FLASHBACK
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Psycho (1960) ****
الغاية من فيلم الرعب ليس أن تشعر بالتقزز او أن تشاهد عنفاً لا مثيل له، بل أن تجد نفسك وقد أصبحت شاهداً على ما لا تستطيع التدخل فيه لإيقافه. هذه هي فلسفة غالبية أفلام ألفرد هيتشكوك المصاغة جيداً في هذا الفيلم الفريد من نوعه الى اليوم٠
اقتبس السيناريست جوزف ستيفانو الفيلم من رواية لروبرت بلوك المقتبسة بدورها من حادثة حقيقية لقاتل متسلسل إسمه إد غاين تقمّص شخصية أمه الميتة وقتل بشخصيّتها. فيلم هيتشكوك مدرسة لكن من الصعب، كما برهنت الأيام، الإحتذاء بها. فهو ليس المعلّم فقط، بل تلميذها النجيب الوحيد٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
SHORT FILM | فيلم قصير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محارم | محمد ملص
قطر - 2009
SHORT FILM | فيلم قصير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محارم | محمد ملص
قطر - 2009
أحد الأفلام التي أنتجتها وحدة انتاج الأفلام الوثائقية في قناة الجزيرة للأطفال وأفضلها. يحمل سمات افلام محمد ملص الطويلة ("أحلام المدينة"، "الليل" الخ..) وحبّه لألفة العائلة ولعلاقة الأم بمفهومها٠
من اللقطة الأولى (دمشق في الليل) الى الأخيرة (رسم لقرية أم العجم على الحدود السورية/ الإسرائيلية مع حواجز شائكة تقسمها) يعبّر المخرج عن تلك العلاقة التي يكتنزها في كل أفلامه صوب المكان. يحكي هنا قصّة عائلة هاجرت الى دمشق من نحو عشرين سنة. الأب يبيع الغاز ويحلم بشراء سيارة شحن سوزوكي صغيرة وتمزح الأم وهي تقول لأحد أولادها الثلاث "حلمت بأني أسوق السوزوكي لأبيك"). لكي يساعد الأولاد أباهم في تحقيق حلمه ينبرون لبيع محارم الورق. يجولون فيها في الحارات الدمشقية وأكبرهم سناً يقع في الحب الأول حين يتعرّف على فتاة صغيرة تهوى الرسم، فيحاول الرسم بدوره لأجلها٠ الأب يقرر وقد أصبح من الجهد بمكان تحقيق حلمه وتدبير شؤون العائلة التي تعيش في شقّة بالغة التواضع العودة الى القرية. هنا يعبّر الزوج لزوجته عن رغبته في العودة الى القرية. مرّة أخرى التركيز على المرأة/ الزوجة/ الأم إذ تنظر الى زوجها وتقول: "قديش إلنا متزوجين؟ عشرين سنة. والله طول هالوقت وأنا انتظر أن تقول هذه الكلمة"٠
المدينة تحوي عمالاً كادحين، ومهاجرين من العراق، وعالماً من الجهود الصغيرة تحيط بالأحلام الكبيرة ولا تستطيع أن تحققها. ربما في العودة هزيمة لمحاولة قهر المدينة، او ربما العكس: إدانة للمدينة. محمد ملص المتأني في عمله يستفيد من ايقاع مونتاج التونسية كاهنة عطية وتصوير جيّد من جورج الخوري وعبد القادر سريجي وتمثيل تلقائي من تيسير ادريس وفدوى سليمان (الأب والأم) ومجموعة الأولاد٠
ويستخدم لقطات كرتونية مرسومة لحمامتين تغزلان نسيج الحكاية. الى ذلك، هناك حمام حقيقي فقط لمن يعشق الحمام مثلي٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ANIME | أنيمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محارم | محمد ملص
ANIME | أنيمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محارم | محمد ملص
الفيلم المتوفّر حالياً على أسطوانات هو مجموع الحلقات الإثنا عشر الأولى من مسلسل أنيمَ تلفزيوني. هنا نجد 275 دقيقة من حكايات الساموراي مع اختلاف شديد: ليس فيها أي شخصيات بطولية خالية من الشوائب، وليس فيها أي مواقف من تلك "الكليشيهات" التي قد نجدها في العديد من الأفلام اليابانية الحيّة التي قدّمت موضوع الساموراي ومحاربيه٠
تقع الأحداث في العام 1622 حول شخصيّتين متكافئتين من مقاتلي الساموراي. كلاهما في خدمة السيف وفهم تقنيات القتال وهذا العشق البالغ للسيف يدفعهما لا للتباري فقط، بل أساساً لمحاولة الإرتقاء الى أعلى نقطة في مهارة القتال٠
أحد المحاربين (أسمه فيوجيكي) بذراع واحدة. الآخر (إراكو) كفيف وكلاهما سيحاربان بعضهما البعض انطلاقاً من مباراة كانت سائدة في ذلك الزمان. هناك تمهيد يقول لنا أن المباريات كانت تعبيراً عن حالة السلام السائدة لذلك كانت تُقام بسيوف من خشب، لكن هذه المرّة -ورغم أن المقاطعة التي تدور فيها الأحداث- لا زالت تعيش في سلام مع جيرانها، الا أن المباريات ستقام بالسيوف الحقيقية٠
في أفلام الساموراي الحيّة الجيّدة هناك دوما المحارب الذي هو في ذات الوقت خارج المجتمع الذي يعيش فيه. المحارب الجيّد هو ليس المرتزق بل الذي- غالباً- يجد نفسه بلا سيّد وبلا قضيّة و، بالتالي، بلا عمل. هذه العناصر موجودة هنا للضرورة ومعالجة، كرسوم، بذلك الفن الخاص الذي اتقنه اليابانيون في تعاملهم مع فن الأنيمَ٠
العنوان يعني »اليأس« واليه يضيف اليه المخرج هيروشي هاماساكي مفهوم الإستعداد للموت كفلسفة دائماً ما تثير الخيال في الشخصية والتقاليد اليابانية: ذلك الإندفاع للتضحية بالنفس والإنصياع الكامل للبذل ومكافأة النفس بالموت٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفيلم العربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمير ***
إخراج: محمد زران [تونس - 2005]٠
تمثيل: عبد المنعم شويط،، سنية منقعي، مصطفى عدواني
أحمد سنوسي٠
دراما عاطفية - 108 د
تمثيل: عبد المنعم شويط،، سنية منقعي، مصطفى عدواني
أحمد سنوسي٠
دراما عاطفية - 108 د
........................................................................................
فيلم محمد زران يحتوي على قدر كبير من الحيوية قلما نراها في الأفلام العربية. حيوية الحركة وتناغمها وإنسيابها من لقطة الى أخرى. في حين أن الأفلام الجماهيرية المفرطة في جماهيريتها هي وحدها التي عادة ما تعمد الى هذه الطريقة بينما تنحو الأفلام الجادة الى طرح فني هاديء في أسلوبه، الا أن المسألة ليست في سرعة الحركة بل في الحركة نفسها. وزران يمنحنا فيلماً عليه مهمتين في ذات الوقت: توفير ترفيه جيد المستوى مع موضوع لا ينضح بالخفّة، مع عين على المجتمع واستغلال جيّد لأماكن التصوير (شارع الإستقلال في تونس قريباً عند ذلك الرصيف العريض الذي يتوسطه) ما يجعلها تلعب دوراً أكثر من مجرد وجود عام.
إنها قصة عاطفية أساساً و-نعم- هي حكاية غرام بين شاب من القاع وإمرأة تنتمي الى الطبقة الأعلى منه مباشرة، لكنها ليست عن الحب مستحيلاً او ممكناً ولا عن أغنية يطلقها المغني للتواصل مع حبيبته الممتنعة او عن والدها الذي »الزواجة دي مش ممكن تتم«. ما يوظّفه زران كاتباً ومخرجاً هو الملامح الإجتماعية العامّة للحياة في تونس اليوم. حب الشاب عادل الذي يعمل بائعاً للزهور لمديرة المصرف دنيا (سنية منقعي) هو خيط مسحوب على الواقع ممتزجاً بحلم الوصول والإنتقال من وضع الى آخر والجيد فيه إنه غير معبّر عنه الا بأقل الكلمات. الباقي هو صور تتوالى تتحدث عن نفسها بنفسها ومدارة بتصوير جيّد وبألوان رشيقة مناسبة.
بائع زهور نراه يلقّمها ويقصّها مع زميله في العمل داخل محل على الرصيف يدير رجل يرعى مصلحته قدر الإمكان. إنه من القاع رغم وضعه وكالآخرين بالكاد يسبق حد الفقر. الباقون في الواقع يقعون تحته كثيراً وبالنسبة لعادل فإن مشكلته الخلفية هو هربه من الواقع الى الحلم ثم من إخفاق الأحلام الى معاقرة الخمر. في أحد الأيام يُطلب منه إيصال باقة من الزهور الى مديرة مصرف لا يقع بعيداً. المديرة لديها مسؤوليات ومشاكل عمل وقرارات مهمّة. إنها إمرأة أعمال ولديها طفل من زواج سابق. وهي تكبر عادل بعشر سنوات. هذا لا يمنع عادل من الوقوع في هواها. على عدة أيام يواصل الشاب المتيّم تسليم باقات الزهور من دون أن يطلبها أحد او يبعث بها أحد، لكنه يدّعي إنها مرسلة من مجهول. حين تكتشف دنيا الحقيقة يوقع في يديها، فهي لم تعتبر الشاب إحتمالاً عاطفياً وبل لم تشعر بوجوده الا تحت اضطرار السؤال عمّن بعث بتلك الزهور. في ذات الوقت، ومع كبر أزمة عادل العاطفية، يتدخّل البسطاء فيها من دون حل منظور. والشخصيات المحيطة به لديها أيضا متاعبها. قلم محمّد زران وعينه لا تخطئان الإهتمام بتلك الشخصيات وإذ يفعل يتبدّى لنا أن الكثير مما يطرحه المخرج في هذا النطاق هو السير على خيط نحيف بين الواقع والحلم ومحاولة عادل، وفي الحقيقة كل الشخصيات الأخرى، بمن فيهم دنيا نفسها، تنأى بواقع غير مستحب وبطموحات تبدو أبعد منالاً كلما غاص أصحابها في العمل لتحقيقها.
لكن الفيلم هو أبعد من ذلك وأهم عندما يتعامل مع شخصية كاتب وناشر تونسي أسمه رؤوف (أحمد سنوسي). الفيلم لا يبحر في الخلفية لكنك تستطيع أن تدرك إنه من غير المقرّبين، ومن الناشرين الذين لم يعد لديهم ما يمكنهم من الإستمرار. الحياة تبدّلت من حوله ومواقفه لا زالت كما هي والناس، كما يستمر الفيلم بالوحي ضمنياً، ما عادت تقرأ وإذا فعلت فليس ما ينشره. رؤوف ينضم للشخصيات الأخرى من حيث أن لديه طموحاته أيضاً فهو يحلم بالهجرة الى كندا وقلبه يؤلمه وهو يرى عصارة جهده وعمله طوال سنوات ينتهى الى صناديق آيلة للمخازن او لما هو أسوأ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفيلم الوثائقي
DOCUMENTARY FILM
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
L'enfer d' Henri-Georges Clouzot ***
جحيم هنري- جورج كلوزو
فرنسا- 2009
جحيم هنري- جورج كلوزو
فرنسا- 2009
اليوم الذي انقلبت أحلام المخرج الى كوابيس
في العام 1964 مر المخرج الفرنسي هنري- جورج كلوزو بفترة نفسية عصيبة٠
كان أنجز أفلاماً قليلة من بعد عمله الأشهر و(حسب البعض) الأفضل »أجنحة الخوف« سنة 1953 الذي نال نجاحاً تجارياً ونقدياً كبيرين. الأول تمت ترجمته الى عروض جماهيرية ناجحة في كل أوروبا وفي الولايات المتحدة (ولو بعد عامين من إطلاقه) وحتى في الإتحاد السوڤييتي والدول الشيوعية الأخرى في أوروبا. أما نقدياً فتمخّض الأمر عن خطف ثلاثة جوائز عالمية (من بين جوائز أخرى) واحدة من مهرجان "كان" ("جائزة المهرجان الكبرى" كما أطلق عليها) والثانية من مهرجان برلين (الدب الذهبي) والثالثة من أكاديمية العلوم والفنون السينمائية والتلفزيونية في لندن (بافتا)٠ كان ذلك أيام ما كان مسموحاً لمهرجان كبير مثل برلين او كان عرض أفلام تم عرضها في مهرجان كبير آخر٠ لكن التقدير في أوساط النقاد السينمائيين حول العالم كان بدوره مجزياً٠ هو بالتأكيد هناك في لائحة أفضل عشرة أفلام فرنسية في التاريخ لدى أي ناقد أوروبي او أميركي الى اليوم٠
لكن السنوات توالت سريعاً من دون أن يحقق هنري-جورج كلوزو نجاحاً مشابهاً. نعم أخرج »شيطاني« Diabolique او
الذي نال نجاحاً جيّداً، لكن ما حققه بعد ذلك كان متباعداً وذا قيمة فنيّة متباينة٠ المخرج الفرنسي كان في أزمة إبداعية٠ في ذلك التاريخ، سنة 1964، حث الجهد للبحث عن لغة سينمائية جديدة يستطيع أن يعبّر فيها عن أزمته وأزمة العالم من حوله. كتب سيناريو »الجحيم« واستدعى له بضعة ممثلين فرنسيين مشهودين مثل رومي شنايدر وسيرج رياني وكاثرين أليغريه وكلود براسور وهو فعلاً رغب في إنجاز فيلم جديد من نوعيّته ولونه رغم أن القصّة تتمحور حول موضوع محدد: الغيرة التي تتملّك الزوج فتدمّره وتدمر حياته الزوجية٠
آنذاك، في مطلع الستينات، كانت السينما الفرنسية منقسمة، أساساً، الى نوعين من الأفلام: واحدة كلاسيكية تتبع السرد التقليدي الذي طالما شهد الرواج التجاري الجيّد، والأخرى حديثة تم نعتها بـالموجة الجديدة وقوامها مجموعة نقاد السينما الفرنسيين في مجلة "كاييه دو سينما" الذين انتقدوا السينما الأولى ثم ولجوا عملية إنجاز الأفلام على طريقتهم مباشرين بذلك ما عُرف -والى اليوم- بسينما المؤلف، رغم أن التسمية تعود الى سنوات أسبق٠
كلوزو لم ينتم لا الى هذه ولا الى تلك عملياً وكان يبحث عن المزيد من الإختلاف وعن القدرة على صنع فيلم صادق في المشاعر التي يتناولها. فيلم يتحسس أوتار النفس بمهارة لاعب الغيتار. لكن المخرج إذ وضع تلك الرغبة أساساً وشرطا لإنجاز ذلك الفيلم دخل نفقاً من الهواجس والأحلام المنقلبة الى كوابيس٠
المخرجان سيرج برومبرغ وروكساندرا ميدرا قررا نفض الغبار ليس عن ذلك الفيلم المنسي فقط، بل عن الظروف التي عايشها المخرج خلال عمله عليه والفترة الصعبة التي كان يمر بها وانعكاساتها على ذلك الفيلم٠ النتيجة فيلم وثائقي من تلك التي تبحث في الفن السينمائي وفنانيه وتذكّر مشاهديه بأن ليس كل الأفلام تولد جاهزة ومن دون مخاض صعب٠
في البداية توجّه المخرجان الى أرملة المخرج (الذي توفّي سنة 1977 عن 69 سنة) وأقناعاها بالإشتراك في مهمّة كان لابد أنها صعبة أعادت اليها الكثير من الذكريات التي ربما كانت تفضّل لو استمرت في تناسيها. لكن الأرملة رأت الفرصة السانحة لإعادة بعث سيرة زوجها وتخليده في عالم ينسى من كانوا في الأمس القريب فما البال بمن كان قبلهم؟
انطلق المخرج الفرنسي يخطط رسماً وكتابة لكل لقطة من فيلمه هذا. عمد الى »الوظيفة البيتية« او الـ
home-work
جيداً وكما كان يفعل في كل مرّة. لكنه في وسط عملية الإنتقال من الكتابة الى التصوير، ثم ما بعدها خلال التصوير نفسه، وجد نفسه -مثل ذلك الزوج الغيور- يراجع ما وضعه محاولاً الإتيان بأفضل منه٠
من حسن حظ المخرجين أن الأرملة احتفظت بمواد توثيقية عن تلك المحاولات من بينها مشاهد لعملية امتحان تمثيل قامت به الممثلة رومي شنايدر أمام كاميرا المخرج حين طلبها لهذا الغرض. الإمتحان لم يكن فقط صعباً بل منهكاً والمخرج لم يكن فقط كثير الطلبات بل مربكاً. في هذه الأيام قد يسمّون ما قام به عجز في التواصل مع الممثلين، ولابد أنه كان كذلك في ذلك الحين أيضاً٠
إذ بدأ التصوير في منتصف العام 1964 أصر كلوزو على عدم وضع خطّة زمنية لفيلمه وعلى أن لا يطالبه المنتجون بذلك. الفيلم، حسب بعض المصادر، لم يعرف ميزانية محددة. وهذا غريب جدّاً وأمر غير عملي على الإطلاق. لكن كلوزو حصل على ما يريد٠
كلوزو حصل أيضاً على ثلاث فرق تصوير (كل بكاميراه وفنييها) لكنه كثيراً ما عمد الى فريق واحد يصوّر له ما يريد محتفظاً بفريقين مكلفين يقفان جانباً من دون أن يُطلب منهما اي شيء٠
ما لا يحيطنا به هذا الفيلم الوثائقي علماً هو كيف استطاع المخرج الحصول على كل هذه الإمكانيات وتلبية كل هذه الشروط. من أين جاء التمويل ولم كان مستعدّاً لولوج فيلم مفتوح الفترة الزمنية٠
في مقابلات أجراها مخرجا هذا الفيلم مع بعض العاملين آنذاك، بينهم الممثلة كاثرين أليغريه والمخرج كوستا-غافراس الذي كان مساعد مخرج حينها، نسمع من يقول أن ما احتاجه المخرج آنذاك هو منتج آخر سواه. منتج يكون بمثابة جدار يصطدم به كلوزو كلّما تمادى في خياله٠
ذكّرني الفيلم بما مرّ به المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا حين كان يحقق فيلماً عن جحيم آخر٠ كان ذلك في منتصف السبعينات حين ذهب الى الأدغال الآسيوية لتصوير فيلمه الخاص عن جحيم حرب فييتنام في "سفر الرؤيا .... الآن"، الفيلم الذي تم تحقيق فيلم وثائقي عنه بعد حين صوّر ما كابده الجميع من حالات نادرة وسط بحث المخرج المضني عن الكمال في الإنجاز٠
كوبولا أيضاً تجاوز الميزانية والجدول لكنه كان لديه منتجين يتصادم وإياهم طوال الوقت، ولو أنهم في النهاية جلسوا في مكاتبهم غير قادرين على التصرف بإنتظار أن ينجز المخرج ما وعد به: تحفة رائعة عن حرب مهووسة وشخصيات تدمّر نفسها في كل إتجاه٠
الفارق بين »سفر الرؤيا... الآن« و»الجحيم« هو أن كوبولا سلّمنا في النهاية تلك التحفة التي وعدنا بها، بينما جاء »الجحيم« لكلوزو -وحسب هذه الوثيقة عنه- عملاً متمادياً في رغباته شاطح في غاياته وغير متكامل٠
في الحقيقة الفيلم لم يعرض تجارياً على الإطلاق (كما تشير مصادر أخرى أيضاً) ولو أن مصادر أخرى تقول لنا أن عرضاً محدوداً تم وأن النقاد لم يُثاروا بما رأووه. لكن الغالب إنه لم يعرض في صفة الفيلم المنجز والجاهز للعرض إذا ما عُرض فعلاً. الثابت أن أرملة المخرج احتفظت بما يزيد عن خمسة عشر ساعة من المواد المصوّرة و... من دون صوت٠
بعد هذا الفيلم أخرج كلوزو عملين فقط. واحد شبه وثائقي عن الموسيقار جيزيبي ڤيردي حققه في ايطاليا سنة 1967 والآخر روائي فرنسي بعنوان »نساء في القيد« سنة 1968. بعد ذلك انتحى جانباً لنحو تسع سنوات قبل أن يلفظ آخر أنفاسه٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم الأسبوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيلم الأسبوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
THE MAN FROM LONDON ****
إخراج: بيلا تار
تمثيل: ميروسلاف كروبوت، تيلدا سونتون، إربكا بوك، يانونس
درشي، اي شيترس
المجر/ فرنسا/ ألمانيا 2007
تمثيل: ميروسلاف كروبوت، تيلدا سونتون، إربكا بوك، يانونس
درشي، اي شيترس
المجر/ فرنسا/ ألمانيا 2007
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معظم من شاهد الفيلم في »كان« كرهوه، ولجنة التحكيم هناك
سارعت بإسدال الستار عليه، لكن شيئاَ في هذا الفيلم يرفض أن
يتوارى
سارعت بإسدال الستار عليه، لكن شيئاَ في هذا الفيلم يرفض أن
يتوارى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا بحثت عن المهرجانات التي عرضت »رجل من لندن« تجدها ثلاث مهرجانا فقط، »كان« و»مهرجان أفق جديد« البولندي، وتورنتو الكندي. إذا بحثت عن عروض تجارية لن تجد له عاصمة. إنتقل الى خانة الجوائز... هي خالية الا من ذكر إنه رشّح للسعفة الذهبية في »كان«. »رجل من لندن« هو الكابوس الذي يخشاه أي منتج، وهو من ناحية ثانية الفيلم الذي لا يستطيع أن يتمتّع بمشاهدته أي فرد- بإستثناء المجبولين بفهم المخرج وسينماه ولماذا يتطلّب الأمر خمس دقائق لكي ترتفع الكاميرا من باطن السفينة على سطح الماء وصولاً الى البرج الكبير في مواجهتها. عوض أن يتأمّل المشاهد مثل هذه »السحبات« الطويلة للكاميرا (هناك ٩٢ لقطة فقط في هذا الفيلم) التي تتكرر وبل تستمر طوال الفيلم محاولاً معرفة عن كنه ما تحاول إيصاله، تراه يقيس المدّة الزمنية التي تستغرقها محاولاً الوصول الى نتيجتها. قد تكون طبيعة الإنسان العجول او المعتاد على أن ينجز الفيلم ما يريد إنجازه سريعاً وأن يتمتع بالنوعية الحسيّة والنقلة الإيقاعية على نحو لا يشوبه أي سعي للتفسير. بيلا تار
لكن بيلا تار ليس كذلك. إنه في السينما لمتابعة صغائر الأمور لأنه من خلالها يجسّد الحياة التي يضعها على شريط. إذا كان لكل أسلوبه، فهذا هو أسلوب بيلا تار بعينه. هكذا كان في »إيقاعات ڤركمايستر« كما كان في »تانغو الشيطان«. هذا الأخير (٤٩٩١) كان من سبع ساعات و٥٤ دقيقة على هذا النحو. ما يختلف هو أن السيناريو أكثر غموضاً مما يجب. وأتردّد في إستخدام كلمة سيناريو لأن المخرج يقول في أحد مقابلاته أن السيناريو هو مادّة يكتبها للمنتجين فقط »وفي هذه الحالة كانت عن ست او سبع صفحات من الحوار«.
القصّة المقتبسة عن رواية تحت العنوان نفسه للكاتب البوليسي البلجيكي جورج سيمنون، تتناول كيف أن حياة رجل عادي يعمل مشرفاً على حركة وصول المراكب والسفن الى ميناء صغير حيث ينتظر الركاب قطار ينقلهم (بالإفتراض) الى المدينة. حياة ذلك المشرف الوحيد في صومعته عند أعلي نقطة ممكنة في المرفأ تتغيّر ذات ليلة، في مطلع الفيلم، عندما يرمي الكابتن حقيبة الى رجل ينتظره عند الرصيف وعندما يستدير الرجل ويبتعد قليلاً يهاجمه آخر راغباً بإنتزاع الحقيبة ويقتله في أثناء المحاولة، لكن الرجل إذ يسقط في الماء يأخذ الحقيبة معه ويختفيان- كذلك القاتل.
في رواية سيمنون أحداث أخرى تختلف عما نراه. هو كاتب يمضي في الوصف ويؤلف كتبه حسب السرد الكلاسيكي للقصّة البوليسية حيث عناصر الحركة والدوافع والنتائج والحوار والأسباب الداعية للشك والغموض تحوم حول القصّة وتصنع منها الأجواء التشويقية شأنها في ذلك شأن كل الكتابات البوليسية التي يمكن إرجاعها الى الأدب وليس الى الكوميكس بالضرورة. لكن ما يفعله بيلا تار هنا هو تقسير القصّة من معظم عناصرها وترجمة باقي تلك العناصر الى صور عليها أن تروي ما تم إختزاله من عناصر. لذلك اللقطة الطويلة من ثلاث الى سبع دقائق هي هناك لكي تحكي ما حكته القصّة إنما بكتابة مختلفة. في رحى هذه الترجمة لا تستعيد القصّة معظم ما خسرته. تفتقد الوضوح والمواقع التي تدافع عنها الشخصيات او تنطلق منها. تصبح أشكالاً مقصودة بذاتها. كتومة معظم الوقت وعلى المشاهد أن يقرأها بمعزل عن أي شيء آخر سوى أنها من صنع هذا المخرج المجري بالذات.
»رجل من لندن« رغم خصوصيّته، إحتفالٌ مبهرٌ بعض الأحيان وجيد في أحيان أخرى. على الشاشة تتحرّك العناصر القليلة للقصّة تبعاً للخط العريض المذكور أعلاه مع تحويرات صغيرة هنا وهناك كافية لأن تجعل الفيلم يبدو كما لو أنه موضوع آخر من تلك التي يكتبها بيلا تار بنفسه. في الأساس، الفيلم يستمد الكثير من عناصره من فيلم بيلا تار الأسبق »تانغو الشيطان« مثل الأبيض والأسود، الحانة حيث يعزف واحد على الأكورديون وحيت تعيش شخصيات قليلة فيه كلّما زرناه وحيث البلدة الغارقة في العزلة الكاملة. لا أحد يمشي في شوارع بيلا تار. المدينة تبدو كما لو كانت خالية من الناس. لا أحد موجود فيها. والنوافذ تبدو كأعين مقلوعة غير عاكسة لحياة أحد وراءها. حين سألته ذات مرّة عن نوافذ المنازل لماذا هي دائماً مغلقة قال: »لمَ لا. تفتحها يصير عليك أن تحكي قصص من فيها«. تلك النوافذ
سينما تار لا تكترث لضروريات الحبكة ولا لعنصر التشويق وما يفعله المخرج هنا إذ يقتبس رواية بوليسية كتبها سواه هو إلغاء عنصر التشويق مع الحفاظ على عنصر اللغز ومعالجة عنصر اللغز على نحو يحوّل الفيلم عن جادّة العمل البوليسي. النتيجة هي أنه فيلم من البحث الإنساني في حاضر أوروبا. ليس أن هناك تعليقاً محدّداً حول هذا الحاضر او حول أوروبا، لكن الصور هي التي تتحدّث طوال الوقت عن هذا الوضع الذي كان أكثر مباشرة في فيلمي تار السابقين »ألحان وايرمستر« و»تانغو الشيطان«. حين ترتفع الكاميرا من سطح الماء ببطء شديد وفي حركة عمودية الى حين وصولها الى موازاة سطح المركب قبل أن تبدأ رحلة بانورامية طويلة وصولاً الى صومعة المشرف فإن ما يفعله المخرج هو فتح العين على حياة غير سعيدة. ليس فقط أن الفيلم أبيض وأسود، وفي ذلك منتهى الإحتفاء بلا جمالية الحياة، بل هو أيضاً -وفي تلك المناظر التي يرى منها المشرف ما يراه- يعمد الى الكثير من اللقطات البعيدة. هي مبرّرة لأن الفيلم بأسره من وجهة نظر ذلك المشرف الذي يشهد على حادثة تحوّله من مهمّش بريء الى مهمّش مشارك، طالما أنه رضي، مطلع الأمر الا يفعل شيئاً حيال ما شاهده، لكنها أيضاً مساهمة في رصف أجواء الفيلم نهارية كانت او ليلية ومنحه الأسلوب الذي يحوّل المشاهد الى شريك في المشاهدة من دون خِيار، تماماً كما بطله، عوض أن يجد نفسه قادراً على الإنتقال مع الكاميرا السريعة أينما قررت أن تقف وتلتقط.
وهناك مشهد يلتقطه المخرج أكثر من مرّة لركّاب الباخرة الليلية التي تصل الى الميناء. مرّة أخرى هي من زاوية المشرف (يقوم به الممثل التشيكي ميروسلاڤ كروبوت). نشاهد من عُلٍ أفراد الناس تخرج من رحم الباخرة الى رحم القطار وقليل يمضي مشياً في إتجاه بعيد. القطار يتحرك بهم. لا تستطيع الا وأن تكترت للحركة البشرية المحدودة الا إذا بالطبع فاتك أن تتلقّف الفيلم من زاوية بنائه الأسلوبي الخاص.
لكن هذا النمط من المعالجة تشهد بعض المشاكل من نواحي أخرى. بعد أن يشهد المشرف الجريمة بنحو نصف ساعة ينجح في سحب الحقيبة من البحر ويجد فيها مبلغاً كبيراً من المال. يأخذه الى بيته والمناسبة تتيح لنا مشاهدته مع زوجته (تيلدا سوانتون) وإبنته (إريكا بوك) ومن هناك ننتقل الى تلك الحانة التي فيها شخصيات تبدو وقد أنتقلت من فيلمه الأسبق »تانغو الشيطان« بجوّها وأنوارها وشخوصها. تبقى الشخصيات الرئيسية قليلة وأهمها المتّهم بالقتل والتحري الباحث عنه وحين يدخل الفيلم نطاق إيصال العمل الى خلاصته وتوفير نتاج درامي او حدثي لهاتين الشخصيّتين يجد نفسه مقيّداً وغير قادر على شرح معضلات ما يدور
السبب يعود الى أنه إذ التزم بوجهة نظر المشرف- الشاهد منذ البداية كان صعباً عليه الإنتقال لمتابعة نتائج مجابهة المتهم والتحرّي، لذلك تبدو المشاهد القليلة بينهما، او عنهما غارقة في غموض لا جدوى منه. نفس الإلتزام لا يمنح شخصية الزوجة إسهاماً حقيقياً لتطوير الحدث الماثل عوض أن يتوقّف عند حدود الملاحظة. ثم هناك ذلك الصوت الذي يختاره من مشهد لآخر. يجب أن يكون نقراً او ضرباً ذا صوت متردد مثل المطرقة. في أفلامه السابقة لم يعترض الصوت علاقة المشاهد بالصورة، لكن هنا -ولسبب لا يمكن أن يكون خيراً- يفعل، ليس في كل المشاهد لكن فيما يكفي منها لجعل المرء يتمنّى لو أنه لم يستخدمها مطلقاً.
على ذلك كله، ليس »رجل من لندن« فيلماً رديئاً ولا يمكن أن يكون. رتيباً وبطيئاً فقط، لأنه إيقاعه هو ضمن منهج مدروس وخاص منه يفحص الفيلم بواسطته حياة بطله فاتحاً حقائق حول بالتدريج حتى يصل، حين يلقي النظرة على تلك البلدة شبه المهجورة، لفتح حقائق حول مجتمعه والعالم من ورائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2009٠