Lincoln | Jack Reacher | Trilogy: The Weeping Meadow


 Lincoln   ***            


سبيلبرغ يعصر لينكولن على الآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لينكولن
إخراج: ستيفن سبيلبرغ | تمثيل:  دانيال داي-لويس، تومي لي جونز، سالي فيلد.
سيرة حياة | الولايات المتحدة 2012

لنضع الأمور في نصابها الحقيقي أوّلاً: إبراهام لينكولن، الرئيس السادس عشر في تاريخ الولايات المتحدة، لم يؤمن بالمساواة المطلقة بين البيض والسود، فهو كان يعتقد بأن البيض هم الجنس الأفضل، بل آمن بالمساواة حيال القانون. أي قانونياً يحق للأسود ما يحق للأبيض، لكنه يبقى أسود قبل أن يكون أي شيء آخر. لكن هذا ربما كان كافياً كبداية. وفي الفيلم يعكس حكمة حين يقول: "أفكّـر في مئتي سنة من الآن حين يبلغ عدد السود مئات الملايين»… وبعد نظر حين يقول: "أميركا أصبحت دولة رائدة ينظر إليها العالم. لا يمكن السماح ببقاء العنصرية قائمة".
الحقيقة أن لا أحد كان حاضراً إجتماعات الرئيس التي تحدّث فيها عن هذا الموضوع ولا يزال حيّـاً إلى اليوم لكي يتأكد لنا أن هذا ما قاله بالفعل. لكن هناك رسائل محفوظة تناقض هذا الكلام من بينها واحدة مكتوبة سنة 1862 يقول فيها أن مهمّـته الرئيسية ليست تحرير العبيد بل إنهاء الحرب الأهلية: "إذا كنت أستطيع إنهاء الحرب من دون تحرير أي عبد، سأفعل ذلك".
لكن الحقيقة يجب أن تقال: لينكولن في سطر آخر من رسالته كتب: "لا أقصد (بذلك) أي تعديل لرغبتي المعلنة كثيراً من أن كل الناس في كل مكان يمكن لهم أن يكونوا أحراراً".
لينكولن حسب ستيفن سبيلبرغ ليس لينكولن كاملاً. ليس سيرة حياة، بل سيرة حقبة محددة بالأسابيع الأخيرة التي سبقت التصويت على قراره في الكونغرس الأميركي على إصدار قانون يحرر السود من العبودية، ولا هو كامل بمعالجته للشخصية بموضوعية. إنه دراما معالجة بقدر كبير من التأمّـل المنحاز للرجل وإنحيازه إختياري يجعله في النهاية مصرّاً على تقديم الجوانب المناسبة من حياة وأفكار الرئيس. مناسبة لمن؟ لسبيلبرغ ومشروعه هذا لأن الموضوعية ستلخبط صياغة جمالية وعاطفية لا يريد لها أن تضطرب أو تهتز.
هو أيضاً فيلم مهم رغم ما سبق. بمجرد أن تنظر إليه من وجهة نظر تلك الصياغة الجمالية، تجد نفسك في تقدير حقيقي للجهد المبذول في خانات الفيلم التشكيلية والتصميمية: للتصوير بكل جوانبه، للتشكيل الضوئي (ولو أن فبركته واضحة في كذا مشهد)، لعناصره الإنتاجية المتوفّرة تلك التي كان يمكن لها أن ستصنع عملاً مسطّـحاً ولتفاصيله التصميمية وكل التزاوج بينها لخلق النظرة (The Look) المقصودة بها إستئصال الزمن بخصوصيّـته ووضعه أمام عين المشاهد. 
«لينكولن» حول الرئيس الأميركي  قبل بضعة أسابيع من التئام الكونغرس، بحزبيه التقليديين الجمهوري والديمقراطي، لمناقشة رغبة الرئيس في إصدار تشريع يمنح الحريّة للأفرو- أميركيين. يعايش تباين وجهات النظر والتحذيرات من أن صدور القرار قد يؤدي إلى استمرار الحرب الأهلية غير البعيدة عن واشنطن دي سي. 
يبدأ الفيلم بفصل من المعارك التي التحم فيها جنود سود وجنود بيض يتقاتلون بالسلاح الأبيض خلال موقعة من مواقع الحرب الأهلية. السود كانوا مجنّدين في الجيش الشمالي (الإتحادي) والبيض هم من الجيش الجنوبي (الكونفدرالي). والمشهد يكاد يذكّر ببداية فيلم سبيلبرغ «إنقاذ المجنّـد رايان»  بإستثناء أن المعركة هنا تنتهي بعد نحو دقيقة لنلتقي بالرئيس وهو يجلس أمام عدد من الجنود "الملوّنين"، كما كان التعبير آنذاك، ليتحدّث معهم. لا نعرف إذا كان ذلك حدث فعلاً أو لا، لكن هذا المشهد (المعتم إختياراً) هو أحد المشاهد الخارجية القليلة التي في الفيلم، فباقي المشاهد (في معظمها) تحدث في عتمة الأماكن الداخلية: مكتب الرئيس، قاعة الرئيس في منزله، قاعة الكونغرس، داخل عربة الرئيس). وإذ يستمر الفيلم في تناوله الأيام المؤدية إلى تاريخ إنعقاد الجلسة للتصويت على تشريع لينكولن ذاك، يمر في سلسلة من المواقف (وليس الأحداث لأن الفيلم خالياً منها عموماً) التي تتناول لقاءات لينكولن بأعوانه من الحزب الجمهوري كما بسياسيين مختلفين بعضهم مع والآخر ضد صدور ذلك القرار. ويحاول السيناريو جهده صنع شيء مهم من حقيقة أن لينكولن ووجه أولاً بنحو عشرين ممتنع أو معارض لقراره لكنه بذل جهداً كبيراً لكسب هذه الأصوات. يوحي الفيلم بأن الرئيس لم يخالف القانون بشرائه أصوات مؤيديه ويمنحه دفاعاً عن وسائله علماً بأن بعض المراجع ذكرت أنه رشى واشترى ذمماً في سبيل الفوز بغالبية لصالح قراره.
مهما يكن، يضعنا كل ذلك أمام فيلم هو في صلبه عملية إنتظار طويلة. هناك إنتظار لكي تتبلور الأمور وإنتظار لتمحيص الوقائع وإنتظار لوصول المندوبين مع أخبارهم والإنتظار الأكبر لعقد جلسة الكونغرس للبحث فيما ندرك جميعاً أنه صدر فعلاً.
فترات الإنتظار تتواصل حتى تسود الفيلم بأسره مشهداً بعد مشهد وفصلاً بعد فصل. هذا يحدث لأن سيناريو توني كوشنر قائم عليها. إنه بصدد الحديث عن ذلك القرار التاريخي ومن ناحية مبدأية على الفصل الخاص بذلك القرار أن يأتي في نهايات الفيلم لأنه ذروته. هذا ليس خطأ. الخطأ هو أن ما قبل ذلك اليوم العصيب لا يوجد ما يكفي من أحداث ما يجعل أرض الفيلم مسطّـحة على الدوام من مطلعه حتى ذلك الفصل… الذي حين يصل إلى الشاشة يبدو كما لو كان الهم الأول للفيلم هو إعطاء درس في التاريخ عوض البحث في جوانب غير معلومة أو معالجة الذروة بما يناسبها من تفعيل تشويقي. منهج الفيلم هو إنتظار  تصويت الكونغرس على مشروعه تحرير العبيد. والجميع، الرئيس وأعوان الرئيس ومشاهدو الرئيس، ينتظرون معه. 

إذ يختار سبيلبرغ الإنتقال إلى مشاهد التحضير للقرار التي تقع إما في بيت الرئيس أو في مقر الكونغرس آنذاك، تتوالى المَـشاهد بصيغة تقريرية مثيرة للضجر. هذا الفيلم، أراد أو لم يرد، يتحوّل إلى "فلفشة" في صفحات التاريخ من حيث لا تريده أن يكون. صحيح أنها صفحات مختارة لكي تلائم المنشود في الفيلم، لكنها صفحات من النوع الذي يساعد على النوم وليس على الإزدياد. 
هناك محطّـات معهودة للمخرج فهو يصوّر لينكولن كما يصوّر سبيلبرغ كل شخصية أب في أفلامه متدفقة الحنان. ها هو ذلك المشهد الطويل الذي ترقب فيه كاميرا يانوش كامينسكي  (يصر المخرج على الإستعانة به وبالموسيقار جون وليامز في كل أعماله) لينكولن وهو يضع إبنه الصغير على حضنه. علاقة سبيلبرغ بالأبوّة مستمدّة من حياته الخاصّـة وهذا لا بأس به، لكن حشرها لإرضاء رغبته هو البأس ذاته. وهذا يحدث لأن الفيلم لا يتعمّـق (أو حتى يبحث) في الحياة الأسروية للينكولن بل يمررها أفقيا مثل صفحات الأيباد وسبب وجودها عاطفي كحال معالجة سبيلبرغ للرئيس ما يجعل الفيلم أقل دراية وكفاءة من شريط جون فورد القديم (1939) «السيد لينكولن الشاب» Young Mr. Lincoln *** بطولة هنري فوندا.
في مقابل كل ذلك فإن حسنات فيلم سبيلبرغ الفعلية هي محض تشكيلية كما ذكرت. سبيلبرغ يصنع الفيلم المحترم للعين. المشاهد المغزولة بصرياً على نحو جيّـد ويمنح الممثلين حريّاتهم. طبعاً معظمهم هنا يمرون من دون ترك علامة تناسب مقاماتهم. قبل العرض تقرأ أسماء جون هوكس وجاكي إيرل هايلي وتيم بلايك نلسون ويارد هاريس وجيمس سبايدر لكنك لن تستطيع معرفتهم تحت الماكياج ولا هم الفيلم تعريفنا بهم (هذا سلاح ذو حدّين). الممثلون الذين يدركهم المُـشاهد من النظرة الأولى هم بالطبع دانيال داي-لويس (في دور لينكولن) وسالي فيلد (زوجته) وديفيد ستراذن (نائبه وليام سيوورد) وجوزف غوردون- ليفيت (إبنه الأكبر) وتوم لي جونز الذي لا يمكن إخفاءه بصرف النظر عن الدور. هناك أيضاً الممثل المعمّـر هال هولبروك في تشخيص مهيّـأ له. 
دانيال داي-لويس يلبس الدور بإقناع. ليس صعباً عليه التحوّل إلى الشخص على الأقل تبعاً لتفسير إجتهادي، فالتصوير كان بالكاد صوراً فوتوغرافية- وبدائية ونادرة- في القرن التاسع عشر عندما وقعت الحرب الأهلية. وفي حدود ذلك هو إبداعي من درجة بالغة الإحتراف. أما سالي فيلد فهي سالي فيلد مرّة تلو المرّة.
قبل أن ينتهي الفيلم بخمس دقائق هناك المشهد الذي يتحامل لينكولن على نفسه ويمضي صوب المسرحية التي دُعي لحضورها على غير رغبة منه. خادم البيت (الأسود) يقف عند الباب يودّعه بنظراته ولينكولن يمضي في الرواق طويلاً نحو عتمة الخارج. هنا كان على الفيلم أن ينتهي، لكنه أراد أن يكمل لما بعد. صحيح أنه يتجنّـب تصوير مقتله لكن أحداً يرتقي المنصّـة ويصيح بأن لينكولن قُـتل. وهنا أيضاً لا ينتهي الفيلم بل يمضي معيداً لينكولن إلى الحياة في خطبة يقول فيها أن أميركا بحاجة إلى السلام بين محاربيها والعالم كلّـه بحاجة إلى السلام. سبيلبرغ لا يبدو أنه يريد أن يترك لينكولن وشأنه قبل عصره لآخر نقطة!



• DIRECTOR: Steven Spielberg
-----------------------------------------------------------------------
• CAST:  Daniel Day-Lewis, Sally Field, David Strathairn, Joseph Gordon- Levitt, James Spader, Tommy Lee Jones, Hal Holbrook, Tim Blake Nelson.
-----------------------------------------------------------------------
• PRODUCERS: Kathleen Kennedy, Steve Spielberg.
• SCREENPLAY: Tony Kushner.
• NOVEL:  Doris Kearns Goodwin
• CINEMATOGRAPHY:  Janusz Kaminski [Colour- 35 mm].
• EDITOR: Michael Kahn (150 m).
• MUSIC: John Williams 
• PROD. DESIGNER: Rick Carter
• PROD. COMP.: DreamWorks/ Universal/ 20th Century Fox/ Reliance Enter./ Participant Media.




 Trilogy: The Weeping Meadow   **            

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثلاثية: المروج المنتحبة
إخراج: ثيو أنجيليبوليس | تمثيل:ألكسندرا أيديني، نيكوس بورسانيديس، يورغوس أرمينيس، فاسيليس كولوفوس.
دراما تاريخية [الحرب الأهلية/ صعود الفاشية اليونانية] | اليونان/ فرنسا 2004

1. سمات
كل أفلام ثيو انجيلوبولوس تتطلب صبرا طويلا اذ يفتح المخرج صفحات أفلامه بروية مقصودة وأحيانا بأبطأ مما ينبغي. لكن »المرج المنتحب« أكثرها بطأً ورويّة. ما يكوّن البطء ليس حركة الكاميرا ولا المونتاج ولا حتى التصميم المسبق للمشاهد ثم تنفيذها حسبها. ما يكوّن البطء هو المعالجة المذكورة بنواحيها الثلاثة عندما لا يجد المشاهد  في الصورة المنقولة ما يُـثير. عندما لا يكون هناك في المادة المنقولة، في الموضوع الماثل، ما يشغل البال او العين، ما يُـحيل المتابعة الى عملية انتظار هنا تدرك أن ما في بال المخرج لم يتحقق. على ذلك، لا يعني هذا أن المشاهد مصوّرة بجمالية شعرية وروحانية. أن الفيلم لا يملك أبعاداً. ما يعنيه هو أن  الموضوع الماثل قد يكون مهما ضمن معالجة أخرى، لكنه هنا خال من تلك الومضات والأبعاد التي تجيز له ملء ثلاث ساعات من العرض على هذا النحو الرتيب. حكاية المهاجرين اللذين تحابا وتزوّجا ثم نزحا من القرية التي غمرتها المياه وتعرضت لملاحقة الفاشية ثم إنشطرت بسببها وبسبب الحرب الأهلية في الخمسينات معالجة من دون تفاعلاتها وبقليل او نذر من الأبعاد التي كان يمكن تجسيدها. الكاميرا قد تأخذ وقتها لكي تتقدم صوب مشهد مشاة معلقة  على غصن شجرة كبيرة، لكن التجسيد المقصود لا يوازي تكوين المشهد دلالة او عمقا. انه كما لو أن المخرج صرف وقتا طويلا على التصميم وأقل على محاولة معرفة ما اذا كانت المشاهد المُصمّمة مرتبطة بما هو مقصود منها بالفعل.

2. سيناريو
يبدأ الفيلم بواحد من المشاهد الكبيرة المحببة لدى المخرج: جموعا قادمة من الهضاب يتقدمها رجل وزوجته وولده ومعهما فتاة صغيرة التقطها الزوجان يتيمة. السنة هي 1919 والمهاجرون هم يونانيون نازحون من روسيا يبغون العودة الى بلادهم ويصلون الى نهر ثيسالونيكي ويقفون عند الطرف الشمالي منه تحت ستار تعليق مقروء (بصوت المخرج نفسه) يوضح حالتهم ومن هم ثم يخصص العائلة المذكورة بالعناية. حين وصول النازحين الى ضفة النهر ينطلق سبيروس (فاسيليس كولوفوس) بالكلام ناظرا مباشرة الى الكاميرا حيث من المتفرض ايضا ان يكون هناك مستقبل ما على الضفة الأخرى يوجه سبيروس كلامه اليه. يقفز الفيلم  سنوات الى الأمام حيث أسس النازحون قرية نشطة ومزدهرة (بنيت خصيصا في منطقة كركيني) تسرح فوقها الكاميرا (بإدارة اندرياس سينانوس) مصوّرة أناس وحيوانات وبيوتا تتنفس المكان الطبيعي بدعة
إنها نقطة عالية من الفيلم ليس بسبب الكاميرا المنصبّة من بعيد ومن فوق  على القرية، بل عالية أيضا لأنها تشمل حركة كاملة محاكة بتفاصيل ثرية. أمر لن يتكرر الا مرّات قليلة طوال الفيلم. حين يعود المخرج الى شخصياته نجده اختص بالشخصيتين اللتين ستسودان الفيلم بأسره: إيليني (ألكسندرا أيديني) الفتاة اليتيمة وإبن سبيروس (الذي يبقى بلا إسم ويؤديه نيكوس  بورسانيديس) وكلاهما يحبان بعضهما البعض غصباً عن الأب سبيروس الذي كان يطلب الزواج منها (بعد وفاة زوجته خارج أحداث الفيلم المباشرة) ويهربان من القرية التي تنطلق في البحث عنهما (خلال البحث فإن الجميع ينادي إيلينا ولا ينادي إسم الإبن).  ينضم العاشقان الى  فرقة موسيقية يقودها نيكوس (يورغوس أرمينيس) حيث يبرهن الإبن عن عزف من شأنه «جعل الأشجار ترقص» كما يَصف نيكوس لعب الإبن على الأكورديون.
في مشهد يقترن مباشرة بالمسرح الإغريقي ومنفذ بذات الحس التراجيدي- المسرحي يقتحم سبيروس مسرحا مهجورا تحوّل الى مكان سكني للجوّالين والمهاجرين مناديا  ايلينا راجيا منها أن ترد عليه. يعلم أنها تسمعه. يقف على المسرح منفردا (والكاميرا من ورائه) ويتلو ما يوازي  صفحة حوار من السيناريو. بعد ذلك يوزع المخرج   الإداءات الرئيسية بين بعض أفراد الفرقة والعاشقين وبذلك يأخذ من بطولة ايلينا وزوجها مقحما المشاهد في لا مركزية الحدث وشخصيات الفيلم الى أمد بعيد هو أقسى ما يرد على الشاشة من فصول الفيلم كونه قابل للإختزال لو شاء  أنجيلوبولوس ذلك. الفترات الزمنية تتعاقب والفرقة الموسيقية تنقسم على نفسها بسبب ميل بعضهم لسياسة اليمين الفاشي وبقاء الآخرين عرضة لملاحقة السلطة وسجنهم لها. حياة الزوجين، وقد رزقا الآن بتوأمين، تصبح أكثر صعوبة في تلك الفترة فيعودان الى القرية التي نزحا منها حيث يطالعنا مشهد الشاة المعلقة. في الليلة ذاتها يفيض النهر ويغمر القرية ويضطر الزوجان وطفليهما للنجاة على ظهر مركب صغير. مرة أخرى يستعرض المخرج تصاميمه المناظرية الواسعة لمشهد طويل من المراكب وقد حملت أعلاما تتوجه بعيدا تاركة الزوجين على الضفة الأخرىهذا الفصل يليه فصل من التطوّرات السياسية حتى آخر الفيلم. الزوج يقرر تحقيق حلمه القديم والهجرة الى أميركا. والزوجة بعدما تخسره وتمر السنوات وينشأ طفليها يتوجهان لجبهة قتال في الحرب الأهلية اليونانية في أواخر الأربعينات. أحدهما تعود السلطة بجثته. الثاني تجده أمه ميّتا في بيت العائلة القديم الذي لا زال - جزئيا- مطمورا بمياه النهر (في الواقع بحيرة كركيني). الأم هي الوحيدة التي تبقى ناحبة الذكريات والسنون ووحدتها بغياب الزوج في اميركا دون أثر.

3تصميم 
تعلم أن المخرج يدافع عن أسلوب عمل حتى من دون أن يملك، لمعظم الوقت، ما يملأ فراغات المشاهد التي ينفذها، حينما تلحظ أن تصميم المشهد التمثيلي يقوم على الحركة المسرحية الكلاسيكية بكل ثقلها وتتابعها الرتيب. في المشاهد التي نرى فيه ممثلا يقود باقي الممثلين، متكلما او متحركا، تجد باقي الممثلين يتابعونه جميعا بحركة واحدة مجتمعة. الحركة الناتجة عن متابعة الشخص الماثل كيفما تحرك. تلك المشاهد التي تعكس حركة جماعية ما، هي تلك التي لا حوارات فيها والتي صممها المخرج كمشاهد كبيرة. والحوار نفسه هو أقرب الى المونولوغ  منه الى الديالوغ. وبشكل غالب ايضا يثق أنجيلوبولوس بأن مناظره ذات الرمز واصلة. ذلك المشهد المتكرر لشراشف بيضاء منشورة يلوح بها الهواء جميلة كتكوين لكنها خالية كمضمون. جميلة للتعبير عن شيء، لكن لا يبدو أن هناك شيئا تعبّر عنه.
والحال هذه، لا عجب أن التمثيل، باستثناء إداء ألكسندرا أيديني (في بعض مشاهدها الأخيرةويورغوس أرمينيس (في معظم مشاهده) خال من الحياة بدوره. انه من المؤسف كيف أن الطفلين الصغيرين يكادان ينفذان حرفيا تعاليم بدنية من نوع »تتقدم خطوة واحدة وتقف هنا« وشأنهما لا يختلف كثيرا عن شأن الكبار.
المشاهد التي تنجح أكثر من سواها تلك العامة الكبيرة التي تصوّر حالة شاملة كمشهد القرية الأول، ثم مشهدها وقد فاضت المياه من حولها. هنا ينفذ انجيلوبولوس الى أعماله السابقة. يجد المشاهد الرابط الإبداعي بين تلك الأعمال وبين هذه المشاهد المميزة. في سياق الأساليب القائمة على كاميرا التأمل (من أندريه تاركوفسكي وما دون) يقف انجيلوبولوس عادة في موقع متقدم. لكن هذا الفيلم لم يساعده بأي حال. إنه يذكر بقيمته لمن شاهد أعماله السابقة واللاحقة.
لكن المشاهد بأسرها جميلة بصمتها وحزنها وتصميمها كأفكار. ما كان ينقص هو شحنها بعاطفة ما حيال ما يدور كما بشخصيات تثير تلك العاطفة كما بسيناريو يربط حكاياتها على نحو يتفاعل أمام المشاهد وليس بعيداً عنه.



DIRECTOR: Theo Angelopoulos 
-----------------------------------------------------------------------
CAST: Alexandra Aidini (Eleni), Nikos Poursanidis (Son), Yorgos Armenis, Vasilis Kolovos, Eva Kotamanidou, Toula Stathopoulou Zissis, Mihalis Yannatos,  Thalia Argyriou. 
-----------------------------------------------------------------------
SCREENPLAY:Angelopoulos, Tonino Guerra, Petros Markaris, Giorgio Silvagni. 
CINEMATOGRAPHY: Andreas Sinanos (Colour- 35 mm). 
EDITOR: Yorgos Triantafyllou (178m). 
MUSIC: Eleni Karaindrou. 
ART DIRECTOR:  Yorgos Patsas, Kostas Dimitriadis.
-----------------------------------------------------------------------
PRODUCERS: Angelopoulos, Fivi Ekanomopoulos. 
PROD. COMPANY: Theo Anelopoulos/ Greek Film Centre/ Attica Art/ Hellenic Broadcasting Corp/ BAC Films/ Inetermedia Arte [Greece/ France- 2004]. 





نسخة أرشيفية
 Jack Reacher   ****            
مهمّـة مستحيلة أخرى لتوم كروز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاك ريتشر
إخراج: كريستوفر مكواري | تمثيل: توم كروز، روزماند بايك، رتشارد جنكنز.
تشويق بوليسي | الولايات المتحدة 2012

في العام 1997 كتب لي تشايلد أول رواية من بطولة شخصية أسمها جاك ريتشر ومنذ ذلك الحين وضع ستة عشر أو سبعة عشر رواية من بطولة شخصيّته هذه لم أقرأ سوى إثنين منها ليس من بينهما رواية «طلقة واحدة» (التاسعة في السلسلة) التي تم إقتباس هذا الفيلم عنها. لكن المشاهد المتابع والمداوم يدرك أن الرسم الذي اعتمده المؤلّـف للشخصية منسوج من حبّـه لروايات بوليسية سابقة كتلك التي وضعها- وربما على الأخص- رايموند تشاندلر وأسند بطولتها إلى شخصية تحر خاص أسمه فيليب مارلو.
شيء أساسي واحد دال على هذا التأثر هو أن شخصية جاك ريتشر مبنية لتعيش في هذا العصر إنما بمواصفات عصر آخر. عصر لم يكن يستخدم بعد البطاقات المصرفية ولا الهواتف النقّـالة، وهو عصر الأربعينات، تلك التي دارت حكايات تشاندلر فيها. فبطله لا يملك الرغبة في حداثة وعصرنة حياته. لا يملك سيّـارة (لكنه قد يسرق واحدة أو أكثر في هذا الفيلم) بل يفضل ركوب الحافلات. ومع أن الشخصية مكتوبة وفي البال رجل في مطلع الأربعينات من عمره، إلا أن الأفكار التي في بال جاك ريتشر هي لشخص في الخمسينات. 
مهما يكن، ينقل المخرج كريستوفر مكواري في ثاني عمل له (الأول كان بوليسيا أيضاً بعنوان «طريق المسدس» قبل إحدى عشر سنة) الجو المنشود جيّـداً. لدينا تحر يعيش وحيداً لا يكلّـم أحداً ولا يملك تاريخاً يمكن للإستخبارات المحليّـة ترصدّه منه أو الإهتداء إليه. كل ما تملكه عليه هو أنه كان مجنّداً سابقاً… "بعد ذلك عاد من العراق واختفى". لكنه لن يختفي طويلاً هنا، إذ أن متّهما بجريمة شنيعة (ضحيّـتها بضع نساء بينهن حامل ورجل) يطلب مساعدته. ريتشر (توم كروز) يظهر للمحققين ويختار مساعدة المحامية (روزماند بايك) لتبرأة ساحة المتّهم ما يعني أن عليه معرفة من الفاعل الحقيقي والنيل منه.
يقدم المخرج على تورية جيّـدة. لقطة لرجل لا يدعوك للإطمئنان ثم لقنّاص على سطح مطل على حديقة عامّـة يبدأ بقتل عشوائي يسقط نتيجته رجل واحد وأربع نساء وطفلة (وإحدى النساء كانت حاملاً أيضاً). تعتقد أن الرجل الذي شاهدناه هو القنّـاص. لكنه ليس هو وهويّته تصبح مجال لغز الفيلم لبعض الوقت. حين يُـلقى القبض على الرجل الخطأ يطلب هذا جاك ريتشر، وقبل إنجلاء الموقف بأبعاده وحقائقه يصبح لدينا لغز آخر هو من هو جاك ريتشر ولماذا طلبه المعتقل الذي تحوم الشبهات حوله مستفيدة من قرائن دامغة. جاك ريتشر سيصل متحرّيـاً وسيتعاون مع محامية دفاع (روزماند بايك) للكشف عن الفاعلين الحقيقيين والسبب الذي من أجله وجد الرجل الخطأ نفسه متّـهماً.
لن أكشف أكثر من ذلك لكن قلب الحبكة، تلك التفعيلة التي يستطيع الفيلم أن يبني عليها الأحداث كلّـها، هش إلى حد، على ذلك، وبفضل سيناريو مقبول كتبه المخرج بنفسه، فإن الأحداث تبدو أكثر تماسكاً وصلابة بسبب معالجتها على نحو ينجح في الإبتعاد عن التقليد. فهو لا يصفعنا بعلاقة حب مفاجئة بين بطله وبين المحامية، ولا ينبري ليتعامل وتوابل معهودة، بل يبقي حريصاً على توفير الجديد مانحاً الفيلم زخماً متواصلاً من التشويق. 
في الوقت نفسه هناك ما يكفي من الدلالات السياسية خصوصاً عندما يطلب ريتشر من المحامية النظر من نافذتها إلى عدد من الموظّفين في مبنى آخر وهم يعملون: "قيل لنا أن هذا البلد بُـني على الحريّـة ويحاول تطبيقها حول العالم… لكن أنظري هناك… هل تجدين موظّـفاً حراً من الديون؟ من الأعباء؟ من المشاكل؟ من الإحباطات؟ من الخوف؟". كلام جيّد لفيلم يمشي إلى يسار الوسط ويقدّم شخصيّـة رافضة للحرب ورافضة للكيفية التي يعيش فيها الأميركي في بلاده المؤطرة بالقوانين المانعة. 
النقاد الأميركيون لم يستجيبوا جيّداً للفيلم، لكن معظم نقدهم انحصر في أن توم كروز ليس صالحاً للدور من باب أن تشايلد كتب شخصيّـته بمواصفات بدنية مختلفة: طويل وكبير الحجم يصلح لأن يكون مصارعاً. توم كروز أصغر حجماً وطولاً- لكن منذ متى كان ذلك أساساً للحكم؟ المسألة تتحوّل إلى ضد الفيلم لو أنه مثـّل دوره على نحو ركيك أو فضفاض أو على نحو غير مقنع. مشاهد العراك التي يؤديها كروز ليست خيالية لحد أنك تتساءل كيف يمكن لرجل في طوله أن ينال من رجال أطول منه؟ 
في الفيلم يلعب المخرج الألماني ڤرنر هرتزوغ دور رجل شرير. إنه الشرير الذي يقف عادة وراء الأشرار. يتكلّم بلكنة مفترض أن تكون روسية، ولا أدري إذا كان وجوده طلباً منه أو طلباً من المخرج إليه، لكنه يسلّـي خصوصاً وأنه يتلو حكاية وقعت له فوق ثلوج سايبيريا. يقول: "أكلت أصابع يدي حتى لا تُـصاب بالتجمّد"، وحال ينطق ذلك يداهمني الإعتقاد أنه هو من كتب حواره هنا خصوصاً وأنه كان وعد متابعيه ذات مرّة بأن يأكل فردة حذائه إذا أخلف شيئاً (ل أذكره) وحدث وأن أخلف فعلاً فتناول حذاءه (أو جزءاً منه) في مؤتمر صحافي في مهرجان "كان". يعملها.



• DIRECTOR: Christopher McQuarrie
-----------------------------------------------------------------------
• CAST: Tom Cruise, Rosamund Pike, Richard Jenkins, David Oyelowo, Werner Herzog,
Vladimir Sirov.
-----------------------------------------------------------------------
• PRODUCERS:  Tom Cruise, David Ellison, Dana Goldberg, Don Granger, Gary Levinson, Kevin J. Messick, Paula Wagner.
• SCREENPLAY: Christopher McQuarrie.
• NOVEL:  Lee Child
• CINEMATOGRAPHY: Caleb Deschanel [Colour- 35 mm].
• EDITOR: Mindy Marin (130 m).
• MUSIC: Joe Kraemer 
• PROD. DESIGNER: Jim Bissell
• PROD. COMP.: Mutual Film Company/ Paramount/ Skydance Pictures


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved © By: Mohammed Rouda 2008- 2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 comments:

Hassan Eljamal said...

اسمح لي يا سيد محمد أن أهنئك على هذه القراءة الرائعة لفيلم لينكولن. لقد قرأت كثيرا من النقاد والمراجعين والصحافيين الأميركيين ولم يتطرق احد الى الجوانب نفسها التي تطرقت اليها . كما ان القليل منهم كان بمثل هذا الوضوح في موقفه. فقط شكرا

حسّان الجمل - بيفرلي هيلز