Year 4/ Issue 111 | No. of films reviewed till now:292 | No. of films reviewed this year:7
الفنان The Artist
فرنسا (2012) **
تصنيف: كوميديا صامتة [ألوان/ دجيتال] 100 د
إخراج: ميشيل أزانافيشو | أدوار أولى: جان دوجاردان، بيرينيس بيجو، جون غودمان، جيمس كرومول، بينيلوبي آن ميلر.
هما كلمتان ينطقهما بطل فيلم «الفنان» للمخرج الفرنسي ميشيل أزانافيشوس وذلك في اللقطة الأخيرة من الفيلم: Wiz Pleasure. طبعاً المقصود هو With Pleasure لكن بما أنه فرنسي فإن اللكنة تغلب وwith تصبح wiz
هذا مفتاح لنحو تسعين دقيقة من فن السينما الفريد. لا شيء يشبه هذا الفيلم من … من … من… أوه لنقل أيام السينما الصامتة…. والسبب أنه فيلم صامت بدوره و- علاوة عن أنه صامت- هو فيلم عن … السينما الصامتة.
الكلمتان هما مفتاح الفيلم الذي نعثر عليه في اللقطة الأخيرة. صحيح أن الباب كان مفتوحاً من البداية بحيث لو وجدنا المفتاح او لم نجده لما كان ذلك مهمّاً، لكن الآن فقط عرفنا ذلك السر الصغير- الكبير: لماذا لم يرحب الممثل (في الفيلم) جورج فالنتين (يقوم به الفرنسي جان دوجاردا) بالسينما الناطقة؟ لماذا مانعها؟ سخر منها في البداية قبل أن يجد نفسه عاطلاً عن العمل. وجد نفسه بلا عمل. نجم فترة ولّت و"شخصية بلا هوية" لفترة جديدة.
هنا نفهم أن جورج لم يرحّب بالنطق لأنه، كونه ممثلاً هوليوودياً، إنّما امتلك في ناصية الحياة الفعلية لكنة فرنسية. وفي تلك الأيام لم يكن ذلك مسموحاً به. الجمهور لم يكن ليفهم او يرضى بأن يقبل لكنة غير أميركية ينطق بها الممثل حتى ولو كان نجماً محبوباً. النطق، الذي بدأ تدريجياً سنة 1927 ثم اكتمل مع مطلع الثلاثينات، فضح كثيرين: بعض الممثلين كان يمتلك صوتاً غليظاً، بعضهم لم يكن يمتلك قدرة على النطق الصحيح، والبعض الثالث، كهذه الحالة، كان أجنبياً، إيطالياً او لاتينياً او فرنسياً، بحيث أن فرصته لدوام الشهرة كانت معدومة. «الفنان»، الذي يتصدّر هذا العام قوائم الترشيحات في أكثر من مناسبة وجائزة دولية من أوروبا إلى الولايات المتحدة، يتحدّث عن واحد من هؤلاء.
إذاً، لنعود إلى الوراء: الحكاية بإيجاز أن جورج نجم لامع في السينما الصامتة. تتحرّش به فتاة طموحة إسمها بَبي ميلر (برنيس بيجو) ويساعدها فتصبح ممثلة مساندة ثم نجمة كبيرة بفضله. لكن فيما هي تصعد إلى الأعلى، كان هو يشهد إنحداره. منتج أفلامه (جون غودمان) يخبره بأن الخطوة الكبرى التي تنتظر السينما هي النطق، لكن جورج يتركه ساخراً. بعد حين، عندما أخذت أفلامه تفشل في جذب الجمهور وقد نطقت السينما فتوجّه إلى الممثلين الناطقين، يدرك أن المنتج كان على حق. يصنع فيلم مغامرات في الأدغال ويراه يتهاوى بينما الفيلم الذي تظهر فيه بَبي، وقد باتت نجمة، يحقق نجاحاً كبيراً بين الجمهور. يكتشف أنه أصبح على حافة الماضي، ثم ها هو يسقط في حفرة الأمس. عاطل عن العمل، يبيع مقتنياته بالمزاد او في دكان الرهونات، ثم يحرق معظم أفلامه ويسقط مغشياً عليه فيما يحاول كلبه إنقاذه. حين يفيق في المستشفى يجد بَبي إلى جانبه، وبعدما تنقله إلى بيتها يكتشف أنها هي من اشترت مقتنياته حتى تحفظها له. لكن كبرياءه يدفعه لمحاولة دمار نفسه من جديد لولا أنها تنقذه هذه المرّة. معاً سيمثلان فيلماً جديداً. إنه هنا، بعدما يقدّمان مشهداً أمام الكاميرا (داخل الفيلم) بنجاح كبير، يقول له المنتج: "هل تستطيع إعادة تصوير هذا المشهد" فيجيبه جورج wiz pleasure وهنا فقط، ثانية قبل أن نهاية الفيلم، نفهم السبب الذي من أجله كان على جورج أن يمتنع عن الإستمرار في التمثيل وأن يترك قافلة السينما تمضي من دونه.
«الفنان» ليس فيلماً عن السينما الصامتة. إنه فيلم صامت. وهو ليس فيلماً عن التصوير بالأبيض والأسود. إنه بالأبيض والأسود. ليس فيلماً عن تقنيّة السرد في أيام زمان الأول، بل يمارس تقنية السرد في تلك الأيام والكيفية التي كان الفيلم ينتقل فيها من مشهد لآخر. إذا كنت تعتقد أن أفلام الأمس ساذجة ستجد هذا الفيلم ساذجاً، أما إذا كنت تعتقد أنك تستطيع فهم كنه السينما من خلالها، كما تفهمها من خلال فيلم مارتن سكورسيزي الذي لا يقل قيمة «هيوغو»، فأنت في ضيافة فيلم من النوع النادر. فيلم ربما يقدّم حكاية من نوع صعود نجم وهبوط آخر في المقابل (كما في «مولد نجمة» مثلاً) لكنه في الوقت ذاته أفضل فيلم عاطفي تم تحقيقه في العام المنصرم. في مواجهته، كل فيلم ناطق يتبادل فيه البطلان كلمة "أحبّك" يبدو لعب "عيال". أمراً خالياً من البراءة ومفعماً بالزيف.
طبعاً أستطيع الدخول في بعض التفاصيل لكي استنتج أن هناك اختلافات معيّنة: الفيلم الجديد من صنع العشرينات لم يكن بهذه النظافة التي عليها هذا الفيلم- لكن هل نستطيع أن نلوم المخرج إذا ما صنع فيلماً سليم الصورة؟ طبعاً لا. بالتالي، هذا ليس موضوع خلاف خصوصاً حين النظر إلى صنعة الفنيين الذين عملوا في الفيلم من مصمم المناظر الأميركي لورنس بانت، الى مدير التصوير الفرنسي غويلوم شيفمان إلى الموسيقي الفرنسي لوفيك بورس. كل منهم يكمل الصورة المنشودة التي في بال المخرج.
إنه ليس أمراً بسيطاً إقدام مخرج ما على تحقيق فيلم صامت. نعم يستطيع سينمائي ما أن يقرر، بفرض أنه وجد منتجاً مجنوناً، تحقيق فيلم روائي طويل من دون استخدام كلمة واحدة. لكن الأصعب هو البحث عن السبب. لماذا يريد تحقيق مثل هذا الفيلم. المخرج أزانافيشوس وجد السبب: فيلم صامت عن السينما الصامتة. طبعاً حتى هنا كان يستطيع إنجاز فيلم ناطق عن السينما الصامتة وسواه فعل ذلك. لكن إذا ما صنع الفيلم من لحمة وعجينة أفلام ما قبل العام 1927 او نحوها، فإن الناتج ستكون تماماً هذا الفيلم الماثل بإستثناء مشهد كابوسي قصير (يسمع الممثل صوت آخرين وأشياء ترتطم لكنه لا يسمع صوته) والمشهد الأقصر الذي ينطق فيه بالكلمتين الجوهريّتين.
كان الفيلم عُرض في "كان" وخرج بجائزته الأولى من هناك، ثم هاهو الآن معروض في كل مكان حول العالم… لنتصوّر مجدداً: فيلم صامت معروض في صالات السينما الكبرى حول العالم! مثل «هيوغو» لمارتن سكورسيزي و«منتصف الليل في باريس» لوودي ألن هو جزء من ثلاثية تدعو إلى حب الماضي لأنه من دون حب الماضي فإن الحاضر لا جوهر له.
تحت الأرض: يقظة Underworld: Awakening
الولايات المتحدة (2012) **
تصنيف: رعب [ألوان/ دجيتال] 122 د
إخراج: مانس مارليند، بيورن ستاين | أدوار أولى: كايت بيكنسايل، ستيفن راي، مايكل إيلي .
الفيلم الأول في العروض الأميركية هذا الأسبوع هو الفيلم الأردأ، وهذا ليس للمرّة الأولى، بل سبق لأفلام رديئة وضعيفة ومستهلكة أن احتلت المركز الأول من قبل. وبما أنني لا أمتنع عن مشاهدة أي فيلم، حتى لو كنت أعرف مسبقاً أنه رديء. في الحقيقة هذا الفيلم يصلح فقط لأربعة فئات من المشاهدين: الرجال- الذئاب (النوع الشرس الذي ربما كان أصله آدمي) ومصّاصي الدماء وهواة ألعاب الفيديو ومدمنين أفلام مثلي. بما أن معظم المشاهدين ليسوا من أي فئة مذكورة من حق المرء أن يتساءل عن السبب في تبوأ هذا الفيلم الصدارة حتى بين الشبيبة.
طبعاً السبب هو أن هناك فيلمين سابقين من هذه السلسلة ما يعني أن المشروع الماثل الآن لديه خلفية وتاريخ والجمهور هو- غالباً- الذي اعجب مما شاهده سابقاً. فوتو كوبي من نفسه. لكن الفيلمين السابقين تضمّنا، أساساً، الصراع بين الرجال-الذئاب وبين الڤامبايرز فقط. أما البشر فكانوا بلا وجود فعلي. هذا الجزء هم موجودون مجرمين وضحايا.
نحن في عالم قد يكون مستقبلياً قريباً. لقد انتقل الصراع بين وحوش الرجال- الذئاب ومصاصي الدماء من تحت الأرض لفوقه (رغم العنوان). وميزة سيلين (كايَت بكنسبال) هي أنها مصاصة دماء محاربة تبلي بلاءاً حسناً ضد الرجال- الذئاب (يسمّيهم الفيلم ليكانز) والبشر على حد سواء. ويبدأ الفيلم بهجوم شرس على المشاهدين عبر خمس او سبع دقائق من الأجساد المطعونة والرؤوس المقطوعة والأطراف المبتورة. هذا قبل قيام مؤسسة علمية أسمها "أنتيغان" بالقبض على سيلين ووضعها في البرّاد مثلّجة. الطبيب المسؤول عن المؤسسة هو د. جاكوب لَين (ستيفن راي) الذي يؤكد للمسؤولين أن كل شيء على ما يرام بينما ليس هناك شيء على ما يرام. رجاله المسلّحون يتساقطون كالذباب بعد البخ.
بعد إثني عشر سنة من التمتع بطقس الأسكيمو تهرب سيلين من أسرها وتعود إلى سابق عهدها في سلسلة أخرى من مشاهد القتل المجاني ولا تنسى أن يعجبها سائق شاحنة فتعض رقبته وتمص دمّه لكي تعيش. لديها طبعاً "رسالة" حياة او موت، فحبيبها خليط من البشر والرجال- الذئاب وهو بحاجة لمساعدتها لإنقاذه من مصيره المحتوم. وكلاهما مغضوب عليه من كل الأطراف. كل ذلك وسواه في 80 دقيقة من العرض معظمه يمر أمامك لأنه كُتب هكذا ونُفّذ هكذا وليس لأي سبب فعلي آخر.
وجود البشر في هذا الجزء الثالث، وفي شكل أساسي، هو ديكور متحرّك ولمنح الفيلم ضلعاً ثالثاً في الصراع. بما أنني لم أشاهد الفيلمين السابقين لا أستطيع أن أقارن ما أراه هنا وأصل إلى نتيجة بالقياس بما سبق، لكن طالما أن البشر دخلوا الصراع فإن ذلك يوسع من المتشابكين فيصبح كل طرف في حرب مع طرفين آخرين عوض أن يكون طرفاً ضد طرف.
الفيلم يستعين بعدد من الممثلين الجيّدين وفي المقدّمة ستيفن راي وتشارلز دانس وكلاهما لم ينل حظّه من التقدير في السنوات الخمسة عشر الأخيرة على الأقل. بيكنسايل تملك قدرة بدنية ولو أننا نعرف أن قدرات الكومبيوتر غرافيكس هي الغلاّبة، لكن لابد من ممثل رشيق وقوي وسريع وهي تؤمن هذه الخصال جيّداً.
الفيلم ثلاثي الأبعاد والبعد الثالث موظّف جيّداً، لكن بما أن الفيلم يخلو من بعد فكري فإنه في نهاية الأمر لا زال ببعدين او هكذا اعتقدت.
ج. إدغار J. Edgar
الولايات المتحدة (2011) ***
تصنيف: دراما/ بيوغرافي [ألوان/ دجيتال] 137 د
إخراج: كلينت ايستوود | أدوار أولى: ليوناردو ديكابريو، جودي لينش، آرمي هامر، ناوومي ووتس.
علاقة كلينت ايستوود بالسيناريوهات المبنية على شخصيات حقيقية من بين الأفلام التي أخرجها حتى اليوم (35) موزّعة بين ثلاث محاولات سابقة: «بيرد» (1988) حول عازف الجاز تشارلي بيرد باركر (كما أدّاه فورست ويتيكر)، «صيّاد أبيض، قلب أسود» (1990) الذي كان استيحاءاً من رحلة قام بها المخرج جون هيوستون إلى أفريقيا (وقام ببطولته بنفسه)، «إنڤيكتوس» (2009) عن لاعب كرة القدم (مات دامون) الذي حقق الفوز لفريق كرة القدم الوطني في جنوب أفريقيا أول عهد تلك الدولة بالتحرر من النظام العنصري.
لكن هذه المرّة، في إطار «ج. إدغار» فإن الدراما المبنية حول شخصية الرجل الذي ارتعدت منه أميركا لأكثر من أربعين سنة، مختلفة. على عكس المرّات السابقة، الشخصية الماثلة ليست فنية او رياضية، بل شخصية سياسية. هذا وحده كان يمكن له أن يكون تمييزاً كبيراً للفيلم. لكن ليس فقط أن سيناريو الكاتب (المثلي) دستين لانس بلاك، ترك السياسة وأم الجانب الشخصي وحده، بل وافقه ايستوود وصنع من المادة المكتوبة فيلماً يخسر أشواطاً في خانة المضمون راضياً بتقديم حكاية رجل تشغله مهنته من ناحية ويحكمه الخوف من "أعداء أميركا" وينساق لعلاقة مثلية. في حين أن الشواهد على كيف أدار مكتب التحقيقات الفدرالية الذي أسسه بنفسه ووجّهه لملاحقة من اعتبرهم شيوعيين (رؤساء وعمال إتحادات أساساً) ثم رجال العصابات الكبيرة (بايبي فايس نلسون، دلنجر الخ…) وكيف أمسك بكل السلطات ومارس جميع الأعمال التي من شأنها تلميع صورته كمحارب لصالح العدالة والقانون، فإن لا شواهد على ميوله الجنسية بل أقاويل. الكاتب يريد أن يثبت ذلك محوّلاً قدراً كبيراً من الفيلم لدراما عاطفية بين جون إدغار هوڤر (ليوناردو ديكابريو) ومساعده كلايد (أرمي هامر). لكن هنا المشكلة: كما أن حياة هوڤر المهنية مثبّته وموثوقة ولا شيء يُذكر عن حياته الجنسية، فإن الفيلم أيضاً لديه مئات الثوابت حول حياته المهنية ولا شيء سوى الإفتراضات حول حياته الجنسية.
لذلك، حين تموت والدته (لعبتها البريطانية جودي دنش) ويخصص المخرج مشهداً لبطله وهو يبدأ بارتداء حلى وملابس والدته قبل أن ينهار ويقع أرضاً وهو يبكي، فإن أول ما يخطر على بال هذا الناقد (على الأقل) هو: من أين جلب المخرج وكاتب الفيلم هذه الأكذوبة طالما أنها ليست موجودة في مذكّرات خلفها هوڤر عن نفسه؟ هل كان شخص خفي في الغرفة وشاهد رئيس الأف بي آي يتصرّف على هذا النحو حين ماتت والدته؟
رغم ذلك، فإن هذا الناقد يعرف التبرير: حسب فيلم أراد أن يثبت أن ج. إدغار هوڤر كان مثلياً وليس لديه أي دلائل على ذلك، (المثليون يعتبرون عادة أن لكل منا ميل مُثلي وكثيرون منّا ينقادون إليه) المشهد يبدو نتيجة منطقية كرد فعل على خسارته لأمّه التي أحب… منطقية ولو أنها افتراضية تماماً.
ايستوود كان يستطيع أن يستقل عن تنفيذ السيناريو كما هو وينجز بعض مراميه ومواقفه الخاصّة. تصوّر لو أنه منح الفيلم مادّة سياسية فعلية، فأخذ موقفاً مع او ضد هوڤر إنما تبعاً لقراءة تاريخية حول محاولة هوڤر السيطرة على مخاوف الجميع بإثارة الذعر من خطّة شيوعية جهنّمية لاحتلال أميركا. تصوّر لو حلل الوضع الأميركي آنذاك وربطه بذلك الوضع الآن حيث أن نشر الخوف من الآخر والخوف من كل شيء آخر أيضاً هو ما يسهّل البقاء على سدّة الوظيفة أوّلاً، والاستحواذ على السُلطات كما يرغب، وهو لب موضوع فيلم جورج كلوني «تصبحون على خير وحظ سعيد» (2005).
في طيّ ذلك، كان يستطيع الفيلم أن يوحي بأن هوڤر ربما ربط نفسه بعلاقة مثلية مع مساعده، طالما أن هذا "الإيحاء" هو كل ما هو متوفّر من إثباتات.
لكن الفيلم، لكل هذه الأسباب الموجبة، عمل معقّد وتحليله لا يقلل من تعقيده. المدخل الذي يطل منه الفيلم على موضوعه هو تقديم شخصية لا تخلو من التناقض: هو إنسان ملتزم بعقيدته القائمة على تعاليم الأم والكنيسة، وواقع تحت تأثير الشهوة المثلية من ناحية ثانية (وذلك خلف ستار الفيلم إذ لا نرى سوى الإيحاءات وقبلة مغتصبة لا يرضاها هوڤر ويحذّر من تكرارها). يريد تطبيق أخلاقيات الوطن ومحاربة الفساد والجريمة، لكنه لا يستطيع أن يصون نفسه من الرغبة في تسجيل مواقف دعائية له حتى ولو كانت، كما ينص الفيلم، كاذبة (ادعائه بأنه قاد حملات اعتقال للمجرمين، لكن الفيلم ينفي ذلك مؤكداً أنه كان يهرع إلى المعتقل بعد اعتقاله لأجل أخذ الصور التذكارية ويسمح لمجلات الكوميكس بكتابة روايات خيالية طالما تضعه في البطولة).
في صدد ذلك، يؤمن هوڤر الفيلم بأن الشعب الأميركي يريد ظلالة من الأمان يعيش فيها وأن مكتبه هو من سيتولّى تأمينها تحت إدارته غير المتنازلة، وكانت أمام الفيلم فرصة لطرح هذا الإيمان وفعله كما الثغرات التي فيه لو أراد.
ايستوود يقص علينا حكاية قفّازة تنط من فترة زمنية إلى أخرى على نحو تفضّل معه أسلوب سرد كلاسيكي يتبع المراحل حسب ورودها الزمني. صحيح أنك تستطيع أن تصنع فيلماً سيئاً في هذه الحالة أيضاً، لكن الناتج على الشاشة غير سلس وليس هناك داعياً له ويخطف الكثير من الإهتمام الشخصي الذي يوليه المخرج. في الحقيقة هذا أكثر أفلام ايستوود رغبة في الوقوف عند حدود التنفيذ وعدم الإلتزام بوجهة نظر ذاتية مهما كانت. في ذلك، وجهة نظر الفيلم، تتوزّع ما بين الكاتب والمخرج كشريكين ولا تقع تحت وصاية الثاني وصلاحيّته الكاملة. صحيح أن الإختيارات المشهدية تبقى للمخرج، لكن كذلك كل شيء آخر وايستوود اختار النأي عن قرار المبدع والإكتفاء بقرار المنفّذ.
هناك حس في الفيلم بأن ايستوود يقصد تصوير هذا الرجل كخطر على الأمة، وهو بالفعل لا يقدّمه كبطل لها، لكن هذا الحس يتبلور على نحو تلقائي وغير تحليلي على الإطلاق. في نطاق التنفيذ، كل كادر معتنى به لوناً وظلالاً وحجماً وزاوية. ليوناردو ديكابريو (بإستثناء نبرة صوته القوية كمعلّق حتى في وقت لاحق من حياته) جيّد ولو محدود الجودة في دور كان يتطلّب ممثلاً أكبر سنّاً او تسلسلاً في المراحل الزمنية تمهّد لقبول مراحل انتقاله وبالتالي تمثيله التدرّجي في تلك المراحل.
حضوره البدني فاعل، لكن الحوارات كثيرة ما يلزمه بمحاولة إنجاز حضور صوتي يماثل حضوره البدني إقحاماً، وهذا يعيدنا إلى ليوناردو أكثر مما يضعنا أمام ج. إدغار هوڤر. يرفع من نبرة خطابة مُعالجة درامياً لشخصية حقيقية ربما لم تكن على هذا النحو مطلقاً.
لكن أفضل ما ينجزه الفيلم هو التالي:
ايستوود إذ يدخل حياة هذه الشخصية المعقّدة يريد كشف خطرها على المحيط الإجتماعي والسياسي معاً. بالنسبة إليه، هذا الرجل لا يقل دكتاتورية عن رئيس دولة. من البداية وفي مشهد جيّد يعكس فرحه بإنشاء "بنك معلومات" من البطاقات والملفّات عن كل من يأمر بالتخابر عليهم سواء أكان موظّفاً او رئيس جمهورية او بين الإثنين. وهو لا يلين مع الوقت بل يواصل منهجه فإذا به يتجسس على "الشيوعي" مارتن لوثر كينغ ويستمع إلى عميلته وهي تتحدّث لزوجة الرئيس أيزنهاور وتشكرها على "علاقة" مميّزة بينهما. فقط مع وصول رتشارد نيكسون (كريستوفر شاير) يجد أن وقته في المنصب بات محدوداً، فالرجل لا يريده في منصبه وهو يأمره بالإستقالة ليس كرهاً بممارساته اليمينية، بل تحسّباً مما قد يضعه هوڤر في ملفّه عنه.
هذا الفيلم في النهاية يقف عند الحافة بين عمل جيّد جدّاً في نواحيه التنفيذية (تقنية وعنصر كل جانب انتاجي) وبين عمل أقل أهمية مما كان يؤمل له. أحد أهم الجوانب التي قرر المرور عليها من دون كثير جهد وهي أكثر الجوانب أذى للفيلم، دور هوڤر في عملية صيد المثقفين والسينمائيين الذين اتهموا، عن صواب او عن خطأ، بأنهم شيوعيين وبالتالي دوره في حملة جوزف مكارثي التي نحرت المبدعين بتهم معظمها ملفّق متجاوزة مباديء قامت عليها الولايات المتحدة مثل حريّة المعتقد والتعبير.
لكن ما يغفر للفيلم بعض نواقصه هو أنه نجح في تقديم رجل عاش وعمل في فترة قلقة من تاريخ أميركا وهو كان الأكثر قلقاً من سواه. أراد أميركا (وكرر ذلك في الفيلم) "آمنة"، كرد فعل واضح على عدم شعوره هو نفسه بالأمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © Mohammed Rouda 2008- 2012