Ossessione/ Obssesion فيلم لوكيانو ڤيسكونتي- ميسر المسكي



 هاجس | Osessione                                

إخراج:  لوكيانو ڤيسكونتي
  دراما عاطفية | الولايات المتحدة (1943)  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  ميسّـر المسكي  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 إحدى روائع المخرج ڤيسكونتي الكلاسيكية
هي أيضاً نتاج فنان تعلّـم نقد الفاشية باكراً
 ★★★★★  
|*|   1943 

الحلفاء في صقلية و يتهيأون للنزول على "الجزمة" الإيطالية. النظام الفاشي في روما يترنح، لكن لا زال الرقيب على الإنتاج الفني قادر على المنع والتضييق على الإبداع. لوكينو ڤيسكونتي يحصل على فرصته الأولى لإخراج فيلم سينمائي. ڤيسكونتي، الآتي من نتاج التزاوج بين الأرستقراطية النبيلة التي تعود في جذورها إلى القرن الثاني عشر (عائلة الأب) و البورجوازية المتخمة الثراء (عائلةالأم)، ڤيسكونتي الشاب هذا كان يُـغازل الفاشية في ريعانه، لكنه حين يقصد فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي ليعمل مُـساعداً للفرنسي العظيم جان رينوار، يختلط مع محيط رينوار المُثقف والزاخر بالشيوعيين. يعود ڤيسكونتي إلى روما شيوعياً لا يلبث أن يُكنّى بالـ "كونت الأحمر". رينوار كان أعطاه ترجمة فرنسية لكتاب القاص الأميركي جيمس م. كين بعنوان "ساعي البريد يقرع دائماً مرتين."
يكتب ڤيسكونتي سيناريو (يساعده عليه ثلاثة من واقعيي السينما الإيطالية اللاحقة: دي سانتيس، أليكاتا وبوتشيني). يوافق الرقيب الفاشي على مضض مُـفترضاً أن الفيلم بأجوائه الكئيبة هو عن مثلث الحب: زوج، زوجة وعشيق....وجريمة قتل [تابع هنا]>

لكن حين يُنجز ڤيسكونتي فيلمه بعنوان "هاجس" يثور الرقيب وتؤازره الكنيسة. لكن سلطة الفاشيين كانت إندحرت عن روما ونزحت إلى شمال إيطاليا بحماية الألمان. هناك تمّ منع الفيلم على أنه يُحرض على إسقاط قيَم المجتمع والدين والعائلة. أستنكرت الكنيسة فيلم رأته بلا أخلاق (اليوم وبعد ثمانين عاماً لا زالت الرقابات الرسمية والدينية في بلادنا تُردد نفس التهمة المُهترئة والباطلة لكل ما تجده غير متوافق مع تخلفها، وبقدر كبير من النفاق واللـ "أخلاق"). كما أن الفاشيون أستهجنوا أن يلقي ڤيسكونتي ضوءاً ساطعاً على أولئك الهامشيين الذين بقوا على قارعة "المعجزة" الفاشية الاقتصادية التي طالما رَوّج لها موسوليني على أنها أنتشلت الإيطاللين من التعاسة والفقر.

جينو رجل متشرد، طافر بذكورة خلابة، يصل في يوم إلى إستراحة على قارعة الطريق الرئيس إلى مدينة أنكونا. يدير الإستراحة والمطعم براغانا البدين و العجوز بالإضافة إلى زوجته جيوفانا الصبيّة والمتقدة بالرغبة. جيوفانا تجد في جينو خلاصها من تعاسة وجودها وخواء حياتها. لكن جينو لا يلوي على شيء، لا يملك شيئاً ولا يبحث عن إستقرار. تحاول هي أن تستدرجه ليبقى و يدعوها هو للرحيل معه على طرقات التشرد. لا يتفقان. يرحل جينو ثانية. هذه المرّة إلى أنكونا التي فيها يلتقي سبانيولو (الإسباني). متشرد آخر يكسب قوت يومه بألعاب الخفّة في ساحات المدينة وأزقتها (هذه الشخصية أضافها ڤيسكونتي حيث لا وجود لها في النصّ الأصلي الأدبي لجيمس كين). بعد فترة يلتقي جينو وجيوفانا ثانية في إحتفال في المدينة. تشتعل الرغبة مُجدداً. وهذه المرة تقنعه هي بالعودة معها لكن على أساس قتل الزوج. يُنفذان الجريمة. يختفي الزوج من حياتهما، لكن يحضر طيف الذنب والسأم والشك. يتعمق الأمر حين تظهر شهادة تأمين على حياة الزوج لم يكونا على علم بها. تزداد شكوك البوليس وأهل البلدة. يحاول سبانيولو أن يُقنع صديقه بالرحيل إلى التشرد ثانية حيث الحرية. لكن جينو مُمزق بين رغبته بالإنعتاق من حدود المكان وبين لوعته المتأججة إلى جيوفانا. يدور الإثنان، جينو وجيوفانا، في دائرة ضيقة من العشق والكراهية لا تلبث أن تقودهما إلى المأساة.


الحكاية ليست جديدة بالكامل. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كَتَبَ الفرنسي الشهير إميل زولا روايته "تيريز راكان". ايضاً عن مثلث الحب وقتل العشيقين للزوج. وحفلت أيضاً رواية زولا بالكثير من الاهتمام عن تناوله مناخات الشعور بالذنب ونار الرغبة لشخصين إعتقدا أن خلاصهما الروحي هو بالعشق والجنس ولو عن طريق القتل. كما أن رواية الأميركي جيمس كين حظيت بأول تناول سينمائي لها في نهاية الثلاثينيات بعنوان "الإنعطاف الأخير" من إخراج الفرنسي بيير شينال. 
لكن فيلم فسيكونتي مُختلف. مُختلف بقيمته و رؤياه وسياقه الفكري. ورغم أن الأميركي بوب رافلسون سيحقق عام 1981عملاً جيداً نسبياً عن الرواية ذاتها وبنفس عنوانها الأصلي، لكن يبقى "هاجس" ڤيسكونتي أعمق وأكثر قيمة. إختالف ڤيسكونتي يأتي من نظرته إلى حالة العشق هذه والجريمة التي أستتبعتها من خلال سياق إجتماعي (بمعنىً سياسي مُضمر) وإنساني يتجاوز الدوافع النفسية الفردية المضطربة والتي تجعل من الشخصيتين الرئيستين تتأرجحان بين الجنس والموت. 
هذا بالذات ربما ما أفزعَ الرقيب الفاشي حينها. فكاميرا ڤيسكونتي حين تتابع جينو وصديقه سبانيولو في شوارع أنكونا تتركنا نتأمل مظاهر البؤس والتعاسة دون أن تجعلها في مقدمة الصورة. لا يريد ڤيسكونتي أن يفقأ عيوننا برؤياه ووجهة نظره. لكنه يتركها تتسلل إلينا عبر كاميرا تترك الشخصيات الرئيسة تتحرك على خلفيات واقعية من الدينة تشي بالعالم الداخلي الكئيب والتعيس للشخصيات. عالم يحاول جينو أن يهرب منه إلى حضن جيوفانا وجسدها. لكن هناك أيضاً سيجد نفسه مُـكبلاً بعقدة الذنب وطيف الزوج المقتول. ليس عليك إلا أن تتأمل غرفة الفندق التي يُـقيم فيها جينو وصديقه سبانيولو. بؤس لا ينتمي إلى أي شرط إنساني تُعمّـقـه إضاءة خافتة تترك أطراف الصورة ضائعة في ظلمة وغموض فتقلل من الفراغ المرئي وتزيد الإحساس بالضيق. كما أنه حين تمرّ الكاميرا على الأشياء البسيطة في غرفة المومس الشابة، التي يأوي إليها جينو قرب نهاية الفيلم، تجد كم أن حياة هؤلاء ناقصة. كم أنها على حافة العدم. ناس (وظروف معيشية) زعمت بروباغندا موسوليني أن لا وجود لهم في إيطاليا. ناس هم نقيض إيطاليا الفاشية حيث الشمس والعمل المُفيد وأجساد شباب وصبايا طافرة بالقوة والصحة.....والجمال!


لو شئنا المفهوم العام للجمال، ليس في "هاجس" ڤيسكونتي أي شيء "جميل". لا المدينة ولا الريف ولا المومس ولا روح الشخصيات. هو عالم قباحته وبؤسه تدفع أفراده إلى الخروج عن السياق الإنساني وإقتراف الشرّ. كما دعنا لا ننسى أنه عالم يعيش على حافة الهذيان والقلق. فأثناء تنفيذ الفيلم كانت البلاغات تتحدث عن إقتراب المعارك من قلب إيطاليا. الناس قلقة، خائفة من مستقبل غامض يموج برائحة الموت والدمّ!

يختلف المؤرخون إذا كان فيلم ڤيسكونتي هذا يضع بداية تيار الواقعية الإيطالية أم لا. لكن بغض النظر عن هذا التفصيل في تأريخ الفيلم، فإن "هاجس" لوكينو ڤيسكونتي ورغم سنيه الثلاث وسبعين لا زال يافعاً وقادراً على إدهاشنا وجعلنا نتأمل صورة بديعة التكوين (التصوير لـ دومينيكو سكالا وألدو تونتي) يزيدها تأثيراً و"توثيقاً" الأبيض والأسود الساحر بدرجات تضاده ورمادياته التي تروي رمادية الحياة لشخصيات جمعها "الهاجس" وقتلها نفس الهاجس.

0 comments: