أدوار رئيسية: ريكاردو دارين، سوليداد فيلاميل، بابلو
راغو، خافييه غودينو، غويلرمو فرانكيللا، جوزي لويس
غيويا٠
دراما بوليسية | الأرجنتين | 2009
مقدّمة فيلم "السر في عيونهم" فيلماً بحد ذاته. لو أن مخرجاً أراد تصوير لحظة وداع ملؤها الصمت تبتعد عن الآهات والعبارات والقبلات، وتتويجها بملامح فنيّة في التصميم العام وفي التصوير لكانت هذه المقدّمة نموذجاً٠
العبارة التالية تقول: "ركض الى آخر القطار وراقب شكلها، الذي كان ضخماً، تقلّص في نظره، لكنه كبر أكثر من أي وقت مضى في قلبه"٠
العبارة مكتوبة بخط اليد على دفتر بشريط وها هي اليد ذاتها تشطب المكتوب قبل أن نتعرّف على الكاتب: ذات الرجل الذي شاهدناه في خيال الكاتب ما يفسّر المنحى الفني التعبيري لتلك الصور غير الواضحة التي شملت كل شيء باستثناء وجه المرأة وبدنه حين التقط الحقيبة وسار بعيداً٠
ثم هاهو يبدأ من جديد بعدما مزّق تلك الصفحة. يكتب: في الحادي والعشرين من حزيران (يونيو) 1974 ويأتي المخرج بمشهد صباحي مشرق لفتاة ورجل مع صوت الكاتب معلّقاً حول آخر ما يتذكّره في ذلك اليوم: الإفطار وعصير البرتقال. لقطة تعود إليه وهو يمزّق ما كتبه من جديد: أيكون الموضوع الذي يشغله عصيّاً عليه لا يستطيع إيجاد منفذ إليه؟ ربما لأن المشهد التالي هو فعل اغتصاب لتلك المرأة ذاتها. من هي؟ من هو المغتصب؟ يقطع المخرج مرّة أخرى على بطله وهو يشطب من جديد٠
كامبانيلا يسرد في فيلمه الثامن هذا قصّتين في عهدين. القصّة الأولى عاطفية والقصّة الثانية جنائية. العهد الأول الزمن الحالي (الزمن الذي ينطلق منه الفيلم). الزمن الثاني هو منتصف السبعينات. الحركة المتبادلة بين القصّتين والعهدين مُحاكة مثل نسيج يتطلّب مهارة في كل تفصيلة منه. ذات المهارة التي توصم هذا الفيلم ولقطاته. من تلك المشاهد الأولى حتى تلك الأخيرة، هناك حياكة ألوان وتصميم لقطات ونطق حوارات وتوزيع إضاءة وبالطبع نظرات. في الفصل الثاني من المشاهد، بعد المقدّمة، نرى فيها المحقق القضائي بنجامين (ريكاردو دارين) ينظر بإعجاب الى رئيسته السابقة في القسم الذي كان يعمل فيه إرين (سوليداد فيلاميل) . يتحاشى المخرج هنا توزيع لقطات قريبة للوجه او العينين، لكنه بالتأكيد يطلب من ممثله أن يبدي تلك النظرة المعبّرة التي تلي قيامها بإنزال الآلة الطابعة التي كان يستخدمها في عمله الى أن اعتزله قبل نحو عشرين سنة٠
الفيلم لا يشرح نفسه بسهولة ولا ينقاد مخرجه وهو عليه أن يتحدّث عن حب ضمّه بطل الفيلم طويلاً داخله دون أن يبديه، الى أي من الكليشيهات التي تعصف بالأفلام المماثلة. طوال الوقت سيمسك باللحظة الراهنة ومن وراء ظهرك (او عينيك إذا أردت) سيربطها بلحظات سابقة. تبدو المحاولة في البداية كما لو كانت مجرّد فلاش باك، لكنها هي أكثر من ذلك: راقب المشهد الذي يتضمّن إنزال الطابعة من رف على الخزنة لوضعها على المكتب. هذا المشهد يبدأ حين يفتح بنجامين باب غرفة مكتب رئيسته وقد جاء في زيارة غير معلنة. خلالها يقول لها أنه يحاول أن يكتب رواية حول قضيّة موراليس و، كما شاهدنا، يمزّق ما يكتبه. تتبرّع برأي:
٠ "إبدأ بكتابة ما تتذكّره أكثر. القضية لها أكثر من عشرين سنة. أي جزء يزورك أكثر من سواه؟". لا يجيب بنجامين على هذا السؤال بل يتسلل بكل لطف (مسبوقة بصوت شخصية جديدة) مشهد حسب اقتراحها. المشهد الذي يعبّر عن الجزء الماضي الأكثر زيارة له لليوم وهو ليس جزءاً من القضيّة التي تؤرقه (قضيه موراليس التي لا نعرف عنها شيئاً بعد) هو كيف التقى بها لأول مرّة حين دخل موظّف أعلى ليقدّم إرين الى بنجامين وزميله في العمل (غويلرمو فرانشيللا) مرتكباً أخطاءاً غبية في التقديم تبدأ بنطق إسمها وتنتهي بالقول إنها خريجة هارفارد بينما هي خريجة معهد كورنيل (هذا يبقى أفضل من حال بنجامين الذي لم يتخرّج الا من المعهد العالي). ينتهي المشهد عند هذا الحد. يفيق على صوتها يقول له: "هاي... الا زلت هنا؟" يبتسم ويطرق رأسه. لقد استمع الى اقتراحها وتذكّر ما يخطر على باله أكثر من سواه: هي!٠
ينتقل الفيلم بعد ذلك الى فلاش باك آخر طويل يبدأ حين تصل القضية الى مسامح المحقق بنجامين أول مرّة. إنه في المكتب. السكرتير يعلمه بأن قضية اغتصاب وقتل وصلت المكتب. يحاول بنجامين إزاحتها لمكتب آخر لكن الإدارة تؤكد أنه دور هذا المكتب دون بقية المكاتب. قطع الى أول كاميرا محمولة في هذا الفيلم تبدأ مع وصول بنجامين وتدخل معه مسرح الجريمة٠
يصل بنجامين وهو لا يزال يتذمّر بأن القضية ليست قضيّته، لكنه يتوقّف والجملة لم تنته بعد حالما يرى الضحية: إمرأة عارية ملطّخة بالدماء المتجفف نصفها الأعلى على الأرض وساقيها فوق السرير. يأخذ المحقق نفساً عميقاً من هول الوقع وتؤيد الكاميرا ما شعر به بلقطة أخرى قريبة متوسّطة للجثّة. ثم بلقطة تفصيلية قبل أن تعود إليه حين يقوم محقق من البوليس أسمه بواز (جوزي لويس غيويا) بتقديمها: ليليانا كولوتو (كارلا كويڤيدو) . السن 23. مدرّسة. تزوّجت حديثاً من ريكاردو موراليس (بابلو راجو) يغيب صوت المحقق الآخر وتنتقل الكاميرا الى جدران المنزل حيث الصور المعلّقة (لها ولزوجها) تبدو أكثر نطقاً من الجثّة ذاتها. تنقل من الماضي القريب تعابير سعادة٠
بعد ذلك ننتقل الى مكان عمل الزوج ريكاردو الذي يستقبل النبأ بألم واضح. ما يُثير الإهتمام هنا اختيار اللقطة: الكاميرا أمامية منخفضة. ريكاردو أمامها. وراءه يقف بنجامين. الى يسار الأول (يمين اللقطة) غلاية كهربائية. بعد قليل نسمع صفيرها كما لو أن الماء يغلي. لكن هذا الصوت ليس من تلك الغلاية بل من غلاية بنجامين إذ ننتقل اليه وهو قد انتهى من طبع ما شاهدناه٠
A إنه من التفاصيل الذكيّة كيف أن حرف
a من الطابعة التي استعادها لا يطبع الشكل الصغير للحرف على نحو
بذلك العبارة التي تقول "موراليس يستطيع أن يتأمّل في مستقبله" مكتوبة على هذا النحو
MorAles could stArt to comtemplAte his own Future
وأنا لا أقصد أن أظهر دقّتي بل دقّة الفيلم لأن الحياكة التي تحدّثت عنها مصنوعة من كل تلك التفاصيل. وها هو المحقق وقد عاد بذاكرته الى الوراء من جديد يشكو من الطابعة . في النقلة الجديدة سيستمد الفيلم بعداً جديداً: لقد بات مقرراً أن عاملي بناء اعترفا بارتكاب الجريمة. بنجامين يذهب لمقابلتهما في زنزانتهما. هناك يكتشف أنهما ضُربا لأجل الحصول على الإعتراف. إذ أن الأحداث في منتصف السبعينات، فإن بداية الإيحاء بـ "ظلم" الحكم الفاشي للأرجنتين في تلك الفترة يطل من تلك النافذة ويثير غضب بنجامين الذي يهرع عائداً ويلتقي بمحقق آخر من مكتب آخر في سلك القضاء (هو الذي أسند المهمّة إليه) ويهجم عليه يريد ضربه لولا الموجودين الذين فرّقوا بينهما٠
العودة الى الوضع السياسي يعود بعد قليل حين يدخل بنجامين حانة يتردد إليها زميله ساندوڤال (فرانشيللا) المدمن على الشرب (حتى وقت الدوام كما سنرى فيما بعد). هذه العودة ترد على شكل مقطع من حوار من رجل لآخر (لا نعرفهما) يقول: "احذر مما تقوله. سوف يعرّضك لمتاعب"٠
العلاقة بين بنجامين وساندوڤال تنبع من صداقة مخلوطة بزمالة المكتب وهي ستبرز الى الصدارة لاحقاً حين يقدم مجرمون على قتله في منزل بنجامين. ساندوڤال المتزوّج لا تطيقه زوجته وهو سكير فيلجأ الى شقّة بنجامين والقتلة اقتحموا شقّته ليجدوا ساندوڤال عوضاً عنه فأردوه. لكن هذا لن يقع قريباً، الى جانب تأكيد لون علاقة المحقق بزميله هناك سلسلة من الأحداث عليها أن تتابع. نحن هنا الآن في صميم قضيّة جنائية غامضة محورها مَن قتل ليليانا لكنها مفتوحة على مناظر سلوكية نفسية وعاطفية متعددة٠
جزء كبير من الفيلم ينطلق حين يعمد المحقق الى ذاكرته مجدداً إذ يزور الزوج في منزله ويطلب منه ألبومات صور حيث يلفت اهتمامه صورة جماعية لعدد من المدعوّين للزواج بينهم شاب الى يمين الصورة ينظر الى ليليانا نظرة خاصّة تستوقف بنجامين. البحث عن هذا الشخص يفضي الى لا شيء لفترة طويلة كان الزوج خلالها، وفي لقطة مثيرة لشجون، يجلس في صباح كل يوم في تلك المحطّة لعل القاتل يصل الى القطار ليتعرّف عليه٠
لكن المحقق وساندوڤال يجدان القاتل في مشهد في منتصف الفيلم هو مشهد المطاردة الوحيد فيه ويبدأ بلقطة جويّة عالية تهبط منها الكاميرا أفقيا الى الاستاد الرياضي. ما يحدث لست دقائق لاحقة يحتاج الى تحليل حول كيفية تعامل المخرج مع المشاهد: التقطيع على الورق. التصوير. المونتاج. إنها ست دقائق حابسة للأنفاس وشديدة الإثارة لكنها ليست مجانية. في الحقيقة ليست هناك دقيقة وحيدة من الفيلم تشبه أي من الأفلام البوليسية الأميركية. حتى هذه الدقائق الست. معالجتها الفنية مختلفة كذلك الغاية منها. هذا على الرغم من أن المخرج حقق للتلفزيون الأميركي سبعة عشر حلقة من المسلسل القضائي- البوليسي "قانون
Law and Order ونظام"٠
الفيلم في منوال إخراجه لغزي على أرض متاخمة لهيتشكوك من ناحية، وتذكّر بأفضل ما كان التلفزيون البريطاني ينجزه في هذا المنوال في السبعينات حيث التركيز على المحقق ليس كبطل بل كحالة إنسانية. هذا ليس للقول أن الفيلم ينتمي الى المعالجة التلفزيونية وإن ذكّر بها. وحتى خلفية المخرج المذكورة في إطار التلفزيون الأميركي لا أثر لغوياً لها الا من حيث أن هذا الفيلم هو أيضاً جنائي وعن القضاء (إنما من دون مشاهد محاكمة)٠
إذاً سيُلقى القبض على المجرم وسيُطلق، تبعاً للنظام آنذاك، سراحه وبل سيعيّن مساعداً للمحقق الآخر الذي تهجّم بنجامين عليه وسيدخل المجرم (يؤديه خافيير غودينو) مع المحقق والقاضية رئيسة مكتبة المصعد الكهربائي ويسحب مسدّسه الكبير أمامها متفحّصاً لكن الدلالة هي تهديد كامل. هو يفعل ذلك لأن أحد أهم المشاهد الفاصلة بين إلقاء القبض عليه وبين خروجه السريع من السجن هو التحقيق معه، وكيف استخدمت القاضية أسلوب التهجّم على ذكوريّته بالتعليق والتهكّم ما آثاره وأدّى الى تأكيد التهمة اليه. لكن حتى لا يدخل الفيلم نفق الأحداث المألوفة يجعل المجرم يختفي ويوفّر لنا عدّة تفسيرات كلها تمهّد لنهاية مفاجئة: المجرم لا يزال حيّاً لكنه أقرب الى الموت. لقد خطفه زوج القتيلة وسجنه بنفسه٠
الفيلم يبدأ بتلك الذكريات العاطفية وينتهي بها. القصّة البوليسية لا تستطيع أن تطغى على تلك العاطفة التي تعاود الإطلال على بنجامين بذات القوّة كما فعلت قبل أكثر من عشرين سنة. يشعر بنجامين بخسارته لأعوام كثيرة إذ آثر أن يحب بصمت لكنه لن يستطيع أن يصمت أكثر من ذلك. على المرأة التي يحبها أن تعلم أنه يحبّها، وهي ستخبره بأنها كانت دائما تبادله ذلك الشعور٠
هذا الفيلم هو عالم من الحياة يؤلّفه المخرج (لم أقرأ الرواية فإني لا أستطيع التبرّع بحشر كلمة "والمؤلّف") بعناية فائقة للتفاصيل كما للبحث فيما يربط الإنسان بالآخر وموقع الذاكرة والقلب من الحدث مؤلماً كان او مبهجاً وهو مؤلم بجوارحه حتى ولو كان ناتجاً عن حكاية حب لم تكتمل في حينها٠
كل تلك التفاصيل التي أوردتها هي جزء من الصورة الكليّة. صورة الفيلم عن الحياة وصورة أخرى للحياة ذاتها وهي تدخل ثنايا الفيلم على نحو آسر٠
وُلد جول داسين (داسان كما ينطقونه فرنسيا) بإسم جوليوس داسين في الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1911 في بلدة ميدلتاون، ولاية كونكتيكات، الولايات المتحدة. أصوله روسية ووالده هاجر وائلته قبيل مولده. سنة 1936 ظهر جول ممثلاً في المسرح اليديشي ثم أخذ يكتب النصوص التمثيلية للإذاعة ثم أخذ يخرج الأفلام القصيرة بعدما انتقل الى هوليوود سنة 1940
ثم أنجز أول أفلامه الروائية الطويلة بعد فترة قصيرة من العمل كمساعد مخرج، لحساب مترو
Nazi Agent غولدوين ماير بعنوان: عميل نازي
وذلك سنة 1942. بعد سبعة أفلام امتدت الى العام 1946 أنجز المخرج أول أعماله البارعة وذات المنحى الواقعي ذي الهم الإجتماعي: عن سيناريو لرتشارد بروكس (لاحقاً مخرج أفلام جيّدة بدوره)
Brute Force وبطولة بيرت لانكاستر وإيفون دي كارلو وهوم كرونين، أخرج: قوّة وحشية
كدراما سجون ذات حس مختلف عن أفلام السجون الأخرى. العامل الإنساني مرتفع على الأكشن وإن كانت لا تخلو من الثاني أيضاً. فيلمه التالي كان «المدينة العارية» (أدناه) ثم «درب اللصوص» الذي حمل بدوره ذات السمات Thieves' Highway
لكن وشاية من المخرج إدوارد ديمتريك خلال التحقيقات الفدرالية للنشاطات التي سُميّت بالمعادة لأميركا، أفاد فيها أن داسين هو عضو في الحزب الشيوعي دفعت الثاني للهرب نجاة حيث حط في لندن ثم في فرنسا ثم في اليونان (متزوّجاً من الممثلة والوزيرة لاحقاً ميلينا مركوري)٠ أفلامه الأوروبية لم تكن رديئة، لكنها لم تكن قادرة على التأقلم او الإبداع من ضمن المنظومة التي أصابت السينما الأوروبية في الستينات والتي نتج عنها سينمات أنطونيوني وفيلليني ورتشاردسون وغودار وتاركوفسكي والأخرين المرموقين. لكن هذا لا يمنع من أن بعض أعماله الأوروبية كانت مرموقة رحّب بها نقّاد ذلك الحين وعلى الأخص
Night and the City, Rififi, Never On Sunday, Phaedra, Topkapi
توفّي في الواحد والثلاثين من هذا الشهر، سنة 2008 عن 96 سنة وكان آخر فيلم له سنة 1980
Circle of Two كنديا بعنوان
إخراج: جول داسين
تمثيل: باري فتزجيرالد، هوارد دَف، دوروثي هارت، دون
تايلور، فرانك كونروي، تد دي كورسيا
بوليسي | الولايات المتحدة 1948
....................................................................
المدينة العارية فيلم بوليسي قريب من الفيلم نوار، أنجزه المخرج سنة 1948 واستوحى له من ميله للسينما ذات المعالجة التوثيقية للحياة ذات المضامين الإجتماعية الناقدة. قبل أتراب كثيرين من بعد حاولوا دمج القصّة بالواقع والواقعية، بما في بعض فرسان الواقعية الإيطالية، كان داسين قد نجح في الجمع بين الناحيتين بسبب من تلك الكاميرا الملاحظة والمعايشة للبيئة التي تصوّر فيها وهذا بادٍ في هذا الفيلم كما في بعض أفلامه السابقة وهو الذي أقدم على الإخراج من العام 1942 وصاعداً٠
المدينة العارية فيلم مميّز من أفلامه لهذا السبب أوّلاً، ولأنه يبقي حرارة الحبكة البوليسية قائمة على نحو واقعي خال من الفانتازيات التي كانت، ولا تزال سائدة. نحو مزيد من التسجيل هناك صوت سارد للقصّة (حكواتي وفي الواقع هو صوت منتج الفيلم مارك هلنجر) الذي لا يعلّق على ما يدور، ولا يمهّد لما يدور، فهذا يبقى من شغل الصورة، بل يوسّع قليلاً في إطار ما يدور متناولاً، خلفيات وجوانب وملاحظات نجدها تثري العمل وتضيف عليه. يعرّفنا المخرج على المدينة العارية والمقصود بها نيويورك. ثم يتابع التفاصيل الصغيرة التي تقع أمام عدسة الكاميرا قبل أن ننتقل الى القصّة ذاتها. مع التسجيل وتلك الومضات الواقعية يؤسس الفيلم للأسلوب المختار من قِبل المخرج. الآن وقت أن ندلف الى الأحداث، وهذي تبدأ
أميركا، في ذلك الحين كانت مرّت بسنوات بالغة الأهمية إجتماعياً. خرجت من سنوات اليأس التي عصفت بالإقتصاد الوطني وحطّ عليها واقع جديد قسّم الناس لطبقات. الناقد توم هدلستون، في تناوله الفيلم، يقف طويلاً عند تلك الفترة ويجد أن السينما تباطأت في التقاط نبض الحياة في ذلك الحين (على عكس الأدب مثلاً) وذلك لأسباب من بينها الرقابة الصارمة على السينما وغيرها من الفنون، ولأن السينما اعتبرت ومورست كترفيه بعيداً عن مشاكل الحياة، وثالثاً، والتفسير لا يزال للناقد، لأن هوليوود عالجت الحياة بضوء مختلف لا يمت الى الحقيقة الا بصلة واهنة في العديد من الحالات٠
لي أن أضيف أن السينما البوليسية، تلك التي ينتمي اليها "المدينة العارية" كانت بدأت تتغيّر من مجرد حكايات حول الصراع الدائر بين البوليس والعصابة الى قصص تستمد حداثتها (آنذاك) من معطيات مختلفة عند كل من البوليس والعصابة خالقة الشخصية الثالثة التي تقف في منتصف الطريق إذا ما دعت القصّة الى ذلك٠
الفيلم البوليسي كان مهمّاً كأداة في النظر الى الحياة وجوانبها، ولو من زاوية البطل المنفرد، هذا على الرغم من أن "المدينة العارية" ليس عن طرف ثالث في النزاع ولا هو متلوٌ من زاوية بطل منفرد. على العكس، يسرد حكايته من زاوية الباحث والمحقق، ومنتجه هلنجر كان صحافياً وحين خطط للفيلم، يقولون، كان يريد أن يجعل من مدينة نيويورك بطلة الأحداث وليس من أطراف القصّة بالضرورة. مع هذه المعلومة في البال، لابد أن نلحظ أن المنتج وجد في المخرج داسين السينمائي الذي يستطيع أن يحقق له هذا المنوال من العمل بسبب حرص الثاني على أفلام تعايش الواقع على أي حال. داسين كان من عائلة يهودية جاءت من روسيا في أواخر القرن التاسع عشر وهو وُلد فوق التربة الأميركية، لكنه كان يسارياً حين نما ونظر حوله فوجد أن الحياة من حوله لها أشكال لا تتطرّق إليها هوليوود الا بعد انتزاع العمق الإجتماعي منها. لا عجب أنه، من هذا الفيلم وصاعداً، بدأ يعاني من حصار المكارثية ليجد نفسه لاحقاً يهرب من البلاد (كما جوزف لوزاي وتشارلي تشابلن وآخرين) حتى لا ينتهي الى السجن٠ باقي أعماله في اوروبا كانت لافتة لكن شوكته الإجتماعية لم تكن بذات الحدّة. لم يكن لديه ما ينتقده لأن نظم الحياة كانت مختلفة الى حد بعيد
Grapes of Fear | عناقيد الغضب
سنة 1940 وفيه نظرة اجتماعية واقعية صارمة على حال المتضررين في السنوات الإقتصادية التي عصفت بالأميركيين خلال مطلع الثلاثينات٠
شاهدت الفيلم على شاشة كبيرة مرّة واحدة، و (ربما) خمس مرّات على محطّات تلفزيونية في لندن ولوس أنجيليس ثم مرّة حديثة على اسطوانة مدمّجة تحتوي على مقابلات مع معاصرين وأحدهم يؤكد أن المخرج والمنتج عملا بجهد لاستبدال النظرة البطولية التي كان حفظها الممثلون الذين لعبوا أدوار رجال القانون من أفلام سابقة. الفيلم كان يتطلّب رجالاً يعانون من أزمات الحياة المادية والعاطفية وروتينها ومن وقع الجريمة والتحدي الذي تمثّله بالنسبة إليهم. بتعريف زمن ولّى. هؤلاء هم من الطبقة العاملة في مواجهة عالم تقدّم عنهم وتركهم عند حافّته مع واجب مقدّس في الدفاع عن ذلك العالم عاليه وواطيه٠
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
All Rights Reserved- Mohammed Rouda ©2007- 2010٠
3 comments:
الفيلم الأرجنتيني نال إعجاب كثيرين ومع إعجاب محمد رضا كان لابد وأنه أشاهده. الفيلم جميل للغاية فيه تمكن المخرج وسعيه للابتكار والمعالجة الواقعية المؤثرة في الوجدان ... يعي ويهضم كل العناصر والتفاصيل كما لو أنه مخرج مخضرم ...
باختصار عمله هذا يحتوي على كل ما يتطلبه الفيلم البوليسي الكلاسيكي من مفاجآت غير متوقعة و صنعة واقعية غير مملة او غير فانتازية مع جوانب درامية ورمانسية وحتى كوميدية لا تنقص من جديته او صدقيته ...
الشيء الوحيد الذي لم يقنعني كثيرا هو المبرر الذي من أجله رفض بنجامين التعبير عن حبه في الفترة التي كان ذلك ممكناً جداً على عكس الوضع في حياته الحالية حيث أصبحت هي مع زوج وأولاد وهو يعاني من الهوس والخوف من آلام الماضي ... لا أدري أذا فاتني شيء لكن ليس هناك من أسباب تبعده عن التعبير عن حبه لها حين كان يعمل معها أو عندما غادر القطار ... أتمنى منك أستاذ محمد أن تشرح أكثر ربما أنا قد أغفلت عن شيء معين ...
وإضافة الى ذلك لدي سؤال صغير هو من الذين قاموا بقتل ساندوڤال و ما هو السبب من وراء ذلك ؟ كانوا يريدون قتل بنجامين ...ولكن ألم يعرفوا لاحقاً أن بنجامين لا يزال حياً يرزق؟
شاهدت النصف ساعة الأول،للسر في عيونهم ويبدو جديرا بالنجوم الخمس.
على اني على نحو غريب وجدت نفسي اربط بين بطل الفيلم ومحرر المدونة!
شكرا على هذا الموضوع، بصراحه توقعت هذا الفيلم الارجنتيني على شاكلة الجزيره المغلقة، الذي وبكل صراحة خيب ظني، خصوصا اختيارالقصة.
هل لاحظت استاذ محمد مشهد دخان السيجاره كيف نفذه سكورسزي بطريقة البلاي باك موشن؟
عبدالله العيبان – الكويت
H8u@hotmail.com
محمد طارق – الأردن
عن فيلم السر في عيونهم
تحياتي للأستاذ محمد رضا و جزيل الشكر على نقده لفيلم السر في عيونهم .. كما على وفائه بوعده حين وعدنا بتقديم نقد لهذا الفيلم .. و ذلك في مدونته الأخرى ظلال و أشباح
قبل إعلان ترشيحات الأوسكار كان هذا الفيلم هو الوحيد الذي لم أسمع به من الأفلام التي وصلت للقائمة النهائية للأفلام المرشحة في فئة الأفلام الناطقة بلغة أجنبية .. فالشريط الأبيض و نبي نالنا التقدير على عدة مستويات .. و حليب الأسى خطف جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين .. في حين كان اشتراك مخرج فلسطيني و مخرج من الكيان الصهيوني في إخراجه كافيا لإثارة ضجة حول فيلم عجمي
و هكذا قررت أن أشاهد السر في عيونهم .. سأتجاوز مسألة الحصول على نسخة عبر التنزيل من الإنترنت لأن هذا ليس موضوعنا الآن .. و لأنها معضلة أخلاقية لا مجال لحسمها ههنا
شعوري الأول كان .. يا الله كيف للعيون أن تمثل بهذه الطريقة .. و حقا لم أعرف هل هو تأثير العنوان عليّ ما جعلني أنتبه لعيون البطل و البطلة (دون إغفال تأثير العيون و النظرات من جميع الممثلين و دورها في الفيلم) .. أم أنهما فعلا في حواراتهما و مشاهدهما معا كانا يقولان الكثير بحيث أنك تسمع الحوار بينهما و تشاهد آخر كلما أعطتنا الكاميرا فرصة للنظر في عيونهما .. الأكيد أن اختيارات المخرج كانت موفقة تماما لأدوار البطولة
في الكلام عن جماليات الفيلم و أجزائه أعتقد أنك لم تترك لنا مجالا لذكر شيء .. باختصار هذا الفيلم يقدم ساعتين من عالم السينما الجميلة لمحبي الفن
................
نقطة لا بد أن تلفت انتباهنا .. هي تلك اللقطة الطويلة التي أشرت لها سيدي .. و هنا رابط لها عبر موقع اليوتيوب ..
http://www.youtube.com/watch?v=5pLy0bn8rK0&feature=channel
و حقا لنا أن نتساءل كيف صُنعت .. و كيف ظهرت هذه اللقظة على الشاشة دون أي قطع في التصوير .. و لتوضيح الطريقة بعض الشيء .. هنا رابط لفيديو آخر على موقع يوتيوب يظهر بعضا من العمل الذي ساعد في إنجاز تلك اللقطة:
http://www.youtube.com/watch?v=m6voCojHTxQ
لا أدري إن كان من الممكن أن تضيء لنا كمشاهدين غير متخصصين على بعض جوانب العمل في هذه اللقطات .. أو ربما تشير لنا بمواقع تشرح أكثر عنها .. مع جزيل الشكر و خالص التحية لك أستاذ محمد
Post a Comment