنزل ليزور الطبيب وهو في حالة وجوم. ينتقل الى عصابة من ثلاثة أشخاص (ورئيسهم المختفي هو الرابع) يخططون لسرقة منزل آخر. في تلك اللقطات الأولى لأفراد العصابة (من بينهم نواف الجناحي نفسه) وبسبب من الطريقة التي صوّر فيها المشهد داخل السيارة والقائمة على زاوية منخفضة ونقلات بين الشخصيات في لقطات متوسّطة محشورة بين المقاعد وجوانب السيارة، يخلق المخرج توتّراً تفشل الكثير من الأفلام التي شاهدتها مؤخراً في بعثه طوال الفيلم. سيناريو الجناحي يسعى بعد ذلك حثيثاً للبحث عن نافذة صحيحة لربط الحكايتين (الزوج والعصابة) ويجدها، بعد تقديم صحيح للطرفين، في قرار العصابة سرقة البيت بغياب الزوجة وبقاء الزوج وحيداً يفكر في كيفية تدبّر أمره ومصارحة زوجته بعدما كان قابل شريكه النصّاب محاولاً استعادة الشركة منه دون نجاح. حين يسقط أحدهم (على الجابري في تشخيص قوي ومنضبط) في قبضة الزوج يتّفق الإثنان على سرقة شريك الزوج٠ هذا الإتفاق لا يأتي هيّنا، بل يؤسسه المخرج جيّداً في فصل من المشاهد داخل المنزل ويصبح مقنعاً بحدود المتوخّى منه والغرض الدرامي الإنتقالي له٠
إذ تمضي القصّة لتتحدّث عن مفاجآت محدودة في إطار يميل الى تأمّل الوقائع والظروف والشخصيات عوض الإنجراف في تصعيد الحبكة البسيطة أساساً، يتبيّن للمرء أنه في مقابل حسنة المخرج المهمّة على جانب تصميم المشهد وتنفيذه بصرياً، تفلت من اليد خيوط العمل كإيقاع كما يتعرّض السيناريو لبعض الأزمات في التفاصيل٠
على سبيل المثال، هناك مشهد آخر طويل بين الزوج واللص يتم -هذه المرّة- في سيارة الأول. أهم ما يقال فيه كشف الزوج للص عن أنه مصاب بالسرطان، لكن كل الحديث الآخر بينهما يصبح ترداداً لذات الموقف ويخسر من ضرورته كلما مضى. كان يمكن لكسر الإيقاع الجامد الذي يخلقه ذلك المشهد الطويل إجراء الحوار بينما السيارة تجول (خصوصاً وقد اقترح اللص على الزوج أن يقود السيارة في لفّة قبل تنفيذ العملية)٠
حين يأمر رئيس العصابة الفردين الآخرين (الجناحي وربما ابراهيم سالم) بالتدخل لإجبار اللص قتل الزوج يكتفي المخرج بمشهد عابر لسيارتهما المعهودة وهي تشق غمار الليل. كان الأنجح هنا لو صوّرهما في الصف الأمامي معاً واجمين ما يعزز السؤال فيما لو كانا سيقدمان على قتل صديقهما تنفيذاً للأمر او ربما يشعران بثقل ما هما عليه وخطورة أمره. المهم أن ذلك المشهد كان بحاجة لمثل هذه اللقطة الخاصّة٠
الإنتاج المحدود تراه يعيق بعض التوسّع في أماكن التصوير كما بعض الإختيارات الأخرى. لكن الجناحي يضبط المعالجة البصرية على نحو يعوّض هذا القصور وربما يلغيه من بال المشاهد غير المتمعّن. تلك المعالجة تتضمن التعامل مع القصّة على أساس دراسة الشخصيات من دون التمادي في تحليلها والتداول فيها بإستثناء ذلك المشهد الطويل في السيارة الذي تقدّم ذكره٠
في الفيلم حس أوروبي وعين تستطيع التقاط المفردات الصحيحة للتعبير عن منحى الشخصيات. كل الممثلين جيّدين ولو أن بعضهم يمثّل للكاميرا أكثر مما يتوغّل في ذات أخرى. هذا التمثيل للكاميرا قد يكون من تبعات التأثير التلفزيوني وقد لا يكون لكنه هذا البعض سريعاً ما يمر بمناطق تنميط مع قرار من المخرج بأنهم أقل شأناً من أن يصرف عليهم وقتاً٠
الفيلم في مجمله ضربة صائبة في الإتجاه الصحيح. النواحي البصرية كلها فوق المستوى العادي وتنفيذ المشاهد ذكي والكاميرا مقتصدة وخالية من حب التأكيد والاستعراض٠

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحد صفر | كاملة أبو ذكرى
مصر 2009
نقد| هبة الله يوسف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لا تكمن أهمية فيلم "واحد – صفر" فيما أثاره من جدل و لازال، أو في صدامه مع ثوابت و تابوهات جثمت طويلا علي صدر السينما المصرية، ولكن لنجاحه في إصابة "مرمي"السينما التجارية" في مقتل بتجربة "نسائية" شديدة الخصوصية صناعة ومضمونا أيضا٠
فالفيلم أشتركت في صياغته مؤلفة (مريم ناعوم) تقدم بحرفية عالية أولى تجاربها ،و مخرجة (كاملة أبو ذكرى) نجحت في أن تكون لها بصمتها الخاصة عبر أفلام إحتلت مكانة متميزة في ذاكرة السينما،مديرة تصوير ( نانسي عبد الفتاح) لم تثبت فقط جدارتها في هذه المهنة الشاقة والتي لم تطرق بابها امرأة في مصر من قبل، ولكن وهو الأهم عبرصورة بصرية شديدة العذوبة أعطت أفلامها إحساساً مختلفاً، و أخيرا مونيرة (مني ربيع) تعي جيدا كيف تحافظ علي إيقاع فيلمها بحساسية فائقة٠

أما علي مستوي المضمون فرغم أن مدة زمن الفيلم لا تتجاوز الـ 20 ساعة ، تحديدا يوم المباراة النهائية لبطولة كأس الأمم الأفريقية والتى فاز فيها الفريق المصري قبل عامين بالمباراة والبطولة بهدف يتيم ولكنه كان كفيلا بإسعاد المصريين جميعا ، إلا أن مؤلفته تطرقت عبر هذا الزمن القصير للعديد من الإشكاليات التي نعيشها جميعا في مجتمعنا و بالأخص النساء و بجرأة لم تعهدها السينما من قبل٠

اخترقت مريم المحظور وكشفت المستور و تطرقت لتابوهات رفعت دوما شعار "ممنوع الاقتراب أو التصوير"، ربما في مقدمتها حكاية نيفين (إلهام شاهين) وهي إمرأة قبطية في العقد الرابع من عمرها الذي ضاع نصفه وهي تحارب للحصول على حق الطلاق من زوج لا تطيق معه الحياة، ثم كتب عليها أن تمضي ما تبقي من سنوات عمرها تصارع للحصول دون جدوى على تصريح بالزواج من الرجل الذي تحبه، وحملت بالفعل منه متوهمة بالطبع أن هذا الحمل سيحرج الكنيسة و يعجل بالموافقة٠
وهكذا اخترق الفيلم أحد أبرز التابوهات الدينية وبالأخص مشاكل الأحوال الشخصية للأقباط، ما يفسر لماذا طاردت الفيلم العديد من الدعاوي القضائية رغم أنه طرح القضية وفق منطق اجتماعي يتساءل عن أحقية إمرأة في الطلاق والزواج و الأمومة ، ودون أن تضطر لتغيير دينها أو طائفتها، خاصة و أن الأمومة حلم صعب قد لا يتكرر في تلك المرحلة الحرجة من العمر٠
بعيدا عن "إشكالية الديانه وخصوصيتها" رصد الفيلم جانب أخر من مشكلة نيفين فمن أحبته (المذيع التلفزيوني شريف والذي لعب دوره بإقتدار خالد أبو النجا) لا يريد أن يتحمل مسؤولية الارتباط، بل تكشف أزمة الحمل أنه ارتضي الارتباط بها (رغم أنها تكبره سنا) بوصفها علاقة آمنة تتيح له التحقق عاطفيا و أيضا ماديا ولا مجال فيها للزواج ومن ثم الإنجاب إلا بموافقة الكنيسة و التي بالطبع لن تمنحها هذا الحق

تتعدد شخوص الفيلم و من ثم يتيح للمؤلفة استعراض المزيد من الاشكاليات و الأزمات التي تتداخل و تتشابك بين شخوص فيلمها مثل زينة التي هربت من الفقر ببيع الجسد فهو الشيء الوحيد الذي تملكه وتراهن عليه، تدفع بها أحلامها "المجهضة" وطموحاتها "المشروعة"في امتلاك شقة وحياة آمنة للانضمام لطابور"العاريات كليب" لتغطي ما إنتقص من موهبتها ، إلا أنها تكتشف أن ما تمنحه لمنتج ومخرج أغانيها لا يوازي ما تحصل عليه ومن ثم تفقد كل شيء وفي مقدمتها شرفها و حبها القديم لجارها الكوافير (أحمد الفيشاوي) و احترام الآخرين لها و بالأخص شقيقتها المحجبة (نيللي كريم) والتي إختارت أن تكون الوجه الآخر للعمله ، فهي تعمل ممرضة متجوله ترتزق بالكاد قوت يومها ، وتحلم مثل كل البنات بالستر والزواج ، إلا أن الحياة لاتمنحها هذا الحق حتي و لو لبضع ساعات قليله.
أما الحبيب القديم أو الكوافير فيواجه في هذا اليوم العصيب هو الآخر أزمة الطرد من عمله بسبب طموحه المشروع في أن يكون له كيانه الخاص ما يعرضه لغضب صاحب العمل خاصة حينما يكتشف أنه لا يسرق فقط بعض المستلزمات الجمالية من محله، ولكنه يبدأ في سرقة زبائنه أيضا، وفي مشهد تالي نجده يتطاول علي أمه (انتصار) و يحاول ابتزازها في مشهد عاصف كشف حجم موهبة هذه الفنانة التي ظلمتها اختياراتها كثيرا و منحها هذا الفيلم فرصه للإعراب عن الكامن من إبداع بداخلها، حيث جسدت دور امرأة فقدت عائلها ومن ثم تخرج للحياة ليس فقط للبحث عن الرزق بتجميل النساء ولكن لسرقة لحظات تشعر فيها بأنوثتها وعبر بعض "التحرشات" المشروعة من وجهه نظرها٠
التداخل والتشابك بين الأزمات و الشخوص هو البناء الذي اعتمده الفيلم، فطرف يصل بك لآخر وهكذا حتى نصل لمشهد النهاية الذي إلتف فيه الجميع حول إحساس واحد لا يتكرر كثيرا٠
واحد – صفر لا يشهد فقط بميلاد كاتبة سيناريو موهوبة ومتمكنة أيضا من أدواتها، ولكنه يؤكد موهبة و حضور كل من شارك بهذه السيمفونية الرائعة والتي تصدت لها المخرجة كاملة أبو ذكري ونجحت في تحويل الورق لمشاعر و أحاسيس تنبض علي الشاشة بعذوبة و كثير من الشجن٠


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللؤلؤة | إخراج: فؤاد خوري لبنان 2009
نقد| نديم جرجورة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أسوأ ما يواجه الكتابة النقدية، اصطدامها بسلسلة أعمال بصرية متشابهة في تخلّفها وسطحيتها وسذاجتها، إذ تختفي العبارات أمامها، ويُصبح البحث عن مفردات جديدة لوصف منتوجات متشابهة للغاية، صعباً جداً. ذلك أن تصنيع منتوحات فنية كهذه، يُروَّج لها باعتبارها «أفلاماً سينمائية»، ارتفعت نسبته مؤخّراً، ما أدّى إلى «عجز» الكتابة النقدية عن ابتكار نص مختلف بين منتوج وآخر، كي لا تسقط في التكرار المملّ، الشبيه بالتكرار نفسه في المنتوجات٠

غير أن المأزق متعلّق بهذا التصنيع، المستمرّ في تفريخ مسوخ بصرية تجد، دائماً، من يُجمّل بشاعتها بألف حجّة. فهل تتوقّف الكتابة عن ملاحقة الأشكال السيئة هذه؛ أم تطاردها في الأمكنة كلّها، حفاظاً على مصداقية متواضعة في التعامل السليم (أو محاولة التعامل السليم، على الأقلّ) مع الحالة الفنية اللبنانية السائدة حالياً؟ هل يتغاضى المرء عن المهزلة المستمرّة في تشويه العمل السينمائي، والإساءة إلى عشّاق الفن السابع (الذين يُفترض بهم ألاّ يُشاهدوا تفاهات كهذه، باستثناء نقّاد تفرض مهنتهم عليهم مشاهدتها)؛ أم يُشهر قلمه دائماً لرصد مسار الحالة المذكورة، ومقارعتها بمنطق لم تبلغه أصلاً؟ هل تخترع الكتابة النقدية مفردات جديدة لوصف بشاعة الحالة الفنية الآنيّة؛ أم تتجاهل البؤس المتفشّي في المشهد السينمائي، مع أن بؤساً كهذا يُصيب الجميع إذا لم يتصدَّ له أحدٌ؟

طُرحت هذه التساؤلات مع عرض المنتوج البصري اللبناني الجديد «شولا كوهين، اللؤلؤة» لفؤاد خوري، الآتي إلى عالم تصنيع سلع بصرية مسطّحة من العمل التلفزيوني. فعلى الرغم من أهمية القصّة المستوحاة من وقائع حقيقية جرت فصولها في مطلع الستينيات اللبنانية، بدا المنتوج سيئاً إلى درجة لا تُحتمل، بدءاً من السيناريو المرتبك والحوارات الساذجة (كتابة أنطوان فرنسيس)، وصولاً إلى آلية المعالجة الدرامية والتفاصيل التقنية، ومروراً بالغياب المطلق لإدارة الممثلين، مع أن بعض هؤلاء متمرّس في العمل التمثيلي، مسرحاً وشاشة صغيرة (دارين حمزة وطارق تميم وسامر الغريب ونزيه يوسف وبيار داغر وبول سليمان، وظهر غيرهم في أدوار عابرة؛ مع ملاحظة التفاوت الأدائي بينهم). وعلى الرغم من أن القصّة مليئة بالمفارقات الدرامية، التي تعيد رسم ملامح تلك الفترة، في السياسة والأمن والعلاقات الاجتماعية والحياة اللبنانية اليومية؛ إلاّ أن «اللؤلؤة» أهان ذكاء المتلقّي، عندما سطّح المعطيات كلّها، وعجز عن امتلاك حدّ أدنى من الوعي المعرفي بكيفية إنجاز عمل بصري، تصويراً وتوليفاً وإضاءة وتقطيعاً وتسجيلاً، وفشل في تحويل قصّة فرد إلى معاينة حالة عامّة، ارتبط الفرد بها بشكل وثيق. وعلى الرغم من أن القصّة مفتوحة على واقع غنّي بالتفاصيل، لا يتطلّب تحويله إلى فيلم سينمائي حقيقي أموالاً طائلة وميزانيات ضخمة؛ إلاّ أن المنتوج المذكور شوّه هذا الغنى الدرامي والإنساني والحياتي، بتعامله السطحي معه. وعلى الرغم من أن قصّة كهذه، بغناها المتنوّع، لا تحتاج إلى ميزانية ضخمة لتنفيذها السينمائي، لأن ذكاء إخراجياً وتأليفياً كفيلٌ بتقليص التكاليف لحساب المادة الغنية؛ إلاّ أن المهزلة الفنية هذه لم تنتج بسبب غياب التمويل، بل لأن عدم معرفة أصول الكتابة والإخراج أفضى إلى ارتكاب فضيحة «اللؤلؤة»٠

شهدت بيروت، في مطلع الستينيات المنصرمة، عملاّ تجسّسياً خطراً، عندما نجحت اللبنانية اليهودية شولا كوهين في إغواء عدد كبير من السياسيين ورجال الأمن والاقتصاد ووجهاء المجتمع المخملي حينها (والسيطرة عليهم بطرق مختلفة)، عاملةً على «تهريب» لبنانيين يهود إلى إسرائيل، ومتجسّسةً على الدولة اللبنانية وأسرارها في أمور شتّى لمصلحة بلدها الأصلي. ومع أنها فائقة الجمال والذكاء، إلاّ أن أجهزة أمنية لبنانية أحكمت الطوق عليها، وحاكمتها بتهمة التجسّس، وحكمت عليها بالسجن لمدّة سبعة أعوام، قبل أن تعمل الدولة العبرية على إطلاق سراحها بعد أشهر قليلة على حرب الأيام الستة في حزيران 1967، أي قبل سنة واحدة تقريباً من انتهاء مدّة سجنها٠
باختصار شديد، يُمكن القول إن قصّة كهذه لا تقف عند حدود التجسّس، ولا تبقى في إطار بوليسي بحت، لأنها مليئة بعناوين حيوية، محتاجة إلى كتابة سليمة وإخراج سوي، قادرَين على إنجاز فيلم سينمائي يجمع التجاري بالفني، بربطه أنواعاً سينمائية عدّة ببعضها البعض، كالـ: تجسّس، مطاردات بوليسية، فضائح سياسية واجتماعية، حب، جنس، توغّل في عالم الأمن الخاصّ بـ«المكتب الثاني» اللبناني... إلخ. لكن هذا كلّه لم يظهر إطلاقاً في المنتوج الذي صنعه فؤاد خوري، لأن هناك غياباً فاضحاً لمنطق درامي متماسك. إن التدقيق في الأخطاء الجمّة التي صنعت هذا المنتوج، يتطلّب تحليلاً طويلاً قد لا تستحقّه هذه المهزلة البصرية، لتبيان فداحة الخلل المعتمل فيها٠
لكن، هل ينفع التعليق النقدي في تحسين شروط العمل الفني؛ أم إن الادّعاء المعرفي طاغ إلى درجة تعمي الأبصار عن فداحة الكارثة البصرية التي تصنعها منتوجات سيئة كهذه؟


ـــــــــــــــــــــــــــ
قراءة فيلم
ـــــــــــــــــــــــــــ

تحليل رائعة إنغمار برغمَن: "برسونا"٠

إنغمار برغمن وراء الكاميرا مع مدير تصويره سڤن نكڤست
في العشرين من أيلول/ سبتمبر سنة 2006 مات مدير التصوير السويدي سڤن نكڤست عن ثلاث وثمانين سنة و113 فيلما من تصويره بينها ثلاثة أفلام من إخراجه أيضاً، وخمسة عشر جائزة بينها أوسكاران٠
في الثلاثين من تموز/ يوليو 2007 مات عن 89 سنة المخرج إنغمار برغمن عن ست وستين فيلماً سينمائياً وتلفزيونياً وعشرات الجوائز ليس من بينها أي أوسكار (بإستثناء جاذزة شرفية واحدة). إثنا عشر فيلماً من تلك التي أخرجها صوّرها له سڤن نيكڤست. واحد من أفضلها وأفضل أفلام برغمَن هو هذا الفيلم
Persona
والتالي هو نقد تحليلي للفيلم من وجهة نظر كل من المخرج ومدير التصوير والعلاقة بينهما
على الرغم من أن مدير التصوير سڤن نيكڤست عمل مع عدد كبير من المخرجين المعروفين في‮ ‬حياته،‮ ‬الا أن تعاونه مع المخرج إنغمار برغمَن‮ ‬يبقى أكثر مراحله أهميّة كون العلاقة بينهما،‮ ‬التي‮ ‬قامت بعد سنوات من بدء حياة كل منهما المهنية،‮ ‬كانت فنياً‮ ‬متشابكة بحيث من الصعب معرفة أين هي‮ ‬الحدود التي‮ ‬يقف عندها كل واحد تجاه الآخر،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن إهتمام كل منهما بالطبيعة والضوء ومصدر النور والأجواء الإسكندناڤية بأسرها كان متساوياً‮.‬
وُلد سڤن في‮ ٣/٢١/٢٢٩١ ‬بإسم سڤن وِلِم نيكڤست في‮ ‬بلدة موهيدا في‮ ‬السويد إبناً‮ ‬لمبشّرين مسيحيين كانا‮ ‬يتركانه،‮ ‬طفلاً،‮ ‬عند أقارب لهما ويسافران في‮ ‬رحلات تبشيرية طويلة الى أفريقيا‮. ‬والمفارقة أن إنغمار برغمَن أيضاً‮ ‬كان إبناً‮ ‬لمبشّر ديني،‮ ‬وأن والد كل منهما منع إبنه من مشاهدة الأفلام‮. ‬
كان نيكڤست في‮ ‬حوالي‮ ‬العاشرة حين عاد والداه واستقرّا في‮ ‬السويد،‮ ‬وفي‮ ‬الخامسة عشر حين اشترى كاميرا من نوع‮ »٨ ‬ملم‮«. ‬وفي‮ ‬التاسعة عشر من عمره عندما وجد أول عمل له في‮ ‬السينما كمساعد مصوّر وذلك بعد أن أمضى‮ ‬عاماً‮ ‬من التدريب في‮ ‬ستديو شينيشيتا،‮ ‬في‮ ‬روما،‮ ‬قبل عودته الى السويد‮. ‬ثم مدير تصوير من العام ‮٣٤٩١ (٥٤٩١ ‬في‮ ‬بعض المراجع‮) ‬وكان الإختيار المفضل لمخرج أقل شهرة اليوم مما كان عليها بالأمس أيضاً‮ ‬وهو شاميل بومان‮
‬حين قام نيكڤست بتصوير فيلم‮ »‬باراباس‮« (٣٥٩١) ‬و‮ »‬كارِن مانسدوتر‮« (٤٥٩١) ‬لحساب المخرج السويدي‮ ‬ألف سيوبيرغ‮ ‬Alf ‮ ‬الذي‮ ‬سادت شهرته أوروبا الى حين تألّق برغمَن عالمياً،‮ ‬أثار الإنتباه‮ ‬ما أدّى إلى لقائه ببرغمَن لأول مرّة مشاركاً‮ ‬تصوير فيلمه‮ »‬الليلة العارية‮«. ‬وكان برغمَن عيّن‮ ‬
إلتقى سڤن بإنغمار أول مرة سنة ‮٣٥٩١ ‬عندما شارك الأول بتصوير فيلم‮ »‬الليلة العارية‮« ‬هيلدينغ‮ ‬بلاد‮ مديرا لتصويره‮. ‬
كان هيلدينغ‮ ‬عمل مع برغمن أكثر من مرّة في‮ ‬ذلك الوقت،‮ ‬لكن‮ ‬غونر فيشر‮ ‮ ‬كان أكثر من عمل معهم المخرج قبل إلتحاق نيكڤست به بشكل دائم من العام ‮٠٦٩١ ‬وصاعداً‮. ‬والمؤكد أن هذا الإلتحاق كان نتيجة خلاف فني‮ ‬بين برغمَن وفيشر بسبب ميل الثاني‮ ‬الى إغراق المشهد بإضاءة كاشفة على عكس رغبة المخرج في‮ ‬منحه إضاءة مبتسرة تلتقي‮ ‬وشخصياته‮. ‬لكن فيشر كان ميّالاً‮ ‬الى التعبيرية الأمر الذي‮ ‬لم‮ ‬يعتبره برغمَن مناسباً‮ ‬لأعماله،‮ ‬رغم إنه بدأ تعبيرياً‮. ‬

‬مع برغمَن‮ ‬
سنة ‮٠٦٩١ ‬صوّر نيكڤست لبرغمَن‮ »‬ربيع العذراء‮« ‬الذي‮ ‬نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي‮ ‬حينها‮. ‬تبع ذلك ثلاثية احتوت على‮ »‬من خلال منظار داكن‮« (٠٦٩١) ‬و»ضوء شتوي‮« (٣٦٩١) ‬و»الصمت‮« (٣٦٩١) ‬وفيها جميعاً‮ ‬بصمة نيكڤست التصويرية التي‮ ‬أعتمدت مصادر الضوء الطبيعي‮ ‬إنما في‮ ‬موازاة لما‮ ‬يحتويه المشهد او ما تبديه الشخصيات في‮ ‬المشهد المعيّن‮. ‬وكإنعكاس لطبيعة العمل بين نيكڤست وبرغمَن تحدّث الأول عن كيفية تصوير‮ »‬ضوء شتوي‮«:‬
‮"‬تقع الأحداث في‮ ‬كنيسة في‮ ‬الشتاء‮. ‬وكنا‮ - ‬برغمَن وأنا‮- ‬نمضي‮ ‬ثلاث ساعات كل‮ ‬يوم ما بين الساعة الحادية عشر صباحاً‮ ‬والثانية بعد الظهر نتأمّل ضوء النهار‮. ‬ولاحظنا إنه‮ ‬يتغيّر فعلاً‮. ‬كنا قررنا أن لا نصوّر أي‮ ‬ظلالات للشخصيات او للديكورات لأن الظلال لم‮ ‬يكن منطقياً‮ ‬في‮ ‬مثل هذا الوضع‮. ‬هذه الدراسة التي‮ ‬استمرّت أسبوعاً‮ ‬ساعدت برغمَن على كتابة السيناريو‮"‬
قاوم المصوّر والمخرج فكرة التصوير بالألوان طويلاً‮ ‬الى أن خرقا القاعدة سنة ‮٤٦٩١ ‬عندما صوّر نيكڤست‮ »‬كل هؤلاء النساء‮« ‬الذي‮ ‬دارت أحداثه في‮ ‬عشرينات القرن،‮ ‬لكن نيكڤست لم‮ ‬يكن راضياً‮ ‬كثيراً‮ ‬عن النتيجة ورأى أن اللون سرق من الجو المطلوب‮. ‬هذا النقد الشخصي‮ ‬لم‮ ‬يثن النقاد حينها عن إعتبار تصوير نيكڤست نجح أكثر مما‮ ‬يعتقد مدير التصوير نفسه،‮ ‬ولاحقاً‮ ‬حين بدأ التصوير الملوّن على نحو متتابع،‮ ‬وجدناه‮ ‬يكمل من حيث بدأ إنما مع إنجاز أفضل بكثير‮. ‬الفيلم كان‮ »‬صرخات وهمسات‮« (٢٧٩١)‬،‮ ‬وهو الفيلم الذي‮ ‬نال عنه نيكڤست أوسكاره الأول،‮ ‬والذي‮ ‬دار أيضاً‮ ‬في‮ ‬حقبة تاريخية،‮ ‬ولو قريبة،‮ ‬وتطلّب أزياءاً‮ ‬خاصّة وإن لم‮ ‬يتغيّر مطلقاً‮ ‬جوهر أسلوب المخرج برغمَن في‮ ‬شتى نواحي‮ ‬العمل‮. ‬ما أضافه نيكڤست هنا هو دفء شديد في‮ ‬تلك الحكاية التي‮ ‬تقع معظم أحداثها داخل بيت كبير،‮ ‬والتي‮ ‬تتعامل،‮ ‬كعادة أفلام المخرج،‮ ‬مع العواطف والنفسيات والأفكار المحمّلة بمشاعر الذنب وطلب الغفران‮. ‬
الأوسكار الثاني‮ ‬لـنيكڤست حصده سنة ‮٢٨٩١ ‬بمناسبة عمله على فيلم برغمَن‮ »‬فاني‮ ‬وألكسندر‮« (‬بالألوان‮) ‬والذي‮ ‬تخللته ذات الشروط المكانية والزمانية‮ (‬تقريباً‮) ‬للفيلم السابق‮. ‬
بسبب أوسكاره في‮ »‬صرخات وهمسات‮« ‬وجد نيكڤست نفسه مطلوباً‮ ‬من عدد كبير من السينمائيين العالميين‮. ‬صوّر للويس مال‮
Pretty Baby | معشوقة جميلة
ولفيليب كوفمان
The Unbearable Lightness of Being| الخفّة غير المحتملة للوجود
ولبوب فوسي
Star 80
ولرتشارد أتنبوره »تشابلن« لجانب ثلاثة أفلام لوودي ألن هي
Another Woman, Crimes and Misdemeanors‬


مستويات
‮»‬برسونا‮« (٦٦٩١) ‬كان الفيلم الثاني‮ ‬عشر للمخرج إنغمار برغمَن الذي‮ ‬بدأ أفلامه مخرجاً‮ ‬وكاتباً‮ ‬سنة ‮٧٥٩١ ‬بفيلم‮ »‬الختم السابع‮« ‬The Seventh Seal
وكان أيضاً‮ ‬التعاون الكامل السادس بينه وبين مدير التصوير سڤن نيكڤست‮. ‬وهو من‮ »‬أصعب‮« ‬الأفلام تحليلاً‮ ‬من بين ما حققه المخرج ويعمل على عدّة مستويات فهناك مستوى العلاقة الخاصّة بين بطلتيه‮ (‬الممثلة المريضة بنوبة صمت لِف أولمَن والممرّضة بيبي‮ ‬أندرسن‮) ‬ومستوى ما‮ ‬يعنيه الرمز الكامن في‮ ‬تلك العلاقة من حيث ما نريد عكس صورتنا عليه في‮ ‬حين أن حقيقتنا قد تكون مناقضة تماماً‮. ‬لكنه من التبسيط القول في‮ ‬الصعيد الثاني‮ ‬هذا،‮ ‬إنه فيلم عن الكذب‮. ‬إنه بالأحرى فيلم عن المعايشة الداخلية وفي‮ ‬ذات الوقت عما نسمح لأنفسنا نقل هذه المعايشة الى مستوى ممارس في‮ ‬حياتنا اليومية‮. ‬وهناك مستوى آخر‮ ‬يتعامل الفيلم معه هو في‮ ‬إختيار المخرج لما‮ ‬يود التعبير عنه بالطريقة التي‮ ‬يريد والتي‮ ‬تخلق أحياناً‮ ‬قدراً‮ ‬من حيرة المتلقّي‮ ‬حيال ما‮ ‬يراه‮. ‬لكنها حيرة محسوبة لا في‮ ‬عداد التركيبة الفنية التي‮ ‬حققها المخرج لفيلمه فقط،‮ ‬بل أيضاً‮ ‬في‮ ‬عداد التركيبة النفسية للشخصيات التي‮ ‬يتعامل معها‮.‬
هو أيضاً‮ ‬فيلم شعري‮ ‬ممتزج بلون تجريبي‮ ‬خاص من دون التخلّي‮ ‬عن عنصر الدراسة النفسية التي‮ ‬ميّزت الكثير من أفلام برغمَن حينها‮. ‬وهو آسر في‮ ‬كل استخداماته وعناصره ومفتاحها جميعاً‮ ‬واحد‮: ‬إختيارات المخرج السويدي‮ ‬من الإداءات‮. ‬من الحوارات‮. ‬من اللقطات،‮ ‬من حجم اللقطات‮. ‬من زوايا اللقطات‮. ‬من التوقيت الذي‮ ‬يختاره للإنتقال من صورة الى أخرى‮. ‬

معالم قصّة‮ ‬
القصّة تبدأ بمقدّمة في‮ ‬مطلعها صورة لآلة عرض‮. ‬ثم بلقطات لا تسلسل واضح لها او وحدة ما‮: ‬صور‮. ‬ثوان من فيلم كرتوني‮. ‬أيدي‮. ‬ثوان من فيلم كوميدي‮ ‬صامت حول شخص‮ ‬يهرب من الأشباح بالإختباء تحت شرشف سريره‮. ‬عنكبوت‮. ‬ذبح نعجة‮. ‬شاشة من جنفاص‮. ‬شجر في‮ ‬زمن خريفي‮ ‬في‮ ‬غابة‮. ‬حاجز أسلاك‮. ‬ثلح‮. ‬شاب على سرير أبيض‮ (‬نائم او ميّت‮). ‬إمرأة عجوز‮ (‬نائمة او ميّتة‮). ‬يدان‮. ‬عودة الى الشاب‮. ‬رنين هاتف‮. ‬المرأة تفتح عيناها‮. ‬الشاب‮ ‬يتقلّب في‮ ‬سريره‮. ‬ومن هنا نبقى مع الشاب ونستغني‮ ‬عن كل الصور السابقة‮.‬
الشاب نحيف البنية‮. ‬يحاول إسدال الشرشف فوق كل جسده‮ (‬يبدو عاري‮ ‬الصدر والقدمين‮) ‬لكن الشرشف قصير‮. ‬نلحظ أن السرير الضيّق الذي‮ ‬ينام عليه بلا وسادة‮. ‬لا‮ ‬يستطيع العودة الى النوم‮/ ‬الموت‮. ‬يمد‮ ‬يده في‮ ‬مواجهة الكاميرا‮. ‬لقطة من خلفه حيث‮ ‬يرتسم‮ -‬في‮ ‬مواجهة‮ ‬يده‮- ‬وجه في‮ ‬البداية‮ ‬غير واضح الملامح‮. ‬ثم‮ ‬يتّضح تدريجياً‮. ‬إنها إمرأة وهو‮ ‬يلمس صورتها‮. ‬تغلق المرأة عيناها‮. ‬تنتهي‮ ‬المقدّمة‮.‬
الممرضة ألما‮ (‬بيبي‮ ‬أندرسن‮) ‬تتلقى تعليمات من‮ ‬الطبيبة في‮ ‬مستشفى تابع لأحد الأديرة‮: ‬ال،‮ ‬وراء مكتبها،‮ ‬تخبرها أن مريضتها هي‮ ‬الممثلة إليزابت ڤوغلر التي‮ ‬كانت‮ (‬وعند هذا الحد تنتقل الكاميرا الى صورة لِڤ أولمان تحت أضواء المسرح‮) ‬تمثّل مشهداً‮ ‬من‮ »‬إلكترا‮« ‬عندما صمتت‮. ‬ثم أخذت تضحك قبل أن تعتذر‮. ‬لاحقاً‮ (‬نعود هنا الى المشهد السابق‮) ‬توقّفت عن الكلام‮. ‬على ألما العناية بها‮. ‬

‬قتامة تدريجية‮
هناك الكثير مما قيل في‮ ‬عشر دقائق أولى‮. ‬لكن أوّل ما نلاحظ استخداماً‮ ‬فنيّاً‮ ‬مؤثّراً‮ ‬لعمل مدير التصوير نِكسڤت‮ ‬يبدأ من الدقيقة الإحدى عشر عندما نرى ألما تفتح النافذة وتعدّل وضع الستارة لدخول الإضاءة‮. ‬على وجهها،‮ ‬واللقطة متوسّطة قريبة،‮ ‬نور شمسي‮ ‬كما ظلال في‮ ‬جانب آخر
‬النور والظلال معاً‮. ‬ومن بين ما أنجزه المخرج في‮ ‬دقائق الأولى تلك،‮ ‬تقديم ألما في‮ ‬حالة من المشاعر المتناقضة بين رغبتها في‮ ‬التعرّف على مريضتها،‮ ‬وممانعتها في‮ ‬ذات الوقت‮. ‬رغبتها في‮ ‬ممارسة وظيفتها ورغبتها في‮ ‬أن تمارسها مع مريضة أخرى‮. ‬هذا التناقض في‮ ‬المشاعر هو ما‮ ‬يرمز إليه المخرج ومدير تصويره سريعاً‮.‬
تتّجه ألما صوب سرير إليزابث ونلحظ الإستعانة المحدودة للإضاءة داخل الغرفة‮. ‬في‮ ‬الخلفية‮ ‬غير البعيدة‮ ‬ستارةة بيضاء هي‮ ‬الأكثر تعرّضاً‮ ‬للإضاءة‮. ‬في‮ ‬المقدّمة المرأتان في‮ ‬تغييب للإضاءة‮ ‬يجعلهما داكنتان‮. ‬تحاول ألما أن تدير جهاز الراديو الموجود لجانب اليزابث لكن إليزابث،‮ ‬من دون أن تنطق بكلمة‮. ‬حين تنسحب ألما من الغرفة،‮ ‬تهبط الكاميرا قليلاً‮ ‬الى مستوى اليزابث على فراشها‮. ‬وحين تعود إليها،‮ ‬بعد لقطة قصيرة لألما وهي‮ ‬تغلق باب تلك الغرفة وتفتح باباً‮ ‬جانبياً‮ ‬لتدخل‮ ‬غرفة أخرى‮ (‬وعلى وجهها تفكير وضيق‮)‬،‮ ‬نجدها في‮ ‬لقطة قريبة لوجهها،‮ ‬هي‮ ‬أولى اللقطات القريبة التي‮ ‬يستخدمها المخرج بكثرة في‮ ‬أفلامه،‮ ‬وفي‮ ‬هذا الفيلم بالطبع‮. ‬اللقطة على وجهها وهي‮ ‬تنظر قرب عدسة الكاميرا مباشرة تستمر طويلاً‮ ‬ويعلوها موسيقى ڤرلي‮ ‬على الكمان‮. ‬في‮ ‬منتصف مدّة اللقطة تقريباً‮ ‬تبدأ الصورة بالقتامة التدريجية‮. ‬جزءاً‮ ‬وراء جزء تغيب بعض ملامح الوجه،‮ ‬إنعكاساً‮ ‬لما‮ ‬يجول في‮ ‬بالها في‮ ‬تلك اللحظة‮ (‬من دون أن ندري‮ ‬ما‮ ‬يجول في‮ ‬بالها آنذاك‮) ‬او تماثلاً‮ ‬مع الدكانة التي‮ ‬تحتويها شخصيّتها‮. ‬بعد حين تلتفت إليزابث بعيداً‮ ‬وتغطّي‮ ‬وجهها بيدها‮.‬
لا‮ ‬يمكن إنجاح عملية إيصال ما‮ ‬يتفاعل في‮ ‬ذات الشخصية المذكورة من أحاسيس ولا ما‮ ‬يجول في‮ ‬بالها من أفكار من دون ذلك النجاح المسبق لمعالجة مدير التصوير للقطة ككل‮. ‬على بساطتها التكوينية مدروسة بعِداد الثواني‮ ‬ودرجات دقيقة من الحساسية الفنية‮. ‬

‬رجل على نار‮
يقطع برغمَن من هذا المشهد الى وصول ألما لسريرها‮. ‬أول ما تفعله رمي‮ ‬الوسادة‮ (‬تذكّر الصبي‮ ‬نائم من دونها‮) ‬تتغطّى لتنام‮. ‬تطفيء النور‮. ‬ظلام دامس‮. ‬تضيء النور‮ (‬الغرفة كلها بمستوى إضاءة ناعم واحد‮). ‬تأخذ علبة مسحوق وجه وتبدأ تدليكاً‮ ‬بينما تتحدّث عن مشروعها‮: ‬الزواج من رجل تعرفه والإنجاب وإيجاد عمل أفضل‮ »‬أمور مُريحة للتفكير‮«‬،‮ ‬كما تقول‮. ‬تطفأ النور‮. ‬لكن قبل أن نتركها لنعود الى اليزابث تنقلنا هي‮ ‬إليها بعبارة‮: »‬أتعجّب ما الخطأ في‮ ‬إليزابث ڤوغلر‮«.‬
أليزابث تمشي‮ ‬ذهاباً‮ ‬وإياباً‮ ‬في‮ ‬غرفتها‮. ‬الإضاءة مرّة أخرى ناعمة‮. ‬لكن هناك إضاءة إضافية نتبيّنها حين تتجه أليزابث صوب الباب كما لو كانت تحاول فتحه‮. ‬عند هذه اللحظة سنشاهد ظلّها على الباب والجدار فوقه وسنتبيّن مصدره‮. ‬قبل أن ندرك أن المصدر هو جهاز التلفزيون الموضوع‮ (‬على الأرض‮) ‬في‮ ‬غرفتها‮. ‬أليزابث تنظر الى ما‮ ‬يعرضه التلفزيون ويقطع المخرج عليه‮. ‬إنها نشرة أخبار في‮ ‬منتصف تغطية حدث‮. ‬ناس تركض‮. ‬رجل بوليس‮ ‬يحاول السيطرة على حركة الشارع‮. ‬سيارة تاكسي‮ ‬تنطلق‮. ‬ثم صورة لرجل‮ ‬يحرق نفسه‮. ‬هذا شريط ريبورتاجي‮ (‬تسجيلي‮) ‬لحادثة فعلية‮. ‬في‮ ‬العام ‮٤٦٩١ (‬وهو العام الذي‮ ‬يمكن إعتبار الأحداث في‮ »‬برسونا‮« ‬تدور فيه‮) ‬قام راهب بوذي‮ ‬بإشعال النار في‮ ‬نفسه في‮ ‬ڤييتنام إحتجاجاً‮ ‬على سوء معاملة البوذيين‮. ‬يكتفي‮ ‬برغمَن بهذا القدر ويقطع على وجه اليزابث وهي‮ ‬تنظر مذهولة وتتراجع‮. ‬ثلاث نقلات بين وجهها الي‮ ‬غطّت قسماً‮ ‬منه بيدها‮ (‬في‮ ‬كل مرة بلقطة أقرب‮) ‬وبين الرجل المشتعل‮ (‬الان من دون الإطار التلفزيوني‮) ‬قبل أن‮ ‬يقطع المخرج إليها في‮ ‬لقطة عامّة‮ (‬كتلك التي‮ ‬بدأ بها‮) ‬وهي‮ ‬تلتصق بالجدار حيث مفتاح إغلاق الجهاز‮. ‬تسند رأسها الى الحائط وهي‮ ‬تئن في‮ ‬خوف مما شاهدته‮.‬

‮ ‬مواجهة‮
في‮ ‬صباح اليوم التالي‮ (‬ونعرف ذلك بالتكهّن فقط‮). ‬يبدأ المشهد بيد تحمل مغلّفاً‮. ‬يدا ألما وهي‮ ‬تخبر إليزابث إنها استلمت رسالة‮. ‬من اليدين الى الوجه‮. ‬ألما تسأل أليزابث‮ (‬التي‮ ‬لا تجيب‮) ‬إذا ما كانت تريدها أن تقرأ الرسالة‮. ‬تبدأ بقراءتها وفي‮ ‬أسطرها تعريفنا بالشخص الغائب‮: ‬زوج الممثلة الذي‮ ‬يكتب لها لأنه من‮ ‬غير المسموح بزيارتها‮. ‬ألما تقرأ في‮ ‬لقطة وجه أمامية قريبة تساؤل الزوج إذا ما كان فعل شيئاً‮ ‬أذى به زوجته من دون أن‮ ‬يعلم‮. ‬تخطف إليزابث الرسالة وعندها تنتقل اللقطة إليها في‮ ‬لقطة أمامية لكنها منخفضة لها‮. ‬تمزّق صورة الزوج التي‮ ‬جاءت مع الرسالة‮. ‬
اللقطة التالية هي‮ ‬أيضاً‮ ‬قريبة وهي‮ ‬لإليزابث على وجهها أوّلاً‮ (‬مع لعب ظلال تكويني‮ ‬بسيط من حيث مصدر الضوء والظل على الخلفية‮) ‬قبل أن تنحدر الكاميرا إلى حيث نتبيّن‮ ‬يديها تقشّران تفّاحة بسكين‮. ‬ينبعث من هذا الوضع الشعور بالخطر خصوصاً‮ ‬وأن ما‮ ‬يُصاحب هذه اللقطة دخول‮ ‬الطبيبة لتقترح عليها الإنتقال مع ألما الى بيت صيفي‮ ‬على الشاطيء‮. ‬وتنتقل الكاميرا‮ (‬في‮ ‬لقطات قريبة دائماً‮) ‬بين وجه إليزابث،‮ ‬يداها ووجه المتحدّثة التي‮ ‬يتبنّى الفيلم وجهة نظره عبرها شارحاً‮ ‬رؤيته بما تمر به بطلته‮. ‬وهذا الشرح تلخّصه العبارة التالية‮:‬
‮»‬الا تعتقدين أنني‮ ‬مدركة؟ الحلم الميؤوس منه بالوجود‮. ‬ليس بالظهور،‮ ‬بل بالوجود‮. ‬في‮ ‬كل دقيقة‮ ‬يقظة،‮ ‬وعي‮. ‬تحذير‮. ‬صراع عنيف‮ (‬بين‮) ‬ما أنت عليه وسط الآخرين وبين من أنت حقاً‮. ‬شعور بالدوران وجوع دائم لكي‮ ‬تشكفي‮ ‬حقيقة من أنت‮«‬
“The hopless dream of being. Not seeming, but being. In every waking moment awar, alert. the tug-of-war what you are with others and who you really are. A feeling of vertigo and a constant hunger to be finally exposed”‮ ‬
ما تتحدّث عنه‮ ‬الممرّضات هو ما أشرنا إليه حول أزمة الإزدواجية‮. ‬نحن وحدنا‮ ‬غير ما نحن عليه مع الآخرين‮. ‬نعكس وضعاً‮ ‬ملفّقاً‮ ‬يريحنا‮. ‬في‮ ‬ذات الوقت‮ ‬يمتد الإقتراح،‮ ‬طبيعياً،‮ ‬صوب موضوع البحث عن الهوية الذاتية ومواجهتها‮. ‬
وما‮ ‬يؤول إليه المشهد،‮ ‬في‮ ‬هذا الشرح الذي‮ ‬يعبّر عن وجهة نظر صاحب الفيلم كتابة وإخراجاً،‮ ‬هو أن صمت إليزابث هو اللحظة التي‮ ‬لا‮ ‬يصير واجباً‮ ‬عليها أن تكذب‮. ‬أن تؤدي‮ ‬أدوار حياة،‮ ‬او تفتعل ردّات فعل او تقوم بحركات مزيّفة كما تكمل‮ ‬الطبيبة في‮ ‬تحليلها لتخلص بالقول‮: ‬
‮»‬خُلوّك من الحياة أصبح جزءاً‮ ‬خيالياَ‮ ‬منك‮« ‬Your lifelessness has become a fantastic part
كل هذا والمخرج‮ ‬يركّز في‮ ‬لقطاته القريبة على إداء شخصيّتيه هاتين‮ (‬ألما خارج المكان‮). ‬لِڤ أولمَن تمثّل بصمتها،‮ ‬والأخرى‮ (‬مرغريتا كروك‮) ‬تلقي‮ ‬كلماتها من دون خشية او تردد‮. ‬واثقة من تحليلها وعاكسة قدراً‮ -‬ولو محدوداً‮- ‬من الإزدراء‮.‬

‮ ‬إمرأتان في‮ ‬الحديقة‮ ‬
المشهد الخارجي‮ ‬الأول،‮ ‬من بداية الفيلم‮ -‬مصحوباً‮ ‬بالتعليق الصوتي‮ ‬للرجل الذي‮ ‬سيكشف الفيلم عنه في‮ ‬النهاية‮- ‬يتهادى بعد ‮١٢ ‬دقيقة‮: ‬ألما وإليزابث أنتقلتا الى البيت الصيفي‮. ‬اللقطة الأولى للمكان بعيدة لهما وهما تسيران في‮ ‬الحديقة‮ ‬واحدة وراء الأخرى تجمعان أشياءاً‮ ‬من الأرض‮. ‬بينهما وبين الكاميرا جدار من الحجارة المتراصّة وهما تغيبان كلما اضطرتا للإنحناء لالتقاط ما تجمعانه‮. ‬ثم لقطة بديعة في‮ ‬جماليتها،‮ ‬ولو أنها‮- ‬ككل الفيلم‮- ‬بالأبيض والأسود،‮ ‬لهما وهما جالستان حول طاولة تحت الشمس ومن ورائهما البحر‮. ‬أنهما تدمدمان كل بنغم مختلف‮. ‬وتقومان كل بعمل صغير مختلف‮. ‬إليزابث تقرأ تحت قبّعة قش بيضاء عريضة،‮ ‬وألما تقشّر طعاماً‮ ‬تحت قبّعة قش سوداء ضيقة الجوانب‮. ‬تلتقط إليزابث‮ ‬يد ألما وتقارنها بها‮. ‬تضحك ألما وتقول أنه من‮ »‬سوء الطالع أن تتم مقارنة اليدين‮«. ‬تتركها إليزابث‮.‬
يعكس المشهد وباقي‮ ‬المشاهد التي‮ ‬تقع في‮ ‬تلك الحديقة القريبة من الشاطيء جوّاً‮ ‬رطباً‮ ‬وجميلاً‮. ‬اختيارات المخرج ومدير تصويره للمكان التي‮ ‬سينقسم الى لقطات ومشاهد معنى بها لإقتراح أن بداية ألفة بين المرأتين‮. ‬إليزابث هنا بدأت تنطق،‮ ‬ولو بحدود دمدمة،‮ ‬وتبتسم وترتاح‮. ‬لكن ألما تختار أن تقرأ لها مقطعاً‮ ‬من كتاب تقرأه‮ ‬يتحدّث عن القلق الذي‮ ‬يصاحب الإنسان‮. ‬ومما تقرأه‮:‬
‮»‬صرخات إيماننا وشكوكنا ضد العتمة والصمت برهان مفجع على وحدتنا وخوفنا‮«‬
The cries of our faith and doubts against darkness and silence are a terrible proof of our loneliness and rear
ألما تسأل إليزابث إذا ما كانت توافق على هذا الرأي‮ ‬وإليزابث تهز برأسها إيجاباً‮. ‬
ننتقل معهما الى داخل البيت‮. ‬يجلسان الى منضدة عالية‮ ‬يشربان القهوة وألما لا تزال تتحدّث وكاميرا نِكڤست لا زالت تنتقل بين الوجهين في‮ ‬لقطات قريبة او متوسّطة القرب‮. ‬لكن هذا الحجم المشدود على الوجه لا‮ ‬يمنع كشف الخلفية المريحة ولا‮ ‬يمنع استغلال النور الخارجي‮ ‬لا لكي‮ ‬يستشف منه نِكڤست الإضاءة الداخلية الطبيعية،‮ ‬فقط،‮ ‬بل لأجل متابعة البدائل الشعورية التي‮ ‬تعيشها إليزابث في‮ ‬هذه اللحظات‮. ‬إنها تستوعب‮. ‬تتفاعل بإهتمام مع ما تتحدّث فيه ألما‮ (‬حيناً‮ ‬عن أحلامها وحيناً‮ ‬عن علاقتها بصديقها المتزوّج ما خلق‮ »‬ألماً‮ ‬متواصلاً‮«). ‬
بالتدريج هنا وفي‮ ‬مشهد داخلي‮ ‬آخر تجمع فيه اللقطة بين المرأتين وقد ارتدتا‮ -‬عن قصد فني‮- ‬سترتين سوداويّتين لأجل خلق تناقض مع الإضاءة الخارجية‮) ‬نجد أن الفيلم هو أيضاً‮ ‬عن ألما‮. ‬عن نفسياتها ومشاعرها وأحلامها وإجهاضاتها العاطفية‮. ‬وحين‮ ‬يبدأ الحديث عنها بالوصول الى ذروة في‮ ‬معناه تتقدّم الكاميرا في‮ ‬زووم خفيف من لقطة متوسّطة الى قريبة‮. ‬لا‮ ‬يخشى الفيلم‮ (‬أستخدم كلمة‮ »‬فيلم‮« ‬كحالة جمع لخيارات المخرج ومدير تصويره‮) ‬أنه‮ ‬يغطّي‮ ‬وجه لِڤ أولمَن إذ‮ ‬يقترب من وجه بيبي‮ ‬أندرسن‮. ‬ثم تقوم بيبي‮ ‬ويكشف الفيلم عن وجه لِڤ وهي‮ ‬تتابع بيبي‮ ‬بنظرة إهتمام وإلمام‮: ‬لأول مرة تتكوّن أنها الناضجة بين الإثنتين‮. ‬وهذا البعد‮ ‬يصلنا بالحركة في‮ ‬اللقطة التالية‮:‬
الآن نحن في‮ ‬الليل‮. ‬بيبي‮ ‬أمام طاولة في‮ ‬غرفة نوم جالسة الى كنبة وأمامها مصباح‮ ‬يشكّل مصدر النور على وجهها‮. ‬في‮ ‬الخلفية فوق السرير إضاءة مصباح آخر‮ (‬لا نراه بل ندركه‮). ‬لِڤ‮/ ‬إليزبث‮ ‬تقوم بتدليك كتفا بيبي‮/ ‬ألما التي‮ ‬تواصل كلامها من دون توقّف،‮ ‬ولو أنها تبدأ بالإعتذار،‮ ‬نوعاً،‮ ‬عن طول حديثها‮. ‬

‮‬ألما تتذكّر حكاية‮‬
جماليات هذا المقطع من الفيلم لا تتوقّف او حتى ترتاح‮. ‬تتصاعد من مشهد لآخر‮. ‬بعد قليل،‮ ‬نحن لا زلنا في‮ ‬الغرفة ذاتها‮. ‬هذه المرة تجلس‮ ‬اليزابث على السرير بينما تجلس ألما على الكنبة‮. ‬جلسة الأولى تستدعي‮ ‬السُلطة التي‮ ‬آلت الأمور إليها إذ تستمع الى متاعب ألما في‮ ‬حياتها الخاصّة‮. ‬المصباح الذي‮ ‬كان في‮ ‬اللقطة السابقة‮ ‬يسلّط ضوءه على السرير من دون أن نراه،‮ ‬بات واضحاً‮ ‬الآن وكل أليزابث تحته بلباسها الأبيض‮ (‬على وسادة بيضاء‮). ‬واللقطة مأخوذة من أمام السرير لتشمل أليزابث في‮ ‬الخلفية،‮ ‬اما المقدّمة فلألما التي‮ ‬لا‮ ‬يصلها الا قدر ضئيل من الضوء‮. ‬المشهد ليس شعراً‮ ‬بقدر ما هو رسم ومع ما هو‮ ‬يُقال على لسان ألما من وصف،‮ ‬والطريقة التي‮ ‬تستمع بها أليزابث بعناية ومن خلال صمتها المطبق،‮ ‬هو رسم مع مقالة في‮ ‬المشاعر والأحاسيس كانت تجد عند برغمَن ما لم تجده عند أي‮ ‬مخرج آخر من القدرة على سردها مثيرة للإهتمام ضمن عناصر المشهد البسيطة‮.‬
للقطة التالية،‮ ‬التي‮ ‬تواصل ألما الحديث فيها عن حادثة وقعت لها ولصديقتها حينما كانتا على الشاطيء،‮ ‬تنفرد ألما باللقطة‮. ‬هي،‮ ‬بفستان نوم أبيض أيضا،‮ ‬تحت ضوء‮ ‬يبدو صادراً‮ ‬من مصباح علوي‮. ‬الستارة وراءها مغلقة منعاً‮ ‬لأي‮ ‬نور او ظلال خارجي‮. ‬
اللقطة الثالثة في‮ ‬هذا المونولوغ‮ ‬لإليزابث منفردة‮. ‬على جلستها السابقة في‮ ‬لقطة متوسّطة أصبحت فيه الكاميرا أقرب بينما حافظت إليزابث على جلستها‮ (‬سأبحث عن صورة لها في‮ ‬هذا الوضع الذي‮ ‬يشبه جلسة السلاطين‮) ‬وعلى وجهها كل ما‮ ‬يمكن عكسه من إهتمام‮.‬
لاحظ أيضاً‮ ‬بناء المشهد‮: ‬لقطة عامّة لكليهما‮. ‬لقطة متوسّطة لألما،‮ ‬لقطة متوسطة لإليزابث ثم الآن لقطة قريبة لوجه ألما وهي‮ ‬لا زالت تسرد ما حدث لها ولصديقتها على الشاطيء‮. ‬بعد قليل لقطة قريبة جداً‮ ‬لوجه أليزابث‮. ‬ما تتحدّث عنه ألما من كلمات نرى الآن صوره،‮ ‬رمزياً،‮ ‬كإنعكاسات على وجه إليزابث‮.‬

‬الصور الذهنية‮
هذا الفصل ليس مهمّاً‮ ‬فقط على صعيد الصورة،‮ ‬بصرياً‮ ‬وفنياً‮ ‬وشغل نِكڤست الخ‮... ‬بل على صعيد ما ترويه ألما من ذكرى لحادثة وقعت معها،‮ ‬وتأثير ذلك عليها في‮ ‬ذلك الوقت‮ (‬وجهها‮ ‬يعبّر عن ألم دفين‮) ‬كما على أليزابث المتابعة بإهتمام كل تفاصيل الحكاية‮. ‬ثم تأثير الحكاية على علاقتهما بالفيلم ودوريهما،‮ ‬سردياً‮ ‬ودرامياً‮ ‬ونفسياً،‮ ‬فيه‮.‬
ألما تسرد ما بدا من دون مناسبة إنما كإسترسال لكلامها‮ ‬غير المنقطع،‮ ‬حادثة وقعت لها حين كانت مع صديقة لها عاريتان على شاطيء البحر‮. ‬كانتا تستلقيان تحت الشمس حينما لاحظت ألما وجود شابّين حديثي‮ ‬السن‮ ‬يراقباهما‮. ‬تخبر صديقتها التي‮ ‬تدعوهما‮. ‬يتقدّم أجرأهما فتساعده صديقتها بخلع ثيابه ويبدآ بممارسة الحب‮. ‬ألما المستلقية لجانبها تقول‮ »‬ألن تأتي‮ ‬إليّ‮ ‬أيضاً؟‮« ‬فتشجّعه صديقتها على تركها وممارسة الحب مع ألما وهذا ما‮ ‬يفعله‮. ‬
في‮ ‬حديث ألما صور ذهنية متتابعة‮. ‬لاحظ أن برغمَن‮ ‬يلغي‮ ‬الفلاشباك كليّاً،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يرفع من قيمة الكلمة وقيمة التمثيل وينجي‮ ‬الفيلم من عاقبة المباشرة في‮ ‬التوجّه‮. ‬بذلك المشهد‮ »‬إيروتيكي‮« ‬وليس‮ »‬بورنوغرافي‮« ‬وهو مؤثر في‮ ‬المشاهد المتتبّع،‮ ‬لكن التأثير الأهم طبعاً‮ ‬يرتسم على اللقطة التالية‮: ‬كلوز أب على وجه إليزابث‮. ‬تستطيع أن ترى عينيها وهي‮ ‬تستعرض الشريط الصوَري‮ ‬للحادثة المروية‮. ‬تتخيّل‮. ‬سيغارتها تحترق من دون أن تدخّن منها‮ (‬في‮ ‬تلك اللقطة‮) ‬ورمش عينها‮ ‬يرفّ‮ ‬مرّة واحدة‮. ‬
حين العودة الى ألما وهي‮ ‬لا زالت تروي‮ ‬تفاصيل الحادث،‮ ‬يضعها نكڤست في‮ ‬لقطة متوسّطة،‮ ‬لكنها تنهض عن الكنبة باحثة عن شعلة لسيغارة‮. ‬اللقطة هي‮ ‬ذاتها‮. ‬ألما تمضي‮ ‬بعيداً‮ ‬فتتحرّك الكاميرا معها الى اليمين قليلاً‮ ‬ثم الى اليسار قليلاً‮ ‬من دون أن تغادر موقعها‮. ‬نِكڤست كان صمّم‮ (‬مع المخرج بالطبع‮) ‬هذا الإمتداد للقطة السابقة‮. ‬وزّع إضاءتها التي‮ ‬تبدو الآن كما لو ترد من وراء الستارة المغلقةة‮. ‬وهناك مرآة جانبية على طول الحائط حيث‮ ‬ينعكس رسم الضوء من دون أن‮ ‬يضيف‮ -‬بالطبع‮- ‬مزيداً‮ ‬من الإضاءة‮. ‬باقي‮ ‬الغرفة إما معتم تماماً‮ ‬او داكن‮.‬
كل ذلك وما سبقه لا‮ ‬يمكن أن تعكسه الألوان فيما لو عمد الفيلم إليها‮. ‬الأبيض والأسود‮ ‬يمنح العمق اللازم‮. ‬يجعل المسألة أكثر إلحاحاً‮ ‬وأكثر تركيزاً‮ ‬والمشهد كلّه أكثر قدرة على التأثير‮. ‬


‬الكسوف‮
إذ توالي‮ ‬ألما سرد الذاكرة التي‮ ‬تعاني‮ ‬منها تتّضح‮ ‬بعد قليل الأسباب التي‮ ‬تقف وراء شعورها بالألم‮ (‬عوض اللهو او المتعة مثلاً‮) ‬وهي‮ ‬تتذكر‮. ‬حين تقف عند النافذة تفتح الستارة بمقدار بسيط لنكتشف أن السماء في‮ ‬هذا اليوم الشمالي‮ ‬الطويل تمطر‮. ‬حين تكمل سيرتها وهي‮ ‬مستلقاة على السرير لجانب أليزابث تبكي‮ ‬لأن بيت القصيد هنا هو شعورها بالذنب كونها حبلت بعدها‮. ‬صحيح إنها قررت وزوجها إجراء عملية طرح الجنين،‮ ‬لأنهما لا‮ ‬يريدان الإنجاب،‮ ‬الا أنها تعلم بالطبع ما لا‮ ‬يعلمه هو‮. ‬الفصل بأسره‮ ‬ينتهي‮ ‬ببكاء ألما الشديد في‮ ‬تلك اللحظة ويد أليزابث‮ (‬تشبه‮ ‬يد أم‮) ‬وهي‮ ‬تمسح شعر ألما بقفا كفّها بحنان‮.‬
اللقطة التالية‮ ‬متوسّطة لإليزابث من الخلف وألما جانبياً‮ ‬على طاولة عشاء‮. ‬جانب من الطاولة على أي‮ ‬حال والإضاءة علوية فوق الطاولة‮. ‬تستدرك ألما مرّة ثانية كثرة كلامها وتخبر إليزابث إنها كانت ترى تشابها داخلياً‮ ‬في‮ ‬ذاتها مع صورتها في‮ ‬أحد أفلامها‮. ‬ثم تضع ألما وجهها فوق الطاولة‮. ‬هنا‮ ‬يختار برغمَن أن تنطلق اليزابث‮/ ‬لِڤ لأول مرّة هامسة‮:‬
‮"‬إذهبي‮ ‬الى السرير والا سوف تنامين على الطاولة‮".‬
فقط حين تعتقد أنك لممت بجوهر ما‮ ‬يحدث،‮ ‬وسوف تتابع من هذا الموقع وحده باقي‮ ‬دقائق الفيلم الـخمس والأربعين التالية،‮ ‬تكتشف أن برغمان لم‮ ‬ينته بعد الا من سرد فصل معيّن‮. ‬هذه العبارة التي‮ ‬للحظة نعتقد أن إليزابث قد تفوّهت بها،‮ ‬تعيد إلما النطق بها قائلة وقد رفعت رأسها عن الطاولة‮: ‬
‮"‬الأفضل لي‮ ‬أن أذهب الى السرير والا نمت على الطاولة‮«.‬
هل تكلّمت إليزابث فعلاً‮ ‬أم أن صوتها كان في‮ ‬بال ألما؟ هل أعتقدت ألما أن اليزابث قالت ذلك؟ لا تنسى أن اللقطة خلفية بالنسبة لإليزابث لذلك لا نرى وجهها ولا‮ -‬بالتالي‮- ‬شفتيها تنبسان ببنت شفة‮. ‬بالتالي‮ ‬هذا الإختيار هو لإيصال فكرة من فكرتين‮:‬
‮- ‬إليزابث قالت ذلك وألما ردّدت،‮ ‬تأكيداً‮ ‬او إعتقاداً‮ ‬بأن إليزابث قالت ذلك‮.‬
‮- ‬إليزابث لم تقل ذلك مطلقاً‮. ‬ألما ترفع رأسها وتقول ذلك لأول مرّة‮. ‬لكنه صوت إليزابث ذلك الذي‮ ‬سمعناه أوّلاً‮. ‬المعنى؟
هذه اللقطة هي‮ ‬التي‮ ‬تفتتح فصلاً‮ ‬جديداً‮ ‬من العلاقة بين ألما وإليزابث‮. ‬إنها الإشارة الأولى التي‮ ‬يقترحها الفيلم من أن ألما وإليزابث إمرأة واحدة‮. ‬ألما ذابت في‮ ‬إليزباث‮. ‬وهي‮ ‬إشارة ذكية التأليف والتنفيذ من حيث ترتيبها‮. ‬حوارها‮. ‬تمثيلها وتصويرها‮. ‬ولو أنه عوض الإستغناء عن الفكرة الأولى‮ (‬لا زالتا إمرأتان‮) ‬يبقيها للمداولة حتى صباح اليوم التالي‮. ‬
في‮ ‬المشهد التالي،‮ ‬في‮ ‬نفس الليلة،‮ ‬إلما تصعد سريرها المنفرد لتنام‮. ‬وجهها الى الكاميرا‮. ‬تستلقي‮. ‬في‮ ‬الخلفية المضاءة تدخل عليها لِف وتقف لحظة وراءها تنظر إليها كما لو كانت تفكّر في‮ ‬الإستلقاء لجانبها‮. ‬ربما مطارحتها الغرام‮ (‬كانت ألما أوحت برغبتها في‮ ‬ذلك مع نهاية اللقطة السابقة‮). ‬لكنها تبتعد داخلة في‮ ‬باب آخر ملاصق للأول‮ (‬ومُنار بالطريقة ذاتها‮). ‬هنا تلتفت ألما وراءها كما لو أنها استيقظت‮. ‬تعود اليزابث إليها‮. ‬تقف ألما وتتجه إليها‮. ‬تحتضنان قليلاً‮. ‬تستدير ألما لتواجهنا‮. ‬تنظر الى الكاميرا‮. ‬تنظر اليزابث الى الكاميرا‮ (‬اللقطة كلوز أب لهما معاً‮). ‬الإندماج‮ ‬يكتمل بوجه إليزابث‮ ‬يختفي‮ ‬وراء وجه ألما وما تبقّى منه‮ ‬يختفي‮ ‬وراء شعر إليزابث الطويل حين تمد ألما‮ ‬يدها وتسدل شعر إليزابث على وجهها‮. ‬المعنى‮ ‬يفي‮ ‬بالإندماج في‮ ‬الشخصية الواحدة ولو أنه‮ ‬يقترح أيضاً‮ ‬نشوء علاقة سحاقية‮. ‬إذا ما كنا نريد أن نتّبع هذا الإيحاء فإننا نتّبع الفكرة الأولى التي‮ ‬تقول أنهما لا زالتا،‮ ‬وللأبد إمرأتين مختلفتين‮. ‬عبقرية برغمَن أنه لم‮ ‬يختر توجيه المشاهد لهذا الإعتقاد او ذاك،‮ ‬بل أبقاهما تقريباً‮ ‬في‮ ‬ذات القوّة‮. ‬العبقرية الثانية هي‮ ‬أن المشهد،‮ ‬ولمزيد من التمويه،‮ ‬ينتهي‮ ‬هنا‮. ‬لا ممارسة عاطفية على الشاشة‮.‬
الطريقة التي‮ ‬صوّر بها برغمَن‮/ ‬نكڤست اللقطة لم‮ ‬يعد من الممكن تفسير جزئياتها البصرية من دون الإضرار معنوياً‮ ‬بها لأن الصورة لا‮ ‬يمكن ترجمتها كاملة على الإطلاق‮. ‬لكن تصميم اللقطة رائع في‮ ‬ذاته،‮ ‬ثم رائع في‮ ‬الطريقة التي‮ ‬تنتهي‮ ‬اللقطة بها‮. ‬هل شاهدت الكسوف حين‮ ‬يمر كوكب أمام آخر فلا‮ ‬يتوقّفان ونراهما من على الأرض متوجّهان الينا ؟ هذا هو تصميم اللقطة‮: ‬رأس ألما‮/ ‬بيبي‮ ‬يميل الى اليسار ووراءه رأس اليزابث‮/ ‬لِڤ‮ ‬يميل صوب اليمين‮.... ‬

‮ ‬‮ ‬صباح اليوم التالي‮ ‬
لقطة عامّة على شاطيء صخري‮. ‬ألما في‮ ‬الخلفية‮. ‬من تحت الكادر تطلع إليزابث وتنظر الى الكاميرا ثم ترفع كاميرتها الفوتوغرافية وتلتقط صورة لنا‮!. ‬بعدها تستدير إليزابث متّجهة الى حيث تقف ألما‮. ‬حين تصل إليها تسألها ألما‮: »‬هل تحدّثت لي‮ ‬ليلة البارحة؟‮« ‬تهز إليزابث رأسها بالنفي‮. ‬وفي‮ ‬هذا النفي‮ ‬نفي‮ ‬للفكرة الأولى من أن الصوت كان صوت إليزابث‮. ‬أكثر من ذلك،‮ ‬تمشي‮ ‬إليزابث بعيداً‮ ‬لتلتقط صورة أخرى‮. ‬تتبعها ألما وتسألها‮: »‬هل كنت في‮ ‬غرفتي‮ ‬ليلة البارحة؟‮«. ‬تهز إليزابث رأسها مرّة أخرى نافية ما‮ ‬يؤكد أيضاً‮ ‬أن لا علاقة سحاقية تمّت بينهما‮. ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يؤيد فيه هذا النفي‮ ‬أن ما تراءى لإلما كان حلماً،‮ ‬يعزز الخط الجديد المنتهج من أن كل ما‮ ‬يحدث أمامنا هو أيضاً‮ ‬حلم داخل حلم‮. ‬إليزابث،‮ ‬السبب الأول للفيلم بأسره،‮ ‬قد تكون وحدها في‮ ‬هذا المكان‮. ‬وحلم إلما بالتالي‮ ‬هو حلمها الطويل الذي‮ ‬نراه من حين إنتقالها اليه،‮ ‬او‮ -‬كما‮ ‬يُعقل ولو في‮ ‬ثنايا الإحتمالات وليس في‮ ‬صلبها‮- ‬منذ أن التزمت الصمت‮. ‬
في‮ ‬ذلك اليوم،‮ ‬تنجز إليزابث خطاباً‮ ‬على آلتها الكاتبة وذلك في‮ ‬لحظة وصول إلما التي‮ ‬تأخذ الخطاب‮ ‬وتضمّه الى خطابات‮ ‬أخرى بحاجة لإرسالها بالبريد‮. ‬تركب إلما سيارتها القديمة وعلى الطريق تلقي‮ ‬نظرة على ذلك الخطاب المعيّن في‮ ‬مغلّفه‮ ‬غير المغلق جيّداً‮ (‬دعوة للقراءة‮). ‬توقف السيارة وقد استبد بها فضول‮. ‬تقرأ‮ ‬ما كتبته إليزابث‮ ‬عنها لزوجها ولا ترفع رأسها الا حين تطالع عبارة‮ »‬في‮ ‬كل الأحوال إنها قضيّة مثيرة للدراسة‮«. ‬الشعور المتولّد لدى إلما حينها هو أنها قد تحوّلت الى الطرف الواقع تحت المجهر،‮ ‬عكس ما كان الوضع عليه حين دخلت إليزابث المستشفى‮. ‬إلما أصبحت الحالة المَرَضية‮. ‬
الخطاب نفسه‮ ‬يبدأ بعبارة لافتة‮: »‬أستطيع أن أعيش في‮ ‬صمتي‮ ‬للأبد‮«. ‬وتنتقل سريعاً‮ ‬لمدح إلما وبذلها ثم للقول أن إليزابث مولعة بها‮. ‬وتكمل لتذكر‮ ‬،‮ ‬بعد العبارة التي‮ ‬استوقفت إلما،‮ ‬القصّة التي‮ ‬روتها إلما ليلة البارحة وبكائها لأن أفعالها لا توافق أعمالها‮. ‬أليس‮ ‬هذا هو واقع إليزابث لذلك قررت الصمت؟ وإذ‮ ‬يقوى هذا الإحتمال أن إلما ما هي‮ ‬الا شخصية خيالية في‮ ‬بال إليزابث‮ (‬على الأقل من بعد المستشفى‮) ‬اليس من الطبيعي‮ ‬إذاً‮ ‬أن تكون تلك الذكرى‮ (‬المجامعة مع‮ ‬غريبان على الشاطيء‮) ‬ليست سوى‮ ‬حادثة مرّت بها إليزابث سابقاً؟ لكننا نفهم‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬مشهد من مشاهد المستشفى،‮ ‬أن لديها ولدين من زوجها‮. ‬أيعقل أن‮ ‬يكون الحادث قبل إنجابها منه لاحقاً؟ أي‮ ‬حين لم‮ ‬يكنا راغبين في‮ ‬الإنجاب‮ »‬حينها على الأقل‮« ‬كما تقول إلما‮/ ‬إليزابث حين تسرد حكايتها؟

نقطة ماء‮‬
حتى اللقطة البسيطة التي‮ ‬لإلما تقرأ الخطاب في‮ ‬السيارة جميلة من حيث توزيع إضاءتها الطبيعية وإبقاء الوجه في‮ ‬الظل وما‮ ‬يعنيه ذلك من تعامل الصورة مع النفس‮. ‬هنا لا‮ ‬يختار برغمَن موسيقى‮ (‬ليتعلّم هواة استخدام الموسيقى‮) ‬ولا‮ ‬يختار طيوراً‮ ‬تغرّد في‮ ‬الطبيعة الشجرية القريبة ‬بل‮ ‬يختار أن نسمع صوت نقاط ماء لا نعرف مصدرها‮. ‬نقطة وراء نقطة‮. ‬من أين مصدره؟ ما مغزاه؟‮ ‬
تهبط ألما من السيّارة‮. ‬لقطة لها‮ -‬مفاجئة‮- ‬وهي‮ ‬تقف عند بركة ماء‮. ‬ظلالها معكوس بطولها على صفحة الماء‮. ‬هنا‮ ‬يدخل الشعر في‮ ‬لوحة جمالية لا تُنسى‮. ‬هنا‮ ‬يختفي‮ ‬صوت نقاط الماء‮. ‬ولا أريد أن أوعز بأن إختفاء صوت نقاط الماء له دلالة مرتبطة بحركة المرأة او سكونها في‮ ‬السيارة ثم خروجها ثم وقوفها على حافة البحيرة‮. ‬إنه مؤثر صوتي‮ ‬سيبقى لغزاً‮ ‬للأبد‮.‬
اللقطة التالية لألما في‮ ‬البيت بثياب بحر سوداء‮. ‬تشرب كأس ماء ثم تحمل قبّعتها السوداء وتخرج من المطبخ الى باحة البيت‮. ‬تضع كأس الماء وقبّعتها على مقعد عريض وتجلس لجانبهما‮. ‬حين ترفع قبّعتها لارتدائها،‮ ‬يسقط الكأس على الأرض وينكسر‮. ‬ألما تدخل الى البيت وتعود بمكنسة ولاقطة‮. ‬الكاميرا لا زالت بعيدة‮. ‬ليس هناك حاجة للقطة قريبة لما تقوم به لأننا نفهم ما تقوم به‮. ‬تدخل البيت ثانية بعدما جمعت نثرات الزجاج وتعود وتجلس هذه المرّة على الأرض‮. ‬في‮ ‬دخولها وخرجها لا تغادر الكاميرا موقعها‮. ‬لكن بعد جلوسها على الأرض تلتقطها الكاميرا في‮ ‬حجم متوسّط قريب‮. ‬وجهها‮ ‬يعكس‮ ‬غضباً‮. ‬خلفها على زجاج البيت إنعكاس لإليزابث وهي‮ ‬تمر‮. ‬قبل ذلك،‮ ‬كانت إلما التقطت قطعة زجاج لم تكن إنتبهت إليها سابقاً‮. ‬تلقي‮ ‬بها قريباً‮ ‬منها‮. ‬الآن إذ تمر إليزابث مرّتين قريباً‮ ‬من المكان ذاته ندرك أن إلما تريد أن تدوس إليزابث الحافية على قطعة الزجاج المكسور‮. ‬تريد أن تؤذيها لأنها تشعر بأن إليزابث خانت سرّها وكتبت عنها لزوجها من دون إذنها المسبق او علمها‮.‬
برغمَن هنا‮ ‬يستخدم لغة سينمائية بصرية بسيطة وواضحة لتفسير مشاعر حادّة ومركّبة‮. ‬لا حوار من أحد‮. ‬ولا إسهاب‮. ‬بل إيجاز في‮ ‬استخدام الأداة الفنية كلغة تعبير ما‮ ‬ينجم عنه أن نتوقّع نحن،‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬لحظة،‮ ‬أن تجرح إليزابث نفسها بالسير فوق تلك القطعة‮. ‬وهذا‮ ‬يحدث بعد لحظة‮. ‬
ثواني‮ ‬قبلها،‮ ‬كان برغمَن‮ ‬غيّر زاوية اللقطة‮. ‬الآن هي‮ ‬قريبة من خلف ألما التي‮ ‬تنحني‮ ‬كما لو كانت ستلتقط القطعة لكنها لا تفعل‮. ‬تستدير وتدخل البيت في‮ ‬اللحظة التي‮ ‬تمر بها إليزابث مرة أخرى في‮ ‬المكان‮. ‬هذه المرّة،‮ ‬ومن دون تغيير اللقطة لكي‮ ‬نرى القدم تدوس الزجاجة،‮ ‬تتفوّه بآه الألم‮. ‬لقد داست فعلاً‮ ‬على تلك القطعة المتروكة قصداً‮ ‬بعد أن سقط الكأس وانكسر من دون قصد‮. ‬تنظر إليزابث‮ ‬إلى ألما التي‮ ‬تزيح الستارة،‮ ‬بعدما دخلت المطبخ،‮ ‬ليتسنى لها مبادلة إليزابث النظرة‮.‬

الصفعة‮
هنا‮ ‬يعمد برغمَن الى التذكير بأننا في‮ ‬فيلم سينمائي‮ ‬ليس إلا‮. ‬فجأة،‮ ‬على صورة ألما وهي‮ ‬تنظر الى الخارج،‮ ‬يتوقّف الفيلم‮. ‬نسمع صوت آلة العرض‮ (‬الذي‮ ‬سمعناه في‮ ‬مطلع الفيلم‮) ‬نصف اللقطة الأيمن‮ ‬بياض كاسح والنصف الثاني‮ ‬ما تبقّى من وجه ألما،‮ ‬ثم تلك البقعة التي‮ ‬تشي‮ ‬بأن الفيلم أحترق‮. ‬ثم بياض كامل متبوع بصوت‮ ‬غير مفهوم وبعض من تلك اللقطات التي‮ ‬شاهدناها في‮ ‬مطلع‮ »‬برسونا‮« ‬بما فيها لقطة ليد‮ ‬يُدق فيها مسمار‮.‬
المتعارف عليه بين النقّاد السينمائيين هو أن برغمَن أراد تذكير المشاهدين بأنهم إنما‮ ‬يرون فيلماً‮ ‬وليس واقعاً‮. ‬لذا هو بدأ بلقطات من أفلام وصور‮. ‬إذا كان هذا صحيحاً‮ ‬فيجب أن‮ ‬يكون هناك سبباً‮ ‬لرغبته تذكير المشاهدين بذلك‮. ‬لنرى لاحقاً‮ ‬إذا ما كان هناك هذا السبب او أن المسألة بأسرها تمت الى هدف آخر او رغبة مختلفة‮.‬
العودة الى‮ »‬برسونا‮« ‬تبدأ بلقطة‮ ‬غير واضحة المعالم لإليزابث‮ (‬بفستان أسود‮) ‬وهي‮ ‬تدخل‮ ‬غرفة‮. ‬موسيقى عبارة عن سحبات كمان‮ ‬غير مواصلة تواكبها‮. ‬إليزابث،‮ ‬لا تزال مموّهة تدخل عمق اللقطة لتنظر من نافذة بعيدة‮. ‬تتقدّم صوب الكاميرا وتنظر من نافذة قريبة‮. ‬وفقط عندما تتراجع‮ ‬يضبط نِكڤست العدسة بحيث تتضح معالم إليزابث كاملة‮. ‬
إليزابث تبحث عن إلما‮. ‬تفتح بابا خلفياً‮ ‬وتخرج منه مباشرة الى صخور الشاطيء‮. ‬الشمس تمنعها من الرؤية جيّداً،‮ ‬لكنها تجد ألما جالسة‮ (‬بفستان أسود أيضاً‮ ‬ونظارة داكنة‮) ‬تقرأ كتاباً‮ ‬فتمد ظهر كفّها وتلمس خد ألما بلطف‮. ‬تبتسم تلك‮. ‬تمضي‮ ‬إليزابث‮. ‬تتبعها ألما بنظراتها‮. ‬تجلس وتفتح كتاباً‮. ‬تقف ألما وتبدو كما لو كانت ستتجه الى داخل البيت لكنها تعود لتطلب من إليزابث أن تساعدها بأن تتحدّث معها وتخرج عن صمتها‮. ‬لكن إليزابث تلزم الصمت ما‮ ‬يزيد من إنفعال ألما فتكشف لها عن أنها قرأت رسالتها ثم تمسك بها وتعنّفها ما‮ ‬يدفع إليزابث إلى صفعها‮. ‬ألما المذهولة تندفع الى الأمام وتبصق على إليزابث التي‮ ‬تصفعها مرّة ثانية‮. ‬هذه المرة تفحص ألما الدم الذي‮ ‬تسلل من أنفها‮. ‬على الموقد ماء تغلي‮ (‬او شوربة؟‮). ‬ترفع ألما القدر تريد إلقاء ما فيه على إليزابث ما سيؤدي‮ ‬الى حرقها‮. ‬هنا،‮ ‬والكاميرا الى ذلك الحين تتحرّك محمولة بين الإثنين لكنها تركّز أكثر على وجه ألما،‮ ‬نسمع صرخة‮ »‬لا‮. ‬لا تفعلي‮ ‬ذاك‮«. ‬منطقياً‮ ‬هذا صوت إليزابث‮. ‬فعلياً،‮ ‬ليس لدينا أي‮ ‬إثبات لذلك فقد‮ ‬يكون الصوت‮ »‬الجوّاني‮« ‬لألما كما كان الحال سابقاً‮. ‬برغمَن‮ ‬يختار أن ترتفع الكاميرا الى وجه إليزابث في‮ ‬لقطة كاملة لها فتصل الكاميرا الى وجه إليزابث بعد نطق العبارة بثانية ما‮ ‬يجعلنا‮ ‬غير واثقين من أنها هي‮ ‬التي‮ ‬نطقت‮. ‬وجهها مرتعب وفمها مفتوح لكن لا إثباتاً‮ ‬قاطعاً‮ ‬على شيء‮. ‬لو أن إليزابث هي‮ ‬التي‮ ‬نطقت‮ -‬لأول مرة في‮ ‬الفيلم‮- ‬كان برغمَن‮ (‬وربما أي‮ ‬مخرج آخر‮) ‬وظّف اللحظة بلقطة تصوّرها وهي‮ ‬تنطق تلك العبارة او أي‮ ‬عبارة أخرى‮. ‬
ثم تبتسم إليزابث قليلاً‮. ‬لكن ألما لا تجد الأمر‮ ‬يدعو لذلك‮. ‬في‮ ‬الحمّام تغسل وجهها وتبكي‮. ‬تخرج‮. ‬إليزابث ترشف من فنجان قهوة‮. ‬تعطي‮ ‬ألما الفنجان ترشف منه‮. ‬تبدأ ألما بمعاتبتها ثم تتهمها بالجنون‮. ‬تترك إليزابث البيت وتتنطلق على شاطيء البحر‮ ‬وفي‮ ‬أعقابها ألما لتعتذر‮. ‬
كاميرا نِكڤست تتابعهما في‮ »‬تراكينغ‮ ‬شوت‮« ‬بعيدة‮. ‬تعتذر منها‮. ‬تفسّر حالها ودوافعها وتقول‮ »‬إليزابث،‮ ‬دعينا لا نفترق كعدوّتين‮«. ‬حين تستدير إليزابث كما لو أنها ستقول شيئاً‮. ‬شفتاها تنفرجان قليلاً‮. ‬وجهها‮ ‬ينطق برد ما‮. ‬حتى الكاميرا تنتقل من لقطتها البعيدة الى كلوز أب لوجه إليزابث قبل أن تعود الى حيث كانت حين أخفقت إليزابث في‮ ‬أن تقول شيئاً‮ ‬واستدارت ومشت‮.‬
عند المساء هناك قطيعة‮. ‬كلاهما لا زالتا بردائيهما الأسود‮. ‬ألما جالسة بين صخور البحر‮. ‬إليزابث في‮ ‬المنزل تشعل سيغارة‮. ‬على الأقل‮ »‬الطفلة‮« ‬ألما في‮ ‬ضوء النهار‮. ‬اللقطة الداخلية لإليزابث تعني‮ ‬بإظهارها بأقل قدر ممكن من الضوء‮. ‬ربما هي‮ -‬كما تقول عنها ألما‮- ‬أنانية،‮ ‬لا تكترث كثيراً‮ ‬للإعتذار لإلما عن إستغلالها بوح الأمس من الحكايات الحميمة في‮ ‬الرسالة التي‮ ‬طلبت إليزابث من ألما إرسالها‮ (‬ولم ترسلها‮). ‬لكن كل ذلك،‮ ‬على الأقل‮ ‬يدفع إليزابث للتفكير‮. ‬نراها تنحني‮ ‬الى مصباح‮ »‬غاز‮« ‬في‮ ‬لقطة أخرى منفّذة بحرفية مذهلة على بساطتها‮. ‬ثم وهي‮ ‬تزرع الأرض مشياً‮ ‬قبل أن تدخل‮ ‬غرفتها وتستلقي‮ ‬على سريرها في‮ ‬همّ‮ ‬ملحوظ‮. ‬خلال ذلك‮ ‬يقطع برغمَن لألما وهي‮ ‬لا زالت مشدوهة الى الفضاء كما لو أنها هي‮ ‬الآن من سيدخل عالم الصمت‮. ‬تفتح كتاباً‮ ‬لتقرأ فتطالعها صورة فوتوغرافية قديمة تتصرّف إزاءها كما لو فوجئت بها في‮ ‬الكتاب ولم ترها منذ زمن طويل‮. ‬الصورة هي‮ ‬لها رافعة‮ ‬يديها الى الأعلى في‮ ‬مقدّمة بعض الناس بينهم صبي‮ ‬الى جانبها‮. ‬في‮ ‬الخلف ثلّة من الجنود‮ (‬بلا رموز‮) ‬أوّلهم‮ ‬يوجّه سلاحه صوب المجموعة‮. ‬ثم لقطة لإليزابث تمعن‮. ‬لقطة للصبي،‮ ‬ثم لقطة للجندي‮ ‬والصبي‮. ‬ثم تتوالى اللقطات‮.‬


التاريخ
أوقفت الفيلم هنا ونظرت الى تلك الشارة الصغيرة على معطف الصبي‮. ‬هل هي‮ ‬نجمة داوود؟ للتأكد أتيت بمرآة مكبّرة ونظرت من خلالها‮. ‬لا زالت الشارة‮ ‬غير واضحة لكنها بالتأكيد ليست نجمة بل ما‮ ‬يشبه حرف‮ ‬
K
‬في‮ ‬اللقطة الثانية،‮ ‬الجندي‮ ‬في‮ ‬المؤخرة‮ ‬يرتدي‮ ‬زياً‮ ‬أعتدنا مشاهدته في‮ ‬الأفلام التي‮ ‬تتحدّث عن جنود نازيين‮. ‬اللقطات ‮٣ ‬و ‮٤ ‬و ‮٥ ‬و ‮٦ ‬و‮٧ ‬لا شيء‮ ‬يؤكد هويّة هؤلاء المستسلمين الخارجين من مبنى تحت تهديد السلاح‮. ‬اللقطة ‮٨ ‬عودة الى الجندي‮ ‬ذي‮ ‬الزي‮ ‬وهذه المرّة هو بالتأكيد ألمانياً‮ ‬لكن المرأة التي‮ ‬أمامه قد تكون أي‮ ‬شيء‮. ‬تستمر اللقطات بنحو ثانيتين لكل واحدة وعددها إحدى عشر‮. ‬
أنا الآن بين أن أترك الفيلم وأراجع تاريخ السويد في‮ ‬الحرب العالمية الثانية،‮ ‬او أكمّل الفيلم لأرى ما سيعمد إليه المخرج بعد أن وسّع دائرة إهتمامه ليشمل،‮ ‬على حين‮ ‬غرّة‮ -‬كحين‮ ‬غرّة رؤية إليزابث لتلك الصورة‮- ‬بعداً‮ ‬في‮ ‬التاريخ السويدي‮. ‬قررت إكمال الفيلم لأن على الفيلم أن‮ ‬يفصح وليس على المتلقي‮ ‬أن‮ ‬يدخله وبيده كل المراجع التي‮ ‬يعتقد إنه بحاجة إليها‮. ‬الفيلم عليه أن‮ ‬يكون مرجع كل شيء‮.‬
الشاشة سوداء وحين تفتح هاهي‮ ‬ألما نائمة في‮ ‬وضعها المفضّل‮. ‬بلا وسادة‮. ‬تنتفض وتدير رأسها في‮ ‬كل إتجاه ثم تستيقظ من كابوسها‮. ‬فجأة‮ ‬يتناهى صوت‮. ‬هل هو الراديو الذي‮ ‬لم تلمسه من قبل؟ هل هو صوت إليزابث تتحدّث لنفسها؟ تخرج ألما من‮ ‬غرفة نومها الى‮ ‬غرفة نوم إليزابث الغافية وتجلس لجانبها مارّة بيدها على جبينها‮. ‬تنهض وتخرج مبتعدة‮. ‬فجأة هناك‮ ‬يد،‮ ‬في‮ ‬لقطة قريبة جداً،‮ ‬تلمسها برقّة وصوت رجل‮ ‬ينطق نصف كلمة‮ »‬إليزابث‮«. ‬تقفز ألما وجلة‮. ‬تنظر إليه وأول ما‮ ‬يتبادر إليها أن تنفي‮ ‬أنها إليزابث»أنا لست إليزابث‮«. ‬يعتذر الرجل مردّداً‮ ‬مرة أخرى أسم‮ »‬إليزابث‮« ‬ومتحدّثاً‮ ‬عن إبنهما‮ »‬من الصعب شرح الأمر لإبنك الصغير‮«. ‬
لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون زوجها قد أخطأ فاعتقد ألما أليزابث،‮ ‬لكن‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون المشهد استكمالاً‮ ‬لما أقدم عليه برغمَن عندما بدأ‮ ‬يمزج الشخصيّتين في‮ ‬شخصية واحدة‮. ‬هنا تظهر إليزابث من وراء ألما وتتقدّم إليها ناظرة الى المتحدّث الذي‮ ‬لم نر وجهه حتى الآن‮.‬
ألما تكرر‮: »‬مستر ڤوغلر‮. ‬أنا لست زوجتك‮«‬
إليزابث تأخذ‮ ‬يد ألما وتضعها على وجه الرجل‮ (‬نراه لأول مرّة‮) ‬وهنا فقط تخاطب ألما هذا الرجل كزوجها وتقول له‮ »‬أحبك كما أحببتك دائماً‮«. ‬
والحركة التالية لكل ذلك هي‮ ‬تكوين رائع لصورة عليها أن تعكس كل هذا المشحون من الألغاز والعوامل النفسية والعاطفية‮: ‬نصف وجه إليزابث في‮ ‬المقدّمة‮ (‬كلوز أب‮) ‬لكن فجأة الرجل‮ (‬زوجها المفترض‮) ‬وألما في‮ ‬خلفيتها‮. ‬يتعانقان ويتحادثان كما لو أنها ليست موجودة‮. ‬في‮ ‬ذات الوقت الذي‮ ‬يؤكد فيه الفيلم‮/ ‬برغمَن على أن ألما هي‮ ‬غير الموجودة ما‮ ‬يجعل ما نراه هو المتخيَّل في‮ ‬بال إليزابث‮.‬
لا أذكر فيلماً‮ ‬آخر وظّف كل هذه الأفكار الشائكة والحاوية على عقد نفسية وذهنية صلبة،‮ ‬في‮ ‬تكوين صُوَري‮ ‬بسيط وموجز في‮ ‬آن‮. ‬إنها لقطة واحدة تلخّص وتقول كل شيء‮. ‬ما سبق ليس سوى التمهيد لها‮.‬
الآن،‮ ‬ذات التكوين‮ (‬الوجه في‮ ‬المقدّمة وفي‮ ‬المؤخرة ألما والزوج‮ (‬غونار بيونستراند‮) ‬إنما مستلقيان على الفراش‮. ‬لقد إنتهيا من ممارسة الحب‮... ‬أيضاً‮ ‬في‮ ‬بال إليزابث‮. ‬يسألها إذا ما كانت مجامعته أمتعتها‮. ‬تؤكد له ذلك،‮ ‬لكنها فجأة تنفجر باكية وتنتفض في‮ ‬ثورة شاكية من أنها‮ »‬إتركني‮ ‬وحدي‮. ‬أنا فاسدة وباردة ولا أُميّز‮«.‬
الذي‮ ‬يحدث هنا هو قرار برغمَن بكشف أحد الأسباب الأهم التي‮ ‬دفعت إليزابث للإنهيار داخل نفسها الى الأبد‮. ‬عوض أن‮ ‬يلجأ الى‮ »‬الفلاشباك‮« (‬مهرب كل نصف مخرج في‮ ‬العالم‮) ‬لابد أن جلس طويلاً‮ ‬وهو‮ ‬يؤلّف كل جزء من هذا المشهد التأليف المضني‮ ‬الذي‮ ‬يستحق‮. ‬ثم عليك أن تتخيّل جلسته الطويلة مع مدير تصويره سڤن نِكڤست ليؤسس معه الكيفية التي‮ ‬يمكن لهذا المشهد أن‮ ‬يُترجم صورة على الشاشة،‮ ‬ونفس الجلسات طبعاً‮ ‬مع الممثلين الثلاث‮. ‬
حين تتفوّه ألما بعبارة‮ »‬كله كذب وتلفيق‮« ‬تعود الكاميرا الى وجه لِڤ أولمان‮/ ‬إليزابث في‮ ‬لقطة كبيرة جداً‮. ‬هنا ليس بيت القصيد الكامن في‮ ‬تلك العبارة وقد انتقلت الى وجه إليزابث في‮ ‬إحتواء كامل فقط،‮ ‬بل التأكيد الأهم من أن ألما هي‮ ‬إليزابث لا محالة،‮ ‬وما وقع مع ألما من حدث عاطفي‮ ‬ذات صيف على شاطيء البحر لم‮ ‬يقع معها بل مع إليزابث وكان واحد من دوافع الثورة واللجوء الى عمق الصمت في‮ ‬إستنكار لشخصيّتين فيها،‮ ‬واحدة لا تكمل الثانية‮. ‬وجهان واحد لنفسها والآخر لكل الناس بمن فيهم زوجها‮.‬

‮ ‬مواجهة‮ ‬
المواجهة الأخيرة تأتي‮ ‬مباشرة بعد هذا المشهد المهم،‮ ‬وهي‮ ‬أكثر مواجهات الفيلم إفصاحاً‮ ‬او إذا أردت مباشرة‮. ‬لا أدري‮ ‬إذا ما كانت الحيلة أعيت المخرج في‮ ‬إيجاد طريقة أخرى،‮ ‬لكن كان لابد من الوصول،‮ ‬قبل ربع ساعة من نهاية الفيلم،‮ ‬الى قلب كل الأوراق‮. ‬الوسيلة‮: ‬يدا إليزابث على طاولة كما لو كانتا تخفيان شيئاً‮. ‬ألما تسألها ما تخفي‮ ‬وتجبرها على الكشف لنرى صورة إبنها‮. ‬اللقطة بعد ذلك على وجه إليزابث‮/ ‬أولمان طوال الوقت بينما ألما‮/ ‬أندرسُن تكشف سرّاً‮ ‬دفيناً‮ ‬في‮ ‬حياة الأولى‮: ‬ذات مرّة،‮ ‬قبل سنوات،‮ ‬طلبت من زوجها أن‮ ‬يجعلها تحبل وذلك ردّاً‮ ‬على من قال لها‮ »‬أنت تفتقدين الأمومة‮«. ‬لكن إذ علمت إنها أصبحت حاملاً‮ ‬أخذت تكره كل ما‮ ‬يأتي‮ ‬مع هذا الحبل من مظاهر جسدية ومشاعر نفسية‮. ‬كانت قلقة،‮ ‬كما تقول لها ألما،‮ ‬من أن‮ ‬يكبر بطنها،‮ ‬ومن أن تنقطع عن التمثيل،‮ ‬ومن أن‮ ‬يصبح عليها تحمّل آلام ثم واجبات ومسؤوليات الأمومة‮. ‬تمنّت،‮ ‬حين أنجبت ولداً‮ ‬معطوباً‮ ‬أن‮ ‬يموت،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يمت ولو أنه أنتهى إلى أقاربها‮ ‬يهتمّون به‮. ‬لكن طلبه لها كان ملحّاً‮ ‬وهي‮ ‬كانت ملحّة بدورها أن تمارس دورها كأم‮.‬
الآن،‮ ‬يُعيد برغمن لقطة اليدين فوق الصورة،‮ ‬ويدي‮ ‬ألما تتدخلان لإزاحتهما ومعرفة ما‮ ‬يخفيانه وممانعة إليزابث ذلك‮. ‬تكشف ألما الصورة وتتحدّث عنها‮. ‬ذات الحوار السابق إنما الكاميرا الآن على وجه ألما وهي‮ ‬تعيد حديثها السابق كلمة كلمة‮. ‬الغاية هنا أكثر من مجرد‮ ‬تكرار رغبة في‮ ‬التأكيد‮. ‬إنه تكرار رغبة في‮ ‬توثيق الحالة النفسية واستغلالاً‮ ‬لحركة‮ ‬غير متوقّعة‮. ‬في‮ ‬منتصف إحدى العبارات‮ ‬يستبدل برغمَن نصف وجه ألما بنصف وجه إليزابث‮. ‬النصف المستبدل كان في‮ ‬عتمة‮. ‬الضوء آت من الناحية اليسرى لوجه ألما‮. ‬حين‮ ‬يؤلِّف برغمَن وجهاً‮ ‬جديداً‮ ‬نصفه إليزابث ونصفه إلما‮ ‬يستبدل النصف المعتم ويفتح نِكڤست إضاءة جانبية من اليمين بحيث‮ ‬يصبح الوجه كله مُناراً‮. ‬تستمر اللقطة نحو ثلاث ثوان ثم‮ ‬يعود وجه ألما كاملاً‮ (‬ونصف مضاء‮) ‬كما كان‮. ‬لكن الأمر لا‮ ‬ينتهي‮ ‬هنا،‮ ‬في‮ ‬بعد إضافي‮ ‬لموضوع مزج الهوية،‮ ‬تتوقّف ألما عن إنتحال شخصية ألما وتنكر أنها إليزابث لكن اللقطة للوجهين معاً‮ ‬تعود‮. ‬دكتور جايكل ومستر هايد والأول‮ ‬يرفض قبول الثاني‮. ‬ألما تريد أن تقول أنها ليست أليزابث،‮ ‬لكنه قول ضعيف‮. ‬هاهي‮ ‬اليزابث تطغى على الصورة‮. ‬المخرج‮ ‬يعيد تلك اللقطة لنصفي‮ ‬الوجهين وهذه المرّة التطابق‮ ‬يكاد‮ ‬يكون تامّاً‮.‬

‮ ‬كله فيلم‮ ‬
‮»‬برسونا‮« ‬فيلم عن الجرح الأكثر وجعاً‮ ‬كلّما مضى المرء كاشفاً‮ ‬عن دواخله بصدق‮. ‬كلّما كان أصدق كلما كان الوجع أمضى‮. ‬يصل الى حد الأذى‮. ‬ألما أرادت أن تؤذي‮ ‬أليزابث حين تركت قطعة الزجاج لتدوس عليها‮. ‬إليزابث أرادت أن تؤذي‮ ‬ألما حين لم تستجب لنداءاتها بالحديث معها ومبادلتها جوارحها ومشاعرها‮. ‬لكن كيف تستطيع أن تستجب وهي‮ ‬ألما نفسها‮. ‬ألما اللقاء الفاتر الذي‮ ‬بدأ في‮ ‬المستشفى والذي‮ ‬انتقل الى البيت البعيد الخالي‮ ‬من الجيران‮. ‬كلاهما هناك إليزابث اليوم وكل إليزابث الأمس‮. ‬
لكن ظهور ألما على هذا النحو الملح،‮ ‬وعلى الرغم من اللقطات الهادفة لتأكيد وحدة الشخصيّتين،‮ ‬تبقى بدورها حقيقية‮. ‬مع نهاية الفيلم نعود الى المستشفى،‮ ‬ولا أستطيع أن أقول أنهما عادتا الى المستشفى،‮ ‬ذلك لأني‮ -‬كما المشاهد عموماً‮- ‬ليس واثقاً‮ ‬من أن اليزابث‮ ‬غادرت المستشفى‮. ‬لقد شاهدناها مرعوبة من مشهد قيام بوذي‮ ‬بحرق نفسه،‮ ‬قبل أن تلجأ الى النوم‮. ‬الآن ها هي‮ ‬ألما تدخل عليها وهي‮ ‬لا زالت ملقاة‮. ‬إذا ما‮ ‬غادرتا المستشفى،‮ ‬فإن المنتجع لم‮ ‬يشفها‮. ‬ها هي‮ ‬إليزابث أضعف من ذي‮ ‬قبل‮. ‬الأصح إذاً‮ ‬أنها لم تغادره بعد‮.‬
لكن ها هي‮ ‬ألما تستيقظ من نومها‮. ‬لا زالت في‮ ‬البيت الصيفي‮. ‬تنظر حولها بحثاً‮ ‬عن أليزابث وتجدها تضع ثيابها في‮ ‬حقيبة سفر‮. ‬تقفلها‮. ‬تغادر‮. ‬إنه‮ ‬يوم المغادرة‮. ‬يوم العودة‮. ‬ألما الآن في‮ ‬ثيابها كممرّضة‮ ‬فرشت شراشف بيضاء فوق الآثان وها هي‮ ‬تجمع الوسادات والكراسي‮ ‬وتدخلها من الشرفة الى البيت‮. ‬ترتدي‮ ‬المعطف وتنظر الى المرآة‮. ‬وللمرة الأخيرة وبشكل موجز،‮ ‬تجد إنعكاساً‮ ‬لها ولاليزابث‮... ‬لكن ألما الآن وحدها‮. ‬لقطة لها تخرج من البيت حاملة حقيبتها هي‮ (‬غالباً‮ ‬هي‮ ‬ذات الحقيبة التي‮ ‬أودعت فيها إليزابث ثيابها‮). ‬في‮ ‬المقدّمة هناك رأس تمثال‮. ‬فجأة‮ ‬يستدير وجه أليزابث وهي‮ ‬في‮ ‬دور إلكترا‮ (‬ذات اللقطة الأولى لها حين سردت الطبيبة تاريخ مريضتها القريب الى الممرّضة‮).‬
ألما تحمل حقيبتها وتمشي‮. ‬صوت البحر وراءها‮. ‬وصوت آلة إنذار‮. ‬نحن الآن في‮ ‬ستديو‮. ‬هناك مدير تصوير‮ (‬نكڤست نفسه‮) ‬وراء الكاميرا والمخرج‮ (‬برغمن نفسه‮) ‬من الناحية الأخرى‮. ‬قطع لألما وحدها تقترب من الحافلة التي‮ ‬ستنقلها عائدة الى المدينة‮.‬
لقطة لذات الفتى النحيف‮ ‬يلمس لوح الزجاج حيث تراءت صورة والدتها‮ (‬إليزابث‮). ‬الآن فهمنا علاقته بالموضوع‮. ‬الزجاج الأملس‮ ‬غير العاكس الذي‮ ‬في‮ ‬باله‮. ‬لقطة لبكرة الفيلم في‮ ‬آلة العرض‮. ‬البكرة تفلت لأن الفيلم وصل الى نهايته‮. ‬يستغنى برغمَن عن كلمة نهاية ويستبدلها ببكرة تنتهي‮.... ‬او هل قصد أن لا شيء‮ ‬ينتهي؟
طوال الفيلم لا تنطق اليزابث‮ -‬مؤكّداً‮- ‬الا بكلمة واحدة في‮ ‬مشهد في‮ ‬المستشفي‮ ‬من بعد فصل المنتجع‮. ‬تطلب منها ألما أن تقول أي‮ ‬شيء او‮ »‬لا شيء‮«. ‬تستجيب إليزابث وتردد‮ »‬لا شيء‮« ‬مرّة واحدة‮. ‬و»لا شيء‮« ‬هذه تلتقي‮ ‬مع مفهوم فيلم داخل فيلم‮. ‬الناتج لا شيء بمعنى أن الفيلم نفسه‮ ‬يتصرّف مختلفاً‮ ‬عن الواقع‮. ‬وبذلك هناك ثلاثة أبعاد متوالية وتقف واحدة وراء الأخرى من دون أن تختفي‮ ‬تماماً‮ ‬من الظهور‮: ‬قصة إمرأتين‮. ‬قصّة إمرأتين في‮ ‬إمرأة،‮ ‬وقصّة إمرأتين في‮ ‬إمرأة في‮ ‬فيلم‮.‬

في العدد المقبل، آخر ما أنجزه المخرج من أفلام
Saraband


ـــــــــــــــــــــ نظرة أخرى ـــــــــــــــــــــ
The Wrestler | المصارع


قصّة عادية في قالب فني باهر| نديم جرجورة

لم يشأ المخرج الأميركي دارن آرونوفسكي أن يُظهر الممثل الأميركي أيضاً ميكي رورك في بداية فيلمه الجديد «المصارع»، إذ فضّل تصويره من الخلف لدقائق عدّة، قبل أن ينكشف الوجه عن ملامح إنسان مهزوم ومحطّم، وعن معالم جسد متهالك ومأسور بالخيبة والتعب. رأى المخرج أن يبقى وجه الممثل غائباً عن الشاشة الكبيرة، مكتفياً بظهره وهو يتنقّل، سيراً على الأقدام، بين أمكنة عدّة، لأن في إخفاء الوجه تقديما آخر لممثل عانى الأمرّين في حياته الشخصية، تماماً كمعاناة راندي روبنسون الملقّب بالـ«كبش» (هناك معان مختلفة للكلمة الإنكليزية The Ram، من بينها: منجنيق، سفينة حربية في مقدّمها شبه منقار معدّ لاختراق السفن المعادية، يصدم بقوّة، ينطلق بسرعة قصوى، إلخ...، وهي معان تنطبق على الشخصية السينمائية هذه، في جوانب ومراحل مختلفة من حياتها ومهنتها)، المُصارع المتألّق شهرة وشعبية قبل عشرين عاماً، والغارق في اليأس والوحدة والكذب حالياً، لأنه يُهندس لعبة المصارعة مع خصومه، المليئة بالعنف والدم، نزولاً عند رغبة جمهور يُنفّس عن شقائه وكبته بمشاهدة هذا الكمّ الهائل من العنف والدم في الحلبة٠
لم يُلغ هذا التقديم أهمية المسار الدرامي لسيرة مصارع مقيم على حافة الهاوية، كمن ينتظر لحظة ما تدفعه إلى عمقها. فإذا بدا الإيقاع، في جزء أساسي من الفيلم، هادئاً في التقاط النبض الحياتي والإنساني للمُصارع، ولبيئته وعلاقاته بالناس المحيطين به؛ إلاّ أن الاشتغال الفني عكس ذروة الغضب المعتمل في ذات الرجل وروحه وجسده. وعلى الرغم من أن آلية الاشتغال الدرامي تُنبئ بنهاية روبنسون في الموت، بدت النهاية المفتوحة جزءاً من لعبة السرد ومتعة الرواية، خصوصاً أن هذه النهاية تصوّر المُصارع طائراً في الجوّ، في حين أن الكاميرا متعلّقة بأرض الحلبة، بعيداً عن الجميع وعن كل شيء من دون استثناء.
بين بداية متمثّلة بإخفاء الوجه عن عدسة الكاميرا، ونهاية مرسومة بتغييب مآل الرجل بشكل مباشر، روى دارن آرونوفسكي وكاتب السيناريو روبرت د. سيغل قصّة بسيطة وعادية عن مُصارع مستسلم لقدر بائس، ومحاصر بالعزلة والخيبة، وتوّاق إلى نهاية أخيرة للألم والغضب. والقصّة، إذ مالت إلى نسق بسيط وعادي في سرد حكاية المُصارع (وهي واحدة من آلاف الحكايات المتشابهة التي يُمكن أن يعيشها آلاف الرجال والنساء)، انفتحت على عالم من الأوجاع والانزلاقات والصدامات والقهر والانغلاق القاتل والعجز المدوّي عن الخروج من ورطة هذه الحياة وعفنها المقيت. والمُصارع، إذ غاص في متاهة العيش في الحدّ الواهي بين أوهام وتمنّيات وتصفية حسابات أخيرة وعجز عن ابتكار نمط آخر للحياة، اختزل لحظة الانقسام الذاتيّ بين تناقضات هذه الحياة نفسها، المفرطة بجنونها وقسوتها وبشاعتها، المتمثّلة (من بين أمور أخرى) بحجم الافتراء والتزوير الممارَسين في لعبة المُصارعة، على الرغم من الجراح التي تخلّف ندوباً، والدم الذي يسيل في الروح، والعنف الذي يختصر المسافة المتبقية أمام الموت لبلوغ الخاتمة٠
في مقابل براعة الكتابة السينمائية في جعل العاديّ باهراً، وفي تحويل البسيط إلى جمال أخّاذ؛ قدّمت المعالجة الدرامية صُوَراً متفرّقة عن الحالات والانفعالات والصدامات، بشكل جميل ومتقن، سياقاً وتمثيلاً وتوليفاً وإدارة فنية مهمّة للممثلين. ففي المراحل المختلفة من مسار الفيلم، قدّم ميكي رورك واحداً من أدواره الجميلة، إذ انعكس البؤس في ملامح وجهه وطريقة سيره وحركة جسده المثقل بألف جرح وألم وتمزّق، تماماً كروحه الضاجّة بالغضب والخيبة


مأساة الجسد الخاسر | هوڤيك حبشيان

منع "المصارع" المخرج دارن أرونوفسكي من السقوط في الهاوية، بعد تراجعت اسهمه السينمائية اثر الفشل النقدي والتجاري الذي كان فيلمه "الينبوع" عرضة له. لكن كثيرين لم يرتموا في حضن الفيلم بتلك الحماسة المشهودة لفندرز الذي انتصر أيضاً لفكرة تعديل قانون البندقية والسماح للرئيس بأن يمنح اكثر من جائزة لفيلم واحد، وهذا كله بغية ردّ الاعتبار الى العائد الكبير ميكي رورك بجائزة كان عليه ان ينتظر كانون الثاني الماضي وحفلة "الكرة الذهبية" كي ينالها

أقلام كثيرة في الغرب أشادت بـ"المصارع" واعتبرته فيلماً يشي بتواضع مخرج لا يريد المجد له بل لممثله. هذا صحيح. ثمة آخرون وجدوا ان ارونوفسكي ليس صاحب فضل، وان رورك هو الذي يحمل الفيلم على عضلاته المفتولة. هذا ايضاً صحيح. اذاً، نحن ازاء فيلم تائه بين تواضع ومجد. لكن احذروا الفخّ: التواضع عند بعضهم يعني مجداً، فيما المجد عند بعضهم الآخر مرادف للتواضع. الفيلم بأكلمه يرتكز على هذا اللغط الجميل. ما ان ندرك هذه الحالة، حتى تصبح مسألة ان نحب هذا الفيلم أو نكرهه أمراً ثانوياً، لأن أرونوفسكي يجعل عملية إلقاء اللوم عليه، إذا لم نحببه، مستحيلة، لقوة التضامن الموجود بين مَن على الشاشة ومَن خلفها. مهما يكن، لا نستطيع من الآن فصاعداً أن نأتي على ذكر رورك من دون أن نتذكر ايضاً راندي. ليس لأن الدور الذي يضطلع به هو الأهم في مساره الحافل بالصعود والهبوط، انما لأنه جزءاً من لعبة مرايا تميل اليها السينما لكن نادراً ما تُجسَّد على هذا النحو. فما من شيء أقرب من راندي، هذا المصارع المغلوب على أمره، والذي يصور الفيلم جولة أخيرة له على الحلبة، الا رورك الممثل المنبعث مجدداً من خيبات الحياة المتتالية والتي سارعت الى تحويله نجماً تثير اطلالاته "التكريمية" على الشاشة شفقة أهل الفنّ. نتذكر من ماضيه القريب حضوره المعبّر في "التعهد" لشون بن. تلك العزلة التي كان جعل منها رورك ملاذه (ولا سيما عندما لجأ الى مصح، اثر كارثة عائلية في "التعهد")، هي أيضاً عزلة راندي المصارع الذي يخرج هنا من جبّ التهميش والاقصاء واللامبالاة الانسانية الذي لا تزال السينما الأميركية تقدم على اساسه تنويعات كثيرة، حيناً من خلال شخصية شرطي أو مقامر أو فنان أو مصارع، كما هي الحال هنا.
ليس راندي مجرد "لوزر" (خاسر) وهو الصفة الأثيرة في لغة شكسبير التي تنسب الى الخارجين على "الحلم الأميركي"، انما هو رابح في صيغة الماضي، اذ حقق في مرحلة ما من حياته نجاحات مهنية. وها هو اليوم بلا زوجة وبلا منزل مع حديقة، وبلا منصب اجتماعي ذي قيمة. أما ابنته (ايفان راشيل وود) التي لم يهتم بها طوال حياته، فلا تكنّ له أدنى مشاعر الودّ. اذاً، صحيح أن راندي خاسر، لكن لم يعد لديه ما يخسره. لا مال ولا حبّ ولا مكانة اجتماعية وفق المفهوم المتداول للكلمة. لا يملك راندي ما يستحق أن يبقى على قيد الحياة من أجله. حتى تاريخه الذي كان له دائماً في المرصاد، لم يعد ملكه. هذا التاريخ الذي يذكره، في كل لحظة، ان بطلاً من طينته، بطل حلبة المصارعة، لا ينبغي له أن يرمي سلاحه بل ان يقول كلمته ويمشي. ولكن ماذا لو كانت هذه المصارعة، وهنا لبّ المعاناة، لم تعد تعكس "أنا" المصارع، ولم تعد تقول شيئاً ما عن رغباته وهواجسه وأحاسيسه؟! الاسوأ ان على راندي ان يتظاهر ان المصارعة لا تزال أهم من أشيائه الصغيرة الضائعة. فكل ما في الامر ان هذه الوسيلة لجني المال عبر الضرب على الجسد، باتت وسيلة تصادم لأجساد يرتطم بعضها بالبعض، وتنتشي من العنف الممارس على الآخر، بحيث أن هذا يريد إلغاء ذاك. لا أحد يخرج رابحاً من الحلبة. نحن هنا في حلبة الخاسرين لأن الرهان هو على الاجساد، والجسد هو الحياة٠

ليس أرونوفسكي أول السينمائيين استخداماً للمصارعة كاستعارة للحياة في عنفها وتشاؤمها والخراب الذي ينتج جراء التصادم المزمن والخبيث. القول ان هذا الدور لم يُكتب اساساً على قياس رورك! لكن بطل "قلب ملاك" للمخرج ألان باركر يستولي على كل أدوات الدور؛ نظرة من هنا وحركة من هناك، وها انه يستحوذ على الطفل الذي يرقد في قلب المشاهد. لا شكّ أن الدور مركّب تركيباً مذهلاً، مما يحوّل رورك الى وحش سينمائي يصعب التعرف اليه جراء شعره الطويل ذي الخصل الملونة ووجهه المملوء بالبوتوكس وعضلاته التي هي عضلات ابن عشرين. طوال ساعة وخمس واربعين دقيقة، يقتفي أرونوفسكي بطله المضاد، من مكان الى آخر، متأخراً عند بعض الأمكنة التي تأتي بنظرة وثائقية خالصة الى عالم المصارعين وما يتماشى مع هذا الوسط: فتيات تعرّ، مخدرات، أجساد موشومة٠
يعيش راندي في كارافان تافه، لكن مأواه هو الحلبة التي تذكّره بذكورية لم يعد يمارسها، لأن لا أحد يمارسها عليه. هذه الذكورية تأتي تعويضاً عن الأبوة التي لم تتسنّ له فرصة وهبها لابنته. الفنّ يقلد الحياة وليس العكس بالنسبة الى أرونوفسكي الذي يقدّم هنا درساً بارعاً في كيفية تماهي الأسلوب مع الحكاية، فلم ينصع الى شكلانية تراعي الموضة أو المؤثرات (الصورة الملأى بالبثور أحياناً دليل على سينما أميركية ميالة الى الشغل الأوروبي)، لشدة ايمانه بهذه المدرسة التي ترى في الشكل امتداداً للمضمون. فمثلاً الكاميرا الرازحة تحت جسد راندي "الجسدية"، إن اهتزت قليلاً لكونها على الكتف، فالهدف منها التماهي مع الفكرة الاساسية للفيلم: عدم الاستقرار. براعة الفيلم انه يمنح انسنة ما لهذا الوحش الذي يذكّرنا بالحيوانات أو الكائنات الغريبة (الرجل الفيل مثلاً)، التي كانت تتحول مادة للفرجة في الاماكن العامة بغية جذب الانتباه في نوع من استعرائية تبدو اليوم مدانة وبشعة. لكن هذه الانسنة لا تكفي راندي كي يفلت من مصيره وشرطه الانسانيين. وحتى عندما يوظفها في منطق ما لاستعادة ابنته، فالبهيمية التي تجذرت في اعماقه ستكون اقوى.
هناك ايضاً تيمة التوبة التي تتجلى من خلال حكاية الابنة المراهقة التي لا تتقبل فكرة عودة والدها راندي المفاجئة كي يشتري نفسه بابتسامة وبضع كلمات. فالوقت الضائع هنا لا يستعاد، وعلى الجاني أن يدفع ثمن الجناية. هنا ايضاً تجد القصة خواتيمها غير السعيدة، تماماً كالقصة المحاذية الأخرى مع الراقصة المتعرية (ماريزا طوماي)، ذات القلب الحنون، وهي أيضاً قصة من قصص التوبة التي تعشقها السينما الأميركية منذ سحيق العهود. بيد أن أرونوفسكي لا يترك أيّ متنفس. هذا فيلم الأمل المفقود. لعبة الأقدار تلقي بظلالها على كل شيء، والتشاؤم يمسك بالفيلم ولا يفلته الاّ بعد ان يخرب ما يخرب وينهار ما ينهار، ولا عودة الى الخلف ولو دقيقة واحدة. هذا هو باختصار الفيلم الذي صنعه أرونوفسكي. حادّ، متقطع، لا يساوم، ولا يغازل حتى اقرب الاشخاص اليه، ونعني به راندي. فالمصارع اللاهث لم يعد عنده ما يقوله للوجود. أما الحياة فتعامله بالمثل. غالباً ما يُعرف السينمائي الكبير من قدرته على جعل المعاناة الوجودية مادة للمناقشة والتأمل أو حتى التلصص اللذيذ. فما يمنح في "المصارع" شعوراً بالغبطة هو هذا الجانب الذي يبعث شيئاً من السادية في نفس المُشاهد. وكلما تضخم حجم الكآبة وانزلق راندي في مأساته المنتظرة، تصاعدت نشوة المشاهد٠


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2009٠


0 comments: