ACTION
حين يكتب الناقد يضع في حسبانه أن قرّاءه ربما لم يشاهدوا الفيلم بعد٠
وحين يكتب الناقد يضع في حسبانه أيضاً أن بعض قرائه لن يشاهدوا الفيلم٠
إما بإختيارهم او لأن الفيلم لا يصل ولا هم قادرين على الوصول إليه٠
رغم ذلك يكتب. لا يستطيع الا أن يفعل. إذا لم يفعل يعتبر نفسه غير متفاعل مع العمل الذي اختاره لنفسه. إذا لم يفعل سيشعر بأنه تخلّى عن دوره في الحياة. إذا لم يفعل مات٠
والمأزق هو: حين يكتب - مدركاً أن القلة ستشاهد الفيلم وأقل منها من شاهده فعلاً- هو كيف يكتب. لا أعنى المفردات والرأي والصياغة اللغوية البحتة، بل أعني كيف يكتب ليتجاوز هذا الخاطر المزعج بأن القلّة تقرأ والغالبية لا تكترث٠
بعض النقاد، شرقاً وغرباً، ينجح في جعل مادّته النقدية مثل الفيلم السينمائي الجيد: جاذبة بحد ذاتها. هؤلاء يتمنّون -إن كان هذا ممكناً- أن يكون القاريء محبّاً لقراءة المادة النقدية عن أي فيلم نظراً لأنها مكتوبة جيّداً وبعمق وبفيض من المعلومات يجعلها مهمّة بحد ذاتها٠ أنا نفسي أحاول ذلك وأعلم أن آخرين يحاولون ذلك أيضاً. لكن الغالبية، شرقاً وغرباً مرّة أخرى، تفعل ذلك وتحمد الله على أن هناك راتباً شهرياً ينتظرها. هذا الراتب يتحوّل الى غاية بحد ذاته٠
هل ترانا ننجح؟
وما هو الفرق بين ناقد ناجح (والنجاح ليس مادياً) وآخر غير ناجح؟
أعتقد أن القاريء يستطيع أن يجيب على هذا السؤال أفضل منّي٠
Cut
سينما عربية | يجد الزميل عدنان مدانات أن ما يطرحه
فيلم نجوى النجّار الفلسطيني »المر والرمّان« ليس جديداً٠
................................................................................................
المر والرمّان
إخراج: نجوى النجّار
علي سليمان، ياسمين المصري، أشرف فرح، هيام عباس
................................................................................................
نقد: عدنان مدانات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهدف المعلن لفيلم “المر والرمان” للمخرجة الفلسطينية نجوى النجار هو تبيان أن الفلسطينيين متمسكون بالحياة والأمل رغم ظروف الاحتلال وقسوته. تعبّر المخرجة عن الأمل و الحياة في فيلمها الروائي الطويل الأول، والذي عرض في مهرجان دبي السينمائي خارج المسابقة وضمن برنامج العرض العالمي الأول، من خلال حكاية شابة تهوى الرقص وتصر على المضي قدما في تدريبات الرقص الشعبي مع الفرقة التي تنتمي إليها وصولا إلى تقديم عرض احتفالي يقام بمناسبة افتتاح مدينة ملاهٍ، وذلك على الرغم من كل المشاكل النفسية العاطفية والشخصية العائلية والاجتماعية، إضافة إلى المشاكل الناجمة عن الاحتلال ومصادرة الأرض من قبل المستوطنين “الإسرائيليين”.
هذا النوع من التعبير عن الأمل والإصرار على الحياة من خلال حكاية تجربة الرقص لا يقول الكثير بحد ذاته وما يقوله لا يتسم بالعمق ولا يمتلك قوة التأثير، فالحكاية، كما الفكرة التي تتضمنها، ليست جديدة وتكررت في العديد من الأفلام العالمية خاصة ذات التوجه الجماهيري. وعلى الرغم مما للحكاية المثيرة والمبنية جيدا من أهمية في الأفلام، إلا أن الحكاية هنا والتي تتمحور حول بطلة الفيلم ليست إلا الإطار العام الذي يضم أحداث الفيلم ومقولاته، والاكتفاء بقراءة الفيلم من خلالها هو نوع من التعامل السطحي الذي لا يبحث في الفيلم إلا عن ظاهر الحكاية وخطها العام ولا يكتشف ما هو موجود بين السطور وما في التفاصيل من إضافات تغني وتحول الأنظار عن مجرى الحكاية إلى قراءة متعددة النواحي للتجربة الإنسانية و للواقع الاجتماعي بحيث لا تعود فكرة الأمل والتمسك بالحق في الحياة هي المهمة هنا، بل المهم هو الأفكار الأخرى التي تتمخض عن تفاصيل وتقلبات الحكاية.
ما هي هذه التفاصيل والأحداث وتقلباتها التي يثير بعضها أسئلة لها احتمالات أجوبة مختلفة والتي نجدها في هذا الفيلم ذي النكهة النسائية الواضحة؟
بطلة الفيلم، وهي عضو في فرقة محلية للرقص الشعبي تتزوج شابا من أسرة تملك مزارع زيتون. العائلتان من الطائفة المسيحية. هناك إصرار على أن يتم الزواج في القدس رغم عوائق الحواجز العسكرية “الإسرائيلية” على الطريق نحو القدس. تجري مراسيم الزواج بفرح ورقص.
ذات يوم ومع اقتراب موسم حصد الزيتون تستولي مجموعة من المستوطنين بمساعدة الجيش “الإسرائيلي” على جزء كبير من أرض عائلة الزوج. بعد صدام بين الزوج والمستوطنين يساق الزوج إلى السجن ويبقى فيه طويلا كموقوف إداري. تحاول الزوجة، التي قامت بشؤون تسويق نتاج المزرعة، توكيل محامية يهودية للإفراج عن زوجها، لكن بلا فائدة، فالمحامية التي بدت متفهمة عاجزة أمام القوانين “الإسرائيلية” العسكرية. في هذه الأثناء يعرّف مدير الفرقة الزوجة الشابة، بعد أن قررت العودة للرقص الذي توقفت عنه عقب الزواج متجاهلة الاعتراضات العائلية على مسلكها، على المدرب الجديد العائد من لبنان. أثناء التدريب المنفرد للزوجة يتضح أن العلاقة بين الاثنين صارت تتعدى الرقص باتجاه علاقة خاصة، ولكن لا يوضح الفيلم صراحة إن كانت وصلت إلى الخيانة الزوجية مع أن صاحبة مقهى يلتقي فيه الاثنان أحيانا، وهي امرأة فلسطينية متوحدة ومسترجلة، تحاول تشجيعهما على المضي قدما في تلك العلاقة خاصة بعدما أمضى الثلاثة الليل معا متمددين جنبا إلى جنب، بسبب منع التجول الطارئ الذي منع الاثنين من مغادرة المقهى. أثناء زيارة الزوجة للزوج المعتقل تحاول إقناعه بالتوقيع على التنازل عن الجزء المستولى عليه من الأرض من قبل المستوطنين لأن أحوال العائلة والمزرعة بدأت تسوء، وأحوالها هي وأزمتها الشخصية والعاطفية، لم تعد تحتمل غيابه، لكن الزوج يرفض بإصرار مدركا أنه بذلك سيتعرض إلى تمديد متكرر لفترة الاعتقال الإداري. في مشهد مفاجئ نرى الزوجة عائدة ليلا في سيارة المدرب، ويوقف المدرب السيارة ويطلب منها أن تكون له كليا، فترفض، مما يجعله يغضب ويتهمها بأنها تتنكر لما بينهما وبالتالي يطردها خارج السيارة لتبقى وحيدة في الشارع المظلم. بعد خلاف مع المدير يتخلى المدرب عن الفرقة ويقرر أن يعمل على تنفيذ مشروعه الخاص المتمثل بافتتاح مدينة للألعاب تكون محطة ترفيهية للمواطنين. تعود الزوجة للتعاون مع المدرب في الفرقة البديلة التي أسسها، ولا نجد توضيحاً لسبب عودتها، والتي يفترض أن تقدم أول عروضها ليلة افتتاح مدينة الملاهي. في هذه الأثناء يخرج الزوج من السجن، ولا يوجد أيضاً توضيح لسبب خروجه، ونراه، في المشهد الختامي للفيلم، بعد أن يتفقد البيت ومعصرة الزيتون والأرض استولى عليها المستوطنون وأحاطوها بالأسلاك، وهو يتفرج برضى على زوجته وهي ترقص ضمن الفرقة ليلة الافتتاح.
أفلام جديدة | فيلم سام منديس الجديد يتناول جانباً
غير مطروق عن الرغبة المهزومة في الإنعتاق من الواقع٠
Revolutionary Road ****
إخراج: سام منديس٠
أدوار رئيسية: كيت ونسلِت، ليونارد دي كابريو
دراما إجتماعية | أميركي 2008
...............................................................................................
نقد: محمد رضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسب نقاد أدب، رواية رتشارد ياتس، المنشورة سنة 1961، هي أهم كتاباته وأكثرها استمرارية او خلوداً وفيلم مانديس ربما يساهم في جعلها تدوم أكثر لدى جيل جديد لم يقرأها. الفيلم دافع لقراءتها لكل من لم يفعل بصرف النظر عن الجيل الذي ينتمي إليه٠
على الرغم من ذلك الفيلم ليس مصنوعاً لتخليد الأصل او لنقله بأمانة او بلا أمانة. بالنسبة لهذا الناقد الذي لم تتح له فرصة قراءة الأصل بعد، فإن الفيلم ينجح في الوقوف على قدميه الخاصّتين به من دون عكاز المادة الأدبية. لاحظ مثلاً المشاهد الأولى من بداية الفيلم٠
لقطة تأسيسية عامّة: ضاحية من المدينة في الليل٠
قطع إلى حفلة مقامة. فرانك (ليونارد دي كابريو) يستمع الى متحدّث له وينظر بعيداً صوب إمرأة وقفت تتحدّث براحة وفي يدها سيغارة الى إمرأة أخرى. إنها أبريل (كيت ونسلت) التي ستكون زوجته. ينظر اليها وتراه ينظر اليها. بعد نصف دقيقة، ها هو -في لقطة ثالثة- يتحدّث إليها واقفاً مكان المرأة التي كانت تتحدّث إليها في اللقطة السابقة٠
هذا ليس فقط اختزال (ربما لصفحتين او أكثر من الرواية) بل بلاغة. ليس مهمّاً كيف ترك مكانه الى مكانها ولا ماذا قال ليستدعي اهتمامها وكيف باشر حديثه معها. المهم هو أنه فعل. ثلاث لقطات مختزلة وغير متسارعة (هذا مهم)٠
هناك اعتناء خاص بالتكوين المكاني والبصري للقطة والمشهد والفيلم. هذا ليس بمقدور كل مخرج فعله على نحو يشكّل أسلوباً ومنديس يشكّل ذلك الأسلوب. يجعل من تحديد الصورة. تكوينها. الإستغناء عن الحركات التصويرية الفائضة عن الحاجة منهجاً وينجح في ذلك نجاحاً كبيراً٠
خذ مثلاً آخر إذا سمحت
هناك لقطة تهرب فيه آبريل من البيت تريد الإبتعاد عن كل شيء والخلو بنفسها في الحرش القريب. تجتاز الشارع المواجه لبيتها ويلحق بها الزوج الملح فرانك. إذ يجتاز الشارع يفعل ذلك من دون توقّف. منديس لا يتدخل ليرينا سيّارة تظهر فجأة وتكاد تدهسه بغية التأكيد على مدى انغماسه وانشغاله في اللحظة التي يطارد فيها زوجته. مخرج آخر ربما كان فعل لتأكيد ما لم يجده المخرج منديس بحاجة للتأكيد. مخرج آخر كان -ربما- سيصوّر لقطة لسائق تلك السيارة وهو يصيح بفرانك »هل أنت مجنون؟« وفرانك ربما يتجاهله او يعتذر منه. منديس على هذا القدر من رمي القشور واللوازم بعيداً لدرجة تعرية الفيلم من كل ما قد يدخل على الخط بلا وظيفة أساسية٠ لا توجد لقطة كان يمكن الغائها (الا ما كان لغاه حين جلس والمونتير الممتاز طارق أنور) لكنها بقيت ولا لقطة للتسلية او للراحة٠
في أول حديث لأبريل مع فرانك تعرّف بنفسها على أنها ممثلة. وفي مشهد قريب نراه جالساً يتابعها في نهاية مسرحية تشترك فيها ويسمع تعليق إمرأة خلفه بأنها أدّت تمثيلاً رديئاً. هذا سريعاً ما يتبدّى كرأي سائد من دون أن نسمعه كثيراً. نراها تبكي لإدراكها أنها لم تقم بإداء جيد. وهو يعلم ذلك ويختار، حين دخول غرفتها وراء الستارة، أن يعلمها بذلك متأسّفاً. إنهما الآن متزوّجان ويستطيع أن يخبرها بذلك. وتستطيع هي أن لا تتظاهر بالمعارضة او بالموافقة. بل أن تطلب منه أن يتركها وشأنها فهي تعلم ما يقول. إنه من هذا المشهد، سيشعر المشاهد بأن هناك خطّاً موازياً يمر في منتصف هذه العلاقة ويجعلها متوتّرة وحادّة. ليس أن هذا هو أمر طبيعي بين كل زوجين. حتى ولو كان فإن المسألة هي أن هذا النموذج الذي نراه ليس تماماً كسواه. الفيلم بأسره كان يمكن له أن يتعرّض لما يذكّرنا بأنه عملية تقليدية تشبه أعمالاً أخرى عن الزواج ومشاكله. لكنه ليس كذلك وبعض قيمته لابد تعود الى الرواية من حيث رصدها الحياة في الخمسينات وما وعدت به وما لم تنجزه، لكن القيمة الفنية هي للدراما التي تتألّف أمامنا وطريقة المخرج في صياغتها فنياً وجمالياً وأسلوبياً٠
قصّة »ريڤوليوشنري رود« (ولن أعرّب الكلمة لأن العنوان عائد الى شارع بذلك الإسم) تتناول حياة هذين الزوجين اللذين أنجبا ولدين. هو يعمل في مؤسسة لبيع المنتجات الآلية الضخمة في نيويورك. يقود سيّارته ويركنها عند المحطّة ثم يأخذ القطار الى قلب نيويورك وفي الليل يعود بنفس الطريقة. وهي تركت التمثيل وراءها وأصبحت زوجة تعتني بالأولاد والبيت. فلاشباك صغير لكيف وجدت وزوجها هذا البيت الأبيض وذلك حين قامت إمرأة تعرفهما وتعمل وكيلة عقارات أسمها هيلين (كاثي بايتس) باصطحابهما الى البيت. لاحقاً هيلين تتقدّم من الزوجة وتسر لها أن لديها إبناً أسمه جون (مايكل شانون) يعاني اضطراباً نفسياً ونصيحة الإخصائي هي تعريضه لمزيد من العلاقات والمعارف الإجتماعية٠ توافق أبريل ذات القلب الأبيض٠ في هذا الوقت يمضي الزوج وقته في المكتب في عمل لا يطيقه ولا يعني له شيئاً، وكما يقول لاحقاً للسكرتيرة الجديدة التي أصبحت رفيقة فراش من يومها الأول مورين (زو كازان) "كنت أنظر الى والدي الذي كان يعمل في هذه المؤسسة وأتمنّى أن لا أصبح هو حين أكبر. السخرية هي أنني أصبحت مثله الآن"٠
يوما ما يعود الى البيت وإذا بزوجته تفاجئه بفكرة: "لنذهب للعيش في باريس«٠ كالمتوقّع سيعارض الزوج الفكرة المفاجئة غالباً لأنها مفاجئة، لكن فرانك سيستمع بإمعان لمبررات زوجته وسيوقن أنها تتحدث عن واقع حين تسأله عن السبب الذي يجعله قابل بالتحوّل الى موظّف عوض السعي للحياة على النحو الذي كان دائماً ما يتمنّاه. فرانك، وقد اقتنع، يقدّم استقالته، لكن مديراً عامّاً للشركة غير مطلع على استقالته يعرض عليه ترقية وزيادة راتب. الشك في أنه يريد أن يقدم على خطوة الإنتقال الى باريس يرتفع داخله. يبدأ بالنظر الى الأمور من زاوية أن ليس لديه دافعاً قوياً للتغيير وأن زوجته إنما كانت تحلم بالسعادة في مكان آخر بينما تستطيع تحقيقها الآن٠
إثر خناقة أخرى بينهما تقتنع. وكانت أعلمته -بعدما مارسا الغرام بعد فترة لم يتقاربا- بأنها حبلى. الآن الحبل يصبح عنصر مشاجرة آخر٠ سريعاً ما يبدو كل منهما سائر في إتجاه مختلف. حتى حين يعترف بأنه خانها، وذلك بعد خيانة من جانبها مع جاره تشب (ديفيد هاربور) لا تجد في ذاتها سبباً للغضب. مشاجرة أخرى. في اليوم التالي هدوء ظاهر. يداخله الإعتقاد بأن ما حدث صار خلفهما لكنها ستقدم خلال غيابه في المكتب على عمل ينقل المسألة الى مصير مختلف آخر٠
الفيلم ليس عن الحلم الأميركي بالمعنى الذي تناولته أفلام عديدة أخرى. ليس هناك السعي للوصول ثم ذلك الإنحسار او الإنكفاء نظراً لمعطيات تتسبب في عجز الحالم على الوصول. إنه عن إمرأة تحاول لملمة حلماً بحياة وتراه ممكن التحقيق خارج المعهود. غايتها ليس قهر الحلم الأميركي بل الهروب منه ومن تبعاته. كذلك هو الزوج الذي يستطيع تحقيق الحلم الأميركي إذا ما اعتنى بعمله قليلاً أكثر، ثم ها هو يجد أن الأمر ممكناً إذا ما تراجع عن استقالته وارتاح لحياة من المكتب الى البيت وربما مع علاقة جانبية تؤمن له إستقراراً نفسياً إضافياً٠
القيمة في كل ذلك هو أن ما تريده أبريل لهما هو الحقيقة. رد فعل فرانك هو الخيال، لكن الواقع هو أمر ثالث وهو ما تحاول تجنّب طرحه في الوقت الذي يحاول هو التمسّك به. الواقع هو الذي يهزمها ليس لأن حلمها لا أساس له من الواقع بحد ذاته، بل يهزمها حين يسطو على تفكير زوجها. أبريل ترى زوجها السبب الذي لم تعد فيه سعيدة. لقد كانت مستعدة للمغامرة. أقنعت زوجها او هكذا خيّل لها، لكن زوجها يبدو أنه ارتاح من عناء البحث عن تحقيق ذات أخرى غير تلك التي لديه. أرتاح لصورة أبيه الذي كان يرفض أن يصبح مثله. داهمه ذلك وعاد الى زوجته متراجعاً. في لقطة تلخص كل هذا حينما تقول لجارهما أن زوجها نال ما أراد من الحياة اما هي فلم تنل منها شيئاً. لا ننسى أنها كانت تطمح لأن تصبح ممثلة فأصبحت زوجة من دون أن تحقق تلك الغاية الأولى٠
هذه الطروحات جميلة وأساسية في أفلام منديس الأربعة الى اليوم (من »جمال أميركي« وما بعد). لكن هذا الفيلم هو أفضل أعماله، بما فيها »جمال أميركي« رغم أن منوال ثلاثة منها هو ذلك البيت غير السعيد. هناك نجد النسيج الكامل على نحو صحيح: الصورة كما عند روجر ديكنز ممتازة في إختيار زواياه وحجم اللقطة حسب حجم الشاشة مع العمق في البؤرة والثراء في مكوّنات الصورة. إنها جزء من عين منديس السينمائية كما عرفناها في »جمال أميركي« كونها جزء من أسلوبه. لكن الإضافة هنا هو أنه أكثر ثقة بذلك الأسلوب وبصياغة عرض قصصي متتال يحتوي على خصائص التمثيل والتكوين التصميمي المسرحي من دون أن يكون مسرحياً. فقط خبرة منديس على المسرح هي التي تساعده على إتقان تابلوهات مسرحية لكنها لا تتدخل في إختياراته من عناصر العمل السينمائي المختلفة٠
كيت وينسلت تمثّل بكل جوارحها وجوارحها دائماً عميقة. دي كابريو يواصل تبلوره ممثلاً مضيفاً هنا ظلالات مختلفة على شخصيّته. لم يعد النجم الذي يحاول توظيف وضعه في شباك التذاكر لخدمة نفسه، بل -ومنذ فيلم مارتن سكورسيزي »المغادر- أصبح من يريد أن يتوغّل في الذات الأخرى التي يتقمّصها أكثر من ذي قبل٠ على ذلك، ربما لا يزال لديه بعض الإختيارات التي لم يقم بها بعد. تشعر أحياناً أنه خائف من تسليم نفسه تماماً للآخر. يريد أن يحفظ ولو قليلاً من ذاته٠ على ذلك وفي حين تستحق كيت وينسلت الأوسكار إذا نالته، كان يستحق هو الترشيح الذي لم ينله٠ وأكاد لا أصدّق أن السيناريو (الذي كتبه جوستين هايث) لم ينل ترشيحاً ولا مونتاج طارق أنور او تصوير روجر ديكنز.... لكن كذلك الأمر بالنسبة لمنديس. هو أيضاً خارج الحلبة بأفضل أعماله٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستعرض الزميل نديم جرجورة التاريخ البعيد لكلمة »فالكيري« التي
اتخذها فيلم برايان سينجر الجديد عنواناً له ويبحر بعد ذلك في نقده
لفيلم هوليوودي الصياغة٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Valkyrie
إخراج: برايان سينجر
بطولة: توم كروز
دراما في إطار الحرب العالمية الثانية [أميركي/ الماني- 2008]٠
..............................................................................................
نقد: نديم جرجورة٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أقصى شمال الكرة الأرضية، إلى بشاعة النازية وحروبها الدموية العنيفة التي أحالت بلداناً ومجتمعات وناساً إلى أنقاض وأرواح ممزّقة؛ مروراً بالعمل الموسيقي الذي أنجزه ريتشارد فاغنر في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ راج تعبير »فالكيري«، حاملاً معاني متفرّقة، قبل أن يصبّ في فيلم سينمائي حقّقه براين سينغر، ومثّل توم كروز فيه الدور الرئيس. من الأساطير الطالعة من عمق الثقافة الشمالية الخاصّة بالدول الاسكندنافية، إلى دموية النازيّ أدولف هتلر والإنجاز السينمائي العادي (الأقرب إلى تقنية التشويق الهوليوودي المعتاد)، عاش تعبير »فالكيري« حالات متكاملة، على الرغم من مصير أسود زرعه مستشار الرايخ الثالث وزعيمه، عندما اختاره اسماً لعملية أمنية/ عسكرية، تحصّن مشروعه التدميري من »خطر« الانقلابات الداخلية. وإذا بدأت الحكاية من المقاتلات العذراوات، أو الإلهات القاصرات، اللواتي خدمن إله الآلهة أودن، في أساطير البلدان الشمالية تلك؛ فإن قدرها حتّم عليها بلوغ الحالة النازية، التي تفتّق عقل سيّدها عن ابتكار خطّة لحماية نفسه أولاً، ومشروعه الحربي ثانياً، من أي اعتداء داخلي، ملتحفاً بالاسم الذي عكس أحد أجمل المعاني السامية للمقاتل النبيل. في حين أن الفيلم السينمائي، الذي حمل عنوان »فالكيري«، حافظ على معلومات تاريخية حول آخر محاولة اغتيال تعرّض لها هتلر، قبل أشهر على انتحاره، إثر شعوره بدنو أجله وأجل نازيته٠
في التعريف العام لـ»فالكيري«، جاء أن الكلمة مرادف للمقاتلات اللابسات دروعاً، اللواتي يُدرن المعارك، ويوزّعن الموت على المحاربين، ويجلبن أرواح الأبطال إلى القصر الكبير لأودن، كي يصبحن »آينهرجار«، أي »أرواح المقاتلين الاستثنائيين، الذين ماتوا أثناء المعارك وبأيديهم أسلحتهم«. و»فالكيري« يخترن هؤلاء المقاتلين، ويخطفهم. وهؤلاء الأبطال، مختارون لخوض الحروب إلى جانب أودن، عند وقوع الـ»رايناروك«، أي »المعركة الأبدية« وليست »المعركة الأخيرة/ النهائية«. وفي المعلومات أيضاً، وبحسب علم الاشتقاق، يتحدّر أصل الاسم (فالكيري) من كلمتين في اللغة الاسكندينافية القديمة، تعني إحداهما »أنهك« والأخرى »اختيار«، أي »أولئك الذين يختارون إنهاك الآخرين«٠
لم يبتعد فاغنر، كثيراً، عن تلك الأساطير وفحواها البطولي. كما أن هتلر نفسه، المُعجب بفاغنر، جعل الأسطورة مادة حيّة لـ»خطّة إنقاذ«، ترتكز على تحريك جيش الاحتياط الألماني عند قيام اضطرابات داخلية تتطلّب إعلان »حالة الطوارئ«. غير أن المتواطئين معاً لمواجهة سلطة هتلر والتخلّص منه، »نجحوا« في إجراء تعديلات وقّع الفوهرر عليها، بهدف التلاعب بها لمصلحتهم: تحريك جيش الاحتياط، بعد اغتيال أدولف هتلر، وإيهام الأجهزة الأمنية والسياسية والعسكرية النازية بأن جهازي »الشرطة السرّية« و»غستابو« يسعيان إلى الانقلاب على السلطة، علماً بأن العملية المذكورة (اغتيال هتلر)، التي صوّرها فيلم سينغر، تمّت في العشرين من تموز ،١٩٤٤ من دون أن تنجح في التصفية الجسدية للفوهرر. وهي جاءت بعد عام ونصف العام تقريباً على محاولة سابقة لها (أشار إليها الفيلم في بدايته)، جرت وقائعها في الثالث عشر من آذار ،١٩٤٣ وتمثّلت في قيام أحد كبار الضباط النازيين (هانيننغ فون تريشكو/ كينيث براناه) بوضع قنبلة مصنوعة من ألغام بريطانية لزجة معروفة باسم »كلايمس«، في زجاجتي خمر (كوانترو)، أُرسلتا إلى الطائرة الخاصّة بهتلر، إثر زيارته السريعة إلى مقرّ قيادة الجبهة الشرقية. غير أن القنبلة لم تنفجر، بسبب الصقيع في عنبر الطائرة، في تلك الرحلة. يُذكر أن محاولة الاغتيال التي جرت في العشرين من تموز، تحمل الرقم ١٥ في مسلسل المحاولات المعروفة، وهي الأخيرة أيضاً، قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتحار هتلر٠
اعتبر جان لوي ثييارو، في الكتاب الأول المخصّص بالسيرة الذاتية للضابط النازيّ/ الألماني كلاوس فون ستوفنبورغ، بعنوان »ستوفنبورغ« (منشورات »بيرّان«، ٢٠٠٨)، أن الرابع والعشرين من أيلول ١٩٤٢ »يومٌ مشهودٌ« في سيرة الضابط، إذ بلغ غضبه فيه مرتبة عالية جداً، جرّاء الأعمال المشينة التي »برع« في تنفيذها النازيون الملتزمون، بصرامة، قسمهم العسكري النازي. ففي ذلك اليوم، قال ستوفنبورغ إن »هتلر هو المسؤول الأساسي. كي يصبح التغيير الجذري حقيقة واقعية، يجب قتله. أنا مستعدٌ لقتله«. إن تصريحاً كهذا، يتابع ثييارو، يؤدّي بصاحبه إلى المحاكمة العسكرية، »لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل على العكس منه: تضامن كامل (من قبل أناس وافقوه الرأي، ولم يتجرّأوا على البوح به)«. من جهته، قال المؤرّخ الألماني يواكيم فيست (المجلة الفرنسية »لو بوان«، ٨ كانون الثاني الجاري)، إن المشاركين جميعهم في التآمر ضد هتلر ارتكزوا على دوافع جمّة ومعقّدة: »عشرون شخصاً منهم فقط، انتموا إلى مجموعات مختلفة ومعتقدات متنوّعة (الالتزام بالطاعة العسكرية، القناعة بالقومية المحافظة، الانتماء إلى البورجوازية أو الاشتراكية)، أشاروا، أثناء التحقيقات، إلى أن دافعهم كامنٌ في اضطهاد اليهود: »هناك من حدّد دافعه بإلغاء الحقوق المدنية، أو استبداد النظام، أو الصراع ضد الكنيسة«، معتبراً أن ما جمعهم كامنٌ في اعتبارهم هتلر »منفّذاً كبيراً للشرّ«. غير أن مدوّنات ستوفنبورغ، والمعلومات المتوفّرة عنه، أفادت أنه »وطنيّ ملتزم بألمانيا المقدّسة«، وليس مجرّد ضابط في خدمة هتلر والنازية، وأن إحساسه بالانحراف النازي عن قدسية ألمانيا جعله يبحث عن وسيلة للتخلّص من الطاغية٠
بعيداً عن الحكايات والأساطير والإبداع الموسيقي والجنون النازي، يُمكن القول إن »فالكيري« لبراين سينغر لم يخرج من إطاره الهوليوودي المحكم الصنعة، على مستوى أفلام التشويق. فعلى الرغم من المعرفة المسبقة بفشل العملية، وبالنتائج المترتبة على منفّذي المحاولة الأخيرة هذه، بسبب عجزهم عن تصفية هتلر، إلاّ أن »فالكيري« قدّم حركة مشوّقة عن التحضيرات والمناخ المرافق لها، وعمليات التجنيد، ومحاولة الاغتيال، وإطلاق عملية »فالكيري«، والصدام الحاصل بين القيادات المختلفة، قبل إعلان هتلر نفسه نجاته من الموت، عبر أثير الإذاعة، وإعدام المتآمرين جميعهم. ومع أن النصّ السينمائي مشغول ببساطة حكائية، مستندة الى وقائع القصّة المعروفة للضابط ستوفنبورغ، الذي قاد المحاولة الأخيرة؛ إلاّ أن التنفيذ البصري مصنوع بمقوّمات العمل التشويقي، المازج معالم الصراع السياسي بالحبكة البوليسية/ الاستخباراتية، مدخلاً عليها شذرات عاطفية عابرة (علاقة الضابط بزوجته وأولاده)، وإن بشكل سريع. ولعلّ تغييب الملامح كلّها الخاصّة بهتلر، مع استثناءات قليلة، يظهر فيها الرجل بأشكال مختلفة (من الخلف، أحد جانبيه، صورة أمامية سريعة)، جعلت الفوهرر شخصية سلطوية قاسية، تغيب خلف أفعالها، وتبتعد عن المشهد كي تمسك زمام الأمور بعنف وبطش٠
لا يكفي أن يُشبه الممثل الشخصية التاريخية التي يؤدّيها أمام الكاميرا، كي يُقال إن هناك براعة أدائية، أو قدرة جمالية على مقاربة الشخصية المذكورة. ذلك أن توم كروز قرّر سريعاً تأدية شخصية كلاوس فون ستوفنبورغ، عندما لاحظ الشبه بينهما، إثر وقوعه على صورة فوتوغرافية للضابط. غير أن الشبه بينهما لم يصنع أداءً تمثيلياً متحرّراً من »وسامة« الممثل الهوليوودي، أو من براعته في احتلال مكانة رفيعة المستوى في الأفلام التشويقية، لحساب شخصية مركّبة ومعقّدة، تمزج حسّاً وطنياً كبيراً برغبة صادقة في جعل القومية الاشتراكية مدخلاً إلى رفاهية الألماني وتطوّر ألمانيا. في هذا الجانب، غاب توم كروز كلّياً، لأن تقنياته الأدائية ظلّت في إطارها المعتاد في أفلام هوليوودية شتّى، إذ بدا قريباً جداً من »التشويه الهوليوودي« للثقافات الأخرى، عندما شارك في بطولة »الساموراي الأخير« (٢٠٠٣) لإدوارد زفايك، في فيلم أقلّ ما يُقال فيه إنه تسخيف هوليوودي لجمالية الساموراي، ولمعتقداته الثقافية والإنسانية والحضارية. مع هذا، قدّم كروز أدواراً قليلة جداً اتّسمت بالجمالية الفنية والأدائية إلى حدّ كبير، كدوره في رائعتي ستانلي كيوبريك (»عيون مفتوحة على اتساعها«، ١٩٩٨) وبول توماس أندرسون (مانيوليا«، ١٩٩٩)، بعد أعوام عدّة على مشاركته في »لون المال« (١٩٨٦) لمارتن سكورسيزي و»مولود في الرابع من تموز« (١٩٨٩) لأوليفر ستون مثلاً، بالإضافة إلى »ضرر« (٢٠٠٤) لمايكل مان، أو في النسخة الأميركية للفيلم الإسباني »افتح عينيك« (١٩٩٧) لأليخاندرو آمينابار، التي أنجزها كاميرون كرو في العام .٢٠٠٣ على الرغم من هذه النجاحات الأدائية اللافتة للنظر، لم يستطع كروز، في »فالكيري«، أن يطوّر تمثيله، أو أن يجعل حضوره الشخصي مرآة أصدق وأجمل للشخصية التاريخية٠
CAST & CREDIT
إخراج
Bryan Singer
تمثيل
Tom Cruise, Kenneth Branagh, Bill Nighy,
Tom Wilkinson, Carice Van Houten, Terence
Stamp, Thomas Kretschmann.
سيناريو
Christopher McQuarrie, Nathan Alexander
مدير التصوير
Newton Thomas Sigel (Color- Wide Screen).
توليف
John Ottman (121 m)
موسيقى
John Ottman
المنتجون
Gilbert Adler, Christopher McQuarrie,
Bryan Singer.
United Artists, Bad Hart Harry Prods
[USA/ Germany- 2008].
توزيع
MGM
عرض خاص | »باثوري« فيلم لمخرج سلوڤاكي حقق عشرات الأفلام ولا زال بلا
شهرة رغم أن أترابه في جمهوريتي سلوڤاكيا وجمهورية تشيك يعتبرونه فيلليني
السينما هناك٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Bathory ***1/2
إخراج: يوري ياكوبسكو٠
أدوار رئيسية: أنا فرايل، كارل رودن، هانس ماثسون٠
دراما تاريخية | شخصيات حقيقية | سلوڤاكيا 2008
...............................................................................................
نقد : محمد رضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القليل هو المعروف عن اليزابث باثوري، لكن موسوعة غينيس تضعها في المركز الأول بين القتلة الفرديين في التاريخ إذ يُقال أنها قتلت 80 شخصاً معظمهم من الشابات الصغيرات وذلك بغاية الإستحمام بدمائهن للحفاظ على شبابها. والأسطورة تقول، والفيلم يوحي، أنها كانت مصّاصة دماء. لكن الفيلم لا يفعل الكثير ليزيد من نسبة المؤكد في حياتها ربما لضحالة الثابت منها أساساً.
ما ينجزه بمهارة طوفانه على ذلك القليل المؤكد من المعلومات المتوفّرة مازجاً إياه بالكثير من التفسير والوصف الشخصي الآتي من لدن كاتبي الفيلم، المخرج ياكوبيسكو وجون بول شابل، وذلك لأجل شحن الفيلم بالأحداث. لا بأس إذا ما كانت الإضافات الخيالية تبقى النسبة الأكبر من الوقائع الثابتة، ومنها مثلاً أن العلاقة المتخيّلة بين بطلة الفيلم والرسّام الإيطالي كاراڤاجو، فما يطغي هنا هو حسنات تشكيل فيلم جميل الصورة جيّد التعبير يمزج الشعر بالإيحاء الداكن ليستخرج قراءته الخاصّة عن تلك الشخصية وتلك المرحلة بأكملها٠
نحن في المجر سنة 1593
تتزوّج الدوقة اليزابث باثوري (البريطانية آنا فرايل) من فرنس (ڤنسنت ريغن) المنشغل دائماً في قيادة الحرب ضد الغزو العثماني. ينتصر في مواقع قليلة وينهزم في أكثرها. تتعرّف في غيابه على الرسام الإيطالي كاراڤاجو الهارب من إيطاليا بإسم مستعار (هانس ماثيسون) ويقعان في الحب، رغم شذوذه. في الوقت ذاته، تشهد باثوري أحداثاً غامضة وتشعر بمؤامرت مصدرها حليف زوجها ثورزو (كارل رودن- ممثل تشيكي بتنا نراه في أفلام غربية). ثورزو يريدها لنفسه ويريد ضم ثروتها الهائلة إليه. وكل هذا يقودها هي الى حالة نفسية مضطربة تضطرها لطلب مساعدة الساحرة دارڤوليا (دينا هورڤانوڤا زوجة المخرج - كما أن كايت ونسلت زوجة مخرج الفيلم السابق سام مندس). الساحرة تنقذ حياة الدوقة وتصف لها بلسماً للحفاظ على حياتها. بعد عشر سنوات أخرى، تتراجع صحّة باثوري من جديد ويدخل صراعها ضد ثورزو مرحلة جديدة تنتهي بإقدامها في نهاية المطاف على الإنتحار بعد صدور حكم بسجنها في قلعتها بتهمة القتل٠
الفيلم مقسّم الى ثلاثة أجزاء تبدأ من العام 1593 وتمتد لأكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك. والإطار القصصي شيّق بحد ذاته: نظرة على شخصية غير مشهورة لكنها حقيقية يحيط بها الغموض وتعصف بها الظروف العاطفية في فترة تاريخية صعبة. فالمنطقة التي تحتوي الآن على المجر وجمهورية التشيك وسلوڤاكيا كانت مرتع حرب ضروس بين العثمانيين المتمددين شمال غرب وبين أبناء المنطقة (حينها كانت منطقة كاشتيس التي تقع فيها الأحداث مجرية قبل أن تصبح سلوڤكية). لكنها لم تكن الحرب الوحيدة، بل كانت هناك محاولات بعض السكان المحليين خطف مسيحيات شابّات لبيعهن الى الأتراك كحريم. الى ذلك، كانت هناك حروباً ومؤامرات بين الكنيستين البروتستانتية (التي انتمت اليها اليزابث باثوري) وبين تلك الكاثوليكية. الفيلم يتعرّض لكل هذا مصوّراً مشاهد معارك معتنى بتنفيذها، ولو كانت قصيرة المدى وغير ملحمية الوقع، ومؤمناً شروط الفيلم التاريخي بعناصر تكوين تخص السينما الشرق أوروبية وحدها وكما لم نره منذ زمن بعيد على هذا النحو٠
رغم ذلك، شخصية اليزابث باثوري سرعان ما تصبح مشكلة تعترض الفيلم حتى مع احتمال استمتاع المُشاهد بها كونها -سينمائياً- موحية وجاذبة للإهتمام، ذلك أن الفيلم يحاول خلق شخصية تراجيدية منها. جزء منها بطولي وجزء منها ضحية. لكن كلّما مضى قليلاً في هذا الإتجاه نقضه وعاد الى السؤال الأساسي حول حقيقتها من دون كثير تحديد٠ كذلك، يدفع السيناريو بشخصية الرسّام الإيطالي كارافاجو الى ذلك الوضع من دون ذنب جناه. يبقى مشكوك به جدّاً أنه الظروف ساقته الى تلك المنطقة الملتهبة وأنه تعرّف فعلاً على الدوقة الثرية٠
لكن القوّة التي يتمتع فيها الفيلم على صعيد المشاهد العامّة واتقان التصاميم التفصيلية للفترة كما على صعيد تصميم المشاهد ما يخلق انسياباً وثراءاً بصرياً جيّداً وواقعياً، هناك رغبة ملحوظة لدى المخرج في الإسراع في تسيير بعض المشاهد فإذا بها تقترح شيئاً ثم تمضي عنه قبل أن تستوفي السبب الذي من أجله كُتبت او اختيرت.
النافذة الخلفية | فيلم جين ساكس »الثنائي النقيض« شق
طريقه منذ سنة 1968 ليصبح واحداً من أنجح أفلام جاك ليمون
ووولتر ماثاو الكوميدية. هو أيضاً الفيلم الوحيد للمخرج ساكس
والكاتب نيل سايمون الذي يستحق الإعجاب--- ولــو بحدود٠
................................................................................................
The Odd Couple (1968) **1/2
Gene Saks: إخراج
Jack Lemmon, Walter Matthau : بطولة
................................................................................................
نقد: محمد رُضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاك ليمون ووولتر ماثاو كانا كوميديين جديرين بالكلمة ٠
ليمون [1925- 2001] ذو الوجه الأليف، ظهر في أدوار صغيرة غير كوميدية من العام 1949 ولم يجد ناصيته الكوميدية الا بعد عشر سنوات حينما ظهر مع توني كيرتس ومارلين مونرو في فيلم بيلي وايلدر
Some Like it Hot
ومع المخرج ذاته لعب ليمون بعض الأفضل من بين كل أفلامه فظهر -مثلاً- مع تشيرلي مكلين في
Irma La Douce
سنة 1963 وقبله بثلاث سنوات ظهر في
The Apartment
أيضاً مع شيرلي مكلين كما مع وجه آخر ظهر مع بيلي وايلدر أكثر من مرّة هو فرد مكموري٠
في العام 1966 جمعه بيلي وايلدر مع وولتر ماثاو لأول مرّة وذلك في فيلم
The Fortune Cookie
ماثاو [1920-2000] أنطلق أيضاً بأدوار صغيرة لكن من العام 1955 ومر في الكثير من الأوجه والأدوار قبل أن يستقر على الكوميديا مع فيلمه الأول مع ليمون، »حلوى الحظ«٠
في حين أن فيلم ليمون- ماثاو الأول ذاك كان عن كتابة مباشرة للسينما (كان بيلي وايلدر دائم الإعتماد على
I.A.L. Diamond
الذي كان كاتباً جيّداً) جاء الثاني ترجمة سينمائية لمسرحية كتبها نيل سايمون (ونالت نجاحاً كبيراً) تحت نفس العنوان٠
جين ساكس ليس بيلي وايلدر ودرايته الفنية محدودة. ويظهر ذلك على الفيلم. لكنه وجد في مسرحية سايمون خامة جاهزة لتقديم هذين الكوميديين اللذين نجحا تجارياً في »حلوى الحظ«٠ وهي خامة جيّدة بالفعل من حيث ارتكازها على رجلين مستقيمين (غير شاذّين) يدفعها ظرف معيّن للعيش معاً تحت سقف شقّة واحدة. على الرغم من أنهما مستقيمان الا أن الأحداث ومراميها وأبعادها تحوّل أحدهما، كما سنرى، الى مفهوم الزوج والثاني الى مفهوم الزوجة٠
جاك ليمون هو فيلكس الذي طردته زوجته من البيت فهام على وجهه في شوارع نيويورك. أصدقاءه في لعبة البوكر ومنهم أوسكار (ماثاو) منشغلين في لقائهم الأسبوعي على طاولة اللعب في شقّة أوسكار الفسيحة ويتساؤلون لماذا لم يظهر فيلكس بعد. فيلكس يحاول الإنتحار لكنه يفشل وهذا ما يزيد من شعوره بالأسى. أخيراً يظهر طارقاً الباب محمّلاً بالإحباط وبعد قليل يتوجّه الى نافذة الشقّة ليرمي نفسه. أصدقاءه يستوقفونه. الحل أن يمضي بعض الوقت في شقّة أوسكار المنفصل عن زوجته، إلى أن يتخلّص من إحباطه٠ هذا لا يحدث رغم المحاولات وسريعاً ما يكتشف أوسكار في فيلكس مزايا لم يكن يعرفها ولا يود أن يعرفها أهمها تدقيق فيلكس في كل الأمور وقيامه بالتنظيف والترتيب. إنه من العناية وحب الإدارة الى حد يزعج أوسكار كثيراً٠ معظم الفيلم هو كر وفر بين شخصيّتين متناقضتين وأعتقد أن القاريء بات يعرف الآن أيهما كان الرجل وأيهما كان المرأة في هذا اللقاء الذي ينتقل من الود الى الشجار٠
في واحد من فصول الفيلم المضحكة، يؤدي شجارهما الى رحيل فيلكس وشعور أوسكار بالندم والقلق على مصير فيلكس. بعد قليل يطرق فيلكس الباب ومعه جارتي أوسكار (مونيكا إيفنز ونيكول شيلي) شقيقتان مغناجتان جذّابتان ومنجذبتين الى فيلكس المسكين الذي يبدو كما لو أن أوسكار أساء معاملته. لكن أوسكار لا يكترث للتهمة. كل ما يريده هو أن يقضي وقتاً ممتعاً مع أي من هاتين المرأتين.... مرّة ثانية سيؤدي تصرّف فيلكس الى إحباط غايات أوسكار٠
الفيلم مسل جدّاً بفضل كتابته وتمثيله . لكن مشاهده الأخيرة هي أقل أهمية مما سبقها. بالنسبة لإخراج جين ساكس فهو فارغ من الحسنات الا تلك التنفيذية المحضة. ومن شاهد المسرحية الأصلية وشاهد الفيلم أفاد بأن ساكس لم يكن عليه سوى أخذ المسرحية كما هي وتصويرها في الشقّة عوض خشبة المسرح٠
سينما مجهولة | المخرج التركي علي أوزجنتيك أعاد سينما
الواقع التي أطلقها الراحل يلماز غونيه الى الواجهة حين أخرج
هذا الفيلم الرائع عن رجل وحصانه٠
................................................................................................
At (1982) ****
اخراج: علي أوجنتيرك
بطولة: جينكو أوركال، بكتاس ألتينوك، هايمي بكر،.
................................................................................................
نقد: محمد رُضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي أوزجنتيرك، اسم غير معروف على اللائحة الدولية، لكنه سينمائي مثقف وحساس، وكما برهن فيلمه هذا، مخرج لا يخشى التجربة ولا يفشل فيها أيضاً. نعرف عنه أنه يمتلك عينان تلاحقان أدق الملاحظات، وحساً يعرف أكثر تفاصيل العيش، وتجاوباً من واقع الحياة التي لدى إبطاله، يتجاوز المخرج مجرد تصوير فيلم عنهم إلى تصويرهم. بأنفسهم، يقودهم في ذلك ممثل خارق اسمه جينكو أوركال، يكاد يكون أفضل ممثل تركي شوهد منذ سنوات بعيدة، وحتى أكون أكثر وضوحاً، ربما هو الممثل التركي الوحيد المناسب لهذا الدور على الأقل بين الوجوه التي تعرفنا عليها سواء بين أنماط تجارية أو أفلام يلماز غونيه الجادة. إنه ممتاز في تشخيصه، يحمل ملامح وجه لا أقنعة عليه، ومقنع بحيث يمكن تصديق أمره إذا ما قيل لنا ـ افتراضاً ـ أنه ليس ممثلاً على الإطلاق بل بائع خضار متجول بالفعل، لم يكن يدري أن الكاميرا كانت تصوره طوال الوقت. وإن حياته قد انتهت فعلاً بالحادثة التي نراها في نهاية الفيلم. هذا المثمل يصل إلى مثل هذه الدرجة من التجسيد دون عناء، ودون لافتات أو مواقف يقدمها للفت النظر إليه، وقد تم أساساً على كتفيه، كما على حسن المعالجة والإدارة الفنية له وللعمل ككل من مخرج عرف أفضل الوسائل لتقديم هذا الفيلم بالشكل الذي جاء عليه فانتهجها٠
علي أوزجنتيرك يقدم فيلماً يتحدث عن الفقر في بلاده. ويصل مباشرة إلى الصورة السليمة لتقديمه، فهو لم يأت إليه سائحاً ليثير شفقة الناس، ومبتذلاً لبعض العطف، ولا جاء بمفهوم مضاد ـ بالضرورة ـ لكل ما هو ليس فقيراً ومنطلقاً من صورة داكنة تعلن عن نفسها، بل حط، مثل طائر يعرف تماماً موضع مخلبيه، على المشكلة من رأسها، فحكى قصة كاملة وغاب في واقع المشكلة تماماً وعرف موقعه من دون صخب أو ضجيج في وسط كل هذا لم يفته أن يجرب ألواناً من وسائل التعبير جاءت بدورها بسيطة، سلسلة ومتواضعة جداً.
تبدأ القصة في القرية الفرحة، وللوهلة الأولى نعتقد أن الفيلم قد ضل طريقه من البداية فانكمش في حركة البيئة ذاتها التي لا يمكن نقلها إلى الشاشة كما هي دون بطء، لكن هذا الاعتقاد يزول سريعاً عندما نرى الرجل وابنه يهبطان المدينة، فالأب يريد أن يعمل فيها ويدخل ابنه مدرسة مجانية ليتعلم القراءة والكتابة كما لم يفعل أحد من عائلته من قبل. في المدينة الحافلة ينال الأب عربة خضار وفاكهة ويتعرف منذ البداية على شقاء العمل، فالرجل الذي يؤمن المبيت والفاكهة ينال جزءاً كبيراً من المحصول، ويطارد البوليس البائعين المتجولين من حي إلى آخر، وبالطبع ليست هناك أي نوع من الضمانات التي من شأنها تأمين سير العمل تحت أي ظروف. أما المدرسة فإنها ترفض الولد طالما أن والده على قيد الحياة، فينصرف الولد إلى حياة الشوارع يصاحب أولاداً آخرين باتت لديهم خبرات شوارعية يمارسونها في البيع والتسول والتسلل إلى أملاك الغير، كما في الانقياد وراء تجارب المراهقة المبكرة. ويضعنا علي أمام واحد من المشاهد التي نصدق أنها لا بد أنها تحدث، فأحد هؤلاء الأولاد، أحنكهم، يذهب إلى عاهرة عجوز وعمياء ليمارس الحب معها، وينقل المخرج حينها عمق المأساة القاسية من خلال تجربة التعاطي المتولد من كل الرغبات المادية والعاطفية والمنتهي إلى لذة اللحظة ذاتها من دون أي حس إنساني. إنها حياة يلاحظها الصبي القروي وهو يتفرج على زميله ابن الثانية أو الثالثة عشر في وضعه فيبكي٠
لاحقاً، وفي السجن بتهمة التسكع والتسول مع أصدقائه، يغني للألم الذي بدأ يعايشه، للظلمة التي تنتشر من حيطان السجن الصغير إلى جوانب صدره من قبل أن يأتي والده ويخلصه. والده في الوقت ذاته كان يبكي أيضاً، فقد داهمت السلطات عربته بالقرب من النهر، ألقت حمولتها في الماء واحتجزت العربة، وهناك مشهد لا يقل قوة عن أفضل مشاهد الفيلم، وهو ذلك الذي يحاول فيه الأب بكل قوته أن يمنع الشرطة من الاستيلاء على عربته، وعندما يضعونها في الشاحنة مبتعدين يلحقها راكضاً وراء الشاحنة. من يتعجب، إذا وجد من يتعجب، أحد لإصرار الرجل على استرداد عربته، يجد في مشاهد أخرى رداً على تعجبه. بل الأحرى أنه سيجد أن الفيلم كله يقوم على ما يعني وجدو هذه العربة لذلك الرجل، الأحلام التي تعنيها، والسبيل الوحيد الذي يعرف فيه كيف يداوم فعل العيش٠
صاحبنا يحاول استرداد عربته لاحقاً من مركز للشرطة، فيرمي خارجها، ابنه، كما يعرف، بدأ ضياعه في المدينة، وهو لا يملك مالاً للعيش ولا إمكانية بدء العمل من جديد. أكثر من ذلك يدرك أن خسارته لحلم أن يدرس ابنه في مدرسة لم تتوقف عند ذلك الحد، بل إنه قد خسر الآن أهم ما في حياة الرجل الفقير: القدرة على تأمين قوت اليوم. تحت هذا اليأس والواقع يقدم على سرقة عربة زميل له ويقودها فارغة في منتصف الليل إلى السوق. يبزغ النهار ويلتئم الشمل، ويتصرف الرجل وكأنه مالك للعربة الفارغة التي يقف عندها... من بعيد يجيء صاحبها وقد فقد جزءاً من رشده، فالفاصل بين الحياة والموت هو أيضاً القوت اليومي الذي عليه أن يحصله، ولا أحد ـ تحت أي دافع ـ يستطيع أن يمنعه من حماية قوته. يتلاحم الرجلان ويسقبط الأب قتيلاً. قتل الفقير الفقير ونفذت السلطة حكمها بعد التخلي عن العربة. وفي النهاية يعود الصبي إلى القرية حاملاً النعش على سيارة أجرة٠
الحصان في هذا الفيلم له أكثر من دلالة. في مشاهد جميلة نرى الصبي يتذكر الحصان الجميل الذي كان يداعبه في القرية، في مشاهد أخرى نربط بين المعنى الذي يجسده الفرس وتلك الأحلام المنهارة أو ذلك الواقع اليائس على النقيض من البساطة والجمال والحياة المنطلقة التي تمثلها الحياة القروية. في صورة أكيدة، يتناول علي أوزجنتيك حقيقة أن كل ابن مدينة فقير، أو كل مغترب، يبقى في مؤخرة رأسه ذلك الحلم الجميل بالعودة إلى القرية أو الريف، يبقى لديه قدرة على تذكر أجمل ما فيها عنده. لكن أوزجنتيرك لا يحقق فيلماً يقارن به حياة القرية بحياة المدينة على أساس أن الأولى تخلو من أي هوان أو أنها الأقدر على تحقيق الآمال، بل أن حقيقة اضطرار الرجل وابنه للنزوح منها هو في حد ذاته شهادة على الحاجة والعوز اللذين يقعان في القرية كما في المدينة. طالما أن الحاجة الاجتماعية هي واحدة٠
أوزجنتيك أيضاً لا يترك فرصة تمضي من دون أن يمارس نوعاً من الرمزية هنا ولوناً من الخيال، لكنه لا يشطط في أي منهما بل يحسن استخدامهما في الفيلم ولا يجعلهما يخرجان للعمل عن صورته وأسلوبه الواقعيين. بل أن «حصان» ـ الفيلم ينتمي أساساً إلى السينما الواقعية التي لم نعد نرى إلا النادر عن نماذجها هذه الأيام. فيلم يعيش هذا الواقع ويختلط به، يعايش الفقر من دون أن يكون فيلماً فقيراً في أي جانب، مخرجه على دراية كبيرة بحياة الأسواق وبحياة الشوارع بالنسبة للأب وللابن على حد سواء. لديه عين ناقدة وواعية على عيوب المجتمع وعيوب الناس فقراء وأغنياء، لكنه ـ وعن ذكاء أيضاً ـ لا يحارب، ولا يتدخل لصالح فريق رغم عواطفه ومواقفه معه، بل يصب جل تفكيره على إخراج فيلم كامل، حقيقي، له صوت مؤلم وينقل صورة حية عن الشريحة الاجتماعية التي يقدم.
ويبتعد المخرج عن تزيين مواقفه أو مشاهده، يستخدم أسلوباً بسيطاً لا تعقده حقيقة اعتماده على لقطات فنية. ومحطات رمزية أو سوريالية، وتصويراً حياً ينتقل بين العدسات المقربة لكاميرا تقف بعيداً حتى لا تختلط بالناس في الأسواق وتسرق عنهم حالاتهم اليومية كما هي، وبين اللقطات القريبة للمواقف التي يتداخل فيها المثملون الذين يجيدون أدوارهم. هنا من الواجب التذكير بالممثلين وبقدراتهم الكبيرة. لا، ليس من الضروري دراسة فن التمثيل في لندن أو سان فرنسيسكو لكي تصبح عملاقاً، البعض ـ والسينما العربية تحوي العديد منهم وكذلك التركية ـ يولدون هكذا ـ عمالقة، وعلي أوزجنتيك لديه أكثر من برهان على ذلك٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2008٠
حين يكتب الناقد يضع في حسبانه أن قرّاءه ربما لم يشاهدوا الفيلم بعد٠
وحين يكتب الناقد يضع في حسبانه أيضاً أن بعض قرائه لن يشاهدوا الفيلم٠
إما بإختيارهم او لأن الفيلم لا يصل ولا هم قادرين على الوصول إليه٠
رغم ذلك يكتب. لا يستطيع الا أن يفعل. إذا لم يفعل يعتبر نفسه غير متفاعل مع العمل الذي اختاره لنفسه. إذا لم يفعل سيشعر بأنه تخلّى عن دوره في الحياة. إذا لم يفعل مات٠
والمأزق هو: حين يكتب - مدركاً أن القلة ستشاهد الفيلم وأقل منها من شاهده فعلاً- هو كيف يكتب. لا أعنى المفردات والرأي والصياغة اللغوية البحتة، بل أعني كيف يكتب ليتجاوز هذا الخاطر المزعج بأن القلّة تقرأ والغالبية لا تكترث٠
بعض النقاد، شرقاً وغرباً، ينجح في جعل مادّته النقدية مثل الفيلم السينمائي الجيد: جاذبة بحد ذاتها. هؤلاء يتمنّون -إن كان هذا ممكناً- أن يكون القاريء محبّاً لقراءة المادة النقدية عن أي فيلم نظراً لأنها مكتوبة جيّداً وبعمق وبفيض من المعلومات يجعلها مهمّة بحد ذاتها٠ أنا نفسي أحاول ذلك وأعلم أن آخرين يحاولون ذلك أيضاً. لكن الغالبية، شرقاً وغرباً مرّة أخرى، تفعل ذلك وتحمد الله على أن هناك راتباً شهرياً ينتظرها. هذا الراتب يتحوّل الى غاية بحد ذاته٠
هل ترانا ننجح؟
وما هو الفرق بين ناقد ناجح (والنجاح ليس مادياً) وآخر غير ناجح؟
أعتقد أن القاريء يستطيع أن يجيب على هذا السؤال أفضل منّي٠
Cut
سينما عربية | يجد الزميل عدنان مدانات أن ما يطرحه
فيلم نجوى النجّار الفلسطيني »المر والرمّان« ليس جديداً٠
................................................................................................
المر والرمّان
إخراج: نجوى النجّار
علي سليمان، ياسمين المصري، أشرف فرح، هيام عباس
................................................................................................
نقد: عدنان مدانات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهدف المعلن لفيلم “المر والرمان” للمخرجة الفلسطينية نجوى النجار هو تبيان أن الفلسطينيين متمسكون بالحياة والأمل رغم ظروف الاحتلال وقسوته. تعبّر المخرجة عن الأمل و الحياة في فيلمها الروائي الطويل الأول، والذي عرض في مهرجان دبي السينمائي خارج المسابقة وضمن برنامج العرض العالمي الأول، من خلال حكاية شابة تهوى الرقص وتصر على المضي قدما في تدريبات الرقص الشعبي مع الفرقة التي تنتمي إليها وصولا إلى تقديم عرض احتفالي يقام بمناسبة افتتاح مدينة ملاهٍ، وذلك على الرغم من كل المشاكل النفسية العاطفية والشخصية العائلية والاجتماعية، إضافة إلى المشاكل الناجمة عن الاحتلال ومصادرة الأرض من قبل المستوطنين “الإسرائيليين”.
هذا النوع من التعبير عن الأمل والإصرار على الحياة من خلال حكاية تجربة الرقص لا يقول الكثير بحد ذاته وما يقوله لا يتسم بالعمق ولا يمتلك قوة التأثير، فالحكاية، كما الفكرة التي تتضمنها، ليست جديدة وتكررت في العديد من الأفلام العالمية خاصة ذات التوجه الجماهيري. وعلى الرغم مما للحكاية المثيرة والمبنية جيدا من أهمية في الأفلام، إلا أن الحكاية هنا والتي تتمحور حول بطلة الفيلم ليست إلا الإطار العام الذي يضم أحداث الفيلم ومقولاته، والاكتفاء بقراءة الفيلم من خلالها هو نوع من التعامل السطحي الذي لا يبحث في الفيلم إلا عن ظاهر الحكاية وخطها العام ولا يكتشف ما هو موجود بين السطور وما في التفاصيل من إضافات تغني وتحول الأنظار عن مجرى الحكاية إلى قراءة متعددة النواحي للتجربة الإنسانية و للواقع الاجتماعي بحيث لا تعود فكرة الأمل والتمسك بالحق في الحياة هي المهمة هنا، بل المهم هو الأفكار الأخرى التي تتمخض عن تفاصيل وتقلبات الحكاية.
ما هي هذه التفاصيل والأحداث وتقلباتها التي يثير بعضها أسئلة لها احتمالات أجوبة مختلفة والتي نجدها في هذا الفيلم ذي النكهة النسائية الواضحة؟
بطلة الفيلم، وهي عضو في فرقة محلية للرقص الشعبي تتزوج شابا من أسرة تملك مزارع زيتون. العائلتان من الطائفة المسيحية. هناك إصرار على أن يتم الزواج في القدس رغم عوائق الحواجز العسكرية “الإسرائيلية” على الطريق نحو القدس. تجري مراسيم الزواج بفرح ورقص.
ذات يوم ومع اقتراب موسم حصد الزيتون تستولي مجموعة من المستوطنين بمساعدة الجيش “الإسرائيلي” على جزء كبير من أرض عائلة الزوج. بعد صدام بين الزوج والمستوطنين يساق الزوج إلى السجن ويبقى فيه طويلا كموقوف إداري. تحاول الزوجة، التي قامت بشؤون تسويق نتاج المزرعة، توكيل محامية يهودية للإفراج عن زوجها، لكن بلا فائدة، فالمحامية التي بدت متفهمة عاجزة أمام القوانين “الإسرائيلية” العسكرية. في هذه الأثناء يعرّف مدير الفرقة الزوجة الشابة، بعد أن قررت العودة للرقص الذي توقفت عنه عقب الزواج متجاهلة الاعتراضات العائلية على مسلكها، على المدرب الجديد العائد من لبنان. أثناء التدريب المنفرد للزوجة يتضح أن العلاقة بين الاثنين صارت تتعدى الرقص باتجاه علاقة خاصة، ولكن لا يوضح الفيلم صراحة إن كانت وصلت إلى الخيانة الزوجية مع أن صاحبة مقهى يلتقي فيه الاثنان أحيانا، وهي امرأة فلسطينية متوحدة ومسترجلة، تحاول تشجيعهما على المضي قدما في تلك العلاقة خاصة بعدما أمضى الثلاثة الليل معا متمددين جنبا إلى جنب، بسبب منع التجول الطارئ الذي منع الاثنين من مغادرة المقهى. أثناء زيارة الزوجة للزوج المعتقل تحاول إقناعه بالتوقيع على التنازل عن الجزء المستولى عليه من الأرض من قبل المستوطنين لأن أحوال العائلة والمزرعة بدأت تسوء، وأحوالها هي وأزمتها الشخصية والعاطفية، لم تعد تحتمل غيابه، لكن الزوج يرفض بإصرار مدركا أنه بذلك سيتعرض إلى تمديد متكرر لفترة الاعتقال الإداري. في مشهد مفاجئ نرى الزوجة عائدة ليلا في سيارة المدرب، ويوقف المدرب السيارة ويطلب منها أن تكون له كليا، فترفض، مما يجعله يغضب ويتهمها بأنها تتنكر لما بينهما وبالتالي يطردها خارج السيارة لتبقى وحيدة في الشارع المظلم. بعد خلاف مع المدير يتخلى المدرب عن الفرقة ويقرر أن يعمل على تنفيذ مشروعه الخاص المتمثل بافتتاح مدينة للألعاب تكون محطة ترفيهية للمواطنين. تعود الزوجة للتعاون مع المدرب في الفرقة البديلة التي أسسها، ولا نجد توضيحاً لسبب عودتها، والتي يفترض أن تقدم أول عروضها ليلة افتتاح مدينة الملاهي. في هذه الأثناء يخرج الزوج من السجن، ولا يوجد أيضاً توضيح لسبب خروجه، ونراه، في المشهد الختامي للفيلم، بعد أن يتفقد البيت ومعصرة الزيتون والأرض استولى عليها المستوطنون وأحاطوها بالأسلاك، وهو يتفرج برضى على زوجته وهي ترقص ضمن الفرقة ليلة الافتتاح.
أفلام جديدة | فيلم سام منديس الجديد يتناول جانباً
غير مطروق عن الرغبة المهزومة في الإنعتاق من الواقع٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Revolutionary Road ****
إخراج: سام منديس٠
أدوار رئيسية: كيت ونسلِت، ليونارد دي كابريو
دراما إجتماعية | أميركي 2008
...............................................................................................
نقد: محمد رضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسب نقاد أدب، رواية رتشارد ياتس، المنشورة سنة 1961، هي أهم كتاباته وأكثرها استمرارية او خلوداً وفيلم مانديس ربما يساهم في جعلها تدوم أكثر لدى جيل جديد لم يقرأها. الفيلم دافع لقراءتها لكل من لم يفعل بصرف النظر عن الجيل الذي ينتمي إليه٠
على الرغم من ذلك الفيلم ليس مصنوعاً لتخليد الأصل او لنقله بأمانة او بلا أمانة. بالنسبة لهذا الناقد الذي لم تتح له فرصة قراءة الأصل بعد، فإن الفيلم ينجح في الوقوف على قدميه الخاصّتين به من دون عكاز المادة الأدبية. لاحظ مثلاً المشاهد الأولى من بداية الفيلم٠
لقطة تأسيسية عامّة: ضاحية من المدينة في الليل٠
قطع إلى حفلة مقامة. فرانك (ليونارد دي كابريو) يستمع الى متحدّث له وينظر بعيداً صوب إمرأة وقفت تتحدّث براحة وفي يدها سيغارة الى إمرأة أخرى. إنها أبريل (كيت ونسلت) التي ستكون زوجته. ينظر اليها وتراه ينظر اليها. بعد نصف دقيقة، ها هو -في لقطة ثالثة- يتحدّث إليها واقفاً مكان المرأة التي كانت تتحدّث إليها في اللقطة السابقة٠
هذا ليس فقط اختزال (ربما لصفحتين او أكثر من الرواية) بل بلاغة. ليس مهمّاً كيف ترك مكانه الى مكانها ولا ماذا قال ليستدعي اهتمامها وكيف باشر حديثه معها. المهم هو أنه فعل. ثلاث لقطات مختزلة وغير متسارعة (هذا مهم)٠
هناك اعتناء خاص بالتكوين المكاني والبصري للقطة والمشهد والفيلم. هذا ليس بمقدور كل مخرج فعله على نحو يشكّل أسلوباً ومنديس يشكّل ذلك الأسلوب. يجعل من تحديد الصورة. تكوينها. الإستغناء عن الحركات التصويرية الفائضة عن الحاجة منهجاً وينجح في ذلك نجاحاً كبيراً٠
خذ مثلاً آخر إذا سمحت
هناك لقطة تهرب فيه آبريل من البيت تريد الإبتعاد عن كل شيء والخلو بنفسها في الحرش القريب. تجتاز الشارع المواجه لبيتها ويلحق بها الزوج الملح فرانك. إذ يجتاز الشارع يفعل ذلك من دون توقّف. منديس لا يتدخل ليرينا سيّارة تظهر فجأة وتكاد تدهسه بغية التأكيد على مدى انغماسه وانشغاله في اللحظة التي يطارد فيها زوجته. مخرج آخر ربما كان فعل لتأكيد ما لم يجده المخرج منديس بحاجة للتأكيد. مخرج آخر كان -ربما- سيصوّر لقطة لسائق تلك السيارة وهو يصيح بفرانك »هل أنت مجنون؟« وفرانك ربما يتجاهله او يعتذر منه. منديس على هذا القدر من رمي القشور واللوازم بعيداً لدرجة تعرية الفيلم من كل ما قد يدخل على الخط بلا وظيفة أساسية٠ لا توجد لقطة كان يمكن الغائها (الا ما كان لغاه حين جلس والمونتير الممتاز طارق أنور) لكنها بقيت ولا لقطة للتسلية او للراحة٠
في أول حديث لأبريل مع فرانك تعرّف بنفسها على أنها ممثلة. وفي مشهد قريب نراه جالساً يتابعها في نهاية مسرحية تشترك فيها ويسمع تعليق إمرأة خلفه بأنها أدّت تمثيلاً رديئاً. هذا سريعاً ما يتبدّى كرأي سائد من دون أن نسمعه كثيراً. نراها تبكي لإدراكها أنها لم تقم بإداء جيد. وهو يعلم ذلك ويختار، حين دخول غرفتها وراء الستارة، أن يعلمها بذلك متأسّفاً. إنهما الآن متزوّجان ويستطيع أن يخبرها بذلك. وتستطيع هي أن لا تتظاهر بالمعارضة او بالموافقة. بل أن تطلب منه أن يتركها وشأنها فهي تعلم ما يقول. إنه من هذا المشهد، سيشعر المشاهد بأن هناك خطّاً موازياً يمر في منتصف هذه العلاقة ويجعلها متوتّرة وحادّة. ليس أن هذا هو أمر طبيعي بين كل زوجين. حتى ولو كان فإن المسألة هي أن هذا النموذج الذي نراه ليس تماماً كسواه. الفيلم بأسره كان يمكن له أن يتعرّض لما يذكّرنا بأنه عملية تقليدية تشبه أعمالاً أخرى عن الزواج ومشاكله. لكنه ليس كذلك وبعض قيمته لابد تعود الى الرواية من حيث رصدها الحياة في الخمسينات وما وعدت به وما لم تنجزه، لكن القيمة الفنية هي للدراما التي تتألّف أمامنا وطريقة المخرج في صياغتها فنياً وجمالياً وأسلوبياً٠
قصّة »ريڤوليوشنري رود« (ولن أعرّب الكلمة لأن العنوان عائد الى شارع بذلك الإسم) تتناول حياة هذين الزوجين اللذين أنجبا ولدين. هو يعمل في مؤسسة لبيع المنتجات الآلية الضخمة في نيويورك. يقود سيّارته ويركنها عند المحطّة ثم يأخذ القطار الى قلب نيويورك وفي الليل يعود بنفس الطريقة. وهي تركت التمثيل وراءها وأصبحت زوجة تعتني بالأولاد والبيت. فلاشباك صغير لكيف وجدت وزوجها هذا البيت الأبيض وذلك حين قامت إمرأة تعرفهما وتعمل وكيلة عقارات أسمها هيلين (كاثي بايتس) باصطحابهما الى البيت. لاحقاً هيلين تتقدّم من الزوجة وتسر لها أن لديها إبناً أسمه جون (مايكل شانون) يعاني اضطراباً نفسياً ونصيحة الإخصائي هي تعريضه لمزيد من العلاقات والمعارف الإجتماعية٠ توافق أبريل ذات القلب الأبيض٠ في هذا الوقت يمضي الزوج وقته في المكتب في عمل لا يطيقه ولا يعني له شيئاً، وكما يقول لاحقاً للسكرتيرة الجديدة التي أصبحت رفيقة فراش من يومها الأول مورين (زو كازان) "كنت أنظر الى والدي الذي كان يعمل في هذه المؤسسة وأتمنّى أن لا أصبح هو حين أكبر. السخرية هي أنني أصبحت مثله الآن"٠
يوما ما يعود الى البيت وإذا بزوجته تفاجئه بفكرة: "لنذهب للعيش في باريس«٠ كالمتوقّع سيعارض الزوج الفكرة المفاجئة غالباً لأنها مفاجئة، لكن فرانك سيستمع بإمعان لمبررات زوجته وسيوقن أنها تتحدث عن واقع حين تسأله عن السبب الذي يجعله قابل بالتحوّل الى موظّف عوض السعي للحياة على النحو الذي كان دائماً ما يتمنّاه. فرانك، وقد اقتنع، يقدّم استقالته، لكن مديراً عامّاً للشركة غير مطلع على استقالته يعرض عليه ترقية وزيادة راتب. الشك في أنه يريد أن يقدم على خطوة الإنتقال الى باريس يرتفع داخله. يبدأ بالنظر الى الأمور من زاوية أن ليس لديه دافعاً قوياً للتغيير وأن زوجته إنما كانت تحلم بالسعادة في مكان آخر بينما تستطيع تحقيقها الآن٠
إثر خناقة أخرى بينهما تقتنع. وكانت أعلمته -بعدما مارسا الغرام بعد فترة لم يتقاربا- بأنها حبلى. الآن الحبل يصبح عنصر مشاجرة آخر٠ سريعاً ما يبدو كل منهما سائر في إتجاه مختلف. حتى حين يعترف بأنه خانها، وذلك بعد خيانة من جانبها مع جاره تشب (ديفيد هاربور) لا تجد في ذاتها سبباً للغضب. مشاجرة أخرى. في اليوم التالي هدوء ظاهر. يداخله الإعتقاد بأن ما حدث صار خلفهما لكنها ستقدم خلال غيابه في المكتب على عمل ينقل المسألة الى مصير مختلف آخر٠
الفيلم ليس عن الحلم الأميركي بالمعنى الذي تناولته أفلام عديدة أخرى. ليس هناك السعي للوصول ثم ذلك الإنحسار او الإنكفاء نظراً لمعطيات تتسبب في عجز الحالم على الوصول. إنه عن إمرأة تحاول لملمة حلماً بحياة وتراه ممكن التحقيق خارج المعهود. غايتها ليس قهر الحلم الأميركي بل الهروب منه ومن تبعاته. كذلك هو الزوج الذي يستطيع تحقيق الحلم الأميركي إذا ما اعتنى بعمله قليلاً أكثر، ثم ها هو يجد أن الأمر ممكناً إذا ما تراجع عن استقالته وارتاح لحياة من المكتب الى البيت وربما مع علاقة جانبية تؤمن له إستقراراً نفسياً إضافياً٠
القيمة في كل ذلك هو أن ما تريده أبريل لهما هو الحقيقة. رد فعل فرانك هو الخيال، لكن الواقع هو أمر ثالث وهو ما تحاول تجنّب طرحه في الوقت الذي يحاول هو التمسّك به. الواقع هو الذي يهزمها ليس لأن حلمها لا أساس له من الواقع بحد ذاته، بل يهزمها حين يسطو على تفكير زوجها. أبريل ترى زوجها السبب الذي لم تعد فيه سعيدة. لقد كانت مستعدة للمغامرة. أقنعت زوجها او هكذا خيّل لها، لكن زوجها يبدو أنه ارتاح من عناء البحث عن تحقيق ذات أخرى غير تلك التي لديه. أرتاح لصورة أبيه الذي كان يرفض أن يصبح مثله. داهمه ذلك وعاد الى زوجته متراجعاً. في لقطة تلخص كل هذا حينما تقول لجارهما أن زوجها نال ما أراد من الحياة اما هي فلم تنل منها شيئاً. لا ننسى أنها كانت تطمح لأن تصبح ممثلة فأصبحت زوجة من دون أن تحقق تلك الغاية الأولى٠
هذه الطروحات جميلة وأساسية في أفلام منديس الأربعة الى اليوم (من »جمال أميركي« وما بعد). لكن هذا الفيلم هو أفضل أعماله، بما فيها »جمال أميركي« رغم أن منوال ثلاثة منها هو ذلك البيت غير السعيد. هناك نجد النسيج الكامل على نحو صحيح: الصورة كما عند روجر ديكنز ممتازة في إختيار زواياه وحجم اللقطة حسب حجم الشاشة مع العمق في البؤرة والثراء في مكوّنات الصورة. إنها جزء من عين منديس السينمائية كما عرفناها في »جمال أميركي« كونها جزء من أسلوبه. لكن الإضافة هنا هو أنه أكثر ثقة بذلك الأسلوب وبصياغة عرض قصصي متتال يحتوي على خصائص التمثيل والتكوين التصميمي المسرحي من دون أن يكون مسرحياً. فقط خبرة منديس على المسرح هي التي تساعده على إتقان تابلوهات مسرحية لكنها لا تتدخل في إختياراته من عناصر العمل السينمائي المختلفة٠
كيت وينسلت تمثّل بكل جوارحها وجوارحها دائماً عميقة. دي كابريو يواصل تبلوره ممثلاً مضيفاً هنا ظلالات مختلفة على شخصيّته. لم يعد النجم الذي يحاول توظيف وضعه في شباك التذاكر لخدمة نفسه، بل -ومنذ فيلم مارتن سكورسيزي »المغادر- أصبح من يريد أن يتوغّل في الذات الأخرى التي يتقمّصها أكثر من ذي قبل٠ على ذلك، ربما لا يزال لديه بعض الإختيارات التي لم يقم بها بعد. تشعر أحياناً أنه خائف من تسليم نفسه تماماً للآخر. يريد أن يحفظ ولو قليلاً من ذاته٠ على ذلك وفي حين تستحق كيت وينسلت الأوسكار إذا نالته، كان يستحق هو الترشيح الذي لم ينله٠ وأكاد لا أصدّق أن السيناريو (الذي كتبه جوستين هايث) لم ينل ترشيحاً ولا مونتاج طارق أنور او تصوير روجر ديكنز.... لكن كذلك الأمر بالنسبة لمنديس. هو أيضاً خارج الحلبة بأفضل أعماله٠
CAST & CREDIT
إخراج
Sam Mendes
تمثيل
Leonardo DiCaprio, Kate Winslet, Kathy
Bates, Michael Shannon, Kaythryn Hahn,
David Harbour, Zoe Kazan.
سيناريو
Justin Haythe
المصدر
Richard Yates' Novel
مدير التصوير
Roger Deakins (Color- Wide Screen).
توليف
Tariq Anwar (118 m)
موسيقا
Thomas Newman
المنتج
John N. Hart, Scott Ruddin
إنتاج
DreamWorks/ Paramount Vintage
النوع
دراما إجتماعية [الخمسينات/ اقتباس أدبي]٠
USA- 2008
إخراج
Sam Mendes
تمثيل
Leonardo DiCaprio, Kate Winslet, Kathy
Bates, Michael Shannon, Kaythryn Hahn,
David Harbour, Zoe Kazan.
سيناريو
Justin Haythe
المصدر
Richard Yates' Novel
مدير التصوير
Roger Deakins (Color- Wide Screen).
توليف
Tariq Anwar (118 m)
موسيقا
Thomas Newman
المنتج
John N. Hart, Scott Ruddin
إنتاج
DreamWorks/ Paramount Vintage
النوع
دراما إجتماعية [الخمسينات/ اقتباس أدبي]٠
USA- 2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستعرض الزميل نديم جرجورة التاريخ البعيد لكلمة »فالكيري« التي
اتخذها فيلم برايان سينجر الجديد عنواناً له ويبحر بعد ذلك في نقده
لفيلم هوليوودي الصياغة٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Valkyrie
إخراج: برايان سينجر
بطولة: توم كروز
دراما في إطار الحرب العالمية الثانية [أميركي/ الماني- 2008]٠
..............................................................................................
نقد: نديم جرجورة٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أقصى شمال الكرة الأرضية، إلى بشاعة النازية وحروبها الدموية العنيفة التي أحالت بلداناً ومجتمعات وناساً إلى أنقاض وأرواح ممزّقة؛ مروراً بالعمل الموسيقي الذي أنجزه ريتشارد فاغنر في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ راج تعبير »فالكيري«، حاملاً معاني متفرّقة، قبل أن يصبّ في فيلم سينمائي حقّقه براين سينغر، ومثّل توم كروز فيه الدور الرئيس. من الأساطير الطالعة من عمق الثقافة الشمالية الخاصّة بالدول الاسكندنافية، إلى دموية النازيّ أدولف هتلر والإنجاز السينمائي العادي (الأقرب إلى تقنية التشويق الهوليوودي المعتاد)، عاش تعبير »فالكيري« حالات متكاملة، على الرغم من مصير أسود زرعه مستشار الرايخ الثالث وزعيمه، عندما اختاره اسماً لعملية أمنية/ عسكرية، تحصّن مشروعه التدميري من »خطر« الانقلابات الداخلية. وإذا بدأت الحكاية من المقاتلات العذراوات، أو الإلهات القاصرات، اللواتي خدمن إله الآلهة أودن، في أساطير البلدان الشمالية تلك؛ فإن قدرها حتّم عليها بلوغ الحالة النازية، التي تفتّق عقل سيّدها عن ابتكار خطّة لحماية نفسه أولاً، ومشروعه الحربي ثانياً، من أي اعتداء داخلي، ملتحفاً بالاسم الذي عكس أحد أجمل المعاني السامية للمقاتل النبيل. في حين أن الفيلم السينمائي، الذي حمل عنوان »فالكيري«، حافظ على معلومات تاريخية حول آخر محاولة اغتيال تعرّض لها هتلر، قبل أشهر على انتحاره، إثر شعوره بدنو أجله وأجل نازيته٠
في التعريف العام لـ»فالكيري«، جاء أن الكلمة مرادف للمقاتلات اللابسات دروعاً، اللواتي يُدرن المعارك، ويوزّعن الموت على المحاربين، ويجلبن أرواح الأبطال إلى القصر الكبير لأودن، كي يصبحن »آينهرجار«، أي »أرواح المقاتلين الاستثنائيين، الذين ماتوا أثناء المعارك وبأيديهم أسلحتهم«. و»فالكيري« يخترن هؤلاء المقاتلين، ويخطفهم. وهؤلاء الأبطال، مختارون لخوض الحروب إلى جانب أودن، عند وقوع الـ»رايناروك«، أي »المعركة الأبدية« وليست »المعركة الأخيرة/ النهائية«. وفي المعلومات أيضاً، وبحسب علم الاشتقاق، يتحدّر أصل الاسم (فالكيري) من كلمتين في اللغة الاسكندينافية القديمة، تعني إحداهما »أنهك« والأخرى »اختيار«، أي »أولئك الذين يختارون إنهاك الآخرين«٠
لم يبتعد فاغنر، كثيراً، عن تلك الأساطير وفحواها البطولي. كما أن هتلر نفسه، المُعجب بفاغنر، جعل الأسطورة مادة حيّة لـ»خطّة إنقاذ«، ترتكز على تحريك جيش الاحتياط الألماني عند قيام اضطرابات داخلية تتطلّب إعلان »حالة الطوارئ«. غير أن المتواطئين معاً لمواجهة سلطة هتلر والتخلّص منه، »نجحوا« في إجراء تعديلات وقّع الفوهرر عليها، بهدف التلاعب بها لمصلحتهم: تحريك جيش الاحتياط، بعد اغتيال أدولف هتلر، وإيهام الأجهزة الأمنية والسياسية والعسكرية النازية بأن جهازي »الشرطة السرّية« و»غستابو« يسعيان إلى الانقلاب على السلطة، علماً بأن العملية المذكورة (اغتيال هتلر)، التي صوّرها فيلم سينغر، تمّت في العشرين من تموز ،١٩٤٤ من دون أن تنجح في التصفية الجسدية للفوهرر. وهي جاءت بعد عام ونصف العام تقريباً على محاولة سابقة لها (أشار إليها الفيلم في بدايته)، جرت وقائعها في الثالث عشر من آذار ،١٩٤٣ وتمثّلت في قيام أحد كبار الضباط النازيين (هانيننغ فون تريشكو/ كينيث براناه) بوضع قنبلة مصنوعة من ألغام بريطانية لزجة معروفة باسم »كلايمس«، في زجاجتي خمر (كوانترو)، أُرسلتا إلى الطائرة الخاصّة بهتلر، إثر زيارته السريعة إلى مقرّ قيادة الجبهة الشرقية. غير أن القنبلة لم تنفجر، بسبب الصقيع في عنبر الطائرة، في تلك الرحلة. يُذكر أن محاولة الاغتيال التي جرت في العشرين من تموز، تحمل الرقم ١٥ في مسلسل المحاولات المعروفة، وهي الأخيرة أيضاً، قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتحار هتلر٠
اعتبر جان لوي ثييارو، في الكتاب الأول المخصّص بالسيرة الذاتية للضابط النازيّ/ الألماني كلاوس فون ستوفنبورغ، بعنوان »ستوفنبورغ« (منشورات »بيرّان«، ٢٠٠٨)، أن الرابع والعشرين من أيلول ١٩٤٢ »يومٌ مشهودٌ« في سيرة الضابط، إذ بلغ غضبه فيه مرتبة عالية جداً، جرّاء الأعمال المشينة التي »برع« في تنفيذها النازيون الملتزمون، بصرامة، قسمهم العسكري النازي. ففي ذلك اليوم، قال ستوفنبورغ إن »هتلر هو المسؤول الأساسي. كي يصبح التغيير الجذري حقيقة واقعية، يجب قتله. أنا مستعدٌ لقتله«. إن تصريحاً كهذا، يتابع ثييارو، يؤدّي بصاحبه إلى المحاكمة العسكرية، »لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل على العكس منه: تضامن كامل (من قبل أناس وافقوه الرأي، ولم يتجرّأوا على البوح به)«. من جهته، قال المؤرّخ الألماني يواكيم فيست (المجلة الفرنسية »لو بوان«، ٨ كانون الثاني الجاري)، إن المشاركين جميعهم في التآمر ضد هتلر ارتكزوا على دوافع جمّة ومعقّدة: »عشرون شخصاً منهم فقط، انتموا إلى مجموعات مختلفة ومعتقدات متنوّعة (الالتزام بالطاعة العسكرية، القناعة بالقومية المحافظة، الانتماء إلى البورجوازية أو الاشتراكية)، أشاروا، أثناء التحقيقات، إلى أن دافعهم كامنٌ في اضطهاد اليهود: »هناك من حدّد دافعه بإلغاء الحقوق المدنية، أو استبداد النظام، أو الصراع ضد الكنيسة«، معتبراً أن ما جمعهم كامنٌ في اعتبارهم هتلر »منفّذاً كبيراً للشرّ«. غير أن مدوّنات ستوفنبورغ، والمعلومات المتوفّرة عنه، أفادت أنه »وطنيّ ملتزم بألمانيا المقدّسة«، وليس مجرّد ضابط في خدمة هتلر والنازية، وأن إحساسه بالانحراف النازي عن قدسية ألمانيا جعله يبحث عن وسيلة للتخلّص من الطاغية٠
بعيداً عن الحكايات والأساطير والإبداع الموسيقي والجنون النازي، يُمكن القول إن »فالكيري« لبراين سينغر لم يخرج من إطاره الهوليوودي المحكم الصنعة، على مستوى أفلام التشويق. فعلى الرغم من المعرفة المسبقة بفشل العملية، وبالنتائج المترتبة على منفّذي المحاولة الأخيرة هذه، بسبب عجزهم عن تصفية هتلر، إلاّ أن »فالكيري« قدّم حركة مشوّقة عن التحضيرات والمناخ المرافق لها، وعمليات التجنيد، ومحاولة الاغتيال، وإطلاق عملية »فالكيري«، والصدام الحاصل بين القيادات المختلفة، قبل إعلان هتلر نفسه نجاته من الموت، عبر أثير الإذاعة، وإعدام المتآمرين جميعهم. ومع أن النصّ السينمائي مشغول ببساطة حكائية، مستندة الى وقائع القصّة المعروفة للضابط ستوفنبورغ، الذي قاد المحاولة الأخيرة؛ إلاّ أن التنفيذ البصري مصنوع بمقوّمات العمل التشويقي، المازج معالم الصراع السياسي بالحبكة البوليسية/ الاستخباراتية، مدخلاً عليها شذرات عاطفية عابرة (علاقة الضابط بزوجته وأولاده)، وإن بشكل سريع. ولعلّ تغييب الملامح كلّها الخاصّة بهتلر، مع استثناءات قليلة، يظهر فيها الرجل بأشكال مختلفة (من الخلف، أحد جانبيه، صورة أمامية سريعة)، جعلت الفوهرر شخصية سلطوية قاسية، تغيب خلف أفعالها، وتبتعد عن المشهد كي تمسك زمام الأمور بعنف وبطش٠
لا يكفي أن يُشبه الممثل الشخصية التاريخية التي يؤدّيها أمام الكاميرا، كي يُقال إن هناك براعة أدائية، أو قدرة جمالية على مقاربة الشخصية المذكورة. ذلك أن توم كروز قرّر سريعاً تأدية شخصية كلاوس فون ستوفنبورغ، عندما لاحظ الشبه بينهما، إثر وقوعه على صورة فوتوغرافية للضابط. غير أن الشبه بينهما لم يصنع أداءً تمثيلياً متحرّراً من »وسامة« الممثل الهوليوودي، أو من براعته في احتلال مكانة رفيعة المستوى في الأفلام التشويقية، لحساب شخصية مركّبة ومعقّدة، تمزج حسّاً وطنياً كبيراً برغبة صادقة في جعل القومية الاشتراكية مدخلاً إلى رفاهية الألماني وتطوّر ألمانيا. في هذا الجانب، غاب توم كروز كلّياً، لأن تقنياته الأدائية ظلّت في إطارها المعتاد في أفلام هوليوودية شتّى، إذ بدا قريباً جداً من »التشويه الهوليوودي« للثقافات الأخرى، عندما شارك في بطولة »الساموراي الأخير« (٢٠٠٣) لإدوارد زفايك، في فيلم أقلّ ما يُقال فيه إنه تسخيف هوليوودي لجمالية الساموراي، ولمعتقداته الثقافية والإنسانية والحضارية. مع هذا، قدّم كروز أدواراً قليلة جداً اتّسمت بالجمالية الفنية والأدائية إلى حدّ كبير، كدوره في رائعتي ستانلي كيوبريك (»عيون مفتوحة على اتساعها«، ١٩٩٨) وبول توماس أندرسون (مانيوليا«، ١٩٩٩)، بعد أعوام عدّة على مشاركته في »لون المال« (١٩٨٦) لمارتن سكورسيزي و»مولود في الرابع من تموز« (١٩٨٩) لأوليفر ستون مثلاً، بالإضافة إلى »ضرر« (٢٠٠٤) لمايكل مان، أو في النسخة الأميركية للفيلم الإسباني »افتح عينيك« (١٩٩٧) لأليخاندرو آمينابار، التي أنجزها كاميرون كرو في العام .٢٠٠٣ على الرغم من هذه النجاحات الأدائية اللافتة للنظر، لم يستطع كروز، في »فالكيري«، أن يطوّر تمثيله، أو أن يجعل حضوره الشخصي مرآة أصدق وأجمل للشخصية التاريخية٠
CAST & CREDIT
إخراج
Bryan Singer
تمثيل
Tom Cruise, Kenneth Branagh, Bill Nighy,
Tom Wilkinson, Carice Van Houten, Terence
Stamp, Thomas Kretschmann.
سيناريو
Christopher McQuarrie, Nathan Alexander
مدير التصوير
Newton Thomas Sigel (Color- Wide Screen).
توليف
John Ottman (121 m)
موسيقى
John Ottman
المنتجون
Gilbert Adler, Christopher McQuarrie,
Bryan Singer.
United Artists, Bad Hart Harry Prods
[USA/ Germany- 2008].
توزيع
MGM
عرض خاص | »باثوري« فيلم لمخرج سلوڤاكي حقق عشرات الأفلام ولا زال بلا
شهرة رغم أن أترابه في جمهوريتي سلوڤاكيا وجمهورية تشيك يعتبرونه فيلليني
السينما هناك٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Bathory ***1/2
إخراج: يوري ياكوبسكو٠
أدوار رئيسية: أنا فرايل، كارل رودن، هانس ماثسون٠
دراما تاريخية | شخصيات حقيقية | سلوڤاكيا 2008
...............................................................................................
نقد : محمد رضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القليل هو المعروف عن اليزابث باثوري، لكن موسوعة غينيس تضعها في المركز الأول بين القتلة الفرديين في التاريخ إذ يُقال أنها قتلت 80 شخصاً معظمهم من الشابات الصغيرات وذلك بغاية الإستحمام بدمائهن للحفاظ على شبابها. والأسطورة تقول، والفيلم يوحي، أنها كانت مصّاصة دماء. لكن الفيلم لا يفعل الكثير ليزيد من نسبة المؤكد في حياتها ربما لضحالة الثابت منها أساساً.
ما ينجزه بمهارة طوفانه على ذلك القليل المؤكد من المعلومات المتوفّرة مازجاً إياه بالكثير من التفسير والوصف الشخصي الآتي من لدن كاتبي الفيلم، المخرج ياكوبيسكو وجون بول شابل، وذلك لأجل شحن الفيلم بالأحداث. لا بأس إذا ما كانت الإضافات الخيالية تبقى النسبة الأكبر من الوقائع الثابتة، ومنها مثلاً أن العلاقة المتخيّلة بين بطلة الفيلم والرسّام الإيطالي كاراڤاجو، فما يطغي هنا هو حسنات تشكيل فيلم جميل الصورة جيّد التعبير يمزج الشعر بالإيحاء الداكن ليستخرج قراءته الخاصّة عن تلك الشخصية وتلك المرحلة بأكملها٠
نحن في المجر سنة 1593
تتزوّج الدوقة اليزابث باثوري (البريطانية آنا فرايل) من فرنس (ڤنسنت ريغن) المنشغل دائماً في قيادة الحرب ضد الغزو العثماني. ينتصر في مواقع قليلة وينهزم في أكثرها. تتعرّف في غيابه على الرسام الإيطالي كاراڤاجو الهارب من إيطاليا بإسم مستعار (هانس ماثيسون) ويقعان في الحب، رغم شذوذه. في الوقت ذاته، تشهد باثوري أحداثاً غامضة وتشعر بمؤامرت مصدرها حليف زوجها ثورزو (كارل رودن- ممثل تشيكي بتنا نراه في أفلام غربية). ثورزو يريدها لنفسه ويريد ضم ثروتها الهائلة إليه. وكل هذا يقودها هي الى حالة نفسية مضطربة تضطرها لطلب مساعدة الساحرة دارڤوليا (دينا هورڤانوڤا زوجة المخرج - كما أن كايت ونسلت زوجة مخرج الفيلم السابق سام مندس). الساحرة تنقذ حياة الدوقة وتصف لها بلسماً للحفاظ على حياتها. بعد عشر سنوات أخرى، تتراجع صحّة باثوري من جديد ويدخل صراعها ضد ثورزو مرحلة جديدة تنتهي بإقدامها في نهاية المطاف على الإنتحار بعد صدور حكم بسجنها في قلعتها بتهمة القتل٠
الفيلم مقسّم الى ثلاثة أجزاء تبدأ من العام 1593 وتمتد لأكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك. والإطار القصصي شيّق بحد ذاته: نظرة على شخصية غير مشهورة لكنها حقيقية يحيط بها الغموض وتعصف بها الظروف العاطفية في فترة تاريخية صعبة. فالمنطقة التي تحتوي الآن على المجر وجمهورية التشيك وسلوڤاكيا كانت مرتع حرب ضروس بين العثمانيين المتمددين شمال غرب وبين أبناء المنطقة (حينها كانت منطقة كاشتيس التي تقع فيها الأحداث مجرية قبل أن تصبح سلوڤكية). لكنها لم تكن الحرب الوحيدة، بل كانت هناك محاولات بعض السكان المحليين خطف مسيحيات شابّات لبيعهن الى الأتراك كحريم. الى ذلك، كانت هناك حروباً ومؤامرات بين الكنيستين البروتستانتية (التي انتمت اليها اليزابث باثوري) وبين تلك الكاثوليكية. الفيلم يتعرّض لكل هذا مصوّراً مشاهد معارك معتنى بتنفيذها، ولو كانت قصيرة المدى وغير ملحمية الوقع، ومؤمناً شروط الفيلم التاريخي بعناصر تكوين تخص السينما الشرق أوروبية وحدها وكما لم نره منذ زمن بعيد على هذا النحو٠
رغم ذلك، شخصية اليزابث باثوري سرعان ما تصبح مشكلة تعترض الفيلم حتى مع احتمال استمتاع المُشاهد بها كونها -سينمائياً- موحية وجاذبة للإهتمام، ذلك أن الفيلم يحاول خلق شخصية تراجيدية منها. جزء منها بطولي وجزء منها ضحية. لكن كلّما مضى قليلاً في هذا الإتجاه نقضه وعاد الى السؤال الأساسي حول حقيقتها من دون كثير تحديد٠ كذلك، يدفع السيناريو بشخصية الرسّام الإيطالي كارافاجو الى ذلك الوضع من دون ذنب جناه. يبقى مشكوك به جدّاً أنه الظروف ساقته الى تلك المنطقة الملتهبة وأنه تعرّف فعلاً على الدوقة الثرية٠
لكن القوّة التي يتمتع فيها الفيلم على صعيد المشاهد العامّة واتقان التصاميم التفصيلية للفترة كما على صعيد تصميم المشاهد ما يخلق انسياباً وثراءاً بصرياً جيّداً وواقعياً، هناك رغبة ملحوظة لدى المخرج في الإسراع في تسيير بعض المشاهد فإذا بها تقترح شيئاً ثم تمضي عنه قبل أن تستوفي السبب الذي من أجله كُتبت او اختيرت.
النافذة الخلفية | فيلم جين ساكس »الثنائي النقيض« شق
طريقه منذ سنة 1968 ليصبح واحداً من أنجح أفلام جاك ليمون
ووولتر ماثاو الكوميدية. هو أيضاً الفيلم الوحيد للمخرج ساكس
والكاتب نيل سايمون الذي يستحق الإعجاب--- ولــو بحدود٠
................................................................................................
The Odd Couple (1968) **1/2
Gene Saks: إخراج
Jack Lemmon, Walter Matthau : بطولة
................................................................................................
نقد: محمد رُضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاك ليمون ووولتر ماثاو كانا كوميديين جديرين بالكلمة ٠
ليمون [1925- 2001] ذو الوجه الأليف، ظهر في أدوار صغيرة غير كوميدية من العام 1949 ولم يجد ناصيته الكوميدية الا بعد عشر سنوات حينما ظهر مع توني كيرتس ومارلين مونرو في فيلم بيلي وايلدر
Some Like it Hot
ومع المخرج ذاته لعب ليمون بعض الأفضل من بين كل أفلامه فظهر -مثلاً- مع تشيرلي مكلين في
Irma La Douce
سنة 1963 وقبله بثلاث سنوات ظهر في
The Apartment
أيضاً مع شيرلي مكلين كما مع وجه آخر ظهر مع بيلي وايلدر أكثر من مرّة هو فرد مكموري٠
في العام 1966 جمعه بيلي وايلدر مع وولتر ماثاو لأول مرّة وذلك في فيلم
The Fortune Cookie
ماثاو [1920-2000] أنطلق أيضاً بأدوار صغيرة لكن من العام 1955 ومر في الكثير من الأوجه والأدوار قبل أن يستقر على الكوميديا مع فيلمه الأول مع ليمون، »حلوى الحظ«٠
في حين أن فيلم ليمون- ماثاو الأول ذاك كان عن كتابة مباشرة للسينما (كان بيلي وايلدر دائم الإعتماد على
I.A.L. Diamond
الذي كان كاتباً جيّداً) جاء الثاني ترجمة سينمائية لمسرحية كتبها نيل سايمون (ونالت نجاحاً كبيراً) تحت نفس العنوان٠
جين ساكس ليس بيلي وايلدر ودرايته الفنية محدودة. ويظهر ذلك على الفيلم. لكنه وجد في مسرحية سايمون خامة جاهزة لتقديم هذين الكوميديين اللذين نجحا تجارياً في »حلوى الحظ«٠ وهي خامة جيّدة بالفعل من حيث ارتكازها على رجلين مستقيمين (غير شاذّين) يدفعها ظرف معيّن للعيش معاً تحت سقف شقّة واحدة. على الرغم من أنهما مستقيمان الا أن الأحداث ومراميها وأبعادها تحوّل أحدهما، كما سنرى، الى مفهوم الزوج والثاني الى مفهوم الزوجة٠
جاك ليمون هو فيلكس الذي طردته زوجته من البيت فهام على وجهه في شوارع نيويورك. أصدقاءه في لعبة البوكر ومنهم أوسكار (ماثاو) منشغلين في لقائهم الأسبوعي على طاولة اللعب في شقّة أوسكار الفسيحة ويتساؤلون لماذا لم يظهر فيلكس بعد. فيلكس يحاول الإنتحار لكنه يفشل وهذا ما يزيد من شعوره بالأسى. أخيراً يظهر طارقاً الباب محمّلاً بالإحباط وبعد قليل يتوجّه الى نافذة الشقّة ليرمي نفسه. أصدقاءه يستوقفونه. الحل أن يمضي بعض الوقت في شقّة أوسكار المنفصل عن زوجته، إلى أن يتخلّص من إحباطه٠ هذا لا يحدث رغم المحاولات وسريعاً ما يكتشف أوسكار في فيلكس مزايا لم يكن يعرفها ولا يود أن يعرفها أهمها تدقيق فيلكس في كل الأمور وقيامه بالتنظيف والترتيب. إنه من العناية وحب الإدارة الى حد يزعج أوسكار كثيراً٠ معظم الفيلم هو كر وفر بين شخصيّتين متناقضتين وأعتقد أن القاريء بات يعرف الآن أيهما كان الرجل وأيهما كان المرأة في هذا اللقاء الذي ينتقل من الود الى الشجار٠
في واحد من فصول الفيلم المضحكة، يؤدي شجارهما الى رحيل فيلكس وشعور أوسكار بالندم والقلق على مصير فيلكس. بعد قليل يطرق فيلكس الباب ومعه جارتي أوسكار (مونيكا إيفنز ونيكول شيلي) شقيقتان مغناجتان جذّابتان ومنجذبتين الى فيلكس المسكين الذي يبدو كما لو أن أوسكار أساء معاملته. لكن أوسكار لا يكترث للتهمة. كل ما يريده هو أن يقضي وقتاً ممتعاً مع أي من هاتين المرأتين.... مرّة ثانية سيؤدي تصرّف فيلكس الى إحباط غايات أوسكار٠
الفيلم مسل جدّاً بفضل كتابته وتمثيله . لكن مشاهده الأخيرة هي أقل أهمية مما سبقها. بالنسبة لإخراج جين ساكس فهو فارغ من الحسنات الا تلك التنفيذية المحضة. ومن شاهد المسرحية الأصلية وشاهد الفيلم أفاد بأن ساكس لم يكن عليه سوى أخذ المسرحية كما هي وتصويرها في الشقّة عوض خشبة المسرح٠
سينما مجهولة | المخرج التركي علي أوزجنتيك أعاد سينما
الواقع التي أطلقها الراحل يلماز غونيه الى الواجهة حين أخرج
هذا الفيلم الرائع عن رجل وحصانه٠
................................................................................................
At (1982) ****
اخراج: علي أوجنتيرك
بطولة: جينكو أوركال، بكتاس ألتينوك، هايمي بكر،.
................................................................................................
نقد: محمد رُضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي أوزجنتيرك، اسم غير معروف على اللائحة الدولية، لكنه سينمائي مثقف وحساس، وكما برهن فيلمه هذا، مخرج لا يخشى التجربة ولا يفشل فيها أيضاً. نعرف عنه أنه يمتلك عينان تلاحقان أدق الملاحظات، وحساً يعرف أكثر تفاصيل العيش، وتجاوباً من واقع الحياة التي لدى إبطاله، يتجاوز المخرج مجرد تصوير فيلم عنهم إلى تصويرهم. بأنفسهم، يقودهم في ذلك ممثل خارق اسمه جينكو أوركال، يكاد يكون أفضل ممثل تركي شوهد منذ سنوات بعيدة، وحتى أكون أكثر وضوحاً، ربما هو الممثل التركي الوحيد المناسب لهذا الدور على الأقل بين الوجوه التي تعرفنا عليها سواء بين أنماط تجارية أو أفلام يلماز غونيه الجادة. إنه ممتاز في تشخيصه، يحمل ملامح وجه لا أقنعة عليه، ومقنع بحيث يمكن تصديق أمره إذا ما قيل لنا ـ افتراضاً ـ أنه ليس ممثلاً على الإطلاق بل بائع خضار متجول بالفعل، لم يكن يدري أن الكاميرا كانت تصوره طوال الوقت. وإن حياته قد انتهت فعلاً بالحادثة التي نراها في نهاية الفيلم. هذا المثمل يصل إلى مثل هذه الدرجة من التجسيد دون عناء، ودون لافتات أو مواقف يقدمها للفت النظر إليه، وقد تم أساساً على كتفيه، كما على حسن المعالجة والإدارة الفنية له وللعمل ككل من مخرج عرف أفضل الوسائل لتقديم هذا الفيلم بالشكل الذي جاء عليه فانتهجها٠
علي أوزجنتيرك يقدم فيلماً يتحدث عن الفقر في بلاده. ويصل مباشرة إلى الصورة السليمة لتقديمه، فهو لم يأت إليه سائحاً ليثير شفقة الناس، ومبتذلاً لبعض العطف، ولا جاء بمفهوم مضاد ـ بالضرورة ـ لكل ما هو ليس فقيراً ومنطلقاً من صورة داكنة تعلن عن نفسها، بل حط، مثل طائر يعرف تماماً موضع مخلبيه، على المشكلة من رأسها، فحكى قصة كاملة وغاب في واقع المشكلة تماماً وعرف موقعه من دون صخب أو ضجيج في وسط كل هذا لم يفته أن يجرب ألواناً من وسائل التعبير جاءت بدورها بسيطة، سلسلة ومتواضعة جداً.
تبدأ القصة في القرية الفرحة، وللوهلة الأولى نعتقد أن الفيلم قد ضل طريقه من البداية فانكمش في حركة البيئة ذاتها التي لا يمكن نقلها إلى الشاشة كما هي دون بطء، لكن هذا الاعتقاد يزول سريعاً عندما نرى الرجل وابنه يهبطان المدينة، فالأب يريد أن يعمل فيها ويدخل ابنه مدرسة مجانية ليتعلم القراءة والكتابة كما لم يفعل أحد من عائلته من قبل. في المدينة الحافلة ينال الأب عربة خضار وفاكهة ويتعرف منذ البداية على شقاء العمل، فالرجل الذي يؤمن المبيت والفاكهة ينال جزءاً كبيراً من المحصول، ويطارد البوليس البائعين المتجولين من حي إلى آخر، وبالطبع ليست هناك أي نوع من الضمانات التي من شأنها تأمين سير العمل تحت أي ظروف. أما المدرسة فإنها ترفض الولد طالما أن والده على قيد الحياة، فينصرف الولد إلى حياة الشوارع يصاحب أولاداً آخرين باتت لديهم خبرات شوارعية يمارسونها في البيع والتسول والتسلل إلى أملاك الغير، كما في الانقياد وراء تجارب المراهقة المبكرة. ويضعنا علي أمام واحد من المشاهد التي نصدق أنها لا بد أنها تحدث، فأحد هؤلاء الأولاد، أحنكهم، يذهب إلى عاهرة عجوز وعمياء ليمارس الحب معها، وينقل المخرج حينها عمق المأساة القاسية من خلال تجربة التعاطي المتولد من كل الرغبات المادية والعاطفية والمنتهي إلى لذة اللحظة ذاتها من دون أي حس إنساني. إنها حياة يلاحظها الصبي القروي وهو يتفرج على زميله ابن الثانية أو الثالثة عشر في وضعه فيبكي٠
لاحقاً، وفي السجن بتهمة التسكع والتسول مع أصدقائه، يغني للألم الذي بدأ يعايشه، للظلمة التي تنتشر من حيطان السجن الصغير إلى جوانب صدره من قبل أن يأتي والده ويخلصه. والده في الوقت ذاته كان يبكي أيضاً، فقد داهمت السلطات عربته بالقرب من النهر، ألقت حمولتها في الماء واحتجزت العربة، وهناك مشهد لا يقل قوة عن أفضل مشاهد الفيلم، وهو ذلك الذي يحاول فيه الأب بكل قوته أن يمنع الشرطة من الاستيلاء على عربته، وعندما يضعونها في الشاحنة مبتعدين يلحقها راكضاً وراء الشاحنة. من يتعجب، إذا وجد من يتعجب، أحد لإصرار الرجل على استرداد عربته، يجد في مشاهد أخرى رداً على تعجبه. بل الأحرى أنه سيجد أن الفيلم كله يقوم على ما يعني وجدو هذه العربة لذلك الرجل، الأحلام التي تعنيها، والسبيل الوحيد الذي يعرف فيه كيف يداوم فعل العيش٠
صاحبنا يحاول استرداد عربته لاحقاً من مركز للشرطة، فيرمي خارجها، ابنه، كما يعرف، بدأ ضياعه في المدينة، وهو لا يملك مالاً للعيش ولا إمكانية بدء العمل من جديد. أكثر من ذلك يدرك أن خسارته لحلم أن يدرس ابنه في مدرسة لم تتوقف عند ذلك الحد، بل إنه قد خسر الآن أهم ما في حياة الرجل الفقير: القدرة على تأمين قوت اليوم. تحت هذا اليأس والواقع يقدم على سرقة عربة زميل له ويقودها فارغة في منتصف الليل إلى السوق. يبزغ النهار ويلتئم الشمل، ويتصرف الرجل وكأنه مالك للعربة الفارغة التي يقف عندها... من بعيد يجيء صاحبها وقد فقد جزءاً من رشده، فالفاصل بين الحياة والموت هو أيضاً القوت اليومي الذي عليه أن يحصله، ولا أحد ـ تحت أي دافع ـ يستطيع أن يمنعه من حماية قوته. يتلاحم الرجلان ويسقبط الأب قتيلاً. قتل الفقير الفقير ونفذت السلطة حكمها بعد التخلي عن العربة. وفي النهاية يعود الصبي إلى القرية حاملاً النعش على سيارة أجرة٠
الحصان في هذا الفيلم له أكثر من دلالة. في مشاهد جميلة نرى الصبي يتذكر الحصان الجميل الذي كان يداعبه في القرية، في مشاهد أخرى نربط بين المعنى الذي يجسده الفرس وتلك الأحلام المنهارة أو ذلك الواقع اليائس على النقيض من البساطة والجمال والحياة المنطلقة التي تمثلها الحياة القروية. في صورة أكيدة، يتناول علي أوزجنتيك حقيقة أن كل ابن مدينة فقير، أو كل مغترب، يبقى في مؤخرة رأسه ذلك الحلم الجميل بالعودة إلى القرية أو الريف، يبقى لديه قدرة على تذكر أجمل ما فيها عنده. لكن أوزجنتيرك لا يحقق فيلماً يقارن به حياة القرية بحياة المدينة على أساس أن الأولى تخلو من أي هوان أو أنها الأقدر على تحقيق الآمال، بل أن حقيقة اضطرار الرجل وابنه للنزوح منها هو في حد ذاته شهادة على الحاجة والعوز اللذين يقعان في القرية كما في المدينة. طالما أن الحاجة الاجتماعية هي واحدة٠
أوزجنتيك أيضاً لا يترك فرصة تمضي من دون أن يمارس نوعاً من الرمزية هنا ولوناً من الخيال، لكنه لا يشطط في أي منهما بل يحسن استخدامهما في الفيلم ولا يجعلهما يخرجان للعمل عن صورته وأسلوبه الواقعيين. بل أن «حصان» ـ الفيلم ينتمي أساساً إلى السينما الواقعية التي لم نعد نرى إلا النادر عن نماذجها هذه الأيام. فيلم يعيش هذا الواقع ويختلط به، يعايش الفقر من دون أن يكون فيلماً فقيراً في أي جانب، مخرجه على دراية كبيرة بحياة الأسواق وبحياة الشوارع بالنسبة للأب وللابن على حد سواء. لديه عين ناقدة وواعية على عيوب المجتمع وعيوب الناس فقراء وأغنياء، لكنه ـ وعن ذكاء أيضاً ـ لا يحارب، ولا يتدخل لصالح فريق رغم عواطفه ومواقفه معه، بل يصب جل تفكيره على إخراج فيلم كامل، حقيقي، له صوت مؤلم وينقل صورة حية عن الشريحة الاجتماعية التي يقدم.
ويبتعد المخرج عن تزيين مواقفه أو مشاهده، يستخدم أسلوباً بسيطاً لا تعقده حقيقة اعتماده على لقطات فنية. ومحطات رمزية أو سوريالية، وتصويراً حياً ينتقل بين العدسات المقربة لكاميرا تقف بعيداً حتى لا تختلط بالناس في الأسواق وتسرق عنهم حالاتهم اليومية كما هي، وبين اللقطات القريبة للمواقف التي يتداخل فيها المثملون الذين يجيدون أدوارهم. هنا من الواجب التذكير بالممثلين وبقدراتهم الكبيرة. لا، ليس من الضروري دراسة فن التمثيل في لندن أو سان فرنسيسكو لكي تصبح عملاقاً، البعض ـ والسينما العربية تحوي العديد منهم وكذلك التركية ـ يولدون هكذا ـ عمالقة، وعلي أوزجنتيك لديه أكثر من برهان على ذلك٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2008٠
0 comments:
Post a Comment