_________________________________________________________________
كنوز السينما
الحلقة 1
فيلم جان-لوك غودار الأول لا يزال جديداً بعد 55 سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
A Bout de Souffle
عند آخر نفس
★★★★✩
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|*| عندما خرج هذا الفيلم للعروض السينمائية الأولى سنة 1960 فوجيء الجمهور والهواة بذلك الدفق المختلف من العمل. على عكس ما كان سائداً من أفلام، عمد المخرج هنا إلى جملة من التفعيلات الخاصّـة التي تحوّلت سريعاً إلى بعض ما يميّـز غودار أسلوبياً، ومن بينها ترك الحكاية فضفاضة وغير إيقاعية، إختيار مواكبات فنية من معين الثقافة الأوروبية (بيكاسو، رنوار، موتزار الخ…) والإعتماد على مونتاج يحذف منه بعض كادراته ما يؤدي إلى إرتجاج المشهد في أكثر من مكان عن قصد ورغبة في تفكيك كل ما قد يضع المشاهد في وهم الحكاية. بداية، يقتل ميشيل (جان-بول بلموندو) شرطياً كان تعقّـبه عندما سرق سيارة أميركية فاخرة (يقول أنه معجب بصناعتين أميركيّتين: السيارات والأفلام) ثم يعود ميشيل إلى باريس ليلتقي بالفتاة الأميركية باتريشيا (جين سيبرغ) التي يحبّـها حيث يمضيان أكثر من ساعة يتحدّثان فيها عن نفسيهما وعن علاقتهما. إنه مطارد من البوليس لكن عليه أن يسترد قرضاً من صديق له. باتريشيا تخبر البوليس عن مكانه فيحيط به وينتهي الفيلم بقتله في الشارع.
تيمات: هذه قصّـة عاطفية بين فرنسي متيّم وأميركية ليست واثقة من أنها تحبّه. حائرة في كل ما يخصّـها (تقول في مشهد: لا أعرف إذا ما كنت غير سعيدة لأنني غير حرّة او غير حرّة لأنني غير سعيدة"). ثم حيرتها تتبدّى حين تقول باتريشا له أنها حائرة في أمر ما. في صبيحة اليوم التالي نقف على ما يحيّرها: تتّجه الى مقهى. تطلب ويسكي أوّلاً. "ليس لدينا ويسكي". تطلب قهوة. تأخذ التلفون القريب وتطلب التحري الذي كان قابلها واعطاها بطاقته. تخبره أين هو ميشيل الآن٠
ميشيل (جان-بول بلموندو) يقتل شرطياً بعدما سرق سيّارة وانطلق بها خارج المدينة. نراه يقود تلك السيارة الأميركية. وهناك سبب جليّ لماذا يختار ميشيل سيارات أميركية ليسرقها في فرنسا أواخر الخمسينات وهو إعجابه بصناعتين أميركيّتين هما السيارات والأفلام. الأولى تلتقي والثانية من حيث أنهما صاغا لميشيل عالماً يخرج من واقعه إليه. هو سعيد بقيادته تلك السيارة. حين يصل الى حاجز للشرطة على الطريق الريفي يقرر عدم التوقّف ما ينتج عنه ملاحقته من قبل ثلاث رجال بوليس على درّاجات. ينحرف عن الطريق ويوقف سيّارته تحت شجرة. يمر الشرطيان الأوّلان ثم الثالث. لكن الثالث يعود أدراجه بعدما لاحظ وجود السيارة . يطلب الشرطي من ميشيل الا يتحرّك والا قتله، لكن ميشيل يبادر بإطلاق النار. المشهد مأخوذ بلقطة بعيدة واحدة٠
بعد الجريمة يصل ميشيل إلى باريس (التي يكرهها) ويعاود التقاء إمرأة شابّة أميركية تعيش وتعمل في فرنسا أسمها باتريشا (الراحلة جين سيبرغ) مُـفصحاً عن حبّه لها. لكن في حين أنه واثق من أنه يحبّها هي ليست متأكدة بعد. وهي ليست متأكدة من مسائل أخرى عدّة في حياتها. تعمل بائعة جوّالة علي قدميها لصحيفة "ذ هيرالد تربيون" تعرّف ميشيل عليها قبل أيام ليست بعيدة ويجد ما يجذبه إليها: "الرجل لا يحب الا من لا تناسبه" يقول لها ذات مرّة. وهناك جزء طويل من الفيلم يدور في غرفة فندق يتبادلان فيه الكثير من الحديث الكاشف عن نقاط نفسية وعاطفية ستقود لما سيلي. تحاول باتريشا تجنّب فعل الحب معه رغم إصراره، لكن ذلك يأتي ضمن متابعة ما يمكن أن تكون عليه ساعة ونصف من الخلوة بينهما. ما هي المواضيع المثارة. كيف يُـعامل كل منهما الآخر من منطلق منظوره اليه والى الحياة من ورائه. على الرغم من أنه فصل حواري الا أنه مليء بالمعلومات. بعض التململ (أعتقد) لكنه مشهد طويل ليس لاختيار خطأ من المخرج، بل لأسلوبه في سرد الحكاية. الغاية إظهارهما قريبين بعيدين: هي الباحثة عن شيء لا تعرفه، وهو ذو القناعة بأشياء يؤكد عليها: "أنتم الأميركيون معجبون بأغبى الشخصيات الفرنسية: لا فاييت وموريس شفالييه" يقول لها موقظاً الحس بأن غودار هو الذي يقول. وغودرار أيضاً هو الذي يضع على لسانها العبارة التالية (ولو في مشهد آخر): "لا أعرف إذا ما كنت غير سعيدة لأنني غير حرّة او غير حرّة لأنني غير سعيدة"٠
يخرجان من الفندق. هي لديها موعد مع مؤلّف متباه علّه يساعدها في التحوّل الى صحافية وهو ليبحث عن صديق كان قرضه مالاً، لكننا نجد أنه يتبعها لمعرفة كنه اجتماعها الذي يتم في الطابق الأعلى من مقهى. حين ينتهي اللقاء يقوم غودار بفعل الشيء الآتي: يضع الكاميرا (تصوير راوول كوتار) أمام باتريشا والمؤلّف وهما ينزلان الدرج الى الطابق الأرضي ثم تنسحب اللقطة من دون انقطاع ليستديرا الى اليمين ويمضيا بعيداً عنها، تستدير يساراً لتلتقط ميشيل ثم لتلحقه بعدما يراهما متّجهين الى الخارج مبتسماً بغموض٠
حين تجالس باتريشا ذلك المؤلّف وبينهما طاولة مستديرة يقدم غودار -بصورة تقليدية- على الإنتقال المتواصل بينهما كل في لقطة خاصّة. لكن بعد قليل نراه يفعل التالي في المونتاج: لقطة طويلة (نسبياً) للكاتب وهو يتحدّث (عن نفسه غالباً). يحذف غودار بعض الكادرات من اللقطة من دون أن يعمد الى إذابة الرجفة الناتجة عن ذلك الحذف. من يشاهد اللقطة سيلاحظ أن المخرج ألغى ثوان من اللقطة من دون أن يكترث، عن قصد، لإذابة ما سبق وما تلا في سلاسة. وها هو يقول للمشاهد أنني ألغيتها. يترك اللقطة تتحوّل الى فقرات وكل فقرة تبدأ وتنتهي بهزّة او نطّة صغيرة. هذا عاد اليه غودار من جديد في أكثر من فيلم لاحق وتقديمه في "نفس لاهث" إيحاء بلازمة يحافظ عليها، كما عنصر لعب على معالجة المشهد ضمن ما لم يتوقّعه الجمهور آنذاك٠
أميركا دائماً مذكورة في أفلام غودار٠
كما تقدّم هنا ميشيل معجب بالسيارات الفارهة (أنا كذلك) ومعجب بالأفلام الأميركية. نراه يقف عند فيلمين معروضان في صالتين. الأول Ten Seconds of Hell («عشر ثوان من الجحيم») لروبرت الدريتش (1959)، فيلم حربي من بطولة جاك بالانس وجف شاندلر. والثاني هو The Harder They Fall (ما يمكن ترجمته إلى «السقوط الأقسى») للمخرج مارك روبسون وبطولة همفري بوغارت ورود شتايغر (1956).
لا دلالات كبيرة هنا باستثناء أن غودار وتروفو وكلود شابرول كانوا معجبين جدّاً بروبرت ألدريتش، وأن الفيلم الثاني من بطولة همفري بوغارت. وميشيل، بطل "نفس لاهث" معجب جدّاً ببوغارت ويرى نفسه هو ويعيش عالمه الخيالي الذي لا يستطيع تحقيقه والمؤلّف من خشونة بوغارت وسيغارته وقبّعته وتلك الحركة التي كان بوغارت يقوم بها في بعض أفلامه: يمر بأصبعه على شفته العليا ماسحاً ما ليس هناك٠ غودار لا يذكر هنا كل التأثيرات التي في باله. ماذا عن فيلم Gun Crazy الذي أنجزه قبل عشر سنوات من تاريخ هذا الفيلم (أي سنة 1950) المخرج الأميركي الممتاز المغلّف بالنسيان جوزف هـ لويس؟
هذا ليس مجرد أي فيلم بوليس، بل عن فيلم يحمل في موضوعه قصّـة مشابهة: رجل وإمرأة يلتقيان. هو معجب مدمن على المسدّسات وهي معجبة مدمنة على المال. كلاهما يدمجان هذا الإعجاب بعمليات سطو: المرأة كما الحال هنا تكون سبباً في القضاء على الرجل. أيضاً يجب أن أذكر أن "غن كرايزي" ليس فيلماً متصالح مع النمط التقليدي في السرد. يوماً ما سأحاول ردّ الإعتبار لجوزف هـ لويس هذا٠
في النهاية هنا، تكون باتريشا سبب القضاء عليه. كان يستطيع أن يهرب. لقد وافق صديقه على لقائه لدفع المبلغ الذي استدانه منه. لكن ميشيل آثر البقاء لجانبها. قبل انقضاء الليلة الأخيرة (لا مشاهد حب في الفيلم بل شعور به) تقول باتريشا له أنها حائرة في أمر ما. في صبيحة اليوم التالي، إذا كنا لم نعرف بعد ما هو الأمر الذي يحيّرها، تتّجه الى مقهى. تطلب ويسكي أوّلاً. "ليس لدينا ويسكي". تطلب قهوة. تأخذ التلفون القريب وتطلب التحري الذي كان قابلها واعطاها بطاقته. تخبره أين هو ميشيل الآن٠
"المخبر مخبر" كان ميشيل قال لها قبل نصف ساعة في الفيلم (نشاهد جان-لوك غودار نفسه في دور قصير كرجل تعرّف على ميشيل وهرع حاملاً الصحيفة التي نشرت صورته الى رجلي بوليس) وهي تعود الى مخبأه (ستديو تصوير فوتوغرافي) وتعترف له بما فعلت. لا يستعجل الهرب. مثل بطل "الجزائر" [جون كروموَل- 1938] يعرف أن هذه المرأة هي نهايته، لكنه مستجيب لتلك النهاية: "دائماً ما كان عندي اهتمام بالفتيات اللواتي لا يصلحن لي"، قال لها قبل ذلك٠
يخرج ميشيل الى الشارع. صديقه يصل. يعطيه مسدّساً يدافع به عن نفسه. يرفضه. يرمي له الصديق المسدّس عبر الشارع وينطلق بالسيارة. يلتقط ميشيل المسدس. يطلق البوليس النار على ميشيل. ميشيل يركض مبتعداً مصاباً في ظهره الكاميرا تتركه يمضي بعيداً عنها قبل أن تلاحقه قليلاً. يسقط أرضاً. تركض ميشيل إليه. لم تتوقّع نهاية عنيفة. ينظر إليها ويقول لها «أنت كيس زبالة»، عبارة مهمّـة لأن ميشيل وهو ينازع لا يبدو عليه الغضب. ما يعنيه هو (في إعتقادي لكني أقبل قراءة مختلفة هنا) هو ذلك الحلم الأميركي الذي كان يعيشه كونها أميركية وكون ما يحبّه في الحياة لجانبها (السيارات والأفلام وهمفري بوغارت) أميركيون أيضاً٠
الآن جزء من عالم ميشيل أسمه.
الإسم الذي يتعامل به هو ميشيل بياكار. لكنه يذكر أيضاً أنه معروف بإسم لازلو كوفاكش. ولازلو كوفاكش مدير تصوير مات سنة 2007 عن 74 سنة وكان وُلد في المجر سنة 1933. لكن لماذا كوفاكش؟ سؤال مهم لأن كوفاكش كان صوّر بضعة أفلام فقط في المجر في مطلع الستينات، ولم يصوّر فيلماً أميركياً الا مع منتصف الستينات أي بعد وليس قبل قيام غودار بتصوير فيلمه هذا الذي صوّره واحد من روّاد سينما المؤلّف وهو راوول كوتار٠
هناك ملامح سينمائية ومراجع عديدة. إسم لينين مذكور (عبر عبارة قالها: "نحن موتى في إجازة") ثم صوت جين تييرني في فيلم أوتو برمنجر Whirlpool («الدوّامة»، 1949).
ومذكور أيضاً فيلم Westbound ("وستباوند"، 1959) للرائع بد بوويتيكر.
ميشيل الذي يقتل الشرطي ويسرق مال صديقة سابقة ويضرب رجلاً في الحمّام ليسرق ماله، هو ميشيل نفسه الطيّب الجذّاب والفكه والذي يحب سماع موتزار (موتزار هو عضو دائم في أفلام غودار أيضاً) وهو المحرّك الدافع لشخصيات غودار في كل مرّة أراد تقديم شخصية فرنسي لديه مرجعية فكرية يقارن بها الواقع والسياسة وبعض التاريخ. إنه هو٠
أخيراً، هناك عدّة لقطات لعدة شخصيات تقرأ الصحف. أولاها لقطة لميشيل/ بلموندو نفسه. لاحظ أنه في كل مرّة الصفحة المقابلة للكاميرا، هي صفحة "كوميكس". لا نعرف ما يقرأونه لأن الصفحة التي تواجههم غير ظاهرة لنا (ولا يعمد غودار لكشفها بلقطة خاصّـة). لاحظ أيضاً الخطأ التالي: في مطلع الفيلم ميشيل يقرأ في صحيفة والصورة المواجهة للكاميرا هي صفحة كوميكس. بعد قليل يطوي ميشيل الصحيفة ليتحرّك من مكانه. انتهت اللقطة المتوسّـطة له. لقطة جانبية بعيدة- متوسّطة له وهو يطوي الصحيفة مرّة أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إخراج
جان لوك غودار
كتابة
فرنسوا تروفو
تصوير
راوول كوتار
توليف
سيسيل ديوجيس
موسيقا
مارتيال سولال
المنتج
جورج دو بيورغارد
الممثلون
جين سيبرغ، جان-بول بلموندو، دانيال بولانجير،
روجيه هانين، كلود مانسار
فرنسا - 1960
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
0 comments:
Post a Comment