أفلام مهرجان برلين السينمائي الدولي


Year 4. Issue 114 
 Number of films reviewed till now: 297 | No. of films reviewed this year: 12


مقهى "فيلم ريدر"
 القطن يأتي إلى هارلم  Cotton Comes to Harlem

في النصف الثاني من الستينات وحتى منتصف السبعينات شهدت هوليوود فورة من الأفلام التي سُمّيت بـالسينما الإستهلاكية السوداء: أفلام أكشن بوليسية (في الغالب) يقودها أبطال سود (أفرو- أميركيين) عوض البطولة البيضاء. أيامها كانت الولايات المتحدة تمر في خضم متغيّرات مهمّة على صعيد حركة تحرر السود من العنصرية البيضاء والسينما كانت رائدة في رصد هذا التحرر. الآن عوض البطل الأبيض الذي يتصرّف كمحب للسود، لم لا يتم تقديم بطل أسود بالمرّة.
نتيجة ذلك سيل من الأفلام التي تستحق الإستعراض ليس لقيم معظمها الفنية بل لتشكيلها تياراً لا يستهان به في تلك الفترة من التاريخ، وما علق بهذا التيّار من تطوّرات. وأحد هذه الأفلام كان «القطن يأتي إلى هارلم»، والعنوان يرمز إلى حقول القطن التي عمل فيها مئات ألوف السود من أيام العبودية وحتى تلك الفترة. وهو من بين الأفضل من أفلام هذا التيّار. أخرجه الممثل المعروف (حينها) أوسي ديفيز كأول عمل له وراء الكاميرا ويتحدّث عن سرقة تقوم بها عصابة يتصدّى لها التحريّان رايموند سانت جاك وغودفري كامبردج. لكن العصابة تضيع المال حينما يسقط من شاحنة ويقع بين يدي رجل يعيش في أرض مستخدمة كمزبلة. وما هي الا مسألة وقت قبل أن تتطوّر الأحداث إلى معارك بين شتّى الفرقاء (بمن فيهم المافيا الإيطالية) بحثاً عن ذلك المال. 
ما ميّز هذا الفيلم عن سواه من "الأفلام الإستهلاكية السوداء" هو أنه انتقل من تلك الأفلام التي عبّرت عن غضبها تجاه العنصريين البيض (جاعلة منهم مجرمين شرسين كإنتقام لقيام هوليوود الأولى بتصوير السود أشراراً او أغبياء) إلى وضع يقرأه اجتماعياً على وضع صحيح وهو أن هناك أخياراً وأشراراً من كل لون. صحيح أن العنصرية مُلاحظة في الفيلم، لكنها ملاحظة كأمر واقعي وليس كمناسبة سياسية.
 بطلا الفيلم ممثلان معروفان بالنسبة لتلك الفترة ولو أن كامبردج مات بعد فترة غير بعيدة. شخصيّتيهما استفادت من المعالجة الكلّية فهما أيضاً ليسا كاملين ولديهما الكثير من الإحباطات الخاصة ما يتيح الفرصة لعمل ساخر من دون أن ينتقص من قيمة الموضوع.


The Flowers of War 
**
"هذه الزهور لا رائحة لها"


بعد أن نشأ وزميله تشن كايغي في أحضان السينما المنتقدة للنظام الصيني في الثمانينات، وتعرّضا إلى المنع حيناً والى التهديد بالسجن حيناً آخر، قرر ييمو ترك السلاح والمضي في سينما بلا متاعب. دخل سينما الفانتازيا القتالية: سيوف وخناجر وسهام وطيران في الفضاء وحروب قرون ما قبل السُلطات الشيوعية و… من دون إسقاطات.  
"زهور الحرب" هو فيلم درامي مأخوذ عن كتاب مأخوذ بدوره عن حكايات يُقال أنها حقيقية وربما كانت. نحن في مدينة نانكينغ سنة 1937 التي غزتها القوات اليابانية واحتلّتها. هناك أميركي مغامر (كرستيان بايل) يعيش هناك ويدّعي أنه قسيس وكل همّه السطو على مال الكنيسة التي تقع الحرب حولها. لا يجد المال لكنه يجد الشراب وفوق ذلك يجد نفسه في وسط وضع لم يكن يحسبه: الدير فيه ثلاثة عشر فتاة من الطالبات المحافظات وبعد قليل هناك إثنا عشر فتاة من نساء الليل اللواتي يهربن من جحيم المعارك ويدخلن الدير للإحتماء به. طبعاً لا يريد الوصول إلى الفتيات المتديّنات لكنه لا يمانع الإختلاط مع بعض نساء المتعة. هذا لا يقع لأن الأميركي يفيق على وقع الجنود اليابانيين وهم يقتحمون الدير. نساء الليل يحسن الإختباء تحت الأرض ونساء الدير يركضن في كل إتجاه محاولات الهرب من الجنود الذين عزموا على النيل منهن. هنا يصرخ الرجل: "أنتم أناس شرفاء فتصرّفوا كشرفاء"، لكن ذلك الصوت الشجاع يمضي مثل طلقة في الهواء. الذي ينقذ الموقف (بعد هرج ومرج شديدين) هو ذلك المحارب الصيني المختفي في المبني المهدّم الكامن في المقابل. رصاصاته تصيب مقتلاً جندياً، فيتنادى الجنود ويتركون الدير ويهرعون إلى الشارع باحثين عن "العدو". لكنه بالمرصاد ويطلق رصاصاته على أهدافها الصحيحة. أشلاء الجنود اليابانيين تتطاير في الجو، كل قليل. فقد رتّب الأمر على ذلك. عرف أين يضع المتفجّرات وكيف يُصيبها ليفجّرها. وحتى حين يُـحاصر ويُـقتل كان خطط ليربط نفسه بعبوّات كبيرة تأتي على من بقي من تلك الفرقة. تتساءل وأنت ترى ذلك إذا كان كل المطلوب لدحر الإحتلال الياباني آنذاك  نصف دزينة من أمثاله. 
لكن الفيلم لا يتصرّف كخيال جانح في طريقة توضيبه المشاهد القتالية وتنفيذها على غرار ما نشاهده من أفلام السوبر هيرو، بل أن جنوحه بعيداً عن الحقيقة يوصم كل المشاهد الأخرى. فجأة هناك وقت لإشعال مئتي شمعة لأن ذلك سيخلق جوّاً لمشهد الفتيات وهن يسرن في خط واحد يستعرضن ملابسهن الجديدة. فجأة هناك ضوء النهار ساطع كما لو أن الشمس مباشرة خارج البيت. كل ذلك وسواه لكي يصنع ييمو لقطة جمالية تشبه الصحون الملوّنة التي تُباع في الدكاكين التراثية الرخيصة. والرخص إسم مناسب لشرح الكيفية التي يُعامل بها المخرج اليابانيين: نعم كانوا محتلّين عنيفين ونعم اغتصبوا وقتلوا ومثّلوا… صحيح، لكن ما يجب أن يأخذه المخرج من كل ذلك هو الوضع المؤلم نفسه وليس الرغبة في التسلية البصرية عبره. ييمو كان عليه أن يشاهد فيلم البولندي أندريه ڤايدا الرائع "كاتين" حول المذبحة الروسية للضباط والعساكر اليابانيين في الحرب العالمية الثانية حين قام الجيش الستاليني (من دون سبب معلوم سوى صدور أوامر من ستالين) بتجميع حلفائهم البولنديين وتنفيذ حكم الإعدام بألوف منهم. لم يسق المخرج البولندي ذلك على سبيل الإستعراض المبهر والسينما البطولية ولا ولج العواطف المبثورة كالدموع ليبيكينا على الضحايا، كما يفعل العبقري ييمو في الثلث الأخير من الفيلم، بل أمّ موضوعه بجدّية وخلص منه إلى إثارة رد فعل عقلاني مدروس يعتمد قليلاً على العاطفة وكثيراً على المعرفة الإنسانية.
كرستيان بايل ممثل جيّد لكنه مبعثر بدوره في هذا الجهد. الشخصية المكتوبة تبدو مترجمة من تلك النمطيات التي أدّاها غاري كوبر وهمفري بوغارت وروبرت ميتشوم ولي مارفن من قبل: الأميركي الذي يمكن أن تشتريه في أي أزمة ولو بحجم الحرب لأنه لا يُـقيم وزناً للأخلاقيات والتقاليد او المباديء الإنسانية…. هذا بالطبع تمهيداً لتغيّر حاسم بموقفه ينبع عن وضع مستجد.  لا الطريقة التي يؤدي بها بايل الشخصية، ولا الدور كما كُتب قادرين على تعميقها قبل وبعد ذلك الإنتقال من المغامر إلى الإنساني الذي يكاد يغرق الصالة دموعاً وهو يحاول مساعدة الصينيات على الهرب.  حتى الحوار مفبرك مع استخدام مفردات نعلم أنها لم تكن واردة كتعابير في ذلك الحين. وفي وقت لا ينفي أحد فيه أن الجيش الياباني قتل مئات الألوف (أفلام صينية سابقة ذكرت 200,000 ألف ضحية، ثم أخرى قالت أن الضحايا أكثر من هذا الرقم، وهذا الفيلم يقول أنها أكثر من 300,000 ضحية) لكن لأجل هؤلاء الضحايا قبل سواهم، ألم يكن الأمر يستحق فيلماً جيّداً وبعيد عن استنزاف العواطف على هذا النحو؟

 Ceasar Must Die
 ****
"تحفة إيطالية صغيرة تحت سماء شكسبير"


الأخوان باولو وڤيتوريو تاڤياني تجربة سينمائية مثيرة للتأمل وعلى قدر كبير من الرغبة في صياغة الفيلم الفني غير المتهادن. أعمالهما، منذ منتصف السبعينات، أيام «أب وراعي» و«ليلة النجوم المنطلقة» و«صباح الخير، بابل»، تشهد بالرغبة في عدم التضحية بأي شيء يمكن أن يهدر قيمة الصياغة الأسلوبية والفنية التي يقومان بها. لا ينتج عن ذلك أفلام صعبة ولا أعمال متساوية دائماً، لكن الناتج عن سينما خاصّة بهما تُحترم لرغباتها ولجودتها ولجدّيّـتها في الوقت ذاته.
فيلمهما الأول منذ خمس سنوات (حين تم عرض «مزرعة الطيور» في مهرجان برلين عرضاً خاصّـاً سنة 2007) عنوانه «سيزار يجب أن يموت» وهو بحق عودة حميدة. عمل يستوعب جوانب عديدة تمتد من الواقع إلى التاريخ. من سجناء اليوم إلى سجناء الزمن. من كيف تعبّر عن نفسك سينمائياً إلى كيف تعبّر عنها مسرحياً في الوقت ذاته. كل ذلك تحت سماء أشهر الكتّاب وأكثرهم قدرة على إثارة الحس بالمأساة والدراما وليام شكسبير.
في العام الماضي، أمضى الأخوين تاڤياني ستّة أشهر في سجن ذا مستوى أمني شديد، إذ يضم بعض عتاة الجريمة ومرتكبيها، للقيام بتحضيرات لتصوير فيلم مأخوذ من مسرحية وليام شكسبير «جوليوس سيزر» يقوم ببطولته سجناء فعليين. هذا الأمر تطلّب اختيار السجناء المناسبين بعد إجراء اختبارات ثم تركهم يجولون في أرض غريبة الا من حيث رغبتهم الحارّة في إجادة لعب شخصيات المسرحية الخالدة. «حتى أنت يا بروتوس» تأتي في سياق إدائي درامي خالص تماماً كحال الجملة المعروفة حين يقوم بها ممثلون محترفون. كل ما نراه من قِبل ممثلين غير محترفين وجدوا أمامهم فرصة للظهور في فيلم سينمائي قائم على مسرحية يقومون هم بتمثيلها يكشف عن ذلك الإنسان المتخفّي في الداخل وتحت سنوات حكم تتراوح بين الخمسة عشر سنة والمؤبّد. لا شيء كثير عن خلفيّاتهم. الفيلم ليس تسجيلياً على الإطلاق رغم أن منحاه قد يخدع، فهو يتابع اختيارات مخرج ما (ليس أحد الشقيقين) للذين سيقومون بتمثيل الشخصيات الشهيرة (جوليوس سيزار، بروتو، لوكيو، سينا، ميتالو الخ…) ثم يصوّر كيف يلتحمون مع الأدوار ويؤدّونها. هناك، على نحو جلي، بناءاً درامياً من المخرجين تاڤياني يتم العمل بمنواله. الفيلم بذلك هو فيلم حول مسرحية يتم تقديمها. وهو يبدأ بفصلها الختامي (بروتوس يسأل رفاقه أن يقتلوه) بالألوان. ثم يعود إلى البداية ويستمر بالأبيض والأسود حتى النهاية التي شاهدناها ومشاهد قليلة بعدها أيضاً. في أحد هذه المشاهد يقول الممثل الذي أدّى جوليوس سيزار (جيوفاني أركوري) كلمته التي تحفر لنفسها وجوداً جوهرياً في الفيلم وفي البال: "منذ أن اكتشفت الفن تحوّلت هذه الزنزانة إلى سجن". يقول ذلك وهو يعلم أنه في سجن، لكنه لم يشعر به على هذا النحو الضيّق الا من بعد أن وجد نفسه ينتقل من الذات الخاصّة به إلى ذات أخرى بعيدة. بذلك فإن «سيزار يجب أن يموت» يصبح رمزاً لنقلة عبر الزمن، وتجربة فريدة منحت معنى جديداً للحياة، كما هو ممارسة شكسبيرية الذي لا زال أكثر المؤلّفين شهرة وعرضة لاقتباسات السينما.
في الحقيقة الفيلم من الإنصهار النوعي والفني الكامل بين تلك العوالم بحيث ينفرد بعيداً عن كل التجارب المشابهة من قبل. 

   My Brother the Devil
***
"مخرجة مصرية على خطى عالمية"

الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة سالي الحسيني هو إعلان عن ولادة موهبة سينمائية جديدة تنجز فيلماً صعباً كان بمقدوره السقوط في أي لحظة. ليس أنه لا يسقط مطلقاً، لكن ما ينقذه نوعاً هو أنه يتطوّر خلال سرده  منتقلاً من وضع إلى آخر بحيوية ونشاط ومن دون أن يلهث بحثاً عن نهاية. ولو أن المخرجة وجدت حين كتابة الفيلم مخارج أفضل لنهايتها لأنجزت وضعاً أفضل بقليل مما حققته. هذا القول لا يعني أننا نتحدث عن تحفة سينمائية، بل هو فيلم مصنوع، ضمن الأسلوب المختار له، جيّداً.
من بدايته يقحمنا الفيلم في شخصيّتيه الرئيسيّتين في بيئتهما الإجتماعية الخاصّـة، كذلك بأسلوب مخرجته البصري القائم على كاميرا محمولة يديرها ديفيد راديكير الآتي، كالمخرجة، من حقل الأفلام القصيرة، ببراعة يجعلك تغفر خطاياها في الأفلام الأخرى. الشخصيّـتان الرئيسيّتان هما شقيقان من أب وأم مصرية (الأم في الفيلم تتحدّث العربية فقط، والأب الإنكليزية فقط!). راشد (جيمس فلويد) يعمل في عصابة تبيع المخدّرات في أحد أحياء لندن الفقيرة وذات الغالبية من المهاجرين الأفريقيين، وشقيقه الأصغر محمد (او مو كما يطلق الفيلم عليه ويؤديه المصري فادي السيد) ينظر إليه متمنياً أن يصبح مثله. لكن راشد يدرك هذا الإعجاب وما قد يجلبه على مستقبل شقيقه ويحاول تجنيبه ذلك المصير. الأمور تتعقّد وتتطوّر صوب الأسوأ عندما تقع معركة بين العصابة التي ينتمي راشد إليها وبين عصابة منافسة يسفر عنها مقتل صديق راشد المقرّب. بعد أن يفشل راشد في الأخذ بالثأر يبدأ بالتفكير في ترك العصابة بناءاً على تعرّفه على مصوّر أسمه سيّد (سعيد تاجماوي). العلاقة بين راشد وسعيد، وعلى نحو غير مقنع، تنتقل سريعاً إلى علاقة شاذّة يكتشفها محمد فتصدمه ويخسر ثقته بشقيقه ويقنع العصابة في العمل معها. هذا لحين إنقاذه لشقيقه راشد في آخر لحظة حينما يكتشف أن العصابة ذاتها تنوي القضاء عليه. هذا الفاصل يأتي متأخراً في الفيلم إذ يقع في الدقائق العشر الأخيرة. بعد ذلك يبحث الفيلم عن نهاية ويريد لها أن تعظ. ليس وعظاً غليظاً لكنه يبقى وعظاً ضمن نهاية سعيدة رغم أن الشريحة الإجتماعية التي تدور فيها الأحداث لا تتغيّر.
معايشة المخرجة للبيئة الإجتماعية رائعة. هي (المولودة في بريطانيا التي عاشت في القاهرة لفترات طويلة) تدخل البيت والشارع والحي في سياق متواصل من فتح العين على التفاصيل الثرية لأشكال الحياة في كل من هذه الأجزاء. تتعامل مع الشخصيات في دراية جيّدة. ولديها رغبة في استخدام الكاميرا لإثراء الحس بالمكان أكثر من استخدامها كعنصر لبنية فنّية خالصة. هذا هو المقصود بأن الفيلم ينجز جيّداً ضمن الأسلوب المختار له.
للمخرجة قدرة جيّدة على إدارة ممثليها. الشقيقان جيّدان في دوريهما وسعيد تاجماوي يستخدم خبرته في التعامل مع الكاميرا مطلقاً أداءاً متوقّعاً. لكن الباقين على موقع واحد من الأداء. عاكسون لشخصياتهم جيّداً لكن من دون خصائص مميّزة. ما يقدّمونه للفيلم هو إطار مقنع لحياة في الغيتو المحلّي. كان على المخرجة العناية أكثر بربط الشخصيات بأماكنها وصولاً لحديث شامل عن المجتمع الذي يحوي هذه الشريحة، لكن حرصها على شخصيات صادقة يغطّي الكثير من ذلك النقص وإن لا يعدمه تماماً.

Captive
*
"مخرج فيليبيني يوعز بأن
الإسلام ضد المسيحية"

في هذا الفيلم، الذي بناه المخرج الفيليبني برلانتي مندوزا حول وقائع انطلقت سنة 2001 عندما قامت مجموعة تنتمي إلى جماعة أبوسيّاف التي تطالب باستقلال منطقتها من الفيليبين، بخطف نحو عشرين مدنياً من منتجع بينهم مبشّرين مسيحيين. من بين هؤلاء إمرأة فرنسية أسمها تيريز (إزابل أوبير) وغربيين آخرين لجانب مجموعة من الفيليبينيين. يتم نقل هؤلاء عبر مركب كبير ليومين تتساءل خلالهما كيف تستطيع مجموعة مسلّحة في منطقة متنازع عليها تشهد حروب إبادة بين طرفي "الثوار" والمليشيات الحكومية أن تبحر يومين بإتجاه ذلك المكان وتخطف من فيه ثم تعود وكل ما يعترضها مركب يسأل إذا ما كان كل شيء على ما يرام فترد عليه تيريز بالإيجاب فينصرف. لكن  المرء منّا لم يكن، والحمد لله، على ذلك المركب وعليه أن يوافق على أن الفيلم، إلى الآن، إنما يتحدّث عن وقائع.لكن حينما يصل المركب إلى الشاطيء ويدخل مع من كان عليه في رحلة على الأقدام في الأدغال الوعرة تستمر لنحو سنة لابد أن يزداد ذلك السؤال إلحاحاً قبل أن ينقلب إلى آخر أكثر أهمية: ما حاجة المشاهد إلى فيلم يرصد حادثة؟  نعم هناك من يقول أن على السينما واجبات، لكن إذا ما تم تقديم فيلم يقصد أن يتمحور حول وضع سياسي او عسكري، الا يجب عليه أن يطرح تحليلاً للواقع ولماذا يحدث ما يحدث؟ سبيل «مخطوفون» هو تقسيم الفيلم إلى أخيار وأشرار. طبعاً لا غُبار على أن الأخيار هم المخطوفين، وأن الخطف جريمة وأي عمل إرهابي هو ذروة الجريمة، لكن ماذا عن الأسباب والموجبات؟ بالكاد هناك نقد لتقاعس الحكومة عن الإنقاذ السريع وتقاعس دول الغرب عن الضغط على الحكومة الفيليبينية للتدخل. حين تصل مراسلة تلفزيونية إلى ما يفترض أن يكون موقعاً سرّياً لتنقل مقابلات يستنجد فيها من بقي حيّاً بالسفارات الغربية للتدخل لدى الحكومة الفيليبينية تتساءل كيف تصل الصحافية التلفزيونية ولا يصل الجنود لإطلاق سراح المخطوفين. ولا يلبث الفيلم أن يسأل هذا السؤال من دون أن يجيب عنه. صحيح أنه في النهاية يصوّر نهاية رجال أبوسيّاف لكن ذلك تحصيلاً حاصلاً لما وقع خالياً من إظهار مسببات او موجبات.
لكن المشكلة الأساسية هنا هو القصد بالأذى. المخرج يريد تصوير شيئين أساسيين عبر سرد حكاية واقعة: الإسلام ضد المسيحية وهو بذلك تخلّف عقائدي ضد الحضارة، والثاني أن هناك ازدواجية معايير فهو "يدّعي" شيئاً (كعدم المساس بالأجانب واحترام الفرد الآخر وممارسة الشعائر الدينية ثم القتل بعدها) ليتصرّف على نحو مناف بعدها. 
هناك مشاهدون كانوا يضحكون ساخرين من ذلك دلالة على أنهم شاركوا المخرج وجهة نظره الجانحة، لكن هناك كثيرون من الغربيين الذين اعتبروا ما شاهدوه عملاً سخيفاً. الناقدة الألمانية المخضرمة التي جلست على الكرسي المجاور نهضت بعد أقل من ساعة وغادرت قائلة: "لقد اكتفيت"
لكن من دون ولوج المزيد من التفاصيل حول معاملة المخرج للإسلام فإن «مخطوفون» يفتقد الضرورة. بمجرّد أن يقوم مخرج بعملية نقل لواقع ما من دون منحه تفسيراً، سبباً، تحليلاً او قراءة ذاتية، فإنه يهدر وقته ووقت مشاهديه فيما لا يعود على فيلمه بالنفع. 


 *** Aujourd'hui
"رجل حزين في مدينة أكثر حزناً"

ثاني فيلم عرضته المسابقة هو "اليوم" المقدّم بإسم السنغال وفرنسا (عادة في هذه الحالات فإن التمويل الفعلي فرنسي) وهو للمخرج ألان غوميز المولود في باريس من جذور أفريقية. في أفلامه عموماً تحدّث المخرج عن شخصيات تتهاوى أمام حالات هاربة من أي ضوابط. أبطاله، كما في فيلمه القصير «أحمد» (2006) لا تجد من ينقذها من وضع ليس من صنعها، وإن كان فليس من صنعها وحدها. هنا في هذا الفيلم الروائي الطويل نجد بطله ساتسي (الأميركي ساوول وليامز) يستيقظ صباح أحد الأيام. عيناه مثبّتـتـان على الكاميرا لبعض الوقت. ينهض من فراشه. يرتدي قميصاً أحمر ثم يخرج من غرفته لغرف البيت الأخرى المزدحمة بمن جاء يرغب في توديعه. هناك والدته وشقيقه وأقارب وجيران والمناحة قائمة. لا نعرف ما الذي أوعز بأن سانسي سيموت، لكن الجميع يعامله على هذا الأساس. في باحة البيت يجلس محاطاً بالجالسين وكل لديه ما يقوله. الخطب تبدأ بالتطنيب ("أنت قلبي" تقول له والدته) ثم تنتهي بمن يهاجمه لأنه «أناني»، "متفرّد"، "لا يفكّر الا في نفسه". بعد ذلك (سبع دقائق من الفيلم) يخرج من البيت إلى الشارع فإذا بجو مختلف آخر: شبّان البلدة وشابّاتها، شيوخها وأطفالها، يخرجون فرحين به. ليس لنا علم إذا ما كانوا يعلمون أن الرجل قرر أنه سيموت هذا اليوم أم لا. فإذا كانوا لم فرحهم؟ 
في الحقيقة هناك اسئلة تطل برؤوسها طوال الفيلم. المخرج لا يكترث لتعريفنا بتلك الشخصيات التي يلتقي بها ولماذا اختار بطله الإلتقاء بها دون سواها. طبعاً نعرف أنه أمام عشيقته ثم لاحقاً ما يعود إلى زوجته لكن الرحلة لا تبدو مترابطة او مسنودة بدعم درامي كفيل بجعل السرد حيوياً. والأربعون دقيقة الأولى يشوبها ذلك الشعور بأن الفيلم إذا ما استمر على منواله المراقب من دون فحوى جيّد، فإنه في أفضل حالاته سيكون هدراً للوقت. لكن نصف الساعة الأخيرة هي أفضل ما فيه. الشعور بالوحدة وسط ظروف الحياة المكفهرّة، وصراخ الشارع وفوضى الإقتتال يوغل فيه ويتركه حزيناً كما بدأ. بعد ذلك، حين يؤم منزل عائلته يلتقط المخرج شواهد أخرى على وضع بطله. لقد ترك العائلة وهاجر إلى الولايات المتحدة طويلاً قبل أن يعود. لا عجب أن زوجته تتصرّف حياله ببرود شديد، وذلك حتى قبل ساعات قليلة من موته مستريحاً على كرسي في باحة البيت.
هذه المراحل من الحياة التي تمضي في يوم واحد، وذلك التطوّر الذي يضيف بعض الثراء للفيلم ليست كافية لغض النظر عن فقدان الفيلم لعناصر كان من شأنها، لو توفّرت، أن تحوّل شخصية تبدو تائهة لشخصية تبدو تائهة لأسباب أقوى. مع كثرة الاسئلة التي لا جواب لها، فإن العمل يدخل في حلقة من الألغاز وتكرار في المواقف غير المفهومة. 
عبر تكديس تلك المشاهد المتناولة ببطء والمنتقلة عبر نماذج من الحالات والشخصيات المحيطة ببطل الفيلم، ينجح الفيلم في النهاية في تجسيد أزمة السنغالي مع نفسه وأزمة في الخلفية للمجتمع أيضاً. المخرج على قدر من الذكاء يمكّنه من عدم تسديد وجهات نظر مباشرة لأي منهما. بطله لن ينتحر لكنه يدرك أنه سيموت. وطنه لا ينتحر لكنه يعيش صناعياً وكلاهما يحيا بحزن وببطء وهذا كل ما طلبه المخرج غوميز من فيلمه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved ©  Mohammed Rouda 2008- 2012

0 comments: