Year 4/ Issue 106
فيلم القمّة لمارتن سكورسيزي
هوغو … حيث النهايات السعيدة في الأفلام فقط
محمد رُضا
HUGO | Martin Scorsese (2011) *****
Review n. 286
في عام واحد استعار مخرجان من الثقافة الفرنسية المصوّرة عملان كبيرين. ستيفن سبيلبرغ استعار من الرسّام البلجيكي جورج ريمي (المعروف بإيغريه) شخصية "تان تان" (او تِن تِن كما سُمّي بالإنكليزية) وحقق منها "مغامرات تان تان" المعروض حالياً (والذي تناولناه هنا قبل بضعة أسابيع)، ومارتن سكورسيزي استمد من رواية برايان سلزنيك المعروفة بـ "أوغو كابريه"، ليس أن الكاتب فرنسي، بل هو أميركي، لكن ما وضعه في 533 صفحة هو قصّة مكتوبة ومرسومة لشخصيات وأحداث باريسية تقع في مطلع القرن العشرين وتتمحور حول المخرج الفرنسي جورج ميلييس.
مارتن سكورسيزي أخذ هذه الرواية المكتوبة للصغار كون شخصية الطفل أوغو (او هوغو بالإنكليزية) هي الشخصية البطولية. هي المناط بها الدخول إلى عوالم الفترة من ناحية، وهي التي تحمل مفتاح تقديم ميلييس وعالمه وتشكل تنويراً ومعرفة لجيل كامل من الصغار (والكبار أيضاً) الذين لا يعرفون شيئاً عن ذلك المخرج المبدع وما قدّمه للسينما.
في الوقت ذاته، حرص سكورسيزي على أن لا يسرد فيلماً، كسرده أي من أفلامه السابقة. هو هنا لا يريد أن يسلّي الصغار ويعطيهم فيلماً فانتازياً يلهون به ويستمتعون. «أوغو» هو فيلم شخصي منه وله كما منه ولنا نحن هواة السينما. فيلم تقدير مفعم للسينما الصامتة، سينما باستر كيتون وتشارلي تشابلن وهارولد لويد وغريفيث و-بالطبع- جورج ميلييس. الفرص التي اختارها لتجنّب التحوّل إلى سينما سبيلبرغ الترفيهية التي تفتقد إلى عمق الشخصيات والروح الخاصّة المتأصّلة التي فيها، لا تحصى. في الصالة كنت أسأل نفسي كيف يستقبل الصغار هذا الشحن من الأفكار والمعلومات والنوستالجيا. ليس أنه فيلم ممل او غير ممتع، لكنه من النوع الهادف في الوقت ذاته. لا سكورسيزي ولا سواه من الذين حققوا أفلاماً عن صغار حالمين بالسينما (فرانسوا تروفو او جيسيبي تورناتوري او أسامة فوزي) صنعوا شيئاً يقترب من هذا الإنجاز البديع.
الحكاية تبدأ في محطّة قطار ضخمة في باريس. الصبي أوغو (آسا باترفيلد) يعيش في غرفة علوية قريبة من برج الساعة القديمة التي آل إليها الحفاظ على استمرارها. وهو شغوف بالميكانيكيات. بالتفاصيل الأدواتية الصغيرة في عصر كان لا يزال يحفل فيها. في زمن كانت اللعبة التي تُدار بمفتاح فتتحرك لنصف دقيقة ثم تتوقّف ما زالت السائدة. في مرحلة من الحياة كانت الشمس غربت عن القرن التاسع عشر ولم تشرق بعد على مفاجآت القرن الجديد. السينما كانت وُلدت (وسكورسيزي حريص للقول أن أفلام لوميير كانت "من" الأفلام الأولى التي تم تحقيقها لأنها لم تكن الأولى حقاً) ومرّت بمراحل سريعة متعاقبة. من أفلام الوهم والسحر القصيرة (حين كان المخرج يُكنّى بالساحر) الى أفلام الوهم والسحر الطويلة. من تلك الكوميدية التي لم يكن يُداخلها أي مؤثر او خدعة (هو هارولد لويد ذاته الذي يتسلّق جدار المبنى من دون حبل او أداة رافعة) الى تلك المتشابكة أكثر وأكثر. إنها فترة ما بين الحربين العالميين. خرج الناس من واحدة منهكين وما أن أخذوا يتحرّكون بعيداً عن ذكرياتهم وأحلامهم المنهارة حتى اندلعت الحرب من جديد. طبعاً سكورسيزي لا يذهب إلى هناك. ليس مطلوباً منه كل ذلك. لكنه يضع البذرة. ها هو بن كينغسلي في دور جورج ميلييس يتذكّر ويشرح تبعات تلك الحرب العالمية الأولى وكيف ساهمت في توقّفه عن العمل.
قبل الدخول في هذا المجال، القصّة تتوالى على نحو شيّق ولو أن الفيلم في ساعته الأولى من ساعتين يتوقّف عن التطوّر درامياً في بضع مراحل كما لو كان المخرج بحاجة لأن يصبر قليلاً ليتأكد من أن الجمهور لديه الوقت الكافي لتشرّب الوضع والحكاية الماثلة. بعد ذلك لا توقّف عن دفع الأحداث صوب ذرواتها العاطفية.
في مطلع الفيلم يقبض رجل عجوز على أوغو ويجبره على إفراغ جيبا معطفه من المسروقات. يفرغ أوغو محتويات الجيب الأول من تلك المفاتيح الميكانيكية والبراغي وما شابهها ومن الثانية دفتراً صغيراً آل إليه من أبيه الذي مات (دور صغير لجود لو). العجوز (الذي لن نعرف ما كنيته حتى وقت لاحق) يستولي على الدفتر الصغير مهدداً بحرقه. في أعقاب الولد حارس المحطّة (ساشا بارون كوهن) العائد من الحرب الأولى بساق صناعية والذي قرر أن يُحيل كل ولد صغير يلقي القبض عليه لبيت الأيتام بصرف النظر عن توسلاتهم. أوغو مهدد من قِبله ومن قِبل كلبه الأسود لكن ما يشغله هو استعادة دفتره وربط النقاط المنفصلة بعضها ببعض. هذا سيؤدي إلى اكتشافه أن هذا الرجل العجوز هو ذاته جورج ميلييس المخرج الفرنسي المبكر الذي رفض لوميير بيعه إحدى كاميراته فصنع واحدة خاصّة به صوّر بها مئات الأفلام. من بينها مئات الأفلام لم يبق سوى ثمانين فيلم بعدما تم اكتشاف العديد منها مهملاً في أماكن متفرّقة.
هناك الكثير من الإنسانية في هذا الفيلم. هوغو بلا أب. الحارس بلا ساق. العجوزان اللذان نراهما يتمنيا اللقاء ويتمّا ذلك في النهاية، بلا أنيس او صديق، وجورج ميليس، كما يؤديه بن كينغسلي (تحت الماكياج يبدو قريب الشبه بالممثل الكوميدي من أيام شابلن وكيتون أسمه بن توربن) هو الفنان الذي انتهى مهدوراً. هذه نماذج تملأ الفيلم عاطفياً. يصبح من الممكن، تبعاً لذلك، أن يلج المشاهد الزمن والمسافة بينه وبين الفيلم ليدرك أن سكورسيزي هو تحت ذكرى مئة وعشرين سنة سينما تثقل على كاهله من شدّة ولعه بهذا العالم العجيب ومنجزاته.
إنسانياً أيضاً لا يمكن الا وأن نلحظ أن بطل هذا الفيلم، هوغو، مقدّم إلينا كيتيم. والصبي اليتيم ليس جديداً في الأدب او في السينما، من "أوليفر تويست" وصحبه وإلى اليوم. إنه يؤمّن إشباعاً سريعاً بأن ما يحدث للصبي يحدث له وحده. كل ما يتقلّفه يتلقفه من دون أن يشاركه إياه والده مرحّباً او معارضاً. هو له وحده. وفي سياق هذا الفيلم هذا ضروري وفيه تذكير فعلي بأدب ديكنز السابق، قليلاً، لتلك الفترة. أيضاً من بين المستوحيات أن الصبي إذ يعيش في محطّة القطار سرّاً فإن هذه السريّة والمكان المحدد له هو مثل الأوبرا للشبح او رودتردام للأحدب. أليس كذلك؟
لكن أرضية الفيلم تبقى واقعية من حيث مراجعها. جورج ميلييس (الذي كتبت عنه تحقيقاً طويلاً في «ظلال ونجوم» قبل أكثر من عام) قصّة كاملة. فصل خاص من تاريخ السينما الفرنسية. الأخوان لوميير (ومن سبقهما في بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة) كانا من زرع الوسيلة التقنية لتصوير وعرض أفلام. ميلييس هو من نقل السينما الى مستوى التصنيع. تصنيع الفكرة وتصنيع الوسيلة. ونهايته كانت حضيضاً كما يشرح الفيلم وأكثر، فهو بعد أن توقّف الجمهور عن مشاهدة أفلامه (أشهرها لليوم «رحلة إلى القمر») وجد نفسه لا يستطيع العمل، وما لبث أن أغلق الاستديو الذي بناه، وأشهر إفلاس الشركة التي أنشأها. حزن وغضب وحرق تصاميمه بينما تكفّلت صناعات أخرى بحرق أفلامه المصوّرة لتحويلها إلى كيماويات تستخدم في صنع الأحذية. هناك لقطة لنعلين نسائيين يطرقان رصيف المحطّة. أفلام ميليس تكمن في تلك النعال.
ليس هناك من هو أفضل من مارتن سكورسيزي لتحقيق فيلم عن السينما. هو مثقّف يعرف كل شيء عن ظهر قلب، وهو، بالإضافة، راع ومروّج لعمليات ترميم الكلاسيكيات حول العالم. هو يعرف سينما ويعرف ميلييس وكل أولئك الرجال الذين صنعوا السينما. سكورسيزي يحب السينما الأولى ويغرف منها في أفلامه، دائماً لكنه هذه المرّة يصنع فيلمه عنها. يصنع فيلماً حزيناً عنها. يكاد يبكيها. بل هو يفعل ذلك موقناً، كما يقول في الفيلم "النهايات السعيدة هي ملك الأفلام"، أما الحياة ذاتها فنهاياتها حزينة حزن ميلييس على تاريخه المندثر وحزن سكورسيزي لزمن ولّى ولن يعود.
المفارقة التي ستبقى خالدة هنا هو أن سكورسيزي يستخدم تقنية الأبعاد الثلاثة لتقديم حكاية عصر ما قبل الألوان والشاشة العريضة (ولو أن بعض الأفلام في العقدين الأول والثاني من القرن الماضي لُوّنت باليد). من ناحية يبدو هذا القرار غريباً ومتناقضاً، لكن هل هناك من وسيلة أفضل لجذب الجيل المقبل لحكايات الأمس وعصر السينما الصافية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © Mohammed Rouda 2008- 2012
0 comments:
Post a Comment